الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - هيكل هبوط القمر (9)

حمودي زيارة

2015 / 8 / 21
الادب والفن


الفصل الرابع

في ليلة شتائية وصل بردها الى ذروته، لاذت ثقوب نجومها خلف ركام الغيوم. هذا بعد مرور عدة اشهر من هذيان نيركز حول الطوفان والوادي. وقبل ساعة الطوفان بأسبوع، تفاجأ أهل القرية بإنجاب البقرة الأنثى قبل الذكر. وهذا لم يحدث على طول السنين العديدة التي أودعوها تاريخ القرية، تشائم الجميع، وأعترتهم غلالة من الخوف. عندها أخذ القمر يقترب الى القرية، نحو أرضه، مما حدا بماء الشط بدفع منسوبه الى حافات جرفه. أستمرت الغيوم المتلبدة بالهطول والغضب، يغريها موجات البرد العاصفة، ليومين دون أنقطاع. وماء منحدرات الجبل ينهمر نازلاً بجنون نحو أحضان القرية، تأتي معه الصخور. وشرعت سيول الطين الجارفة تقتحم أعتاب البيوت. لوحظ، بأن منسوب النهر تناهد في بداية اليوم الثاني، بحيث تناغم مع مستوى الجرف. وبعد منتصف اليوم، أجتاح تدفق الطوفان طرقات القرية. الماء هرول من أختناقه، ينشر نفسه في القيعان اليابسة. فاضت بالكاد كل المساحات، تهدمت بعض البيوت. السيول أصبحت عنيفة وسريعة، لا يصمد أمام تعنتها أي شئ. تدك كل شئ، يرزح تحت سنابكها. همل العبيد الأهتمام بأشيائهم الخاصة. فعمدوا في اللحظات الأخيرة من نذير الطوفان، الى تحصين هيكل المهبط لئلا تجرفه السيول، بعمل حاجب ترابي، حول الهيكل مدعوم بالحجر. نيركز وجدت نفسها تتشبث بأكتاف البقرة التي عكفت بمصارعة ركلات الموج وقساوته. البقرة عامت بحذر واحتراس، تتفادى نفثات عباب الموج، دون أن تدخر جهداً، حاولت أن تحافظ على نيركز فوق ظهرها. مثلما كانت تهفو بجنون الى التلة، كيما تشط بعيداً عن خوار الخنازير. واصلت تدفقات السيول تجلد البقرة. بحيوية وجهد، أخذت تضرب بيدها دفعات الماء، باحثة عن أجمة، أو بقعة يابسة تتطرح عليها نيركز التي راحت تتشبث، وتحتضن بقوة بعرفها بحنان آخاذ، وخوف شديد. جالت البقرة صراع محتدم مع تيارات السيول، وكأنها تحاول أن تسلب آخر رمق من أنفاسها المبهورة. منخريها أخذا يزفرا شخير حاد ومتقطع، لتطرد تسربات الماء. أمعنت بأغداق العناد والتحدي في أوردة دمها من أجل أن تنقذ ألق الملاك في تخدجات نيركز. وبينما كانت تتجنب إنتفاخات الموج، بصرت من بعيد بطرف مقلتيها، أجمة في الجهة المقابلة، التي ترآت من خلل هدير الموج كقرص قمر ساطع. أدارت كتلة لحمها نحو قامة الأجمة. غرزت أظلافها في متاهات تدفقات الماء، تغذ الجهد ، لتبلغ أحراش الأجمة، والمسافة التي تبدو كأنها لا تنتهي. نيركز أنكبت تحتضن البقرة بأكثر أحساس ومحبة، تقبلها بشفاه خائفة. قاتلت البقرة تدافع الموج وشدّته، وتلاطم أعباء المسافة، بأصرار وشكيمة. دونما أكتراث، لما سوف يكون مصيرها، كأنها قررت أن تهب مسافة ما تبقى من حشاشة رمقها الى مقابر الموت. وبعد معاناة شديدة وصراع مميت مع سطوة الطوفان، أستطاعت أخيراً أن تمد عنقها وتعض حزمة من الأعشاب التي كانت تبرز من حافات الآجمة، أمالت رأسها من أجل أن تهيأ عرفها كممر الى الأجمة. أمتنعت نيركز عن النزول، وبخفة، رمتها الى الأجمة في تلك البقعة التي يحيقها الماء من كل جانب. وفي اللحظة التي عبرت فيها نيركز بلهاثها المقتضب، عنق البقرة الى لفيف الأحراش. أرخت البقرة جسدها الى حبائل التعب، وعناد الموج، لتذهب الى أسفل القاع، وترحل بسلام، بعدما بادلت نيركز النظرة الأخيرة، بدموع غارت مع تراشق الموج. أطلقت صرخة حادة، خلفها، مدت يدها لتمسك بها لكنها سارعت في الغوص الى الأعماق بأرتياح كتنازل الضوء لليل. تراخت للموت، بعد أن تأكدت بأن الحياة ما زالت تمور في أنفاس نيركز على تلك الأجمة التي تعوم في مساحات شاسعة من الطوفان. أستقرت بأسمالها المبللة النهار برمته، تبكي بحرقة وألتياع، تتسول الملاك أن ينشر رائحته حولها لتعرف مصيرها. قضم النهار ساعات طويلة من أوقاته، قبل أن يظهر قارب يترنح على ضجيج محركه. لم تلق أي أهتمام ألبته، ولم ترسم أي إيماءة. وصل القارب، يحمل مستر نيكول على خشبته، الى الأجمة. نادى نيركز :
- تعالي بسرعة بلكنه أنكليزية .
نظرت اليه بريبة وقلق، لكنها قفزت الى القارب. أخذ مستر نيكول يتمعن في أسارير وجهها، يتبسم تارة، وأخرى يزم شفتيه. خياله عابث فضوله، يحدثه عن قدرتها لمعرفة أسرار الأستدلال وأضغاث الحدس في كيفية استدراك الأحداث المستقبلية. حبس كلماته في حلقات حنجرته، خوفاً من واجس الشك الذي ربما يتسلل الى روعها. لا يريد أن يبدو لها بصورة الثعبان، وبالتالي يخسر المَلكة التي يزخر بها فكرها، التي تشابه قدرة ضوء الشمس في تبديد عتمة الظلمة. روحها العاصفة في قفصها الصدري التي كسبتها من ملاك الضوء، الذي كان يطلق عليه طالب، رجل بلون الضوء، صيرتها أن تعرف كل شئ. أخذ القارب يخوض في إستفاضة الموج لفترة تبدو طويلة. أخيراً وصل بهم القارب الى مرتفع ترابي، قريب الى مقر مستر نيكول. وقبل أن يقفز الى المرتفع، أراد أن يتأكد من إنها نيركز ، سألها عن إسمها:
- وبصوت متهدج، نبست، نيركز .
همس في سره:
- ما أروع الأقدار، فقد قذفت بصندوق متخم بأحجار كريمة الى حوزتي .
إنها الكنز الذي كان ينتظره. نيركز أشتهرت حكايتها في كل مكان، بأنها ربيبة الملاك التي تعرف كل شئ عما يحيط بها، هذا ما أخبره طالب به. أضافة الى أنها أنذرت أهل القرية بنبؤة الطوفان، بحيث أثارت اللغط والهوس عن هذه الحكاية. لكن لم يلق أحد قنطار إهتمام. بل أنصرفوا في العبث والأستهزاء، ولمزها وكأن فيها مس من ملاكها الذي هبط في تلك الليلة. وكذلك أنها الوحيدة التي تذوقت عشبة القمر الحمراء، التي تنبت في ليالي القمر عندما يكون بدراً. أهل القرية، في العادة لا يناموا في ليالي البدر، حيث يشتت الليل ليلتهم، في مروج القمر، من الاجل البحث عن العشبة. مع فكرة ماكرة، شاح مستر نيكول نظراته الى الناحية الأخرى، وراح يرمي كلمات مختالة في جوفه، يحدث سره عن مكيدة، أخفاء نيركز لفترة، لأنها تضم بين جنباتها، رؤية فطرية خارقة، أورثتها من ذلك الألق الذي مسد جوف بقرتها، ووريقات العشبة. نبذها في مكان عمله ليوم كامل بعد أن وفر لها كل ما تحتاج، الفراش، الطعام دون أن يتطفل على شرودها. مع بداية أنفاس النهار الأولى من اليوم التالي، رفضت نيركز أن تتناول أي شئ. مما عكر أعتداد مستر نيكول، لكنه تظاهر بالاعتدال والهدوء. تنحى قليلاً سامحاً للوقت أن يحقن غلالة التوتر، أكسير الأنتشاء. عالج الوقت شحوب الإرتياب، لذا بدأ مستر نيكول يسألها عن كل ما يتعلق بالملاك، وعن كيفية معرفتها عن الطوفان. لم تجب عن أي سؤال، أو بالأحرى لا تدرك مصدر إلهامها. ما تعرفه بأن الأشياء تعتريها كصورة في مرآة صقيلة، وتأخذ تخطر في بالها لفترة طويلة. كرر مستر نيكول استمالتها بالحديث حتى يغري حفيظتها بأنه صادق. حاول أن يستدرجها لتذهب معه الى مكان الآثار في اليوم الثالث، بعد أن خفض منسوب الماء. خطت بخطوات واهنة، أخذ يراقبها بمواربة خفية. في مكان ليس بعيداً عن موقع الحفر، هدأت خطواتها، تشبثت برطوبة التراب، أنتظرت ملياً، ثم تأرجحت خطواتها عازفة عن المكان، راجعة الى صمتها. أختط علامة بكعب حذائه حيث وقفت. حاول أن يبقيها فترة أطول في مكان الحفر، لكنها رغبت بالرجوع. وسألته:
- أن تذهب الى القرية .
أخبرها :
- بأن الأمور على غير ما يرام، فالطوفان قد دمر كل شئ، السيل ما زال يطمر حدود القرية.
وبأحتيال أضاف:
- عليك أن تبقي لمدة أخرى، حتى يتضأل منسوب المياه.
عصر الحزن نضارتها، دأبت الدموع تمسد خدها الأسيل، بنشيج يطوح صدرها. أمالت وجهها عن نظراته، وأستمرت تجهش بالبكاء، طالبة الرجوع الى القرية. مستر نيكول كان على يقين لا يخامره الشك، بأنها تعرف، أنه كاذب. خوالجها تخبرها بأن الكل بدأ يتفتق كثمرة الجوز في دروب القرية، يرجعون بعشق كعصافير الحقول. تتبتل حدقات عيونهم على أطيان الجدران، تساجم الدمع، يمزق شغاف قلوبهم عناد الشجن. أستطاع أن يغمر وجوم القلق، بشعور وديع. فعليه بقيت وردة لأسبوع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر