الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراسم دراسة نقدية لقصة ( هبوط عابر ) للقاص عبدالكريم الساعدي الناقد: أحمد طنطاوي

عبدالكريم الساعدي

2015 / 8 / 2
الادب والفن


الإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراسم

دراسة نقدية لقصة
( هبوط عابر ) للقاص عبدالكريم الساعدي / القصة اختيرت من بين أكثر 700 عمل أدبي لمختلف الكتاب العرب لتفوز بالمركز الخامس في جائزة( ضاد للقصة القصيرة/ مصر)
الناقد: أحمد طنطاوي

كانت مشكلة الشكل و المضمون: كيف ينطبقان و يوظف الشكل لخدمة المضمون مشكلة أثارت الجدل لكن المتفق عليه النهائي أن الصلة بينهما وثيقة جدًا، فهما وجهان لأمر واحد، ولا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر أو كما رأى " كولردج " في الاتحاد العضوي أن الشكل والمضمون متحدان اتحاداً تامًا، فقيمة العمل الفني تأتي من خلال اتحاد أجزائه من الداخل و هذا ما يمثله قول " كانط " "إن العاطفة بدون الصورة عمياء، والصورة بدون العاطفة جوفاء". فالمثير هو كيف يتعامل الكاتب مع الحدس المسيطر. وهذا النص يراوغ القص الماورائى .. ميتافيزيقا الجنس .. ينسج الإيروتيكا شعراً في سبك خاص بالغ الخصوصية للوصول للمسعى النهائي و ذروة التجربة الخيالية.. فالإيروس يقطر شعراً مفعماً و يسبح في العلياء نشيداً .. إنها إيروتيكا الروح تبحث لنفسها عن تخوم و مرابع و هؤلاء الذين قد تدهشهم الشعرية ( المبالغة في رأيهم في سرد قصصي ) قد أهملوا هذا الجانب و أن التناول الجنسي هنا _ بالرؤية الجديدة الخاصة ( فوق الجنسية )أو معالجة ميتافيزيقا الجسد أو الباراسيكشوال Para sexual تقتضى بالضرورة و حتما هذا التناول و المعالجة الموسيقية لأن المعطى الجمالي هنا خبرة متجاوزة .. خبرة صوفية وجودية و ليس هو الجنس بمفهومه التقليدي الغارق في ماديته كما في قصيدة إيروتيكا للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس مثلا أوفى كتابات البرتو مورافيا و هنرى ميللر بصورة أشد أو في شكلها الخارج المتعدى كلّ القواعد و المقترب من الجنون المسرف في قبحه في تلك الكتابة الشهوانية في الكتابة النسائية الفجة الخارجة عن المتصور و كلّ الأعراف الخلقية عند كاتبات مكانهن الطبيعي هو المصحات العقلية مثل جيل داوصن و أنيس نين.
قديماً كانت اقترابة الشاعر الروماني أوفيد استكشافاً للحب في كتابه فن الهوى لكن ثمة روح أخرى صافية تتشح برداء النرفانا البوذية المغرقة و كل عبق الفلسفات الشرقية القديمة في نظرتها للفعل الجسدي و العرى إن ثمة روحًا بالغة الأسى في كتابات الساعدي تسرى عبر هذا العمل_و في أعماله كلّها بنفس الدرجة_ عند تناول المعطى الجسدي ..شهب الروح تعكس أنوارها على فوضى الجسد فتشكِّلها جدلاً هامساً أحسّه هنا جنساً حزيناً إذا كان للجنس كمفهوم أن يتلبَّس الذات و يتأنسن .. إن هذه المزاوجة تذكِّر بالطابع العام لأوبرا . "تريستان وإيزوالده" لفاجنر حيث تحولت الشهوات الحسية إلى سمو روحاني .. شيء يقترب مما يُسمى الجنس الروحاني في الفلسفات الشرقية و هو شيء ربما كان صعب الفهم في ظلّ التعاطي للتشكُّل المادي و هذا القدر من الانغمار في عصر الحداثة، حاسة الشرق حين يتعاطى مع الجنس.. الجنس حين يخفق به قلب شاعر لا يمكن أن أنظر إلى التناول الفوضى. هنا كما هو مطروح عند الآخرين بدرجات متفاوتة إلا عند " لورانس داريا " في بعض مشاهده الرقراقة في رباعية الإسكندرية .. إنها الحلّ لاستعادة الانسجام إزاء بعثرة الروح تلك و هذه الفوضى .. إنّه الانتظام الكيان ضياءً و نورًا و كشفًا صوفياً و بعض إلهامات الإشراق البوذي لقد اعتبر" ابن عربي " أن سحر الجمال هو سحر الفناء وأن فتنة المرأة هي فتنة الإغماء حتى أصبحت المرأة عنده فتنة “يستخرج الحق بهن ما خفي عنا وفينا” كما يقول. " الساعدي " يسعى أن يصل بتشكيله الجمالي هذا إلى هذه الصورة النهائية إظهاراً و تجلياً عبر الشكل لقد قدمت الفرويدية استاطيقا جديدة للجسد ( حال تساميه ) باعتباره أساساً للحضارة حينئذٍ, و مرتكزاً رغم جانبها الآخر المحتشد بالمواجهات الصادمة , و هو ما تناوله الأدب بأشكال لا يمكن حصرها من المعالجات و على اختلاف درجات البعد و القرب , و نصنا هذا من الأشكال الأخرى هذه للمعالجة إنّه شيء نجده في العالم المثالي القديم حيث تقدم الحكايات صوراً هندسية لحبّ خيالي تمتزج فيه آليات الشبق بنوع خاص من العاطفة الطيبة الفطرية الحالمة لقد دشَّن المركيز فدي ساد رؤاه الجنسية التشريحية العنيفة علامة على الجنس في شكله الفج, وكانت أعمال أديب مثل جورج باتاي Georges Bataille أنموذجاً لفعل الحداثة في النظرة الجسدية المفعمة و العرى و الجنس غير المهموم بملامسة الروح في نسق تناغمي بالجسد لقد أطلقت الفرويدية _ كاتجاه فلسفي يتعدى جانبها السيكولوجي _ مجالاً فسيحاً للرؤى المغايرة, و فتحت الباب لاختراق حجب الأسرار, وخلقت مجالا رحباً للتداعي الحر لانطلاق النفس عبر الدروب و المسالك، مجالاً خفياً لرسم خرائط الأمنيات و رماديات الإحباطات العميقة في الوقت ذاته و هو ما يعبر عنه " الساعدي " في أطروحته تلك . إن التناول ليس بغرض العرض الجنسي المباشر, و الربط بين الجنس و المعاناة الروحية العميقة، يذكِّر بحل بطل مورافيا في رواية السأم حين اتخذ العلاقة مع الفتاة جسراً لإعادة التواصل مع الحياة بعد أن ساد الانقطاع و عدم التواصل داخله الكيان العميق و لم يستهدف لذاته لذة و متعة بل إنّه كان معبراً ووسيلة وحلاً وجودياً لاستعادة ذاته المفقودة و صلته بالواقع و هو ما يقترب من الإطار العام لنص الهبوط العابر، إلا أن تصوير بطل غارق في إحباطه و انهزامه و انكساره, و طبيعة الشكل القصصي القصير _ عكس [ رواية ] السأم _ اقتضت أن يتخذ الشكل هذا النمط الشعري, و الذي بغيره ما كان قد تحقق للعمل مغزاه و هدفه و التأثير الكلي الذي يسعى إليه, و هو ما ينسحب على كتابات " الساعدي " الأخرى أيضاً, تصويراً لإنسان عصري يعيش الوجودية و يذكرنا بأبطال سارتر و كلّ كتاباته الحريرية التي تتدثر بأوشحة مخملية تخاطب الروح. صيغة المتكلم فيها هي المعبرة عن عالم مخاتل يريد أن يرسمه بعمق و هذا يفسر حميمية السرد، إنّها لغة جديدة و تأسيس لسرد جديد عبقرية في التناول دفق في المشاعر تميزها نسيمية الرؤى:

** في تلك الليلة كنت والزقاق وهي، نسهر على ضفة رغبة مجنونة، طافحة بالإغواء.
** كنت غائباً تماماً إلّا من حكايات جدتي، لا أدري كيف أبصرت مفاتن التيه وأنا الأعمى؟ **استوطنتني المخاوف في ظلّ ليلة باردة.
** أنفث دخان الكبت بعدما استبدّ بي الشوق، أبحث عن مستقر لوهج ارتعاشتي.
** يصفعني الغياب تحت قباب صهيلها.
**أفزّ مرعوباً أسابق الريح في صحراء قاحلة، يحلّق الأمس حولي، ينثر وجه هدى في حقل يرعاه الوجد.
وإحضار الأمثلة هو ضرب من المستحيل فكل أجزاء النص تزخر بهذه الباقات النصية كما قلت في قراءتي قبل ذلك لقصته " مرايا الشيب ". نلمح في هذا النص نوع من التعامل البولي فولى متعدد الأصوات شيء يماثل في الموسيقى السيمفونية أو الأوبرالية ما يسمى بالبوليفينية وهي تقترب من تخوم الرواية البوليفينية من حيث تعدد المنظورات السردية ووجهات النظر(الرؤية من الخلف- الرؤية الداخلية - الرؤية من الخارج)، بالإضافة إلى تعدد الضمائر السردية (ضمير المتكلم- ضمير المخاطب- ضمير الغائب ( د. جميل حمداوي ( فهو يستخدم صيغة التوازي و الفلاش باك السينمائيين في الانتقال الحاسم بين نقيضي الحسية المفرطة و العذرية في سخائها النقي رسماً شفيفاً لعلاقته بابنة القرية الملاك يستحضرها هنا _ في وهج حزنه الشبق هذا _ كوجه مقابل يكرس الخيبة و الكارثية.
هي كتابة تستلزم بشدة هذا النوع من المعالجة و الشكل و السبك عبر هذه الأسئلة الصعبة و محاورات الروح و هي ضرورية و لازمة و حتمية لمطابقة هذا المحتوى و هي لصيقة به. نوع يشكل نمطــاً خاصاً من الكتابة نجد تمثلاته في النبي لجبران مثلا .

الإيروسية قصيدة صوفية فلسفية - وجودية هي قصيدة التأمل، تطرح في النثر نوعاً من الكتابة الغنائية، يراوح شعر التروبادور.. هي بالأحرى سيرينادا روحية تُغنى تحت نافذة عشق خالد إن كتابته تمثِّل " الشعرية المفعمة بأسرار روحانية صوفية " كما وصفتها بحق الأديبة " رجاء البقالي " في مكان آخر _ ـــ أوفيد يبعث إذًاُ من جديد؛ و لهذا كان لابدّ أن تتلبَّس هذه الكتابة أو ترسم مستوًى ترتنستدالياً متعالياً فهي تخاطب هذا النوع من القراءة و تسعى لخلق قارئ جديد يرى ( الشعر ) الكامن في الأشياء و الطبيعة _ حتى في الجنس _ أكثر المناحي تمثيلا للمادية المناوئة للروحية.
المجال البصري المُتخيَّل و تشكيل الصورة اتكاءً على الشعرية
العراق موئل الشعر و هو شهقته عبر العصور وصولاً للسياب و نازك الملائكة و ثقافة العراق الموغلة منذ القدم في باحات الشعر وصولاً إلى ذرى عصرنا، خبرته الجمالية لامستها بالتأكيد ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط و التي أفرزت انعكاسها و انتشارها على دوائر الشرق الملاصقة فيما يتصل بثقافات الجسد وهى _ في نفس الوقت _ ناتج موسيقي مسرف في الرهافة وطبيعي بالتوارث، والاندماج التخيلي إشراقاً صوفياً يكمن في اللاوعي الجمعي لتاريخ طويل مضى محتشداً بكل هذه الوجدانيات و أي نص _ موضوعه الوجدان النابض و الذكرى و الأسى و التجارب المسرفة في الحميمية , و كل هذه الاقترابات _ يستدعى بالضرورة تبعًا لهذا - و بشكل تلقائي- المستويات الصوتية والبلاغية والتركيبية للرموز أو المداخل الباطنية الملائمة للموضوع بكل ما فيها من ثورة و بمقدار النجاح في هذا الاستدعاء يتحقق التأثير و الناتج النهائي للعمل و هذا ما يصبغ النص بالكثافة الرمزية و زخمه الشعري , و " الساعدي " اعتمد هنا بعداً غنائياً وانفعالياً شكلَّ به حكائية النص ليرسم في النهاية شكل القصة - القصيدة و يحقق به شعرية القصة عبر هذا التشكيل الإيحائي الفسيفسائي المرهف. لقد استغل إمكانات الصورة و استدعاءاتها عبر الحث و التحفيز ليشيِّد معماراً يقوم على توجيه العين إلى الممكنات البصرية المتخيّلة للعناصر المعطاة موضوع النص وفق إطار هارموني متناغم، يشكِّل دلالة النص . وإذا كانت اللغة القصصية/ الشعرية، تتمرد على المعيارية - فيما يقول الدكتور صلاح فضل -" فتختصر في جمل قليلة ما يمكن أن يكتب في صفحات كثيرة ويتحقق هذا الفعل اللغوي بوساطة انهمار لغوي لا يستمد عذوبته من فصاحة الكلمات ولا من صليل الإيقاع اللغوي الجهير، وإنما من موسيقى الحياة الأليفة وهي تغمرك بضباب يخلو من تفصيلات حية تتفتح عنها ذاكرتك وأنت تمتزج بها وأنت تقرأها فتحقق بينك وبينها درجة عالية من التماهي " (أساليب السرد في الرواية العربية) و كانت الفنون جميعها " كمظاهر مميزة للوضع الروحي في قرننا تنزع نحو تعزيز أحدهما الآخر في أقل تقدير إن لم تكن تعمل على أن يكون بعضها بديلا للبعض الآخر وذلك بإعارة الآخر قوى ومصادر جديدة " ( جيفري ميرز - الأدب والفن البصري في القرن التاسع عشر في فرنسا ) فإنه يمكننا بكلّ يسر أن نرى في تجربة " الساعدي" البصرية الشعرية في مجال السرد القصصي إشراقات الفعل الأدبي الداعية للثناء و التقدير.

أحمد طنطاوي
يوليو/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى