الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارل ماركس في العراق الجزء الثالث

فرات المحسن

2015 / 8 / 24
الادب والفن



لم يكمل كارل ماركس حديثه مع سائق التاكسي حين سمع ضجة وأصوات قادمة من الباب الأمامي لساحة عباس بن فرناس لوقوف السيارات . سبعة أشخاص بأناقة تامة رغم الحر القاتل، أحدهم يرفع راية حمراء والآخرون راحوا بموجة من تصفيق يترافق وهتاف مدوي متكرر.

ـ هله بيك هله وبجيتك هله ... هله بيك هله وبجيتك هله ...هله بيك هله يشيخ المرجله..

راح ماركس يتلفت يمينا ويسارا وشعر بشيء من الارتباك، بعد أن تيقن بأن الأشخاص السبعة يتوجهون وأنظارهم شاخصة نحوه. لم يستطع فعل شيء سوى الوقوف والدهشة ترتسم على وجهه. وأخيرا اجبر نفسه على الابتسام، حين وجدهم يلتفون حوله يهتفون بذات النغمة المكررة، ثم قفز أحدهم وطوق عنق كارل ماركس وراح يقبل وجنتيه وهو يردد
ـ عيوني فدوه اروحلك.. ماركس ماكو غيرك ... أنت أتدلينه على الطريق.. هل بيك هله .. هل بيك هله يميل المكحلة.
بيد قوية تمكن احدهم من سحب الرجل وفك اسر رقبة ماركس منه، صارخا بوجه الجميع.
ـ رفاق .. رجاءا مركزية ...أخوان بدون خروقات ... خلونه حسب ما متفق عليه .. لا عناق وقبل دون موافقات مسبقة .. الالتزام حرفيا بما اتفق عليه.. رفاق رجاءا.. تذكروا رفيقنا متعب.
بنظرات متوسلة من عينين ذابلتين شكر كارل ماركس الرفيق صاحب البذلة الداكنة بلونها الأرجواني الضارب للسواد. ثم بادره بالسؤال بعد أن أوحى مظهره الأنيق لماركس بأنه مسؤول المجموعة.
ـ هل الرفيق مسؤول المجموعة التي أرسلت لي طلب المجيء إلى العراق ؟
ـ نعم رفيقنا الغالي نحن من أرسل بطلبك. وأنا لست بالمسؤول الأول .. ولكني باسم الجميع أرحب بك في أرض الرافدين .. أرض التأريخ المجيد والعنفوان، البلد الذي ظهرت فيه أول حروف الأبجدية ومنه انطلقت العلوم والتكنولوجيا، حيث صُنعت العجلة لتنقل العالم من مرحلة إلى مرحلة مجد حضاري عتيد تليد.. أهلا بك أيها الرفيق العزيز في بلد التحديات الكبرى أرض العمال والفلاحين والكادحين صناع الفجر الأحمر.. حللت أهلا ووطأة سهلا.
اقترب أحدهم من رفيق أخر وهمس وهو يخفي بيده ابتسامة ماكرة.
ـ أسمع الرفيق سعدي.. من هسه بده يغرد ... بعدنه ما تعرفنه على الرجال كَام الرفيق يحجي جنجلوتيات .. اليوم شراح يخلصها..
ـ يمعود دعوفه ... قابل هاي أول مره تسمعه منه. أجابه الأخر هامسا.

لم يكملا حديثهما حين بادر أحد الرفاق بمسك كف كارل ماركس وراح في موجة ترحاب اضطر ماركس لسحب كفه بقوة وعلائم الضجر بادية عليه،فقد شعر بقوة الشد التي تسحبه دون رحمه. راح ماركس يجول بنظراته في وجوه الرفاق ثم وجه سؤاله دون تركيز على شخص محدد.
ـ يمكننا إكمال الحديث في مقر حزبكم ، أعتقد إن هذا أفضل من الوقوف هنا.
تلاقت نظرات الرفاق وظهر وكأنهم في حيرة وارتباك من السؤال الذي لم يكن متوقعا. أحدهم بادر وهو يمسح العرق من فوق رقبته بمنديل أحمر طرز علي أحد أطرافه رسم المنجل والمطرقة.
ـ رفيق لا نملك مقرا ثابتا .
ـ ولكني عرفت أنكم تملكون مقرا ثابتا.
ـ ليس نحن من عرفت عنهم.
ـ ولكن هذا ما أُخْبرت به من رفاق لي في لندن قبل مجيئي.
ـ ربما أُخْبرت عن آخرين .
ـ إذن هناك غيركم.
ـ نعم وهناك خلافات واختلافات أيدلوجية بيننا ونحن لا نود اللقاء معهم.
ـ حسنا ومتى سوف نذهب من هنا وإلى أين نتوجه.
ـ رفيق ماركس نحن بانتظار رفيق جبار وهو المسؤول عن كل شيء، بعدها نذهب إلى الفندق.
ـ وأين رفيق جبار.
ـ رفيق جبار تأخر بعض الشيء وهو في الطريق ألينا.
التف الرفاق حول كارل ماركس، أحدهم يرحب والأخر يوجه له استفسار عن لندن وكيف المعيشة هناك،وأحدهم سأله عن طريقة الهجرة إلى هناك، وأخر عن عدد أفراد عائلته، وأخر سأله عن صحة الأنباء التي تحدثت عن مرض الرفيق فردريك أنكليز،وعن مشاريعهم المشتركة، أخر سأل عن طبيعة الاختلاف بين النظام الاقتصادي الانكليزي والألماني، فأجابه ماركس بأن الوقت لا يتسع لجواب مثل هذا السؤال الآن. بصوت خافت خجول بادره أحد الرفاق وهو يفرك راحتي يديه ببعضهما،بسؤال ظريف عن عدد عشيقاته وهل يفضل واحدة منهن دون الجميع. زم ماركس شفتيه ثم هز رأسه وأبتسم وهو ينظر لهذا الرفيق الصفيق. توجهت أنظار الرفاق نحو رفيقهم وبدأت كلمات التقريع والاستهجان توجه أليه من قبلهم ، وكان بعضها جارح، فابتعد الرفيق عن الجمع وهو يمسح قطرات العرق التي غطت وجهه دون أن يترك لراحتي يديه متسعا من وقت.
هبت سحابة تراب صاحبت قدوم سيارة سوداء ضخمة نوع لكزس ياباني حديث، توقفت بمحاذاة تجمع الرفاق، فاستدار الجميع وبوجوه تفيض بشاشة، راحوا يحيون صاحب السيارة بحرارة.
ـ هلو رفيق جبار .. هلو بيك ..هلو ورده .. هلو حبوبي.. رفيقنا كارل ماركس متشوق للقائك.

فتح باب السيارة ليظهر جوارها رجل أنيق ببدله ضاربة إلى السواد وربطة عنق زرقاء غامقة وقميص بصبغة سمائية اللون. كانت نظراته تتسقط الرفيق ماركس الذي وقف خلف الجميع، وكانت ابتسامة رفيق جبار عريضة ترتسم فوق وجهه الحنطي المائل للحمرة، وتظهر أسنان ناصعة البياض. ودون النظر أو الحديث مع أحد من رفاقه، مد يده لمصافحة الرفيق ماركس. كانت أنظار الرفاق تنظر بشيء من الاعتزاز والفخر لهذا اللقاء التاريخي في هذا الزمن العصي. أدار رفيق جبار رأسه نحو الرفاق وقال:
ـ هيا رفاق ارفعوا حقائب الرفيق ماركس وضعوها في حوض السيارة.
بعد هذا سحب الرفيق جبار الرفيق ماركس من يده وفتح باب السيارة وطلب منه الركوب جواره في مقعد السيارة الأمامي، ثم أنطلق مسرعا بعد أن نبه الرفاق إلى ضرورة اللقاء مساءا في الفندق. وصلت السيارة إلى الفندق وأوصى الرفيق جبار عمال الفندق بالاهتمام بالضيف والاعتناء بغرفته ونبههم بتحضير حاجات الرفيق لأخذ حمام ثم التهيؤ وتحضير العشاء في مطعم الفندق.
بدأ اللغط بين الرفاق يتصاعد وبدا وكأنه شجار،بعد أن ذهب الرفيق جبار منفردا مع كارل ماركس ولم يكلف نفسه حتى الالتفاف لهم، أو السماح للبعض منهم مرافقته وماركس. وكان سامر أكثر الرفاق تذمرا وبدت كلماته الغاضبة المتقطعة السريعة تنحوا منحى شتائم بحق الرفيق جبار.
ـ أي هسه أبن المهلوس.. أبن المداس..أحنه مو رفاق،هذا دائما يبقه ما عنده أصول ، لكن هو منين أله أصول أبن العربنجي ، عمت عين الوكت أي والله عمت عين الوكت.
ـ أي هسه شلك بهذا الحجي رفيق، مو هو رفيقنا ودائما عنده وكفات ويانه لو نسينه. هسه صار كخه وغلط.. يمكن راد يريح رفيقنا ماركس ويفتهم منه منفردا بعض الأشياء.
ـ ليش أحنه مو كلنا رفاق .. ليش دائما يميز نفسه.
ـ هسه دخليه سكته مزين مرات يلفيك بالفندق.
ـ أهو.. بدت رحمة الله .. أحسن اسكت وأنجب من هذي الدهرة.
ـ صدك بالمناسبة، شنو كلت من هتفنه لوصول الرفيق كارل ماركس .. هله بيك هله يميل المكحلة.. شنو هاي سالفة ميل المكحلة؟
ـ والله أني سامع هذا من بيبيتي .. جانت تهوس الجدي لمن يجي من البستان بالمسا. وجان أبويه يخرب ضحك من يسمع الهوسة.. فسألته يوما.. بويه شنو يعني ميل المكحلة .. جان يكَول أنته شايف المكحلة مال بيبيتك، مو بيه راس مثل القبغ، فأجيبه بنعم. فقال لي هذا هو الميل، والمكحلة بدون الميل ما تسوه زبانه.. وإذا الميل ما يدخل بالمكحلة.. العيون ما تصير وساع وتشوف الدنيا زين.. بس المدوخني أنه بعد ما شرحلي هذا الموضوع، راح بموجة هستيرية من الضحك.. هسه أني فكرت أنه بدون ماركس أحنه ما نكَدر نشوف وضعنه زين.
ـ أي رفيق ما كتل حبوبتك وموته غير ميل المكحله..
ضج الرفاق بالضحك وهم يتوجهون لأخذ سيارة أجرة للحاق برفيق جبار في الفندق.وصلوا هناك وكان الرفيق جبار وكارل ماركس يجلسان حول طاولة منفردة يتناولان الطعام في صالة مطعم الفندق.
سلم الرفاق وجلسوا عند طاولة قريبة وراحوا في نقاش وضحك وكانوا يتوقعون أن يدعو لهم الرفيق جبار بشيء يأكلوه ولكنه بادرهم بالقول.
ـ ألم تتناولوا العشاء.
ردوا سريعا وبصوت واحد.
ـ لا رفيق .
ـ لماذا لا تذهبوا وتتناولوا شيئا في المطعم المجاور للفندق.
فبادره الرفيق سامر بالكلام
ـ رفيق جبار أستطيع المبيت بالفندق اليوم .
ـ ليش بعدك متزاعل مع أم عشتار.
ـ أي والله رفيق.
ـ أوكي شوف الاستعلامات وخبرني.
خرج الجميع واحدا اثر الأخر وهم يطالعون ماركس المنشغل بالطعام.
ـ هاي شبي الرفيق جبار أشو صاير بخيل .
ـ يمعودين شنو يوميه ... البارحة تغدينه عنده.
ـ انته ورفيق عباس وسعدي مو احنه.
ـ وذاك اليوم وقبله..؟؟
ـ أي هسه أنته صاير قبغ مال حلوكَ .. شنو نحجي أتذكرنا بالماضي..
حين أتم الرفيق جبار وكارل ماركس عشائهم وتناولوا كأس الشراب سأل الرفيق جبار كارل ماركس عن استعداده للغد، فهو أي الرفيق جبار سوف يجمع بعض الرفاق والأصدقاء هنا في باحة الفندق، للتعرف وسماع بعض الآراء من كارل ماركس. وافق ماركس على مقترح الرفيق جبار واستأذن للذهاب إلى غرفته لشعوره ببعض التعب، ويحتاج أن يأخذ قسطا من الراحة. شكره الرفيق جبار ورافقه حتى باب الغرفة ثم عاد إلى الصالة وأتصل بالرفيق سعدي وأبلغه بضرورة الحضور للتهيؤ ليوم غد وإبلاغ جميع الرفاق والأصدقاء بالموعد لمقابلة الرفيق كارل ماركس والتحدث معه .
كانت درجة الحرارة التي أعلن عنها في أخبار الصباح، قد بلغت 49 درجة ولكن مثل هذا الإعلان يبتعد كثيرا عن واقع الحال. هذا ما أحسه كارل ماركس وهو يقف في شرفة الغرفة. فرغم وقوفه في الظل فقد أضطر للدخول مسرعا إلى الغرفة لشدة الحرارة التي يدفع بها الهواء لتلفح وجهه، وقرر البقاء في الغرفة تحت هواء المروحة السقفية أو التمتع بالحمام رغم سخونة الماء، ولكن ترطيب الجسد بالماء يبعث شيئا من الراحة.
طُرق الباب، فرفع ماركس جسده عن السرير بتثاقل، فقد كان في طريقه نحو إغفاءة بسيطة جراء القيظ الذي يلف المدينة ويبعث على الخدر والنعاس. ذهب وفتح الباب ليجد الرفيق جبار واقفا يطلب منه القدوم لحضور الاجتماع المعد للقائه في صالة الفندق.ارتدى كارل ماركس قميص أصفر بنصف كم مرقط بنقط صغيرة أرجوانية خفيفة وربطة عنق شذرية اللون وبنطال قطني حليبي اللون عريض. هبط السلم باتجاه القاعة وهناك وجد حشد من الناس يربو عددهم على أكثر من الثلاثين شخصا.

جلس الرفيق كارل ماركس خلف طاولة أعدت له في زاوية من زوايا بهو الفندق واصطفت أمامه مجموعة رجال كانت تجلس معهم امرأة واحدة لا غير. جلسوا على كراسي غير متشابهة رصفت أمام الطاولة التي يجلس خلفها كارل ماركس.
بعد ضجة ولغط كثيرين أشار الرفيق جبار للجميع بالهدوء والانتباه لحديث الرفيق ماركس. بدت ملامح الانشراح على وجه ماركس وتوردت وجنتيه، وارتسمت ابتسامة خفيفة فوق محياه، وتنهد وهو يسحب كرسيه ليقترب جيدا من حافة المنضدة التي وضع فوقها بعض الأوراق في ملف بلاستيكي داكن الحمرة.
بادر الرفيق ماركس فحيا الجميع وشكرهم على الحضور وتكبدهم مصاعب الطريق بعد أن استيقظت العاصمة بغداد ومنذ الصباح الباكر على أصوات انفجارات عديدة هزت العاصمة، قطعت إثرها الطرق وبالذات شوارع جانب الرصافة الذي يقع الفندق عند أحد أطرافه. بادر الرفيق ماركس بالقول:
رفاقي وأصدقائي الأعزاء تحية رفاقية .. أسمحوا لي في البداية أن أشكر الرفاق الشيوعيين العراقيين على دعوتهم وضيافتهم الكريمة راجيا أن نستطيع خوض غمار تجربة معرفية نستطيع بها التعرف على مشاكل العراق وبرامج الرفاق وطرحهم للحلول المناسبة للخروج من الأزمات .
رفاقي الأعزاء، يجب وفي المقدمة أن ندرك قبل أي شيء أخر، وبشكل ناجز إن ما سوف أطرحه عليكم لا علاقة له بالماركسية الكلاسيكية، حيث كنت والرفيق فردريك انكليز عهد ذاك نرى أن التاريخ مجال مكشوف أمامنا بالكامل، ومهيأ أن نتناوله بما نرغب أو نعتقد، وكنا نتصور امتلاكنا القدرة على استحواذ الماضي والحاضر ومن ثم المستقبل. وحددنا خطوط التطور حصرا بالصراع الطبقي، وتفسير هذا الصراع وصياغة شروطه وتفكيكها يقع على عاتق الطبقة العاملة دون غيرها.
رفاقي الطيبون، صحيح أن الكثير مما حدث في العالم من تغيرات كان ثمرة تأثير الماركسية الكلاسيكية، وبالذات جانب التحليل العلمي للمسيرة الإنسانية. واستمرت البشرية تنظر للماركسية الكلاسيكية على أنها منهج للتحليل ورؤية فلسفية للتاريخ والمادة، وفي الوقت ذاته حركة سياسية تحررية. وكان يحدونا أنا والرفيق فردريك من خلال بحثنا المتجرد والمتأمل والمفعم بالأمل، أن تعم مفاهيمنا العالم وبالذات الثورية منها ، وأن تنهار قوى الرأسمالية أمام بياننا الشيوعي، وتكون استنباطاتنا وتحليلاتنا الفلسفية الفكرية والمادية منهجا لثورة عارمة للطبقة العاملة التي سوف تتوحد قواها العالمية وتجعل مهمة التغيير سهلة المنال.
ولكن أيها الرفاق. وبعد تاريخ طويل وبناء متهافت لاشتراكيات متنوعة وأطروحات دخيلة ألصقت بماركسيتنا وبما طرحناه، واختيرت تعاميم وأطر ومناهج لتفسير ما قدمناه، واستعملت نظريتنا بإفراط منفلت، وبدت الغشاوة تحيط بأصل الفكرة وجوهرها. وكان هناك أيضا، وهذا مهم، ويجب أن يتوضح لجميع من يؤمن بالطرق العملية والمناهج السلمية في الوصول إلى ما يصبو الجميع أليه. فقد ظهرت أبحاث كانت قد خرجت من رحاب الماركسية، أو الأحرى جرت وطوعت الماركسية نحو حقول حضارية متنوعة، خلطت نظريتنا بالحاجات الآنية للشعوب، وبالذات الخصوصيات الوطنية وقضايا قبل وبعد حروب التحرير ثم الاستقلال، واقتصاديات التنمية وعلم السياسة الحديث، والعلاقات الدولية،ولذا تغيرت أساليب النضال وتنوعت طرق تفكيك المراحل في التأريخ البشري الساعي لصناعة الحضارة والمعرفة واليقين بأهمية السلم والرفاه الاجتماعي. وعند هذه التغيرات وقبل كل شيء أو أن أُعرج معكم على مفصل مهم أحدث قفزة كبيرة غيرت طبيعة ووجهة الاشتراكية، هذا الخرق الكبير الذي أدار العجلة دوره كاملة غيرت الكثير من المفاهيم والمعارف عن دكتاتورية البروليتاريا، والعلاقة مع الطبقة البرجوازية ورأس المال، وطبيعة الصراع الطبقي وكيفية وضرورة ومراحل تصعيده، والتي كنا نرى من الموجب استمرارها بتطوير وتغذية واستعار جذوة ذلك النضال. الخرق الذي أتحدث عنه اليوم كان بداية لزعزعة قناعات الكثيرين للحفاظ على حقول الماركسية. لا بل إن اطر فلسفية ونظرية في السياق العام لحياة الشعوب قد انهارت معها متاريس وسدود.هذا الخرق أو لنسميه على حقيقته بالصدمة أو التفكيك، وسمي لاحقا بالصلح التاريخي، حين عقد هذا الصلح بين نقابات العمال وأصحاب رؤوس الأموال، وكان هذا الصلح كافيا لدفعنا جميعا لإعادة التفحص من جديد في أسس النظرية، وأن نقف عندها ونوسمها بكونها كانت في تاريخ محدد تشكل وعي البناء النظري الفلسفي للعالم، ولبت الكثير من الطموح لتفسير علمي للمادة والتاريخ، ولكن اليوم فأن الكثير من الحاجات الإنسانية، من المحال أن تقف عند تخوم النظرية الماركسية، بقدر ما باتت تستطيع الابتعاد عنها .
التفت رفيق قيس نحو الرفيق سامر الذي يجلس جواره في الصف الثاني من مجموعة المقاعد، ومال بجسده الضخم ليقرب فمه من أذنه وهمس بعصبية.
ـ لك رفيق سامر .. دتسمع هذا شديكول.
كان سامر يعبث بجهاز التلفون وكأنه يكتب رسالة .
ـ لا والله رفيق الجمل الأخيرة ما انتبهت أله ... داد هاي الفختاية خبلتني.. ملختني تملخ .. من ساعة رحنا لساحة عباس بن فرناس لمقابلة ماركس ولحد هسة ادز رسائل وما تلحك.
ـ شتريد ؟
ـ هاي مو شافتني أسوق بسيارة الرفيق جبار تخبلت، حسباله السيارة مالتي .. تلح تعال نتزوج، ألحك تره أجو عليه خطابه..بنت المشعول متدري أني يومية أنام بدون عشه، وجماله متزوج وحده غضب مال الله.
ـيعني أنته ما سمعت شكال الرفيق كارل ماركس.
ـ مو كل السوالف ...يابه مو أكثرهن سامعيهن من غيره وقارينه بكتبه.. قابل عنده شي جديد.
ـ عيني رفيق أنتم متأكدين أنو هذا هو كارل ماركس نفسه.
ـ هاي شنو رفيق بدت رحمة الله.هاي شبيك مكبسل !؟ سؤال غريب متشوف الكفشه مالته واللحية .. هو ماركس بدمه ولحمة.
ـ زين أنته أنتبهت شكال؟
ـ مو كتلك مو كلشي سمعته... دحجي شنو شكال ؟
ـ لك داد شي ما معقول.. أتخلى عن الماركسية الكلاسيكية وطعن بيها.
وكأنه لدغ من عقرب صرخ الرفيق سامر بأعلى صوته وكان يضغط بقوة على مقابض الكرسي.
ـ لا.. ما ممكن .. مو بكيفة.
سكت كارل ماركس وتطلع ناحية الصوت، وران صمت عميق على القاعة. كانت أصوات سيارات إسعاف تأتي من بعيد وهي تمخر الشوارع بسرعتها الجنونية.التفت بعض الرفاق صوب الرفيق سامر وبادره الرفيق جبار بالسؤال.
ـ ما الذي يجعلك تصرخ هكذا؟
فجأة وقف الرفيق سامر وقد شحب وجهه ، وأخذت شفتاه ترتعشان، ويداه تدوران في الهواء، وهو يوجه كلامه نحو كارل ماركس.
ـ الرفيق العزيز كارل ماركس، أعتقد أن عليك وفي هذا الأمر أن تقف عند حدودك وتعتذر ،الماركسية الكلاسيكية هي منهجنا وطريق حياتنا وليس من حقك أن تتنكر لها وتتجاوز عليها ... لن نسمح لك.
ضجت القاعة باللغط والصراخ وكأن الرفاق كانوا على موعد مع خلاف مبيت يظهر أنه لن ينتهي بسلام فقد أنشطر الجمع بين مؤيد ومستنكر، ولم يستطع الرفيق جبار السيطرة على الموقف، لذا طلب من ماركس الذهاب إلى غرفته عسى أن يستطيع هو أن يضع حلا لهذا الإشكال الذي أثاره الرفيق سامر. لم يرغب ماركس المغادرة وبادر بالحديث رغم اختلاط صوته بالضجيج الذي يقوم به بعض الرفاق.
ـ رفاقي الأعزاء ،رفاقي الأعزاء..أعتقد أن هناك اجتزاء أو سوء فهم حدث عند الرفيق في الغاية أو التوصيف والمدخل الذي أردت أن أبدا فيه لقاءنا. وكان الأفضل الانتظار لما بعد أكمال حديثي ثم البدء بطرح الأسئلة والنقاش .
ـ يانقاش رفيق، أنته خليت طريق مفتوح حتى نتوافق مع ما صرحت بيه.. رفيق هاي رده وتحريف واحنه ما مستعدين نسمع مثل هذا.
كان حديث سامر حاسما وكانت الكلمات تخرج من فمه وكأنها حجر بركان يتساقط فوق رؤوس الحضور لذا بدء الضجيج والأصوات تتعالى ثم أخذ البعض بالتسرب من الجلسة والذهاب للخروج من القاعة.
ـ ما الذي تعرفه عن الماركسية أيها الأخ العزيز.
بادر ماركس بتوجيه السؤال إلى سامر وكانت عيناه قد ظهر عليهما الاحتقان وأخذت أصابعه تنقر بحدة فوق المنضدة.
كان سامر قد استدار بقامته الفارعة جانبا وراح في نقاش حاد مع رفيقه الأخر الجالس على الكرسي المجاور، ولكنه تنبه لصوت كارل ماركس فألتفت أليه وطلب منه أعادة السؤال فهب الرفيق جبار من مكانه وصرخ بأعلى صوته .
ـ رفيق سامر أنت تريد إثارة المشاكل ليس إلا، ولو كنت مهتما للأمر لانتبهت لسؤال الرفيق ماركس.
ـ أنا منتبه رفيق، بس بنفس الوقت رفيق عيسى وجه لي نقدا غير مبرر، وودت أن أشرح وأوضح له بعض ما خفي عليه. الرفيق كارل ممكن تعيد سؤالك.
أعاد كارل ماركس طرح سؤاله عن ما يفهمه سامر في الماركسية .
ـ رفيق.. منذ الصغر وأنا أطالع الكتب الماركسية، كتابك نقد مذهب هيغل في الدولة إلى بؤس الفلسفة والبيان الشيوعي ورأس المال والعمل المأجور وصولا إلى العائلة المقدسة وغيرها من الكتب. وكنا دائما نحاول من خلالها تماثل وضعنا في العراق وقدرة ما طرحته والرفيق فردريك على تحليل الواقع العراقي بمختلف تجلياته.
ـ وهل وجدت في كل تلك الكتب ما يوصلك إلى نتائج حاسمة .
ـ بعض الشي، ومو كلشي..
ـ حسنا وهل استمعت لحديثي اليوم وفهمت الغاية منه.
ـ الحقيقة رفيق لم أكن أستمع للحديث فقد كنت مشغولا بأمر عائلي على الهاتف, الرفيق قيس شرح لي كل شيء.
نهض رفيق جبار من مكانه وصرخ بصوت جهوري واضح في وجه الرفيق سامر .
ـ رفيق سامر هذا حجي لو اتخربط ، مشغول وما سمعت ورفيق قيس شرحلي .. شنو أحنه زعاطيط.. شنو هذا التخربط .
ـ رفيق لتغلط .. تره أتحملتك صار سنتين ..أشو هوايه شايف نفسك.. تره أنا عمري ما أعترف بتسلسل حزبي وما يهمني أنته منو، وما تكدر تفرض عليه أوامرك، وهذا رفيقكم الجايبي من الغرب.. تره مو كارل ماركس.. هذا تحريفي، وكَالب عكرف لوي على الماركسية، وراح نراويه أحنه مو غيرنه شنو الماركسية.
وبعصبية رد عليه رفيق جبار وكان يؤشر له بسبابة يده وكأنه يوجه تقريع لأحد تلامذته.
ـ لا مكان لك في الفندق بعد هذا اليوم، ولن تستطيع المبيت فيه حتى وأن طلقتك أم عشتار بالثلاث. شنو أنته رب مشاكل ولغوة.

خرج سامر مسرعا من القاعة والتحق به كل من الرفيق قيس والرفيقة ساهرة والرفيق شاكر والرفيق غني، وعند خروجهم كانوا جميعا يوجهون نظرات حادة نحو الرفيق كارل ماركس والرفيق جبار.
لم يدع الرفيق جبار هذا الآمر يمر دون أن يبادر لتهدئة الأجواء فطلب من الرفاق الباقين الانتقال إلى قاعة الطعام لتناول الشاي و العصائر ثم وجه كلامه إلى كارل ماركس الذي راح بدوره يقلب الأوراق التي أمامه محاولا أن يبعد عن ذهنه هذه اللحظات التي مرت وتمر بتثاقل دون أن يستطيع حل الإشكال بنقاش مثمر يخرج الموضوعة بما يتوافق مع منهجه في نقد الحالة والكشف عن المستجدات في الفلسفة أو الاقتصاد السياسي وظروف ومستجدات الصراع الطبقي وحتى التغيرات في العلوم والمادة. لحظتها سمع الرفيق جبار يوجه له الكلام وابتسامة شاحبة تعتلي شفتيه.
ـ رفيق ماركس لا تهتم فالمراهقة السياسية دائما ما تواجهها جميع الأحزاب والتنظيمات، وهي واحدة من المعوقات لا بل المؤذيات في العمل. غدا سوف نسافر إلى مدينة الناصرية فهناك لدينا رفاق رائعين وقد نسقت معهم حول هذه الزيارة قبل قدومك ألينا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع