الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - هيكل هبوط القمر (8)

حمودي زيارة

2015 / 8 / 18
الادب والفن


في الصباح التالي، أجتاحت أشاعة كالاعصار أفاقت جدران القرية، بأن طالب عاد الى القرية. وقد لمحه أحد العبيد في شجيرات حوافي السفح. الناس بدت في القرية، في أضطراب وحيرة، وحركة دائمة. وبالطبع كان ظهور طالب الواقعة المناسبة لنسج الخرافات والقصص الغريبة حوله. ومن ضمن الأشياء التي روجت ضده، بأنه ألتقى بصديقه بيمان، وقال له بأن هرب من سجن من العاصمة بعد مساعدة أحد السجانة. والبعض يقول بأن مسألة سجنه لم تكن حقيقية بل مرتبة من أجل أن يحوز على وقت كافي، لبيع أثار الأجداد. وبعد فترة دامت عدة أيام ظهر طالب في دروب القرية، ينصب قامته بمحاذاة حيطان القرية، كبطل أغريقي يجوس أوقات طفولته، قاصداً بيت سامان، طالباً يد نيركز منه، أستغرب سامان من طلبه وأجابه على الفور:
- نيركز، لا تكون لسارق أثار الأجداد..
وبعدما سمعت نيركز بالخير، رسمت أبتسامة ناعمة طردت تجعد كئيب يعصر وجهها. فهي كانت تقتص الأثر لخطوات طالب، وتستاف رائحته في أوراق الشجر وخضرة الحقول. تنشر شوقها في ذاكرة الطوق كمصيدة تلتقط تهاويم شرود خيال طالب. كان بدوره من بعيد، يسرب شوقه اليها. بعد أن رفضه سامان، أشار عليه بيمان:
- أن يفشي الحقيقة لأن الوقت أصبح ملائم، ولابد له أن يقول ما يضمره، وينشر السر الذي خبأه لفترة طويلة..
السر بأنه لم يمتهن سرقة الآثار، بل كان ينتشلها، ويهربها من الارتهان والسرقة من المستودع الرطب الذي أقامه مستر جان ونيكول، وبالتالي يخبأها في كوخه الجاثم على صمت التراب في عراء البرية أو الكهوف. السبب الذي حضه للسرقة، هو أنقاذ تراث الأجداد، حيث يداخله شعور، بأنه الوريث لذلك. وأثناء سجنه، فقد أبلغهم بكل شئ، ولهذا أطلق سراحه، بعد أن أرشدهم الى الأثار. ما كان يبيعه من الآثار وتاريخ الأجداد، كانت منحوتة بسحر أصابعه، فقد كان نحاتاً ماهراً، تتعرى له الصخور عن جسدها، حيث تعلم النحت من غيابه المستمر في الكهوف، أذ كان يحفر أشكال أدمية في الحجر التي تحاذي المغارات. لهذا كان يتخدج الطين في يديه كالطفل الوليد، وبمعية شاكر، أستطاعا أن يسقيا الطين روح الأجداد بطريقة قريبة للاصل، كانا يستخدما زغب الطمى من أعماق النهر، ودقيق الأسمنت، مزجه بسائل السكر اللزج، ومياه الينابيع المنتشرة في الجبل. ويرسم الأحرف برؤس القصب. نيركز كانت تعرف هذا، دون أن تفصح به الى أحد، وكأن روح الملاك فاضت في جرة قلبها. عندما رمت بأبتسامة للهواء. وفي يوم الأثنين، وقت هبوط الملاك، أكتظت الدروب بالفرح، تحتفل بزواج طالب من نيركز. ضحك سامان بنشوة وأبتهاج، عندها قام على الفور ولصق طالب الى صدره، بعدما أخبره بحقيقة سرقة الأثار..
*********

باغتت بشكل مفاجئ، في بدايات الليل، مجموعة من الخنازير البرية تهاويم السكون التي نصبتها القرية قبل أن ترتهن الى النوم. غاصت بسنان حوافرها القميئة، تخربش رقود الدروب. على بيتهم ذات مرة في ليلة حالكة، تنبهت البقرة التي كانت تجتر برتابة في وسط باحة المراح، هذا عندما تناهى الى سمعها نباح سادر وشرس، وحمحمة نافرة، تتفاقم بقرافة. أدركت بأن وقع الحوافر والحمحمة تنتمي الى نفير الخنازير، وأنها على مقربة من البيت تتناهب الخطى نحوه. أنتشلت أطرافها من الخدر والأسترخاء جارية بعزيمة وأستماتة نحو قطيع الخنازير. وبينما راحت تلتقط خطواتها بسرعة، أبصرت خنزير رمادي شعث الشعر، برز على شدقيه نابين وسخين. كان يتجه بسرعة الى الناحية التي ترقد فيها نيركز، أنقضت عليه كالموت بعد أن ركلته بأقدامها، هدر بتألم بصوت دميم، طوح رأسه، محاولاً أن يغرز نابه في جوفها، عاجله سامان بخنجر في خاصرته، أطلق عويل حاد، تكور على نفسه، وشرع يضرب بأرجله من شدة الألم، وبعد عدة سكرات هدأ أضطرابه. عمد سامان للتو، لأنتزاع نابيه. علق ناب واحد في مقدمة الكوخ، وذلك لطرد الأرواح الشريرة والخنازير، وأشارة للفخر ايضاً. ونجر له خنجر من الناب الأخر. هرعت نيركز الى البقرة الخائرة وربطت عنقها بيديها، وطرحت خدها الى جبهتها، ندت دمعات حرى تساقطت على خصائل البقرة. وعلى أنفاسها الحرى والمبهورة، نامت نيركز حتى أجتاح فيض النور لصوصية الليل. وفي إحدى الهجمات أيضاً، بادرت البقرة على أيقاظ نيركز، بعد أن وكزتها بطراوة إنفها، حملتها على ظهرها، هرولت نحو تلة قريبة من البيت التي عملها سامان لحمايتهم من هجمات الخنازير في مواسم القيظ. البقرة جُرحت بناب خنزير وسخ ذو رائحة بغيضة، في قدمها وعلى أثرها أخذت تعرج بشكل طفيف. الخنزير قتل بقساوة من قبل كتيبة العبيد، ونثرت أشلائه في مسارب الأدغال، وعلق رأسه لفترة في درب الخنازير، لدرأ هجماتهم. أصداء خوار الخنازير، بعدها أخذت تُسمع في جوف الليل، لأيام عديدة..
*********

كثيراً ما كانت تتحدثت نيركز عن الطوفان، والوادي، في هلوساتها وأحاديثها، وشرودها الذهني، من دون أن تبالي بهمس الآخرين أو سخريتهم . ذكرها المتواصل للأحداث التي سوف تحدث في المستقبل، قد ألبسهم ثوب الأحراج، وأغرق خوالج العبيد، وأهل القرية في مخاض عسير، ولجة عاصفة، تبحث عن كنه وحقيقة ما تتفوه به على الدوام، وخاصة فيما يتعلق بحكاية الطوفان والوادي. لذا حاول العبيد أن يجدوا حل صائب لهذا اللغز، والأدمان العابث على أجترار نفس الحكاية في كل حين من قبل نيركز. الأحداث أصبحت حكاية للتندر والعبث. بينما أستمرت نيركز في غيها دون أن تعير أي أهتمام ، أو لحظة للتفكير أن عابثها أو غمزها أحد العابرين. كأنها تعيش في قارورة، ترى الأخرين ولكن لا تسمعهم. لها ملكوتها المضيئ التي تسمح بدخول بوابته القيصرية، لمن تريد أن يدخل فيه، وفي الوقت التي تحبذ، مترع بالذهول والغرابة، حدوده أينما تطأ خطواتها من تراب. رايته تحملها سارية الأفق. تدلف الى كيفما أتفق من بيوت القرية، إن لكزها تضور الجوع، لا ترى في ملكوتها من حدود، زمام حياتها معتق بلعاب غرائزها التي ترسف لإستمالاتها، كغصن يتدلى من كثيف ثمره. لديها نبوءة الحدس، التي تبدأ بواجس خفيف، وهذا بدوره يتماثل كصورة ناصعة في أحداق الواقع، إن خطر على فكرها. هذه الحاسة والملَكة التي تمور في دواخلها، وما ترّوج من نبؤات. أعتقد شريحة كبيرة من أهل القرية، وكذلك كتيبة العبيد، بأن نبؤة الطوفان، خالية من الحقيقة، ولن تحدث أطلاقاً. أنها هرطقة تستبيح تهاويم هذيانها، تورق في خلدها كأكمام الورد. الطوفان الكل أجزم لن يكون، لأن ببساطة قريتهم في منأى من إستباحة النهر، فمويجاته شحيحة لا تجرأ أن تبلغ عنان جرفه الفارع، فعليه فهي محرمة من أن يطالها الغرق أو الفيضان. أما نبؤة الوادي فقد حشرت أذهان العبيد في كومة قش التي لا تصلح الحكاية الا للحطب أو مزجها مع الطين. إصرارها العنيد لتكرار خرافاتها بشكل مقرف، نشرت السخرية في كل زاوية من حدود القرية. راح البعض من باب الطنازة بأذاعة حادثة قنابل السارين والغازات السامة والقاتلة، ومدى تأثيرها على النسب البايلوجية في دماغها، مما أدى الى هذه الهلوسة العابثة. وذهب البعض، بأن الطلاسم المبهمة التي تنضح بها كلماتها، تتحدث عن أحداث، ممكن أن تحدث في الأيام القادمة، لأماكن بعيدة خارج حدود القرية. يستهزء بعضهم، عندما تطنب بهوس التحدث عن الطوفان، والوادي. هذه الأعباء، أهلكت أعمدة إيمانهم. وصدعت جدران هيكل المهبط. أستمرت أراجيفها تزركش سماء القرية كالبالونات. التعب والقلق أخذ ينتاب العبيد. طلب بيدار كبير العبيد منهم، أن يكونوا في هيكل المهبط يوم الأثنين، لوضع حداً لهذه الخلة في ربيبة الملاك. أمرهم أن يهادنوا أفكارهم من أجل أن يفتحوا باب خيالهم لرسم ملامح قصة، بمقدورها أن تقشع عتمة الغموض التي تكتنف حكاية الطوفان والوادي. في يوم الأثنين، رصت الأجساد بشكل دائري في ظلال الهيكل. تغلب عليهم وقار السكينة. وما أن أستقر الجميع في رواق الهيكل، أخذوا ينظرون الى بعضهم البعض. عندها تفوه عبد:
- أن حكاية الطوفان، التي تقمع فكر نيركز. حدثت عندما حملها الأتان، من تعرجات قريتها التي عامت بطوفان تباشير الغازات، فلهذا ترسب في خيالها هدير الطوفان، الى أحضان سامان..
أتفق العبيد، بأذاعت القصة، ما تسنى لهم، في كل مكان، في الحقول، المزارع، ظلال نواصي القرية، مجالس السمر. أما الوادي، فهذا دون شك، صدى صراخ الثوار، في الوادي، الذين تمزقت أجسادهم بغبار القنابل الكيميائية التي كفنت الحياة في صراخهم. تطامنت سخرية القرية بعض الشئ، لأن القرية في معرفة تامة عن إلتصاق بيدار وكتيبته بنيركز. لذا أحرزت القصة القبول نوعاً ما..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-