الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من كنوز الثقافة الصحراوية...

حمدي حمودي

2015 / 9 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



حمدي حمودي
كاتب من الصحراء الغربية

يظل النبش في كنوز الثقافة الصحراوية تحد و ضرورة , و يعتبر المحيط او البيئة
من ارض و سماء و ماء و انسان و حيوان , و تقلب الفصول و المناخ و ظواهر الطبيعة التي لا يمكن حصرها و التفاعل و التداخل بين كل هذه المتغيرات و غيرها في الازمنة المختلفة هي مواد و خامات و معادن يمكن الاستفادة منها كمصادر و معطيات للتوجه بها الى ان نفهما و نقطفها كثمار و محصلات و نتائج بذل الاجداد كثيرا من الوقت و العقل و الجهد لصقلها
و ليس علينا الا الاستفادة منها, لنقدمها لانفسنا و للبشرية جمعاء...
و سنقدم الان في هذه المقالة المقتضبة , كيف كان يفكر الاجداد في الاستفادة من تلك البيئة و كيف يفهمون و يستفيدون من المحيط و يحولون العالم المحيط بهم الى حياة تضج عقلا و حياة و فكرا...
ان الشعوب التي تهمل ثقافتها , تفقد اغنى و اثمن الكنوز و لا حياة لشعب لا ثقافة له
سنقدم اليوم الغراب كمثال على الاستفادة من المحيط...
الغراب اذكى الطير , و يعيش في كل بقاع و قارات العالم و ذكر في القرآن كاول معلم للانسان .
الانسان الصحروي يفهم مكر الغراب و طباعه , فهو جزء من بيئته و هو غير محبوب لديه , غير انه ليس هناك عداء معه ربما ان الغراب لونه اسود , و لا يؤكل و لكن الصحراوي ايضا يلبس نفس اللون للرجال كلثام , و للنساء كملحفة سوداء
و خيام الشعر سوداء ايضا ,التي تنسج من شعر الماعز الاسود في اغلب الاحيان , و بعض الامتعة "الفرو"* مثلا و ان كان قائل يقول ان الانسان الصحراوي ليس له خيارات اخرى في الالوان , فان الغراب الصحراوي اسودا كذلك و ليست له
خيارات ...
و يأخذ الانسان الصحراوي الحكمة من بيئته و اولها:
صفة الحزم او الحذر او الحيطة او الريبة او شك...التي يتقنها الغراب...
1 / "احذر من اغراب"
قالت لو امُّ : الى شفت حد لاه ادنكس , اهرب لعل اعود لاهي يكبظ حجرة اباش يخبطك"
كالها هو "من كالك عنو ما كان رافدها امعاه؟؟ "
و هو قريب من المثل الحساني "اشك من اغزال"
يضرب المثل "لشدة الحذر"
" أَحْذَرُ مِنْ غُرَابٍ"
" يقال ان الغراب اوصته امه فقالت له : ان رأيت احدا هوى الى الارض , فاحذر لعله يريد ان يلتقط حجرا ليرميك به
فقال لها "و ما يدريك ؟؟ رويدك!! , ربما انه كان يحمل الحجر معه "
لم يستفد الانسان الصحراوي فحسب من طباع الغراب , بل من لونه الاسود الذي يحيّره , و يبحث تفسيرا لعدم الرضى عن السواد خاصة ان السواد يذكر دائما بالليل و اهواله و السواد عكس للابيض المحبوب لديهم لون حليب النوق و الغنم و السكر و الاشياء التي يتفاءلون بها بركة لنفعها و فائدتها و ربما لخلفيتها الاسلامية في قوله تعالى :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 104 ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( 105 ) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 106 ) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ( 107 ) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ( 108 ) سورة آل عمران
2/ "لا توكل امانتك كيف لغراب"
اللي ما كحلو ماه اوكيل امانتو "
يضرب المثل في حفظ الامانة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
3/"لغراب اليمشِ مشية لحديّ"
و معناه " الغراب الذي يمشي مشية الحدأة"
و قصة المثل ان الغراب اعجبته مشية الحدأة , فاراد ان يقلدها فاستعصى عليه الامر , و لما اراد ان يرجع لمشيته
الطبيعية نسيها , فاصبح من المتذبذبين لا من هؤلاء و لا من اولئك.
يضرب المثل للشخص الذي يتخلق باخلاق الغير , فلا يحسن خلقهم و ينسى عاداته و تقاليده الاصلية.
و كل ذلك هو استفادة للانسان الصحراوي من حركة الغراب ...
4/ " بل امنين ازراقوا الغربان"
و معناه " اين صارت الغربان عصماء"
و هو كناية عن البعد ...
و يقابله قولهم
"بينهم ما بين السماء و الارض"
"ابعد اعليهم من الثريا"
ينبهنا المثل الى حقيقة ان الانسان الصحراوي كان على اطلاع بالمحيط حيث يعرف بالغربان العصم او التي فيها بياض
فلم يكن ابدا معزولا عن العالم , فافريقيا الغربية فيها غربان سوداء فيها بياض , و قد يكون في العنق كما في
الحجاز كما جاء في حفر بئر زمزم في عهد جد رسول الله عليه وسلّم عبد المطلب بن هاشم , و ربما كذلك انهم قرؤوا عن
قصة حفر بئر زمزم ... في كتب مثل السيرة النبوية لابن هشام المتوفي 833 م.
و هكذا استفاد الانسان الصحراوي من علّة ان لون الغراب الاسود عندهم و عند غيرهم فيه قليل من البياض.
كان الاعتقاد في الفأل الحسن عند كثير من الصحراويين منتشر , فلا يحبذون الغراب الوحيد مثلا في سفرهم , ربما اشارة الى الموت , و هو نوع من التطيّر المحظور في الاسلام , و ربما هو متعلق بالثقافة الاسلامية في القصة التي ذكرت في القرآن الكريم ,
قال تعالى" فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)"
سورة المائدة
ربما تفسير للقرآن في غير محله القرأن الذي ينهى عن التطير ...
5/ "قاق امع اثرك"
الاستفادة من صوت الحيوان الغراب , الغير محبوب...
يعني المثل التطير و الدعاء على الشخص بان يجد في طريقه النكبات و المشقات ...
و لأن لم يستفد منه كحيوان للاكل الى انه صالح لاشياء اخرى , اهمها الحكمة التي لم يذكر الله فيها الغراب جزافا
سبحانه , و قد فهم الانسان الصحراوي ذلك المنبع و حفر عنه فأخرج ماء الحكمة الذي سقى بها حياة العقل و الفكر.
ان تتبع آثار الانسان الصحراوي المـتأمل قد يقدم للانسانية الكثير و الكثير من الاجوبة على كيفية الاستفادة القصوى
من المحيط كان ما كان , خاصة اذا علمنا ان هذه تجارب مئات السنين...
و خاصة عندما نعلم ان الانسان الصحراوي رغم علاقته المتسائلة مع المحيط و مع الغراب الا انه يحرم قتله و ينبذ حتى من يرميه بحجر و هو ما يعني حمايته و هو ترك الابواب مفتوحة لكشف اشياء اخرى في الحيوان كما يحدث الان.
ان ما تقوم به الجمعيات و المؤسسات اليوم في الحفاظ على النوع , و ما اراده الله و حكمته في الكون هو ما فهمه الانسان الصحراوي منذ مئات السنين , يعني انه اسس للغد دون ان ندري نحن ذلك ...
و في الختام نقول ان هذا قيض من فيض عن هذا الحيوان الصحراوي , بل العالمي الذي استفاد الاجداد
منه في الامثلة الشعبية التي هي عصارة تفكير الشعوب و جزء من دستورها التي تنظم بها و تسهل اساليب حياتها :
1/صوته...........ذميمة "التطير" بالدعاء على المسافر.
2 /لونه ...........ذميمة "اكل الامانة".
3/ ندرة لونه.....صفة شدة البعد.
4/طباعه .........صفة عدم الثقة و الشك و الحذر
5/حركته.........ذميمة "التشبه الذميم بالغير"
6/حمايته .......فهم التوازن البيئي في الحفاظ على الانواع لتستفيد منها الاجيال القادمة في ظروف مختلفة.

و نستخلص من هذا البحث المتواضع اسلوب تفكير الانسان الصحراوي المتمعن في الاستفادة من الحيوان و ان لم يكن في الاكل و غيره ففي الحكمة التي هي غذاء الروح , و دستور الحياة , يلتقي فيها مع ما اراده الله في تسخيره لهذا الطائر ليعلم ابن آدم حكمة الدفن او مواراة العار و الظّلم .
يقول سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان: 38-39]
لم يكتب الانسان الصحراوي حكمه على ورق جاف يتمزق و يتلف , في بيئة قاسية و انسان رحال , بل حطها على بيئته و الصقها ملموسة في طائر يحلق بها بين يديه كل حين , و وفر له الحماية في منع قتله و تخويفه كي تبقى قريبة منه تلك الانوار المشعة.
انعاش الحياة الصّحراوية و اعطاء لكل شيئ في بيئته قيمة روحية , و اشراكه في حياته و مد حبل الوصال له , و تبادل المنافع معه.
ان ذلك التفكير يقودنا الى الحقيقة المهمة , ان الله لم يخلق شيئا عبثا , و لكل شيئ مراد , ان لم ندركه , يدركه غيرنا , و الاحوط ان نمشي على خطط وخطى الاجداد في حل مشاكل الحياة بحكمة و عقل و تبصر , و هذا جزء يسير من كنوز الثقافة الصحراوية العامرة بالابداع الفكري العميق , الذي يلزمنا ان نبني على اسسه و قواعده لا ان نبدأ كل شيئ من جديد , فتلك غباوة و حماقة و هدر للوقت و الجهد .
و بالمناسبة يظل المثقف الصحراوي يتحمل كل الثقل و المسؤولية في استخراج جواهر الفكر الانسان الصحراوي, لا يتركه
على جناحي طائر يحط و يرحل به اين يريد , و يعطيه القيمة و يثمنه و يعلبه في احسن قالب ليقدمه بضاعة تسوق للعالم ,تميزنا و هويتنا و انتماءنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل