الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غلّبني

راني صيداوي

2015 / 8 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كنتُ جالِساً قُبالةَ صديقٍ لي في البهو الأماميّ لمطعمٍ يونانيّ نحتسي القهوةَ ونُناقِشُ أمورَ السّياسةِ وما يحصُلُ في بلادِنا من شَغَبٍ واقتتالٍ ودمويّةٍ في الآونةِ الأخيرة. وكانَ كالعادةِ يُلقي اللومَ على إسرائيلَ وأمريكا ويدعو على الدّولَتَينِ بالهلاكِ كونهُ من مُعتَنِقي نظريّة المؤامرة، فقطعتُ عليهِ وصلةَ دُعائهِ قائلاً له :"يا عزيزي, ألا ترى أنّ التّاريخَ يُعيدُ نَفسَه وأنّا نحنُ الأمّة الوحيدة التي أثبتَت فشلها الذّريعَ في التّعلّم من أخطائها على مرّ التّاريخ!؟". فانتَفَضَ في الحالِ وتَجَهّمَت ملامِحُهُ وهو يسألُني بصَوتٍ عالٍ جَعَل النّاسَ من حَولِنا ينظرونَ إلينا باستغراب :"ماذا تَقصِد؟". فقُلت لهُ بصوتٍ مُنخَفِضٍ :"اهدأ يا صديقي، ما بالُكَ قد انفَعَلتَ هكذا!؟" صمَتُّ قليلاً ثمّ استدرَكتُ :"أنتَ تعلَمُ تماماً ما أقصِد". فاعتَذَرَ وقال :"وأنتَ تعلَمُ أنّي لا أحبّ الحديثَ في موضوعِ الدّين". فقلتُ لهُ :"يا أخي، إنّ الدّينَ والسّياسةَ وجهانِ لعُملَةٍ واحدةٍ ولا يُمكِنُ فصلَ وجهٍ فيهِما عن الآخَر. أي أنّكَ إذا أردتَ الحديثَ في السّياسةِ، لابدّ لكَ من أن تتطرّقَ لموضوعِ الدّين." فارتَشَفَ من كأسِ النّبيذِ الأحمر الذي كانَ أمامهُ وقال :"حسنٌ إذاً... نحنُ قطعاً لَم نتعلّم من تاريخِنا المُشرّف، وخطؤنا الوحيدُ هو أنّا ابتعدنا عن اللهِ وعن شَرعِهِ، وألهَتنا أمورُ الحياةِ عن دينِنا الحَنيف". فابتَسَمتُ وأنا أنظُرُ إلى كأسِ النّبيذِ في يدِهِ وقلت :" لا تقلَق يا عزيزي، ف(داعِش) وشبيهاتُها على طريقِ النّصرِ وتطبيقِ شرعِ اللهِ بإذنِه." فانتفَضَ ثانيةً ووقَفَ قائلاً :"لا أسمَحُ لَكَ أن تستهزئ بديني حتى لو كُنتَ والِدي، ثمّ إنّ كلانا يعلَمُ أنّ (داعش) لا تُمثّل الإسلام". فقلتُ لهُ على الفور :"بل هيَ تطبّقُ الإسلامَ بحذافيرِه، وهذا ما أعلَمهُ أنا وكثيريون غيري وأنتَ أيضاً تعلمُ ذلكَ، وإلاّ لَما كُنتَ انتفضتَ هكذا، فهدّئ من رَوعِكَ واجِلِس وناقشني ببراهينَ تُثبِتُ عكسَ ما أقولُ وتَدحَضه.". فجلسَ وجسُدهُ ينتَفِضُ قائلاً :"أنتَ دائماً تحارِبُ الإسلامَ في مقالاتِكَ وجَلساتِك.". ثمّ احتسى ما كان قد تبقّى من كأسِ النبيذ. فقلتُ له :"اسمَع يا صاحِ، أنا لا أحارِبُ أحداً. وإن كنتَ تراني أحاربُ الإسلامَ فالمشكلةُ في تَلَقّيكَ للمعلومةِ التي أطرحُها عليكَ وليسَ في طَرحي. فأنا آتي ببراهينَ من صُلبِ أمّهاتِ الكُتُبِ الإسلاميّةِ في مقالاتي ونقاشاتي، ولستُ أقولُ كلاماً في الهواءِ. وتطبيقُ الإسلامِ لا يكونُ فقط في التّشاجُرِ مع النّادِلِ في مطعمٍ يونانيٍّ لأنّهُم لا يمتلكونَ وجباتٍ (حلال)، ولا في صيامِكَ رَمَضانَ وأدائكَ لصلاةِ الجمعةِ في المسجد، بل هوَ أعمقُ من ذلكَ بكّثير." فَسادَ الصّمتُ بُرهَةً ثمّ جَلَسَ فأكملتُ فكرتي قائلاً له :"لا يُمكِنُ يا أخي أن تنتقي ما يُناسِبُكَ من الدّينِ، وترمي ما لا يُناسِبُكَ جانِباً. الأمرُ في الدّينِ أن يكونَ كُلّاً متكامِلاً شامِلاً لجميعِ نواحي الحياة. فإمّا أن تأخذهُ كما هو، أو أن تتركهُ كما هو أيضاً." وأكملتُ وهو يشعلُ سيجارتهُ الأخيرة من علبةِ السجائر ونظراتهُ الحزينةُ متسمّرة على الطّاولةِ أمامَنا :"رُبّما كنتَ تراني أحاربُ الإسلامَ لأنّي أدافِعُ عن الإنسانيّةِ على جميعِ الأصعِدَةِ وبكُلّ ما أوتيتُ من قوّةٍ, وإن كانت المسألةُ هكذا، فهذه مصيبةٌ لأنّها تثبتُ حقيقةَ أنّ الإسلامَ لا يلتقي مع الإنسانيّةِ بل يتجرّدُ منها تماماً".
فنظَرَ إليّ على الفورِ وهو ينفث دخانَ سيجارتِه ويكزُّ على أسنانِهِ غَضَباً، ثمّ قال وهو يهزّ قدمهُ اليمنى الموضوعةِ على اليسرى بعصبيّة: "حسنٌ يا أخي, لنفتَرِض أنّ الإسلامَ كلّهُ عيوب، ليسَ من المفروضِ أن تحارِبهُ بهذا الشّكل وتَنشُرَ غسيلَنا المُتّسخَ أمام الناسِ خصوصاً أهلَ الكتابِ منهُم، أي المسيحيين واليهود. ولا تنسَ أنّ الله تعالى قد قال في كتابِه : "وإذا بُليتُم بالمعاصي فاستَتِروا".
فهّزّزتُ رأسي آسِفاً لما سَمِعتُ وقلت :" أوّلاً، ما قلتَهُ ليسَ آيةً قرآنيّةً بل حديثٌ ضعيفٌ لهُ مثيلٌ في المعنى في صحيح مُسلِم تجِدُه في بابِ "سترِ المؤمِنِ على نفسِه", ويقول على ما أذكُر :" عن..... سمعت رسول الله (ص) يقول :"كلّ أمتي معافى إلا المُجاهرين وإنّ من المجاهرة أن يعمَل الرّجل باللّيل عملاً ثمّ يُصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويُصبح يكشف ستر الله عنه". وموضوعهُ مختلفٌ تماماً عمّا نناقشُ هنا. وقد أثبتُّ لهُ صحّةَ كلامي ببحثي عبر (جوجل) أمامهُ على الهاتف. ثمّ أكملتُ قائلاً لهُ، وهو ينظُرُ إليّ باستهجانٍ كأنّني صفعتُه بما كنتُ قد قلتُ له :"أعلَمُ شُعورَ المرءِ حينَ تصفَعهُ الحقيقةُ يا صاحبي فاعذُرني. لكنّ هذهِ أقلّ درجاتِ الحقيقةِ، وكلّما تعمّقتَ أكثر، صُدمتَ وصَفَعَتكَ الحقيقةُ المؤلمةُ أكثر." فربتّ على كتِفِهِ وأكمَلت :"ثانياً يا عزيزي، كلّنا أهل كُتُبٍ، حتّى من هُم ليسوا يهوداً ومسيحيين، وكُلّنا يعتقدُ أنّ دينهُ هو الدّينُ الأفضلُ على الإطلاقِ متناسياً أنّ معظمنا جاءت ديانتهُ -تماماً كلُغتِهِ وعِرقِه-بمحضِ صُدفةٍ جغرافيّةٍ لا أكثر، وأكثرُنا حظّاً هو ذاكَ الذي اختارَ دينهُ بمحضِ إرادتِهِ بِغضّ النّظر عن مُسمّى الدّين، أو حتى اختارَ ألاّ يكون مؤمناً. فهو بذلك يكون قد تخلّصَ من عقدةِ الخوفِ وأثبتَ أنّهُ ليسَ إمّعةً لأحد. صدّقني، لو كنتَ قد وُلِدتَ في الهندِ مثلاً، لكُنتَ الآن هندوسيّاً أو بوذيّاً، ولكنتَ تقولُ ما تقولُ لتدافِعَ عن دينِكَ الذي وَرثت. مع أنّ الدّينَ ليس بحاجةٍ لأحدٍ كي يدافعَ عنهُ، إلا إذا وقعَ في قفصِ الاتّهامِ بأعمال ضدّ الإنسانيّة كما الإسلام منذُ نشأتِهِ وحتّى الآن." فقاطَعَني متسائلاً :"وماذا تُسمّي ما فعلَتهُ الكنيسةُ في الماضي من أفعالَ مشينةٍ كالحروبِ الصليبيّةِ وصكوكِ الغفران وغيرِها!!؟". أجبت على الفور :"ليسَ فقط في الماضي يا أخي. بل حتى اليوم هناك منظّماتٌ عنيفةٌ تدّعي أنّها تنبثقُ من المسيحيّةِ مثل التي تُدعى (كو كلكس كلان) والتي تنادي بالتّفرقةِ بين أصحابِ البشرةِ البيضاءِ وأصحاب البشرةِ السوداء وتعادي السّاميّةِ. والتي عادت مؤخّراً لأعمالِ الشغب والعنف في الولايات المتّحدة. لكن يا صديقي قد اعتذرَت الكنيسةُ عمّا اقترفهُ البشرُ من أخطاءَ باسمِها حينَ أدخلوا الدّينَ بلعبةِ السّياسةِ القذرة في الماضي. كما أنّها لا تعترفُ حاليّاً بمثلِ تلكَ المنظّمات (أعني كو كلكس كلان). وهي الآن -لأي الكنيسة- لا تمارسُ مثل تلكَ الأعمال المشينة لأنّ المسيحيين تعلّموا من أخطائهم عكسنا تماماً".
فقالَ وكأنّهُ في مباراةٍ معي ويريدُ تسجيلَ هدف :"إذاً الخطأ يكمنُ فينا نحنُ البشر وليسَ في الدّين."
فابتسمتُ لحماستِهِ وقلت :"مائة بالمائة يا صديقي، لكن هناكَ فرقٌ بينَ دينٍ يقولُ كتابُهُ :"أحبّوا أعداءَكُم وبارِكوا لاعنيكُم". وبينَ دينٍ كتابُهُ يقول :"فإذا انسَلَخَ الأشهُرُ الحُرُم فاقتلوا المُشرِكينَ حيثُ وجدتُموهُم وخذوهُم واحصروهُم واقعُدوا لهُم كلّ مرصد... إلى آخر الآية" وسترى في كُتُبِ التفسيرِ أنّ هذه الآية وهي رقم 5 من سورة التّوبة والتي تُعرَفُ أيضاً بآية السّيف وبأنّها آخر ما نزلَ من القرآن، تجمعُ الكثيرينَ تحت لفظِ "مُشرِكين" ولستُ بصَدَدِ أن آتيكَ بتفاسيرها الآن ولكَ أن تبحثَ أنتَ في هذا الأمر. أقصدُ بكلامي هذا أنّني إذا لُمتُ الكنيسةَ على ما فعلَت قديماً، فسألومُ المسيحيينَ لا المسيحيّة نفسَها لأنّ تعاليمَها خاليةً من العداءِ والكراهيةِ. أمّا الإسلام، فيعجّ قرآنه بآياتِ قطعِ الرّؤوسِ والجهاد، وهي ما تأخذه (داعش) ومثيلاتها كحجّةٍ للحصولِ على السّلطة، وتعيدُ بها ذاتَ سيناريو التطرّفِ والإرهابِ والعنفِ بذلكَ التّاريخ الإسلاميّ. ولعِلمِكَ لستُ أدافِعُ عن المسيحيّةِ ولستُ أحاربُ الإسلامَ كما وضّحتُ لكَ سابِقاً. بل استشهدتُ بالمسيحيّةِ لأنّكَ أنتَ كنتَ قد ذكرتها أي أنّي كنتُ فقط أحاججكَ بالبرهان لا أكثر. ولِعِلمِكَ أيضاً، اليهوديّة لم تُحارِب المسيحيّةَ وترفُضها إلا لكونِها كانت تنتظرُ مسيحاً جبّاراً يقتُلُ ويسبي ليعلي شأن اليهود فقط كونهم "شعب الله المختار". لكنّ المسيحَ جاءَ عكسَ ذلك وجاءَ للأممِ جميعِها دون استثناءٍ ولم يفرض تعاليمهُ عليهم عُنوَةً بل بالتي هيَ أحسَن". فقاطعني هنا صديقي قائلاً :"والله تعالى قالَ أيضاً :"وجادلهم بالتي هي أحسن". لا تقُل لي إنّ هذه أيضاً ليست بآية" فردَدتُ قائلاً: "بل هي آية وتقول: "ادعُ إلى سبيلِ ربّكَ بالحِكمةِ والموعِظَةِ وجادِلهُم بالتي هي أحسَن". لكنّها يا عزيزي من الآيات المكّيّة، أي أنّها من الآيات التي نُسِخَت ولِعِلمِكَ، قد نسَخَتها آية السّيف التي كنتُ قد قلتُ لكَ عنها. وأنتَ تعلمُ ماذا يعني ذلك. ولا أنكِرُ يا عزيزي أنّ الإسلامَ قد بدأ بالتسامحِ والخير في عهدِهِ المكّي، إنّما العبرةُ في نهاياتِ الأمور وليسَ في بداياتِها خصوصاً أنّ النهايات تثبتُ اكتمالَ الأمر وامتدادِه."
فنظر إليّ صديقي وهو يهزّ رأسهُ رافضاً :"حتى لو, أعود وأكرّر أنّه ليس من المفروضِ أن تنشرَ غسيلنا المتّسخ أمام النّاسِ هكذا"
شبكتُ أصابعي ووضعت يديّ على الطاولةِ بهدوءٍ، وترّيثتُ قليلاً ثمّ قلت :"إيمانُ المرءِ فينا كمسكنٍ له. ألا توافقُني الرّأي؟!". قالَ :"نَعَم". فأكملت :"إذاً، أنتَ تطلُبُ منّي بجملتِكَ هذهِ ألاّ أنظّفَ بيتي ومسكَني. وإن فعلتُ، فأن أعملَ على كَنسِ الغبارِ وغيرها فيه وجمعِها تحتَ أثاثِهِ كالسّريرِ والسّجّادِ وغيرِها خوفاً من أن يراني الجيرانُ وأنا أخرجُ القاذورات، ويتعجّبوا من كمّها الهائلِ ورائحتها، متناسياً أنّ رائحتها أصلاً تصلُهُم وهم في بيوتِهِم كونهم جيراني." ثمّ نظرتُ لهُ وسألتُه :"ها, أوصلتكَ فكرَتي الآن؟". فانتفضَ واقِفاً ووجهُهُ محمرٌّ متجهّمٌ وقال بصوتٍ مرتفِع :"فعلاً صَدَقَ من قالَ :"ما خاطبتُ جاهِلاً إلاّ وغلّبَني." (بتشديد اللام). ثمّ مشى بعيداً وأنا مازلتُ جالساً والنّاسُ ترمقُني بنظراتٍ استغرابٍ فوقفتُ وناديتُ عليهِ فالتَفَتَ، وتبعتُهُ وقلتُ لهُ وأنا أمدّ لهُ (ولاّعتهُ) :"هاكَ، لقد نسيتَ (ولاّعتك).. وبالمناسبة، المقولةُ تقول :"غَلَبَني" وليسَ "غَلّبَني". وأعتذرُ منكَ إذا كنتُ قد غلّبتُكَ حينَ أنتَ غَلَبتَني".
وابتسمتُ وعدتُ إلى الطّاولة التي كنّا نجلسُ عليها، وجلستُ وأنا أوزّع ابتساماتٍ على الذين كانوا يرمقونني بنظراتهم. وسألتُ النّادلَ :"من فضلِك، متى موعِدُ مباراة برشلونة والرّيال؟".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت