الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السودانيون وذاكرة سبتمبر المشؤومة

خالد فضل

2015 / 9 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كلمّا أطلّ شهر سبتمبر من كل عام ,أعاد للسودانيين ذكراه الأليمة , إذ منذ العام 1983م ظلّ هذا الشهر مرتبطا في الذاكرة الوطنية بما عُرف بقوانين سبتمبر القمعية , وهي القوانين التي استنها نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري (توفي في2009م) بعد أنّ حكم السودان منذ العام 1969م , وأطاحت به انتفاضة شعبية في أبريل 1985م. تلك القوانين القمعية لعبت دورا خطيرا في تغيير مسار الحياة في السودان , وما تزال عقابيلها ماثلة فيما حاق ويحيق بالسودان والسودانيين من مآسي متراكمة , ففي ذلك الشهر تحديدا أكمل الرئيس النميري دورة الهوس الديني التي كانت ارهاصاتها قد انتابته منذ أواخر عقد السبعينات من القرن نفسه بإعلانه ما سُمي بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان , وما تبع ذلك من تغيير في طبيعة الدولة السودانية الموروثة من العهد الاستعماري . لقد تجلى تطبيق الشريعة الإسلامية في حفنة تشريعات جنائية تمثّلت في تطبيق الحدود مثل جلد شارب الخمر وبائعه وحامله ,وجلد الزاني والزانية أو رجمهما, وقطع الأيادي للسارقين الصغار , والقطع من خلاف والصلب لمن وصفوا بقاطعي الطرق , فيما شاع استخدام الجلد والحبس كعقوبات تعزيرية ملحقة بالقوانين الشرعية , تبع ذلك حملات اعلامية مكثفة , ونشر وإذاعة أحكام المحاكم الشرعية التي صدرت والتي نُفذّتْ , ومن خلال نشرات الأخبار الرئيسة في الإذاعة والتلفزيون الحكوميين كان المواطنون السودانيون يتابعون أخبار تلك المحاكم وعلى وجوههم حُلل المذلة بادية , فقد كانت الأخبار لا تُذاع بمهنية وإالتزام بالقاعدة الذهبية عن (قدسية الخبر) من حيث ماذا ومتي وأين وكيف ولماذا , بل كانت تنشر الأخبار موشّحة برغائب السلطان , مكتسية بهالة ما يريد نشره من ذعر وتشهير وإزراء بالمواطنين , فكان من الطبعي إذاعة خبر حكم بالجلد مثلا صدر ضد أحد المواطنين ثمّ يذيل الخبر بإضافة سيرة ذاتية للمدان تربطه بعائلة أو قرابة رحم بأحد المعارضين المشهورين لنظام مايو ضمن حملات التشهير والحط من شأن من يعارض الديكتاتورية والاستبداد , ثمّ بلغت مأساة تطبيق الشريعة في السودان قمّتها عندما تمّ اعدام المفكر الاسلامي الكبير ,مؤسس الحزب الجمهوري ومفترع الفكرة الاسلامية الجمهورية الشيخ محمود محمد طه في ينائر 1985م بتهمة الردّة وكان عمره وقتها 76عاما . في تلك الأعوام التي طبقت فيها أحكام الشريعة الاسلامية في السودان كانت الأوضاع العامة في البلاد تنؤ بأثقال من معاناة متزايدة , فقد اندلعت الحرب الأهلية في جنوب البلاد بصورة أشدّ ضراوة منذ مايو1983م , بعد هدنة واستقرارنسبي أعقب توقيع اتفاقية السلام في مطلع العام 1972م فيما عرف بإتفاقية أديس أبابا بين النميري وزعيم المتمردين الجنوبيين آنذاك جوزيف لاقو , الدورة الجديدة من الحرب الأهلية اندلعت إثر التمرد الذي قاده الراحل د.جون قرنق ديمبيور قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان (توفي في حادثة تحطم طائرة رئاسية يوغندية , يوليو2005م) بعد مضي ثلاثة أسابيع فقط على توليه منصب النائب الأول للرئيس عمر البشير كاستحقاق بموجب اتفاقية السلام الشامل (ينائر2005), تلك الاتفاقية التي أقرّت حق تقرير المصير للجنوبيين بعد ست سنوات انتقالية وكللت أخيرا باستفتاء جاءت نتائجه لصالح الانفصال بنسبة مذهلة قاربت 100%, وهنا نلمح اهمّ وأخطر نتائج تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان , ذلك البلد الافريقي ذي الطبيعة التعددية دينيا وثقافيا وعرقيا ولغويا ,وهي الطبيعة التي لم يلق لها دعاة تطبيق الشريعة بالا , وواصلوا نهجهم الغوغائي , لتبلغ الأحداث ذروتها بقيام انقلاب الانقاذ في العام 1989م , وهو الانقلاب الذي خطط له ونفّذه تنظيم الجبهة الاسلامية القومية (أحد مسميات جماعة الأخوان المسلمين) في السودان , بقيادة د. حسن عبدالله الترابي , أستاذ القانون السابق في جامعة الخرطوم , والحائز على شهاداته الأكاديمية العليا في جامعة السوربون العريقة . لاقت تلك القوانين وما صحبها من انتهاكات واسعة لحقوق الانسان في السودان معارضة واسعة, وقد تزامن اطلاقها مع تدهور اقتصادي مريع , ومجاعات ضربت انحاء متفرقة من البلاد , مع شح في معدلات هطول الأمطار , وتزايد وتائر الهجرة والإغتراب , وحدوث موجات عاتية من النزوح الداخلي من مناطق المجاعات صوب المدن وخاصة العاصمة الخرطوم التي أحيطت بسوار من معسكرات النازحين والفارين بسبب الجوع , ونشوب الصراعات المسلحة على خلفية التنافس حول الموارد المتناقصة خاصة في اقاليم دارفور وكردفان وشرق البلاد الذي شهد مجاعة فظيعة ضمن حزام الجفاف في منطقة القرن الافريقي , ومع تدهور قيمة العملة الوطنية وانهيارها في مقابل العملات العالمية , في تلك الأجواء الخانقة استن نظام النميري قوانين الشريعة للجم حركة المقاومة الشعبية المتصاعدة ضد سلطته ,وأردف ذلك باعلان حالة الطوارئ وتليق العمل بالدستور , ووجد السند في جماعة الإخوان المسلمين وزعيمها الترابي , فيما وقفت جميع القوى السياسية الأخرى تقريبا ضد سلطة مايو وأعلنت رفضها لتلك القوانين المشؤومة , وشملت قائمة المعارضين السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة وإمام طائفة الأنصار الاسلامية المعروفة , وقد نسب له تصريح مشهور واصفا قوانين الشريعة بأنّها لاتساوي قيمة الحبر الذي كتبت به, وبالطبع عارض تلك القوانين كل قوى الديمقراطية والاستنارة بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني وقوى اليسار من بعثيين وناصريين وغيرهم اضافة الى المجموعات غير المسلمة في السودان وبخاصة في جنوب البلاد, وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق.
بنهاية عهد مايو , وإنهيار سلطة الرئيس نميري (الذي أطلق عليه الاسلاميون السودانيون لقب إمام المسلمين ومجدد المائة الهجرية الجديدة )نتيجة انتفاضة أبريل 1985م المار ذكرها , عملت قوى الانتفاضة على إلغاء تلك القوانين , بينما سعت حماعة الإخوان المسلمين عبر المجلس العسكري الانتقالي , والذي رأسه أحد منسوبي الحركة الاسلامية (المشير سوار الدهب) للمزايدة باسم الشريعة والاسلام , خاصة بعد تكوين حزب بلافتة الجبهة الاسلامية القومية , وواصلت حملاتها الاعلامية المكثفة عبر آلة ضخمة قوامها مجموعة من الصحف , وفي استغلال تام للمناخ الديمقراطي وما يتيحه من حريات عامة وحرية الحركة والتعبير والتنظيم , ليتم ارجاء البت في أمر إلغائها لما بعد انتخاب الحكومة الجديدة , وهنا تنصّل السيد الصادق المهدي عن رؤيته الأولى وبدأت سلسلة من المماحكات , والمماطلات تحت ذرائع القوانين البديلة , والرغبة الشعبية والوزن الانتخابي وغيرها من أساليب قادت في خاتمة المطاف لتقوية تيار حركات الاسلام السياسي وبسط سيطرتها في مناخ من التخويف والوعيد والابتزاز , حتى تم تتويج ذلك بالقفز على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري في يونيو 1989م ليبدأ فصل جديد من مأساة السودانيين مع ما يسمى الدولة الاسلامية وتطبيق الشريعة . وبعد ثلاثين عاما على بدء تطبيق حكم الشريعة في السودان أي في سبتمبر 2013م , بدا كل شئ في السودان أسوأ مما كان عليه أيام تطبيق النميري للشريعة الاسلامية , وبعد أنْ دانت البلاد لسطوة الجماعة الاسلامية التي ساندت النميري حينها لشئ في نفسها , فبترت أراضي السودان لتقوم عليها دولتان , وزادت موجات النزوح الداخلي واللجؤ والهجرة بصورة غير مسبوقة و وبلغ الاقتصاد شفا الانهيار , وانهارت بالفعل العملة المحلية وكل المشروعات الزراعية والصناعية والخدمية , وانتشر الفساد والمحسوبية وضاعت الأخلاق والقيم التي كانت من سمات السودانيين , عندها هبّت مجموعات شبابية من سكان الخرطوم وبعض المدن في مظاهرات سلمية تندد بزيادة أسعار المحروقات وما ترتّب عليها من زيادة معانلة الناس , تصدّت فرق الموت والقنّاصة لتلك الهبّة الجماهيرية السلمية وفي غضون 48ساعة تقريبا , كان حوالي مائتي شهيد /ة قد أزهقت أرواحهم في الخرطوم وحدها , ومئات الجرحى ومثلهم من المعتقلين الذين تعرضوا لأسوأ أنواع التعذيب البدني والنفسي , وما يزال ملف هولاء الضحايا حاضرا في الذاكرة الشعبية السودانية مقترنا كذلك بشهر سبتمبر , والآن بعد مرور عامين ما تزال لجنة التضامن التي تم تكوينها على خلفية تلك الأحداث الدامية تواصل مجهوداتها حتى يتم فتح تحقيق شامل , ينال بموجبه المذنبون جزاءهم , ويشعر ذو الضحايا بسريان العدالة فتطمئن هواجسهم ويهدأ قلقهم , وحتى ينفتح باب أمل للشعب السوداني في تغيير شامل يعيد اليه دولته المختطفة باسم الله وشريعة الاسلام منذ نيّف وثلاثين عاما .يظل سبتمبر شهر للذكرى الأليمة كلّما حلّ والحال على ذات المنوال .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد