الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيكل هبوط القمر – رواية (4)

حمودي زيارة

2015 / 7 / 29
الادب والفن


الفصل الثاني

زبور تجليات طالب المهترئ، توشم منذ نعومة طفولته بمناجاة الحزن، وخضب بحبر الفاجعة، وضل في خديعة القادم من الزمن، ضمن وصايا حياته العشرة. أغلب عذاباته وخياراته، أستمدت، في طبيعة الحال من ينابيع الحياة الأسنة والكريهة. فعليه إذ وصم ذهنه بالنكد والأنزواء. طالب على صخب الفرح، ألقته الخيبة، قربان لقساوة عمه، عندما نبذته أمه في مهاد الحنين والتوق، طفلاً لا يعرف في قريته التي لا تنتمي الى كوكب الأرض، غير أمطار أمه الغدقة، وموسيقى صوتها الرخيم. حيث أنتشرت نميمة، وفق ما سول سامان لهم، بأن القرية منتجع يعود الى أرض القمر، يلقيّ عليها أعباء أنواره، ويستسلم الى عذوبة عرائشها، والقمر لا يسمح أن يدنسها، ممن لا يرغب. وسط الأوجاع، وفيض دموعه. أستطالت عظام قوامه وأحتقنت أفكاره من الضياع والتمرد، وأغلاق بابه بوجه الحياة. فراحت أيامه تولد ميتة، ضمن هذا القدر الغريب، أستمر السأم يزدرد سنوات طفولته، وبدايات خطوات عمره الهشة.
قذفت الأقدار بعائلة طالب كدمعة بائسة الى قرية الملاك، القادمة من تشوهات مناطق الأهوار الجنوبية. عندما تناهى لهم صدى القرية. حيث تزوجت أمه الجنوبية التي كبرت طفولتها مع قصب الهور، أبوه الكردي الذي نفي الى الجنوب من الشمال ضمن خطة الدولة التي حاولت ان تنقض على صراعهم المرير معها. نزعت أمه ملامح طفولتها من الذاكرة، وأكتفت بذراع زوجها دون الأكتراث، بما سوف يتساقط من هيام وذكرى في قاع البعد، عند القرية التي بالكاد، أمست الحلم، لأيام هانئة. كان الأحباط يخاتل حزنه الذي يصر بدوره على أن يقرن دمعه في حراشف خده، ما أن تلبث صرخات الأمهات، تمزق أدوار اللهو واللعب، والفرح الذي يتناهب يباب قسماته، دون أن ينادي عليه، وقتئذ تجتاحه صفعات الوجع، ورعب الفراغ الذي يعرف كيف يغرز دبابيسه في لحمه الغض، وينزع عن وجهه مسحة المرح. كان يشط بأسماله الرثة، مع قرينه الضجر الى منفاه المتواري في خلل الأكمات، الذي يأوي اليه في أتراحه، كما كانت تفعل البقرة آنذاك، في بداية تطاول عمر القرية. يواصل البكاء وحده بدموع تلتهب بسعير الغضب. لكن في معظم الأحيان كانت نيركز تستبيح وطن حزنه الصغير، تحمل في أصابعها حفنة من الطعام وقليل من الفرح. كان شيئاً ما يختط كلماته في أوراق حياتهم، يوعد برحلة سادرة. في الوقت الذي، أنتزعها سامان من دخان الخردل، وألتقطها من على ظهر الأتان كان طالب يكبرها بثلاث سنوات. ساوم طالب الحزن ودموعه، وعلق في ثيابه الممزقة، لحظتما رحلت أمه عن مرآة أيامه الى تخوم بعيدة، حيث تزوجت من رجل في الجانب الآخر من الحدود، الرجل كان يتعامل مع أبوه في تهريب الأطارات. كان عمره يناهز السابعة أنذاك. بعد موت أبيه، حيث وجد في أسفل الجبل أشلاء متناثرة، من قبل أخيه، بعد مرور إسبوع من غيابه. تهاوى عندما خطت قدمه في الفراغ، بينما كان يتسلق نحو قمة الجبل مع بغله، ليعبر الى الجانب الثاني من الحدود، كيما يجلب بعض الأطارات، كان يقوم برحلة واحدة كل شهر. لم يرجع البغل وقتها، فقد عبر الى الجهة الثانية. عدم رجوع البغل، دليل بأن البغل قد رفسه وألقاه في الفراغ من لوعة التعب، الأمر الذي يتفق عليه كل أهل القرية، وأنهم في قناعة من ذلك، ولولا ذلك لرجع البغل الى القرية، هذا ما أشارت إليه الأعراف السائدة في كنف القرية.
كابد كمده في غياهب جبه ولهيب حرائق الحزن التي تحتضنه في وحدة البراري، وأعالي الجبال، وحيداً في عزلته، كأنه ألقى لحمه اليانع الى أنياب الذئاب، فآستمرت مُدية الأيام تحز جلده بالقلق والغضب. وكثيراً ما كان يبقى ليالٍ في المغارات والكهوف، لا شئ ينوس من حوله سوى أصوات فتات الخبز اليابسة التي تضعها له نيركز في أسفل الجبل عندما تبدأ أسنانه بهرسها. يصيخ السمع الى عواء الذئاب، وأنين غلواء حزنه، يساجم دمعه. يعكر سجن صمته البهيم، لثغات تساقط الشهب، وبريق النجوم التي تنمنم سقف بيته الواسع الذي حرص أن يبنيه بحجم خياله.
وفي أحدى الليالي وبينما كان يحمل رزمة من فتات الخشب المتساقط، أعترضه بنحو مباغت ذئب غاضب، كشر عن أنيابه التي لاحت بيضاء شاحذة في سواد الليل، تنضح بسائل لزج وثقيل، أنقض عليه فنهش ربلة ساقه اليسرى، أخذ ينزف بشدة، أنهال بفأس على خيشومه، فولى هارباً. فما كان من طالب الا أن أطلق العنان الى ساقيه هابطاً بسرعة نحو الأسفل، قبل أن يستشري الألم في ساقه أو يأخذه النزيف، فأن توانى عنه وأخلد اليه، يصبح من الصعب الهبوط من الجبل. فذهب الى التو نحو بيت نيركز التي تحولت في حياته الى حلقة في باب ولي زاهد، يتعلق بها طلباً للعافية. رمى بنفسه الى داخل البيت، وأخذ يصدر أنين حاد يخامره مناداة خفيفة طلباً للمساعدة. أنتبه سامان على صوته، هرع صوبه. نيركز جفلت أيضاً من منامها الطري على هسيس الجلبة. وضع سامان على الجرح جلدة نعجة مدبوغة مزيتة بالدهن الحر. وربطها بقماشة بيضاء. أستسلم الى غطيط النوم في بيت سامان، حتى أيقظته نيركز في وقت متأخر من نهار اليوم التالي .
*******

أذاع طالب بمكر بليد يحاكي عبث الصغار، في أوقات أخرى، دون مبالاة لماسوف يكون، بأن الضوء الذي فجر قنديله في لجاجة الليل المكفهر، لينير خطوط خارطة القرية في تلك الليلة الدامسة، مجرد شهاب متوهج قانط، نضب زيته، هزيل لا يقوي على التماسك. لذا تهافت، ينزلق على مساره، رامياً أن يدفن رمقه في الظلام، ولكن أثناء سقوطه، تعثر في مساره وأستقر في حدود القرية. كان يردد :
- بأن الليل بحيرة مليئة بالاسماك. أنواره تعوم في الخراب .
وغالباً ما كان يلمح تساقط الشهب في مكمنه في اعالي الجبل عند شرفة النجوم. الألق المستقيم الهابط بدأ سريعاً في الزاوية اليمنى للأفق، ثم مال الى أطراف القرية. بهذه الصورة أستطاع طالب أن يغوي بعض الناس ضد فكرة هبوط الملاك، التي رفعها معظم أهل القرية كتعويذة في أروقة أيامهم، يشد قبضته بارود غضبة ريوان، المدرس الذي قدم الى قرية قبل زمن ليس ببعيد، حيث كان طالب يجالسه في أوقات مختلفة كلما سنحت له ترنيمة تشرده. فأخذا بأمعان في تسفيف فكرة الملاك، ومنتجع القمر، من أجل أستدراج عواطف الناس. أنقلب بعضهم ببلاهة ضد الكتيبة مما أدى الى شجار حريف بين العبيد والناس، وفي أغلب الأحيان يفضي الى نزاع وملاسنة محتدمة. لكن في تقارب الشوط الأخير من الصراع، تفقد كل مشادة بشكل بوهيمي صراخها، ومن ثم تتلاشى، حيث يتعاضد غالبية أهل القرية مع العبيد، لأنهم بالسجية الكامنة في قرارة أعماقهم يميلون الى الوازع الديني، وهذا ما أكد عليه طالب، حالما قال له ريوان:
- يتجسد رجل يعتمر عمامة الانبياء في دواخلنا جرئ، يصعب حجمه أن دنس ضريحه الذهبي .
أنتشل هذه القناعة من كلمات المدرس والنقوش التاريخية التي خبأت نزيفها على رقع الطين.
*******

في سنواته العشرة الأولى من عمره، المختطفة الى دهاليز العزلة اللابثة خارج حدود الزمن. لم يقضم ذهنه وريقة كتاب قط. فقد دأب بألقاء أيامه العارية الى نيران الأيام. لأنه لم يذهب الى المدرسة ولا يفقه حرفاً بأستطاعته أن يقض روعه في كوابيس أرقه. في الحقيقة لم يتعرش الطين على جذوع الأشجار ومن الممكن بالتالي، بعد تخدج القرية أن يرسم ملامح مدرسة في قريته الهاربة من الدولة. حتى شارف الوقت أفقه، عندما أنشأ المدرس ريوان في عزلته حلقات لتعليم القراءة والكتابة، في بيت متهالك، يتشبث في جاذبية الطين يقع في أطراف القرية، ريوان الذي تتحكم في صوته نوبات الهلوسة كان هرماً، نحيلاً، ينوء وجهه بلحيته القمرية التي راحت بوداعة تستلقي على صدره. أتى الى القرية منذ فترة قريبة، يشاع عنه بأنه هرب من سجن يقع في الجنوب مع مجموعة من الأفندية. باغته طالب داخلاً الى كوخه المتداعي، بثوبه المتهدل الذي بلله العرق، وسأله أن يدرج أسمه بحلقات الدرس. بعد أيام من مجيئه رمى ريوان قوامه في النواحي يجس دروب القرية، دنا بقلق الى بعض الناس، تألف مع مجرى الحياة بعد مرور عدة أيام. دعاه سامان الى مجلسه، حيث يعتبره الناس عمدة القرية لأنه الرجل الذي أكتشفها. حدثه عن حياة القرية وعلى طبيعة الناس. غادر ريوان مجلسه ما أن أخذت حدود الأصيل تقترب. الألفة التي نالها من الناس، حفزته أن يعقد وثاقه الى حكاياتهم، يحدثهم عن الألفة والوئام والتكافل والتأصر الفطري فيما بينهم، وأن يجعلوه سلاحهم، أمام سلاح مارد آلهة الأرض الأقوى والأشرس الذي يحاول أن يبيد صخور قيمهم. أستنفى طالب سنواته المتبقية الى البرية، يعيش كأي طائر حر، يقتات على سلال السهل المترعة، التي تذكره بقلب أمه الطيب كجرة العسل. بعد أن سمره عمه الى عمود المراح الزاخر بالبراز والرائحة النافرة ليوم كامل دون أن يوخزه قلبه. أستمر يجهش بالبكاء، يشفع دموعه الواهنة بعبارات للتوسل، يعلن عن توبته. السبب الذي حث عمه بربطه الى العمود الخشبي الذي راح ينوء بثقل السقف. وذلك بعدما جلب ذات يومٍ رميض ذئب صغير حديث الولادة، دلف البيت بخلسة، بعد غياب يوم كامل في البرية. لذا ربطه فأراد أن تكون نكاية منه لمنعه من البقاء خارج البيت . يتصف عمه بالصرامة وغرابة الأطوار، تتحول أصابعه الى سيوف حادة إن وخز الغضب جأشه. أطلق وثاقه بعد ذهاب سامان عندما تضرعت إليه نيركز، الى عمه. نيركز يلوذ هاجس شهي في قلبها عندما يزيّن إفق مقلتيها برق طالب. وكان نفسه يرتدي خلعة الملوك، ما أن تفوح الدروب بشذاها الناعم. أقام في البرية بعد أن ألقى بعض الحصران والأسمال على عمود بطوله غرزه في وسط كوخ صغير مع ذئبه الصغير.
*******

أخذت أسماعه تلتقط أصوات طرقٍ خفيفة، تتدفق من خلف التلة، قبل غسق ليلته الأولى. ربط خطواته الى حبل الأصوات، وما أن وصل الى رأس التلة، حتى أبصر، مدافن للأثار في محاذاة البرية، القريبة من كوخه. يشرف عليها بعض الأجانب التي تشي قسماتهم بذلك. أخذ يقترب من الموقع بهدوء وخجل، كان يجلس على تلة محاذية لساعات طويلة يطالع عملهم الدؤوب. في اليوم الثالث من مكوثه، لوح له أحدهم بأن يأتي، لم يستجب لتلويحته، وبعد أن أدرك إصرارهم، أرخى عنان خطواته بتحفظ، وترك إضطرابه على التلة، وبدأ ينزل بخطوات محسوبة. يحمل على صدره التي برزت عظامه، ذئبه الصغير. أهال منظره مع الذئب وأسماله الممزقة التي ضرجت بأصابع الوسخ، هواجس الأجانب، إذ تحسبه بأنه ولد مع الذئاب في البرية، لكن في الحقيقة، أراق لهم غرابة أمره، لذا قبلوا أن يعمل معهم. ترادف على المكان بنحو يومي، ينهمك في الحفر الدقيق فور وصوله، بعد تلقي التعليمات. كانت هذه الفرصة بالنسبة له قدر منمق، عُتق بنبيذ المعابد، ومناسك الهيكل. فاض به دعاء أمه في ليالي الغسق. الذهاب الى أماكن الآثار مع العلماء الأجانب، والبقاء معهم في مقر العمل، جعلت أحلامه تورق بعناقيد من الفرح. أظهر ذكاء حاذق في الحفر، وكيفية التقاط القطع الأثرية، والتعرف على أنواعها. تعلم منهم الكثير اللغة والمعرفة بالآثار لدرجة كان العلماء يسألوه عن بعض الأمور إن أستعصى عليهم لغز فيما يخص الحقب الزمنية للآثار. أجاد طالب اللغة ومضامن أسرارها، بحيث أخذوا يرسلوه في بعض الأحايين الى المتاحف المنتشرة في جغرافية الدولة للأطلاع على التحف، من أجل كتابة تقرير عن أنواعها، وذلك بعد مرور ستة سنوات على العمل معهم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير