الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - هيكل هبوط القمر (7)

حمودي زيارة

2015 / 8 / 13
الادب والفن


الفصل الثالث

بينما كانت أم نيركز جالسة في فناء البيت الذي يستلقي على نتوءات الصخور، لاصقة عمود ظهرها السفلي الى الحائط. أنصرفت بمسرة، تتأمل بتلذذ غنج، ونظرات ضاحكة، وجه نيركز الناعس، وهي تستميل رشح الحليب من حلمة نهدها الأيسر. عندها شرعت أركان الفراغ الذي تحتويها الجدران كحزمة ورد، تختنق في باحة البيت، وينضب منها نثيث الهواء. عندها أخذت أم نيركز تلتقط الأنفاس بشكل مقتضب، على أمل تدارك النفس التالي، طرحت رأسها الغارق بالفزع، الى الوراء ونظرت الى الأعلى، حينها رأت رذاذ غيوم الدخان تدنو من سماء القرية التي ضجت بالخوف. رفعت حبال الخوف قوامها المتكاسل، أرتبكت خطواتها على بشرة الباحة. أطفالها الثلاثة الذين أستمروا بمطاردة الفرح النهار كله، بدأوا يتساقطون بثيابهم الزاهية، على تراب باحة البيت كأوراق الخريف. كانت نيركز في حجرها نائمة، تلطع بين الفينة والأخرى طعم الحليب الذي يندي شفتيها. جاهدت رغم تعثرها بأهداب ثوبها الرافل، أن تلتقط الأطفال. لكن أصوات مرعبة، ملئت فراغات القرية، تدعو بالهروب، تأتي من كل ناحية. عندها، عزفت عن حمل الاولاد وخرجت مسرعة تطارد رمقها. الأتان كان يستمع الى أنفاسه، ويطوح إنتصاب أذنيه، حينما قررت أم نيركز أن تمتطيه..
*********

نيركز لفظها الأفق القريب الذي أزكمه غبار غاز الخردل، مع إمها، وإتان نحيف لونه يميل الى البياض، كث الشعر، راح جلده ينضح العرق بغزارة، تظن الموت يحمل جثمانه بخطواتٍ خاملة. تبقى الأنفاس بتبرم تلتقط بقايا الحياة في نقاوة الهروب. بعيداً عن العاصفة الدخانية، والإنفجار الهائل المرعب الذي أخذ يلفظ تباشير كتل غبارية. مع أرتعاشة ناعمة تنساب بتوافق مع إقتضاب خطوات الإتان. قدموا بذعر مميت، يعلو شحوب واضح على وجه أم نيركز. نيركز مرماة بأضطراب في زنار حقو أمها، تغطيها خرقة مبللة. أخذ نزق خطوات الأتان، يعبث في تتدافع الدخان..
صرخت بجنون الأم :
- أدركوني سيقتلني الكيميائي .
لمحهم سامان من بعيد، أخذوا يدنو بهلع. كان وقتها يقف على مرمى قصيّ نوعاً ما. أستمر الأتان بموته المؤجل يقترب، سقطت الأم من على ظهره، على أخر صوت لفظته، أستمر يعدو، وكأن موته، تعهد علبة أنفاسه. بقى سامان متسمراً في مكانه، رابطاً الخوف قدميه الى ثقوب الطين، فغيوم سموم السارين، تتشظى بهوس خلف مركب الأتان، بعد أن غازلته خطواته بالجري نحوهم. وكلما أخذ الأتان بالاقتراب، كلما أزداد ترنحه وخواره. وما أن أصبح على مقربة من سامان ببضع خطوات، تهافت عليه وما لبث أن أمسكه، حتى تهالك يرفل بعرقه وموته. أنكب سامان على الخرقة المبللة، يفرد طياتها، بعد أن سمع صوت خفيف متهدج، عمد في التو، الى إقتباس صرة الأسمال، وألقائها في حجره، وبإرتعاش فج، راح يزيل قطعة القماش، طالعته طفلة غارقة بدموعها. صرخت زوجته شلير بهوس ودهشة:
- الحمد لله على نعمته..
لم يرزقا بمولود منذ زمن، بعد أن قتل ابنهما الوحيد نادر في معركة الجبل مع قوات الدولة. وما أن ألتقطت أصابع سامان جسد الطفلة الغض، أشتم رائحة طيبة تنبعث منها، لذا صار يناديها نيركز..
*********

غيوم قنابل السارين، أخذت تدريجياً بالتلاشي والأنقشاع، وبدت السماء أكثر صفاءاً، يزينها اللون الازرق القشيب، وبعد أيام معدودة، حينما ركل الهواء نفثاتها الى سماوات أخرى. هرول أهل قرية بقرة الملاك في مسارب القرى المرصوصة على سفوح الجبال، ظهر ركام الأجساد الهامدة تلون الدروب كمربعات السراميك، بعد أن أنهت عرضها المأساوي الذي جسد الإيماءات الأخيرة للموت. تتوسد الأرض، تتراكم كأكوام جثث مذابح الحروب الأهلية. نيركز كانت الطفلة الوحيدة من قريتها التي منحت الحياة، وكأن رجل الملاك تعهدها منذ الطفولة، ولهذا ذهب البعض من أهل القرية، بأن هبوط الملاك بضوئه الفاغم الى قريتهم المغمورة، كان من أجل نيركز، لأنها روحها تتهجد في قلب البقرة، وتعبر الأيام بأنفاسها. أمتطت دورة الأيام، حتى طالت درجة البلوغ من عمرها. القرى في تلك الحقبة، تعرضت الى قصف عنيف بالأسلحة الكيميائية من قبل آلهة الأرض كما كان ينعتهم طالب، وبنفس السلاح قتل خاله في متاهات الاهوار، عرف ذلك، عندما سمع أمه ذات مرة تتحدث عن سبب موته. الدولة أستخدمت السارين لأن ثمة فصائل أتخذت من الجبال مكامن وأماكن لمحاربة الحكومة، محاولات جريئة ودؤوبة للثوار تمثلت بنصب كمائن في أوقات متفاوتة في الطرقات، مما جعلت الجرح يتقيح في مجون قصور الدولة. فعليه أطلقت الدولة وحوشها في المنافذ والطرقات، تقبض على كل شاب. الثوار طار صوابهم من سوء الأجراءات، فأستجابت فوهات البنادق الى الغضب الغائص في قرارة أنفسهم، دون أن تستمع الى نشيج الموت في أوردة الدم. خاضوا معارك ضارية. كبدت الدولة الكثير من نزيف الدم، بحيث رسمت على جدران القصر ملامح الخيبة. لذا هاج غضب الدولة، فأزمعت على ألقاء قنابل سامة بايلوجية وكيميائية من أجل أن تردم هدير البنادق. تناثرت الجثث في كل مكان كأسراب الطيور، في اعتاب الابواب، سفوح الجبال، تراب الطرقات. جدران القرية تحولت الى شواهد قبور، وسمائها نصبت حبائل الموت تتربص أجنحة الطيور، والحيوانات التي صاحت طويلاً من الألم، وكأنها تهتف ضد الحكومة. الأشعاع سكن البيوت بعد أن قتل كل الناس. تركت القرية لفترة طويلة دون أن تنتشل الجثث التي تناهبتها الديدان، ومزقت جلودها سديم السارين القاتلة. سحب سامان جثة أم نيركز بعد أن أنقشع الدخان، ودفنها في حدود ثقوب أرضه. بعد أسبوع شهد أهل القرية سيارات كبيرة تحمل الجثث، وكأنهم أركام جراد، وبلدوزرات تحفر قبور ضخمة بنهم في أطراف القرية، تدفن فيها العشرات من الجثامين المنتفخة. بألوان ثيابهم الجميلة، وأعمارهم الطرية التي لم تكمل دورة حياتها، فقد أخذت على حين غرة.
*********

تنمش قسمات نيركز العائمة بصفاء الهدوء، ملامح غريبة وجادة تماحكها لمسات لأبتسامة خفيفة. توحي كأعشاب الطين، بسذاجة وداعة القرية التي لقنتها أحرف الرماد، وخصوبة الحقول. ونسجت ألوان أيامها بخيوط الأصيل، وأمطرت قلبها رحيق التراب. وعقدت خيط روحها في صخور الجبل. وقذفت أحلامها في هيكل الملاك المقدس. تتهادى نيركز على معابر الطين يومياً مع بقرة الملاك غارقة بدعة، تداعب أيامها مستغرقة في ظلال الأشجار وقنن الجبال، ونباح الكلاب المتطفلة على هدوة الليل، وهبوب النسائم خلل الأفنان في أزيف العصر. وعلى مشارف حدود القرية التي توسعت خارطتها بنحو وشيك، تواصل نظراتها، تلهو مع ركام الاكواخ المتيمة بأنتشاء الذكريات، وكذلك في الرشفات الغضة من أثداء الأبقار السائمة في مروع الحقول والمزارع وموسيقى ثغاء الأغنام، وفي نفحات الريف العليلة التي تأوي الى الغابات الراكعة في أذيال الجبل. نيركز تنبع من الطرقات كسنبلة قمح، تنثر المرح على الوجوه، وذلك بسبب أمتلاكها بعض من روح الملاك وضوئه الذي أذكى قلبها بالمخيلة. تبقى كلغز يعبر الأيام، يعزف ألحان حياتها شجن القرية ويأرج ترابها الذي يضم بصمات طفولتها. تخلد في هيكل المهبط، تبتهل على همسات براءة النساء في تواظب دخان المواقد، وأصوات الديكة المنادية بقدوم الفجر، وفي مشاهد أسراب الدجاج الهائمة بالتقاط الجريش والهوام. في دروب بيوت الطين حيث يستوفز الفجر أبتهال ضيائه، وعلى أصوات الحداء والنعيب المثارة من أرجاء القرية، وفي صمت النحيب، وتعثرات الريح اللدنة في معابر الطين. وصبابة ووله طالب العالقة في شغافها، وصوته الساهم في خيالها. كأنها تتجول في مملكتها التي تناسلت حباً، ما أن حباها ضوء القمر، حينما أرسل ملاكه الذي مازال يغور في حناياها. تتقافز نيركز في تلونات أصداء القرية تتفقد نشوتها بحب غامر في مواسم الحصاد الضاحكة، فتثب بفرح آخاذ، وكأنها ألتقت بأحد الأولياء، فيأتي بأحتفاله الفرح الى قلبها الذي يوشك أن يحتضر على أعتاب القرية..
*********

على أطراف الحقول، في نداوة أقتفاءات الأصيل، هناك يتهاصر لفيف من أترابها في أخضرار المزارع، يرسلوا النظر الى أعشاش الطيور التي كثيراً ما كانت تعلن عن قدومها، وكأنها تنتمي الى كل بيوت القرية، تداعب غفلة الخطوات بنحو سادر، تدلف الى كل البيوت في أي وقت تريد، لا يقيد قوامها تعاليم الأعراف، لأنها تغفو في عربتها الملائكية، حينما تتجول في ثنايا الطرقات، وهي تحلق في سماءات مملكتها. وعلى وشك المسافات تلفظ نيركز الناغرة في جمرة المواقد وعلى نفثات الشاي الناعسة برائحة المزارع. تسهب بالحديث بنحو مجنون وصفيق ودون إعتبار لهمز العيون، وكما المعتاد يرهف أترابها السمع، يشوب أحداثها صفاء ساذج فجميع تواريخها تدور بعد زمن الطوفان. أهل القرية ينظرون الى نيركز بأنها ربيب الملاك، لذا فما تقوله من أحداث، تعلق كتعويذة في كلماتهم. لكن لا أحد يعرف كنه الطوفان، هي نفسها لا تعرف شيئا عن تاريخ الطوفان وحكاياته الشائكة الكامنة في طيات تقاويم الأيام، فعندما يسألوها عن السر، تتغاضى دون أكتراث، فما تعرفه عن قادم الأيام، أشارات يسكبها ضوء الملاك في روعها دون أن تكشف سرها. بقيت مديات ذهنها ناشبة بأستغراق في غمرة تعاويذ قريتها، فوجدت نفسها ترسف في لوثة جنونها العفوي، منصاعة الى صوفية أعراف أهازيج القرية، وبوذية تأملها، ومويجات الشطوط، ومباخر النذور التي رزحت بهن القرية، وعباب ضجيج الأيام..
*********

في أحدى المرات، بينما كانت نيركز تجالس منشور الأفق الذي تهادى في إحتراقه يغير الألوان. الكلاب وقتها أنهمكت تكبل تشاجرها المتواصل، على ضآلة ضوء الشمس الذي أخذ ينقشع، فأسترخت، غارزة مخالبها ملتفة حول أطراف ثياب نيركز الملونة. شعرت بعد أن ثقب خيالها هاجس شفيف، بأن رجل الملاك برز بثوبه الأخضر الفضفاض، يخطر بخطى تغرس أوطان للحياة. الشأن الذي على عبقه، طفقت السهول تكتنز أمامه راكضة بخضرة الربيع، ما أن تمسد عصاه الأرض. يهفو نحو مطلع الشمس، تقتفي أثره أسراب الطيور. بدت خطواته متطامنة كمجرى النهر، كأنه عقد أقدامه بغبار الطريق. محاولاً أن يعبر الى حلكة الدروب. كان يحمل بحقوه كتاباً بحجم اليد، تعصبه خامة خضراء. يبحث مع مصباح حدسه، عن عشبة نمت بأكسير جنة العرش، ألقى بذورها ملاك أخر أضاع بوابة اليوتوبيا، حيث كان يتضوع بعطره المقدس، يعتمر رداء أخضر، على سفوح جرداء تملئ تعرجاتها الصخرية أكنان الغربان. أصرت نيركز بعريكة رصينة أن تطارد الملاك الذي أنغمس بالبحث عن صنوه. شعرت بصداع مقيت لحظتئذ، يجتاح تداعيات دماغها. قبضت أصابعها على محيط رأسها. عندها ظهر ألق ساطع أمامها تخاله من الملاك، تطامن الألم، وشعرت كأنها آلهة أسطورية من سلالات العهد القديم. ركضت معظم الليل، تتوارى وتوارب عن الملاك، بحنكة تقتفي ظلاله من أجل أن لا يكشف وجودها. وأن تبقى على مقربة منه. وبعد رحلة مرهقة جاست فيها أماكن مرعبة. أبصرت أشباح تحمل جرار تنضح دماً. رأت الملاك، وهو يلج جذع شجرة كبيرة، أختبأت خلف جدار من لحاء الشجر، وريش الطيور في الجانب المقابل. تراقب الملاك. بقت منتظرة لمدة طويلة، لكن الملاك لم يظهر بعد. سأمت الأنتظار، عندما بدأ ضوء الشمس يقشع سدف الظلام. قررت أن تلج جذع الشجرة، أيضاً لتواصل مطاردة الملاك. فما أن أطلت برأسها رأت بحراً ممتداً دونما نهاية. تقدمت بخدر داخل الشجرة متوغلة في دهاليزها، وأدغالها المليئة بالفخاخ. أخذت تقترب من سفح عال يطل على البحر. دارت ناظريها تستشرف المكان علها تجد الملاك. أنصرفت تحدق في كل الأرجاء، الغصون، الضفاف، الأمواج، وزاوية الأفق التي يرسمها مع البحر، لم تجد شيئاً. صرخت بغضب منادية على الملاك فقد أعياها البحث عنه، لم يستجب سوى الصدى. أستمرت في الزعيق ظناً منها بأن الملاك وقع في الفخ، وهو الآن بحاجة ماسة الى المساعدة. ربتت الريح على أفنان الأشجار، وعلى صفحات البحر فأثارت الأمواج التي أصدرت بدورها أصوات، كأنها قادمة من أماكن عتيقة. أفضت نيركز النظر في الأمواج، تفرست بحدة. رأت شيئاً غامضاً لم تستطع أن تتقرأه، يضطرب وسط الأمواج، فحسبته الملاك الذي يحاول جاهراً المناداة عليها. قذفت بنفسها بسرعة من غير تروي الى الأمواج من أجل أن تنقذه. لكزت لطعات كلب يدها عندما سحب الواقع فكرها الى عذاباته. أدركت بأن هناك منعطف خطر يكمن متربصاً لها في مستقبل الأيام، فالملاك ترك هيكله، وعن قريب سيكون الطوفان. عاودت الأدراج بعدما لمست طلائع الظلام شفافية الأفق، الى بيت سامان، أودعت الكلاب في حوافي القرية، وهي تنبح أشباح الليل..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض