الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضيعوا قبورهم لكي لا تكون مزاراً

عدنان اللبان

2015 / 9 / 2
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


يقول سردار : صرخ بأعلى صوته , ورفع يديه المكبلتين الى فمه ليقطعها. كان نائما , والقدم التي سحقت ركبته كانت اشد وطأة من ثقل جبل وغيبت روحه للحظات . لم يدرك ان الطلقة التي اصابته قد مزقت رباطات ركبته اليمنى وهشمت عظام المفصل الا عصر هذا اليوم حيث ضمدت له . سردار احد الحراس الذين يتناوبون على حراسته منذ اربع وعشرين ساعة عندما اتت به المفرزة واضعة اياه في الحوض الخلفي لأحد سيارات اللاندروفر . لم يره سابقا , ولكنه سمع عنه الكثير , حتى قبل ان يلتحق باليكتي ( الاتحاد الوطني الكوردستاني ) , كان يسمع عنه من الفلاحين والبيشمركَه بأنه جريئا جدا والجميع يتحاشون الاصطدام بمفرزتهه , كان يتصوره بشكل مخيف . هذه المرة الاولى التي يراه فيها , سردار لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره , وعرف الآن لماذا ان بنات القرى كثيرا ما تتعاطف معه ومع مفرزته , انه وسيم , طويل , بشرته بيضاء حمراء , شوارب كثيفة سوداء , شعر طويل مرسل ينزل من تحت الجمداني , ولم يتجاوز الثلاثين . كان مندهشا من حيوية عينيه السوداويتين الكبيرتين , قليل الكلام , قد يكون بسبب المعركة التي استمرت لأكثر من ساعة بعد ان سقطت مفرزته في كمين نصب لها من قبل اليكتي بين اربيل وكويسنجق ورأى بعينينه كيف استشهد ستة من مفرزته واعدم الاربعة الآخرون بعد ان تم اسرهم , وجاءوا به وحيدا للأسر. كان لا يستطيع ان يحرك رجله , الا ان حركة باقي جسمه نشطة , وعندما اتكأ على مرفقه الايمن رغم ربط رسغيه معا مستندا الى الحائط , كان في هيئته الكثير من العنفوان , والصلابة .

الذي سحق ركبته كان احد قيادي مقر اليكتي , الذي اقيم في معسكر السلام – مقر الفرقة السابعة للجيش العراقي سابقا – غرب السليمانية قبل مفرق طريق كركوك اربيل بقليل . كان الشرر يتطاير من عينيه , ومحمد متهم بقتل اثنين من قيادي اليكتي واحدهم خاله .
القيادي : ها جبان , تالي هذا مصيرك . محمد : الجبان الربط يدي وأني بهذا الوضع . القيادي: انجب كلب , اصلف من امك .
محمد: امي عيشه , امي ما ولدت جحوش ( ويقصد اليكتي ) . لم يتمالك القيادي نفسه , فرفع نصف بلوكه اسمنت من ارض الغرفة وقذف بها محمد الذي زاغ عنها برأسه فارتطمت بكتفه وندت عنه صرخة قوية .

ولدت عائشة كَل وتعني ( عائشة الوردة ) كما يسميها الاكراد والدة محمد الملقب بالحلاق في كويسنجق . وكويسنجق مدينة قديمة يمتد تاريخها لأكثر من الف عام حسب المصادر التاريخية , تتوسط الطريق بين السليمانية واربيل , ولم تكن تخضع لسلطة الاقطاع والأغوات والعشائر مثل باقي المناطق في كوردستان , بل كان يحكمها نظام العوائل الكبيرة الذي هو اكثر تحضرا من نظام العشائر , وترعرعت فيها الحركة السياسية بشكل مبكر , وخرّجت الكثير من المناضلين والقادة , منهم كريم احمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي , وجلال الطلباني رئيس الاتحاد الوطني ورئيس الجمهورية السابق , وعلي عبد الله سكرتير المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني . عائشة كَل من عائلة فقيرة , وانتمت بشكل مبكر الى الحزب الشيوعي , وتزوجت من الرفيق ( محمد امين ) وهو حلاق , وسمي ابنهم البكر ( محمد امين ) ايضا – وهو موضع استهداف اليكتي الحالي - .

الحارس سردار ابن احد كوادر اليكتي ( الاتحاد الوطني ) ومن كويسنجق ايضا , كان معجبا بمحمد الحلاق رغم ان محمد شيوعيا . اراد ان يخفف عن محمد بعد ذهاب القيادي , فجلب له الماء وحدثه عن والدته , وكيف انها في نهاية عام 1980 جمعت بعض النسوة بينهن ام سردار , وذهبن الى المقبرة بانتظار احد القراء للقراءة على الموتى . وبعد ان اكمل صلاته ودعائه بالرحمة للموتى اخذ يتهجم على الشيوعيين وباقي الاحزاب الكوردية الذين يقاتلون السلطة . يقول سردار : تقول امي " لم اعرف لماذا عايشة كَل طلبت منا ان نملئ جيوبنا بالحصى والحجر الصغير " . وفي غمرة البكاء اخرجن الحصى والأحجار وأمطرنه بها , هرب والحجر يتبعه وسقطت عباءته وعمامته ولم يتمكن من اخذهما والدماء تسيل من رأسه لاعنا الحكومة والشيوعيين وكل من ورطه في هذا المأزق . انتشر خبر هذا الملا في اربيل ايضا , وبعدها لم يجرأ احدا منهم في مهاجمة الانصار حتى لو ذهب وحده الى المقبرة .

عائشة كَل كانت طيلة عمرها متفرغة للعمل الحزبي , بيضوية الوجه , بيضاء , وحيوية في حركتها رغم تقدمها في العمر . انجبت من زواجها اربعة اولاد وفتاة , الكبير هو محمد الحلاق , وريبوار توفى , وبشدر الصغير استشهد وعمره ستة عشر عاما في قاطع اربيل , كان حارسا على مجموعة من السجناء في سجن القاطع , وطلب منه احد الجحوش السجناء الذهاب الى المرافق وكانت تبعد قليلا عن المقر , وفاجأه بالهجوم على البندقية , فاغتاله مع رفيق آخر وتمكن من الهرب . والرابع رستم مصاب بالسرطان .

ممو احد المندسين في الحزب ويعمل في التنظيم المحلي لاربيل . انكشف بعد ان سلم اكبر مفرزة مختفية في اربيل مكونة من اثنين وثلاثين رفيقا ونصيرا الى السلطة , واعدم جميعهم . ممو حاول كثيرا استدراج عائشة للإيقاع بها ولم يتمكن , كانت تمتلك فطرة حذرة جدا , وعائشة طيلة عمرها في الحزب لم تطلب المساعدة من احد في التنظيم كما يؤكد اغلب الذين عملوا معها . ممو نتيجة حقده عليها جعل من عائشة كَل هدف السلطة الاول في اربيل .

رغم الضربة الكبيرة لتنظيم اربيل بعد اعدام المفرزة , الا ان عمليات الاختطاف لضباط الامن وكبار البعثيين استمرت . ممو استطاع ان يقنع السلطة الامنية بان القبض على عائشة كَل سيكون مفتاح انهاء سطوة مفارز الشيوعيين في اربيل بعد ان يعرف منها كل شئ وبشتى الطرق . مديرية الامن والاستخبارات العسكرية حددت المنطقة التي يتم فيها اكثر الاختطافات وهي قريبة من مركز اربيل , فاعتقلت بشكل عشوائي العشرات من العوائل ومنهم عوائل بعثية .. جمع مدير الامن جميع المحتجزات , وهددهن جميعا بالاغتصاب ما لم تتقدم عائشة وتسلم نفسها . لكنه ومن معه تفاجئوا حينما تقدمن منهم اربعة نساء كلن منهن تدعي انها عائشة . . اندهشوا , وقبل ان يبدأ بالسؤال مع اولهن تقدمت منه امرأة خامسة جميلة تجاوزت الخمسين وكلمته بعربية مكسرة , بأنه يبدو عليه ابن عائلة شريفة لكونه اقسم بالله العظيم على ان يطلق سراح الاخريات ان سلمت عائشة نفسها , وطلبت منه ان يعيد القسم وأمام جميع من في المديرية ان هي اخرجت له عايشه كَل من بين الموجودات , ونفذ ما ارادت . فقدمت نفسها اليه بأنها " عائشة كَل " وتم اطلاق سراح الاخريات .

كانت عائشة تستأجر بيتا في المنطقة التي تم تطويقها من قبل الاستخبارات والأمن , وكانت على علاقة تنظيمية بالرفيق جيفارا واسمه الصريح ( لطيف احمد ) . كان عامل بناء التحق بالحركة عام 1984 , واستشهد عام 1987 في اقتحامه ربية في طريق اربيل كويسنجق . كان معه ثلاثة رفاق ويمتلكون سيارتين , يتم الاختطاف بهما واغلب العمليات كانت في وضح النهار , لينقلهم لبيت عائشة . وعائشة تدير سجنها بغرفه الاربعة بكفاءة عالية , الى ان يتم نقل السجناء الى المناطق المحررة , وكان بينهم ضباط مخابرات , وأمراء وحدات , وضباط توجيه سياسي , وهو ما احدث ارباكا كبيرا في المنظومة الامنية في اربيل .

مديرية امن اربيل اخبرت الامن العامة في بغداد بأنها لا تستطيع تأمين استمرار وجود عائشة كَل في اربيل , لأهميتها بالنسبة لتنظيم العصاة الشيوعيين في اربيل , والجانب الآخر هو الخوف من هجمات سرية ابنها المجرم محمد الحلاق المعروف بشراسته لإطلاق سراحها . فتم نقلها الى الموصل .
محمد الحلاق بعد عدة اشهر نزل مع مجموعة من سريته الكوي الى الموصل , بعد ان علم بانتقال ممو اليها , واقتحم البيت الذي يسكنه , ولكنه لم يجده . انتشر خبر دخول مفرزة الكوي الى مدينة الموصل , الا ان ممو قد اختفى ولم يعثر له على اثر .

بعد اشهر طويلة من التعذيب , اعدمت عائشة كَل دون ان يحصلوا منها على اي شئ , ولإيصال خبر انتقامهم منها , سلموا ثوبها الاسود الذي كانت تأتي به الى المناطق المحررة وقد مزقه الرصاص الى ابنتها لتسلمه الى الحزب تأكيدا على ( انتصارهم ) الكبير . وعندما وصلت ابنتها الى مقر قاطع اربيل , ثبتته على سارية خشبية , ورفعته وسط حشد الانصار , وأخذت تدور برقصة انتزعت ايقاعها من جلال صمود "عائشة كَل " لحظة اعدامها وهي تواجه جلاديها بعينيها الجميلتين قبل اطلاق الرصاص عليها , انها امها , وام محمد الحلاق , وأم جميع الانصار الذين يشاركونها رقصة الوداع . لم يسلموا القتلة جثتها , اخفوها , خوفا من ان تكون مزارا لكل من عزت عليه كرامة الحياة .

يقول كاوة وهو نصير في سرية الكوي منذ نشأتها : كان محمد الحلاق من نشطاء البيشمركة في اربيل , ونتيجة جرأته وقدرته التخطيطية اصبح آمرا لسرية الكوي التي تعتبر اهم السرايا في اربيل . كانت علاقته جيدة بالمجموعة بعيدا عن الغرور وحب السيطرة , وعلاقته بالرفاق العرب جيدة جدا . بعد احداث بشتاشان اخذ محمد الحلاق يطارد مسئولي اليكتي ومن تورط معهم في المذبحة التي اقامها اليكتي للشيوعيين , وتمكن من الايقاع ببعضهم وبينهم اثنين من القياديين . لقد اصبح مصدر خطر لقيادات الاتحاد الوطني , ومثلما اصبحت والدته المطلوب الاول للقيادات الامنية في اربيل , اصبح محمد الحلاق المطلوب الاول لليكتي , وتمكن من الافلات عدة مرات من الكمائن التي نصبت له , الى ان تمكن الكمين الاخير من اسره بعد ان استشهد ستة من افراد مفرزته واعدم الاربعة الآخرين بعد اسرهم .

بعد اخراج صدام من الكويت وانفجار الانتفاضة الجبارة للعراقيين عام 1991 , منع الحلفاء طيران صدام من التحليق فوق كردستان فتم انسحاب الادارة الحكومية منها , وتبعها اجراء الانتخابات في الاقليم وتشكيل برلمان ( ففتي ففتي ) الذي اقتسم السلطة بين القوتين الرئيسيتين الاتحاد الوطني برئاسة جلال الطلباني في السليمانية ومسعود البرزاني في اربيل . طيلة هذه المراحل كانت تتبلور فكرة انشاء حزب شيوعي كردي بدل منظمة الاقليم , اي ان ظروف انشاء الاقليم بإدارة كوردية مستقلة دفع بقسم من الشباب الاكراد رغم ميلهم للشيوعيين , وبعضهم من عوائل شيوعية , للانضمام الى الاحزاب القومية الكوردية , تماهياً مع فكرة تمظهر الوجود القومي , وكذلك استجابة البعض لضغوط الاحزاب الكوردية المسيطرة على السليمانية واربيل والتي اخذت تتقاتل فيما بينها لتوسعة النفوذ على حساب الآخر . محمد الحلاق رغم حسه الاممي كان من الداعين لإنشاء الحزب الشيوعي الكوردي , ولاقى مقاومة كبيرة من لجنة الاقليم وأوجد خلافا بين مجموعته وبين الحزب .

يقول حارسه سردار : كان محمد الحلاق يشكل هاجسا امنيا لليكتي وقيادته , وقد انفردوا به تلك الليلة في معسكر السلام . لم يسمحوا لنا ان نرى ما دار من نقاش وإجراءات اخرى بينهم وبينه , الا اني عرفت من الحرس الذي بعدي انهم منعوا عليه الاكل والشرب , كانوا يبحلقون به ولم يصدقوا انهم قبضوا عليه . وتمت تصفيته فجر اليوم الثاني , وسحلوه في ازقة المعسكر , وظهرت عليه كدمات كبيرة وجروح في انحاء جسمه , وربما استشهد قبل الفجر وإطلاق الرصاص كان للتمويه . لم يسلموا جثته مثل والدته , خوفا من ان تكون مزارا لكل من عزت عليه كرامته . وبعد استشهاده بسنتين تم تشكيل الحزب الشيوعي الكوردي , وبحماس اغلب لجنة الاقليم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري