الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دستور 1925 إلى دستور الاستفتاء الشعبي2005

سعد سلوم

2005 / 10 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


مع دخول الدستور العراقي المقر من قبل الجمعية العامة مرحلة الاستفتاء في يوم السبت المصادف 15 تشرين الاول من هذا الشهر ينتهي ذلك الجدل العنيف داخل العقل العراقي بين الدائم والمؤقت والذي اسفر عن انظمة سياسية تتوسل بدساتير مؤقتة للابقاء على حالة الامر الواقع وفي ذلك التاريخ المذكور يحق لنا مع ممارسة حقنا بالاستفتاء ان ندعو للاحتفال بعمر تاريخنا الدستوري الذي دخل الثمانين(1925-2005) وإننا وان كنا لا نستطيع في هذه العجالة عرض نظمنا الدستورية المتعاقبة منذ سن وتشريع دستورنا الاول(الموسوم بالقانون الاساسي) سنة 1925 وحتى عهد قريب، إلا إننا نستطيع أن نركز على الجوهري فيها لا سيما وان هناك ظاهرة مشتركة في جميع انظمتنا الدستورية، وهي بروز هيمنة هيئة على غيرها من هيئات الدولة، واذا كان لنا ان نختار هذه الظاهرة ونركز عليها من خلال المقارنة فلن يكون اسلم موضوعيا من ان نقارن بين هيمنة الملك على كل من الوزارة ومجلس الامة في دستور 1925 في ظل نظامنا البرلماني السابق وبين هيمنة رئيس الجمهورية في الدستور (المؤقت) لسنة 1970 والنافذ نظريا حتى يوم 9/ 4/ 2003 في ظل نظامنا الجمهوري السابق، وان هذا الانحراف الدستوري المتمثل بهيمنة (هيئة واحدة) تتمتع بالقوة والدعم على غيرها من الهيئات يظل أهم ما يميز نظمنا الدستورية السابقة ويشكل نقطة ضعفها الأساسية التي تم تلافيها في ظل قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية ودستورنا الحاليالذي عرض يوم امس السبت على الاستفتاء الشعبي العام و الذي نتمنى أن يحقق حلمنا بالتوازن الكامل بين هيئات الدولة .

هيمنة الملك في ظل دستور1925 :

شهد العراق خلال فترة ( 33 ) عاما ( 1925- 1958) او خلال حياة النظام البرلماني في العراق الذي شهد حكم ثلاثة ملوك ووصي: الملك فيصل الاول (1921- 1933)، الملك غازي ( 1933 – 1939)، الوصي على العرش الامير عبد الاله خال الملك فيصل الثاني( 1939- 1953 ) ، واخيرا، الملك فيصل الثاني ( 1953 - 1958).
وخلال هذه المدة تعاقبت على الحكم في العراق( 53) وزارة، وظل الملك خلال الفترة المذكورة يمارس هيمنة كفلها له الدستور على غيره من هيئات الدولة ويشير الاستاذ رعد الجدة في كتابه الموسوم(التشريعات الدستورية في العراق) الى ان البريطانيين الذين اشتركوا في وضع مشروع الدستور آنف الذكر فان واجبهم كان يقضي بموجب رغبات الحكومة البريطانية بأن يضمنوا هذا الدستور تدابير أضافية من شانها ان تعزز مركز بريطانيا في العراق، ولتحقيق ذلك اتجهوا الى وضع اكثر ما يمكن من الصلاحيات ومنها (التشريعية) بيد الملك وبصورة غير مباشرة بيد المندوب السامي بصفته الاستشارية وإبعاد الفرص عن المجالس النيابية المنتخبة قدر الامكان في عرقلة مساعي الحكومة .

المظاهر التشريعية لهيمنة الملك

من المظاهر المطلقة لهيمنة الملك سنركز على الجوانب التشريعية وذلك لخطورتها. وقد عرض الاستاذ فائز عزيز اسعد هذه المظاهر بالتفصيل في كتابه الموسوم بـ (انحراف النظام البرلماني) حيث انها تجسدت اولا :في حق الملك بتعيين بعض اعضاء مجلس الاعيان حسبما نصت عليه المادة ( 31) الفقرة- 1 من الدستور والمادة ( 26) الفقرة- 7. وان الدستور قد منحه حقا شخصيا مطلقا في تعيين هؤلاء الأعضاء.
إلا ان دور الملك الفعلي لم يقتصر على تعيين الأعيان بل تجاوزه إلى جعل بقاء هذا التعيين مرتبطا بإرادته ولكن رغم الدور الأساس الذي مارسه الملك في تعيين أعضاء مجلس الأعيان فانه مكن الوزارة من الإسهام معه في هذا التعيين، وان يكون أسهاما متواضعا في هذا المجال، ذلك أن الملك يتعذر عليه( من حيث الواقع) الانفراد في اختيار الأعيان، لذلك اضطر الى تكليف الوزارة بمساعدته في تقديم المرشحين لعضوية مجلس الاعيان دون ان يسقط ذلك حقه في التعيين وهذا الازدواج في جهة التعيين مع تغلب دور الملك على دور الوزارة قاد إلى قيام حالة منافية للبرلمانية اذ أصبحت الوزارة مسؤولة عن تعيين اعضاء مجلس الاعيان باعتبار ان رئيسها يوقع على ارادات التعيين في حين ان الملك هو المسؤول الحقيقي، أي ان الوزارة اصبحت تسأل امام مجلس النواب عن فعل لم يكن لها فيه دور أساسي!، مما مكن الملك في النهاية من تحميل الوزارة مسؤولية أعمال صدرت منه في الحقيقة.
كما تركزت الهيمنة أيضا في التصديق على القوانين حيث منح الملك هذا الحق طبقا للمادة 26 الفقرة 1، كما ان اللوائح القانونية(مشروعات القوانين) التي يقبلها مجلس الأمة لا تعتبر قانونا الا بعد تصديق الملك ،المادتان 62و63. كما منح الملك ايضا حق الاعتراض على القوانين م 62/ ف 2،مثل حق اعادة القانون الى مجلس الامة للنظر فيه مجددا في ضوء الاسباب التي يبديها الملك في كتاب الاعادة، اي أن للملك حق الاعتراض على القانون بعد ان يشرعه مجلس الامة.
وكان للملك حق أخر يسبق حق الاعتراض، وهو حق التصديق على مشروعات القوانين التي يسنها (مجلس الوزراء) فهذه المشروعات لا ترفع إلى مجلس الأمة الا بعد ان يوافق عليها الملك.
كما كان للملك الحق بإصدار مراسيم لها قوة القانون، ويعد هذا من اخطر الحقوق التشريعية التي منحت للملك، اذ تجاوز وفقا لهذا الحق دور المساهم في التشريع ليصبح مشرعا مستقلا واذا كان استعمال هذا الحق هو من قبيل الاِستثناء، فان الواقع قد جعل من هذا الاستثناء شبه قاعدة وحسبما يشرح الباحث فائزعزيز اسعد، فان اساس الاخذ بفكرة المراسيم في العراق تقف وراءها السلطة البريطانية التي ارادت ان تثبت في دستور النظام الملكي ما يضمن قدرة الملك على اتخاذ أي اجراء بحق مصلحتها التي اكدتها في معاهدة 1922 لذلك فان منح الملك سلطة إصدار مراسيم لها قوة القانون مع النص على اعتبار تنفيذ التزامات العراق التعاهدية حالة من حالات الضرورة. وخير وسيلة لتحقيق هذا الهدف.


دستور 1970 المؤقت وهيمنة السلطة الواحدة

جاء هذا الدستور ليكشف عن هوية النظام السياسي الجديد بما يضمن أهداف حزب البعث الحاكم في الدستور. وجاءت ادبيات ووثائق هذا الحزب لتصبح مصدرا من المصادر التفسيرية للدستور، بل عوملت هذه الوثائق على انها وثائق دستورية!.
ويلاحظ على الدستور، انه قد جعل السيادة العليا في الدولة من اختصاص (مجلس قيادة الثورة) حيث انه مارس السلطتين التشريعية والتنفيذية معا من خلال ما يسمى ب(الفترة الانتقالية ) وعلى الرغم من إن دستور 1970 اشرك المجلس الوطني معه (فيما بعد) في ممارسة السلطة التشريعية، ألا انه لم يتم الغاء هذا المجلس على اعتبار انه مؤسسة ثورية أوجدت في ظروف غير اعتيادية؟!
وإذا ما نظرنا الى طبيعة النظام الناشىء في ظل هذا الدستور نجد انه من المعروف ان النظام الرئاسي يقوم على الفصل الشديد بين هيئات السلطة واستقلال كل هيئة عن الأخرى استقلالا يوشك من الناحية النظرية ان يكون كاملا واذا كان نظام الجمعية يركز السلطة بيد الهيئة المنتخبة فان النظام البرلماني يقوم في ظاهره على نوع من التوازن بين هيئات السلطة، الا ان دستور 1970 المؤقت لم يأخذ بأي من هذه الأنظمة بل كان نظاما تهيمن فيه هيئة معينة على غيرها من الهيئات الأخرى في الدولة وصولا الى تركيز السلطة بوضع الاختصاصات الحقيقية والمهمة في يد هيئة واحدة جاعلا من الهيئات الأخرى مجرد هيئات تابعة او ثانوية او مساعدة في احسن الاحوال وليصبح ما يسمى بمجلس قيادة الثورة هو الهيئة العليا في الدولة وهو القابض الفعلي على السلطة بل ان بنية النظام السياسي باتت هي ذاتها بنية الحزب الواحد المسيطر على مقاليد السلطة وصولا إلى ادماج جهاز الدولة ذاتها في الحزب.

الهيمنة التشريعية لما يسمى بـ(مجلس قيادة الثورة):

حيث انفرد المجلس وحده في عملية تشريع القوانين واصدارها ونشرها، فقد منحت المادة ( 42 ) من الدستور المؤقت للمجلس حق تشريع القوانين كما منحت المادة ( 44 ) الفقرة (ب) لرئيس مجلس قيادة الثورة صلاحية توقيع جميع القوانين والقرارات الصادرة عن المجلس ونشرها في الجريدة الرسمية، كما ان له حق اقتراح مشروعات القوانين امام المجلس الوطني، كما يشترك بموجب المواد ( 52 ، 53 ، 54 ) من دستور 1970المؤقت مع المجلس الوطني في نظر مشروعات القوانين، كما انفرد مجلس قيادة الثورة في أقرار شؤون وزارة الدفاع والامن العام ووضع القوانين واتخاذ القرارات بكل ما يتعلق بها من ناحية التنظيم والاختصاصات المادة 43 الفقرة ( 1) .وذلك دون اعطاء صلاحية النظر في ذلك للمجلس الوطني مما يجعل من مجلس قيادة الثورة الهيئة الأكثر تفوقا من هيئات بنية السلطة التشريعية فضلا عن انفرادها في اصدار ونشر القوانين.
والاهم من ذلك ان رئيس الجمهورية هو جزء من السلطة التشريعية! لا بصفته رئيس حكومة وانما بصفته عضوا في مجلس قيادة الثورة، بالإضافة الى ممارسته دور الرقابة السياسية والادارية على اجهزة الدولة وفق المادة ( 44 ، 85 ) من الدستور. وهذا ظاهرة فريدة نادرة الحدوث بالنسبة لأي نظام سياسي، ان يصبح الرئيس عنصرا من عناصر بنية السلطة التشريعية فضلا عن كونه رئيس الهيئة التنفيذية / التشريعية (مجلس قيادة الثورة) مما ادى الى ان تكون لحلقة اعضاء المجلس هيمنة على كافة هيئات الدولة وداخل هذه الحلقة كانت هناك حلقات أقوى تجسدت اخيرا في شخص الرئيس الذي أصبح فعليا هو القابض الوحيد على السلطة وليشهد تاريخ شعبه فصلا من اعتى فصول الديكتاتورية في العصور الحديثة.

من اتفاقية العملية السياسية إلى قانون إدارة الدولة

بعد سقوط النظام البائد في 9 نيسان 2003 بقي العراقيون في حالة ترقب وانتظار لتحقيق وبناء دولة الاستقرار السياسي التي من اهم موجباتها كتابة دستور دائم ينهي الفصول الحزينة من الدساتير الجمهورية المؤقتة، وبعد تشكيل مجلس الحكم المؤقت ، جاءت اتفاقية العملية السياسية في 10 تشرين الثاني 2003 الموقعة بين مجلس الحكم وسلطة التحالف المؤقتة لتتضمن وضع قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية من قبل مجلس الحكم بالتشاور مع سلطة التحالف المؤقتة حيث نصت الاتفاقية في مادتها الاولى"القانون الاساسي:يتولى وضع صيغته مجلس الحكم،بالتشاور بشكل وثيق مع سلطة التحالف المؤقتة.وسيوافق عليه كل من مجلس الحكم وسلطة التحالف المؤقتة وسيقوم رسميا بتبيين اهداف وهيكلية الادارة العراقية الانتقالية ذات السيادة " كما تضمنت الاتفاقية اشارة الى عناصر القانون الاساسي وقد ورد فيها:
-اقامةنظام فدرالي للعراق على ان يتضمن ذلك محافظات والفصل بن السلطات التي سيمارسها الكيان المركزي والكيانات المحلية ،وتحديد سلطات كل منهما
-جدول زمني يحدد موعد قيام كيان ينتخبه الشعب العراقي بشكل مباشر لصياغة دستور عراقي دائم ،واقرار الدستور الدائم،واجراء انتخابات عامة وفقا لاحكام الدستور الجديد.
وقد شهدت الفترة التي اعقبت توقيع الاتفاقية اختلافات حول طريقة كتابة القانون بحيث تركز الخلاف في ثلاثة مطالب اجرائية فقد دعا آية الله العظمى على السيستاني اكبر مراجع الشيعة في العراق الى انتخابات مباشرة لجمعية تاسيسية في حين عبر الاكراد عن تفضيلهم اختيارا دقيقا لمن يصوغون الدستور اما المؤتمر الوطني العراقي فقد ذهب الى ان مجلس الحكم الانتقالي ينبغي ان يختار من سيصوغون الدستور وقد ذهبنا من جانبنا انذاك الى الى حل توفيقي يوائم بين الاتجاهات الثلاثة بان يصار الى وضع الدستور من قبل لجنة من المتخصصين ثم يصار الى انتخاب جمعية تأسيسية من قبل الشعب تعمل على مناقشة الدستور مادة فمادة واقرارها وهذا الاسلوب يجمع بين الخبرة والمشاركة الجماهيرية ويرسخ اللبنة الاولى لبناء العراق الجديد . وبعد ذلك تم وضع مسودة أولية لقانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية وعرضت على الجميع للنظر فيها وتمت المصادقة عليها ونشرها في الصحف وذلك بعد اسبوعين من النقاش وتجاوز المهلة المحددة وتأجيل الموعد مرتين الى ان تم التوقيع من قبل مجلس الحكم الانتقالي يوم 8-3-2004. ثم صدر في ما بعد ملحق ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية عشية الاعلان عن الحكومة المؤقتة برئاسة الدكتور اياد علاوي وتضمن 3 اقسام تتعلق ب: تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة ومؤسسات هذه الحكومة وصلاحياتها والمجلس الوطني المؤقت .وقد اشتمل قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية على اثنتين وستين مادة تنتضمها ثمانية ابواب تتقدمها ديباجة قصيرة.وقد اخذ هذا القانون في عين الاعتبار التنوع القومي والطائفي والثقافي والجغرافي في العراق، ورسم إطاراً عاماً للتعايش بين المكوّنات المختلفة على أسس من الديموقراطية والفيدرالية والفصل بين السلطات الثلاث، حيث اقر في المادة الرابعة منه مبدأ الفصل بين السلطات بل نصت المادة 24(ب) على ان "تكون السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية منفصلة ومستقلة الواحدة عن الاخرى "فضلاً عن الفصل بين السلطات المركزية والمحلية. وقد تنبّه الفكر الديموقراطي الغربي إلى أهمية هذه التجزئة في بنية السلطة وخصوصاً في الدول التي تفتقر إلى التجانس القومي والطائفي، لكنها مازالت فكرة جديدة وغير مستساغة في اوساطنا السياسية ، ، وذلك بسبب هيمنة المركز على الاطراف. ذلك ان من أكثر مآسي وكوارث انظمتنا هو عدم الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالديكتاتور كما رأينا وشهدناه في عراقنا اصبح هو المُشرّع، و القاضي،والمنفذ في الان نفسه . و ان اقامت الأنظمة الشمولية الديكتاتورية سلطة تشريعية تحت مسميات خادعة وخلفها بنار كاريكاتوري، وحجمت وشلت السلطة القضائية. أما أن تكون السلطات الثلاث منفصلة ومستقلة الواحدة عن الاخرى، فهذا من أهم مظاهر الحداثة السياسية في الدول المتقدمة. وقد أكد قانون ادارة الدولة على هذه النقطة، بما يجعله متميزا عما عداه من دساتير المنطقة برغم الظروف الاستثنائية لوضعه.وبرغم كونه مؤقتا.
كما يحسب لهذا الدستور المؤقت(الانتقالي) -حسب التعريف الرسمي له- انه ذهب لاعتبار كافة المواطنين من مختلف الأديان والأعراق متساويين أمام القانون ،فلا يُحرم أي مواطن من حق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي نتيجة للون أو الدين أو العرق أو الطائفةحيث نصّ على أن" نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي، يعترف بالعربية والكردية لغتين رسميتين، ويضمن الحقوق الادارية والثقافية والسياسية للتركمان والكلدو اشوريين".. كما نص ايضا على أن يقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات، وليس على أساس الأصل أو العراق أو الإثنية أو القومية أو المذهب.

من قانون ادارة الدولة الى دستور الاستفتاء الشعبي

بشكل عام فان جميع الديمقراطيات تشترك في ثلاثة مبادئ أولها مبدأ الدستورية، وأن الشعب هو وحده المصدر الأساسي لجميع السلطات، ويجب أن تكون مقبولة من أفراده باعتبارها سلطات مقننة، وتحقق هذه المشروعية بطرق متنوعة من بينها خطوات صنع القوانين وآليات الانتخابات الحرة النزيهة.وثانيها الفصل بين السلطات لمنع ازدياد قوة جزء من الحكم إلى الدرجة التي تمكنه من تقويض إرادة الشعب.أما ثالثها فهو وجوب احترام حقوق الأفراد والأقليات، وعدم مشروعية استخدام الأكثرية قوتها كي تحرم أي إنسان من حرياته الأساسية، وهذا الأمر صعب التحقيق إلا أن حقوق الأقليات مصونة من خلال العديد من السبل أهمها القضاء المستقل.
وتمتاز الدساتير العربية بشكل عام –من حيث التطبيق- بمرونة تسمح للسلطة التنفيذية من الهيمنة على السلطتين التشريعية والقضائية والتلاعب بهما تحت غطاء قانوني. وفي حين أن هناك علامات تقدم في بلدان قليلة، فإن معظم الدساتير في بلداننا العربية والمجاورة لا تفصل بين السلطات إلا ظاهرياً. وفي الواقع يستطيع الحكام أن ينتهكوا قوانينهم هم من خلال سلطة تنفيذية مطلقة اليد وبرلمان هزيل وثغرات قانونية يتم النفاذ منها بسهولة.
لذا كانت اهم المهام الرئيسة بالنسبة لواضعي الدستور العراقي هي ترصين العملية الدستورية عبر تعزيز المواد الدستورية التي تحد من صلاحيات السلطة التنفيذية . كما لا بد من تحصين السلطة التنفيذية من الفساد عبر سن تشريعات تحمي إيرادات الموارد الطبيعية فإن وضع ضمانات دستورية قوية هو أمر حاسم، حتى ولو كانت ستؤدي لاحقاً إلى الحد من المرونة التشريعية.وقد واجهت لجنة كتابة الدستور الكثير من التحديات تعلق الحساس منها بانها عكست التنازع بين الاطراف بدلا من الانصراف لمعالجة القضايا الدستورية الهامة التي ذكرناها كما ان الكثير من المدافعين عن حقوق الاقليات اشاروا الى بروز ظاهرة هيمنة الاكثرية(دكتاتورية الاكثرية) التي سيطرت على وضع الدستور واخذت تصبغه بصبغة تعكس مرجعيتها الايديولوجية ولكن مع ذلك فقد توفرت لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث للعراق ، الفرصة للشعب العرقي في أن يجتمع ممثلو مختلف مكوناته لكتابة دستور وفق إرادتهم الحرة وفي فسحة واسعة من الديمقراطية غير المعهودة في العراق ولا في أي بلد عربي أو إسلامي آخر،فالشعب العراقي لم يعرف من قبل مسألة اسمها (التوافق compromise)، ذلك ان هذه الكلمة تعترف بالتكافؤ بين الاطراف المتوافقة وذلك بالضد مما عرفناه من سيادة الهيمنة التي تقوم بها شريحة من مكونات الشعب على القرار السياسي وثروات البلاد.

لجنة كتابة الدستور وعمل اللجان المنبثقة عنها

وكانت الجمعية الوطنية قد شكلت في العاشر من ايار اللجنة الدستورية ومن اجل ان تقوم هذه اللحنة بعملها فقد شكلت بدورها ستة لجان فرعية أساسية لتغطية الموضوعات الاتية:المبادىء الاساسية ،الحقوق والحريات،هيكلية الحكومة،الفيدرالية، الضمانات الدستورية والاحكام الانتقالية كما تم فضلا عن تشكيل اللجان الدستورية الفرعية،تشكيل لجنة اخرى سميت لجنة الاتصال والحوار الجماهيري في الاول من تموز وانصبت مهام هذه اللجنة على الوصول لكافة قطاعات الشعب العراقي من اجل تعزيز الوعي الشعبي بالمبادىء الدستورية الاساسية واستلام اراء ومقترحات الشعب العراقي والتي تنقل فيما بعد الى اللجنة الدستورية لتؤخذ بنظر الاعتبار عند صياغة الدستور وذلك حسب ما ورد في الشرح المرافق لمسودة الدستور الموزعة على الشعب قبل اجراء الاستفتاء وحسبما جاء في خلفية كتابة الدستور في هذا النص المطبوع والموزع بطريقة مرتبكة وسيئة فقد تم تبني آلية لتنفيذ ما اصطلح عليه النسغ النازل والنسغ الصاعد(ما ينزل للشعب من اللجنة وما يصعد للجنة من الشعب) وتبنت اللجنة ثلاث آاليات لتحقيق مهامها لافراد الشعب من خلال:
-الاعلام
-اشراك منظمات المجتمع المدني
-استلام الاراء والمقترحات
وعلى العموم فقد كانت عملية كتابة نص الدستور قد جاءت مستندة الى بنود كتبت في ظروف استثنائية صعبة وهي ظروف العنف وموجة الارهاب التي تمر بها البلاد، وكانت المرجعية الأساسية لبنود الدستور مستندة الى قانون الدولة العراقية . وقد جاء الدستور المنتظر اخيرا موزعا على سبعة ابواب تتقدمه ديباجة تعرضت لوابل من الانتقادات فمن يقرأ الديباجة يشعر انها خطاب سياسي لمرحلة مؤقتة يشرح معاناة العراقيين من نظام صدام وكأن صدام سيبقى في الذهنية العراقية مع الدستور الدائم ، متناسين أن هذا الدستور لفترة زمنية طويلة وللأجيال القادمة ، دستور للمستقبل العراقي ، وأن هذه الديباجة ستبقى تتقدم على نصوص الدستور ومع ذلك فان فيها احتفاء ظاهر بمكونات الشعب العراقي واستشراف لمستقبله ،وجاء الباب الاول ليضم المبادىء الاساسية للدستور من حيث شكل نظام الحكم ودور الدين كمصدر للتشريع واللغات الرسمية وغيرها والتأكيد على المصدر الحقيقي للسلطات ممثلا بالشعب ووحدة ارض العراق والالتزام باحكام القانون الدولي وما الى ذلك من احكام رئيسة تبعتها ابواب تتحمل الكثير من التحليل والنقد .
،ولكن لا يمكننا ان ننساق كثيرا وراء النقد-وهو كثير وهائل-حيث تم اطلاق الرصاص على الدستور من قبل معظم الاطراف والجهات بل جميع الاطياف السياسية منطلقة من مرجعياتها الثقافية ومصالحها الذاتية : حيث يرى الإسلاميون ان الدستور ليس إسلامياً بما فيه الكفاية!، والأكراد لا يرون فيه حق تقرير المصير الذي ناضلوا عقوداً طويلة في سبيله، والعلمانيون الديمقراطيون لا يرون فيه تلبية لطموحاتهم في تحقيق نظام ديمقراطي حقيقي رغم تثبيت عبارات الديمقراطية فيه، طالما كان أي تشريع يصدر في المستقبل يجب "أن لا يتعارض مع ثوابت الإسلام". والسنة العرب يرون فيه تهميشاً لهم وتفتيت العراق إلى كانتونات طائفية وحرمانهم من الثروات النفطية.
لكن ينبغي لنا ان نؤيد أي خطوة تدفع البلد خارج النفق المظلم وبعدها يمكننا ان ننضم الى عملية التأسيس لما هو دائم وقد اسس دستورنا الجديد بحق لدولة القانون، و أفرد فصلاً وضع أسسا للمحكمة الاتحادية التي تتولى وظيفة دستورية القوانين وتفسير نصوص الدستور والفصل في المخاصمات التي تقع بين الدولة الاتحادية والأقاليم ومحكمة حقوق الإنسان التي تستلم مرافعات المواطنين ضد الجهات الحكومية مهما كانت وظيفتها وشخصيتها وذلك تأكيداً على مبدأ سيادة القانون الذي يعتبر أساساً قوياً من أسس هذا الدستور.
وبما أن السلطة هي مفسدة بطبيعتها كما يُقال، وخصوصاً إذا تركّزت في يد شخص واحد أو هيئة واحدة كما اشرنا للمرض المزمن الذي عانى منه نظامنا الدستوري، فقد كانت أحسن السبل لتلافي هذه الظاهرة/الوباء يكمن في تقسيم السلطة وتجزئتها الى اكبر عدد ممكن من الأجزاء. حيث لم يعد من السهل من الناحية العلمية ولا من المقبول من الناحية المنطقية تجميع السلطات في يد هيئة واحدة او حاكم واحد. وقد انتشر الاخذ بنظام التقسيم الثلاثي لسلطات الدولة بحيث تقوم هيئة بسن التشريع هي السلطة التشريعية وتتولى اخرى وظيفة التنفيذ هي السلطة التنفيذية وتختص الثالثة بالفصل في المنازعات وهي السلطة القضائية. وقد كان الهدف الاساس من مبدأ فصل السلطات هو الحد من سلطات الملوك والحكام وحماية حقوق وحريات الافراد عن طريق قيام كل سلطة بمنع استبداد الاخرى...واذا كانت العلاقة مساواة وتوازن بين السلطتين كان نظام الحكم نظاماً برلمانياً. اما اذا كانت علاقة ترجيح لكفة السلطة التنفيذية كان نظام الحكم نظاماً رئاسياً اما اذا كانت علاقة ترجيح لجانب السلطة التشريعية يسمى نظام حكومة الجمعية النيابية.

الكلمة الأخيرة بيد المصدر الحقيقي للسلطات

ولكن نلاحظ انه على الرغم من ان مسائل مثل الفدرالية ودور الاسلام امور لايمكن ان تؤخذ على عجل بالنسبة لاهم وثيقة قانونية في البلاد الاان الفقرة الاولى من الفصل الاول تنص على ان جمهورية العراق هي جمهورية ديمقراطية فدرالية نيابية-برلمانية- ولم تلحق بها وصف(اسلامية) وكما لاحظ بعض المراقبين بذكاء، فأن حكم الشريعة سيكون مقيدا بدرجة كبيرة والتأثير الاسلامي المزعوم مخفف كثيرا لان الدستور في المحصلة النهائية ينص على انه لا يجوز لاي قانون ان يتعارض مع مبادىء الديمقراطية كما يعلن الدستور قبوله لجميع لوائح حقوق الانسان. وقد نبه السفير الأميركي زلماي خليلزاد الى هذه النقطة بقوله : إن مسودة الدستور العراقي الجديد تقيم توازناً دقيقاً بين تقاليد البلد الإسلامية وطموحاته الديمقراطية. كما أشار إلى أن الدستور يحظر سن أي قانون يتناقض مع ثوابت أحكام الإسلام أو مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقال: "إن هذا الدستور، في ما يتعلق بالحقوق، يشكل توليفة تجمع بين تقاليد هذا البلد الإسلامية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية." ومضى السفير الأميركي إلى القول إن مسودة الدستور "تتضمن أبعد الالتزامات بالديمقراطية وحقوق الإنسان تأثيراً مقارنة بالالتزامات الموجودة في أي دستور آخر في هذا الجزء من العالم."
ولكن مع ذلك يؤخذ على الدستور انه جاء مخالفا لتوافقات اللجنة الدستورية هو تمديد نظام المحاصصة لأربع سنوات أخرى من خلال فكرة استحداث هيئة رئاسة تتكون من رئيس للجمهورية ونائبين ورئيس وزراء ونائبين له، ورئيس للجمعية الوطنية ونائبين له، وهذا يعني استمرار نظام المحاصصة لأربع سنوات أخرى بينما كانت عزيمة أعضاء لجنة صياغة الدستور عدم افساح المجال لظهور نظام المحاصصة مرة أخرى وذلك من خلال ترسيم هيكلية النظام السياسي المقترح في المسودة الأولى المعبرة عن رفض المحاصصة، فمنصب رئيس الجمهورية منصب شرفي بدون وجود نائب للرئيس. فتطبيق هذه الهيكلية كان من شأنها أن تلغي المحاصصة التي جرى العمل بها من عهد مجلس الحكم ولازال وسيبقى حتى أربع سنوات أخرى. ونرى إن الذي يؤسس لما هو دائم ولبناء المستقبل هو تجاوز هذه المحاصصة التي ربما ادرجت نظرا لظروف البلاد الراهنة لكن الاهم هو ان يتم التأكيد واقعا-عند التطبيق – على الفصل بين المؤسسات المدنية السياسية والحكومية عن كل مؤسسات المجتمع الدينية والعشائرية.. ولابد ان يتم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فصلا كاملا، اذ لابد ان تكون التشريعية هي فوق التنفيذية! وستبقى الكلمة الفاصلة بيد الشعب المصدر الحقيقي للسلطات الذي توجه لابداء كلمته الفصل في مصير الدستور .

الانعتاق من كابوس الهيمنة ودكتاتورية السلطة الواحد

لسنا بحاجة للتأكيد على اهمية الفصل بين السلطات الثلاث(التشريعية والتنفيذية والقضائية) مع توسيع صلاحيات الجمعية الوطنية ورقابتها الفعالة على الجهاز التنفيذي للدولة، اي اقامة نظام برلماني يتمتع بصلاحيات واسعة لتحديد ومحاسبة ومسائلة واستجواب السلطة التنفيذية والمؤسسات الامنية مثل الجيش والشرطة وبقية الاجهزة الاخرى.مع اقرار مبدأ استقلالية القضاء ومبدأ لا سلطان على القضاء، تشكيل المحكمة الدستورية العليا لمراقبة آلية عدم تعارض القوانين والتشريعات مع مبادىء وبنود الدستور، انتخاب مجمل اعضاء المحكمة من قبل الشعب العراقي بواسطة الاقتراع السري المباشر من بين لائحة القضاة الذين يرشحون نفسهم لتولي مناصب المحكمة.
والمستقبل الدستوري للعراق يوحي بآفاق الانعتاق من كابوس الهيمنة ودكتاتورية السلطة الواحدة وان نظامنا الدستوري سيشهد توازنا بين هيئات السلطة بما يضمن عدم انحراف أحداها ونأمل في ان لاتنتصر الاعتبارات اللغوية والفنية على الشرعية الحقيقية البسيطة التي تعكس جوهر المفهوم الديمقراطي القائم على نظام المحاسبة والمكاشفة بين السلطة والمجتمع وعلى الفصل بين السلطات على نحو يضمن منافسة شريفة بين السلطة التشريعية والتنفيذية مع استقلال تام للسلطة القضائية وان العراقيين كما هم قادرون على وضع دستور يتلافى الانحرافات السابقة فهم اقدر من غيرهم على وضع حد لمعاناتهم، في سبيل كفالة حريتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا خصّ الرئيس السنغالي موريتانيا بأول زيارة خارجية له؟


.. الجزائر تقدم 15 مليون دولار مساهمة استثنائية للأونروا




.. تونس: كيف كان رد فعل الصحفي محمد بوغلاّب على الحكم بسجنه ؟


.. تونس: إفراج وشيك عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة؟




.. ما هي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران؟ وكيف يمكن فرض ا