الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - هيكل هبوط القمر (14)

حمودي زيارة

2015 / 9 / 21
الادب والفن


الفصل السادس

طالب في معظم الأوقات كان يقاسم بيمان وقته في السوق، يجالسه الى بعد منتصف النهار. يساعده في حانوته لبيع الجبن والحليب والحلوى. السوق الرتيب يأوي الى مساحة صغيرة تسترخي على أمتداد الخط السريع. يعفر مساحته غبار وقاحة عجلات السيارات النازلة على تراب الأرصفة. يجثم بصفائحه الثملة بأردان الصدأ، وأخشابه النافرة. يقع بعيداً نوعاً ما عن القرية. على وقع أيقاع السوق، تتمغط الخطوات في مداراته. تلقي الوجوه الغريبة نظرات متفرسة، من أجل أن تعطي رغباتهم فرصة لكي تنتقي ما تريد. وما يوشك أن يحزم ركام حيز السوق الضيق، الوجوه الغريبة القادمة من المدن البعيدة. تغوص الخطوات بركل غبار مساربه، فتبدأ الأصوات المقتضبة، تزنر رحابه الخجلى، وجنباته المتداعية. يستمر خليط الأصوات المرتعشة توقظ غفوته، حيث تبقى في دأب مستمر لنسج نبراتها في ثناياه، وتتفاقم على بواكير قبسات أتقاد النهار، كلما تناهت الباصات الى أماكنه.
***
تتبوء الخطى المدارات، وتتألب كرزمة من أجل أن تنتمي الى شتات السوق، والأصوات التي تشاوفت شرهة، ومقرفة بنحو مستاء. يتمرد المكان بأشلائه النافرة، ويتشظى بنوبة جنونية. يحتضن إنثيال حزنه، ويغص بتنوع مترهل. يهفو اللغط عالياً يعقد صبابته على قامات المآذن المتسلقة ترانيم الآذان، بحيث تدب الأصوات تنفلت، من وقار الصمت، بنمط ينم عن تغاير، يتميز عن أساليبه. يجنح الهوس صوب جانب قصي، يتمحور حول هالة أفق المكان العتيد. يبدو المكان كمآتم لقدر مقيت، وكقبو مهشم يكتظ بجثث عطنة. يستمر تتنامى الأصوات، وتعصف سادرة، بمن يصادفها بقدرة خرقاء، وتصطخب بوجه من حشر تواً في ثنايا السوق. أصوات تلثغ لكنات مختلفة. وأخرى تلوح هرمة متيبسة، وصوت غضير ناعم، وحادة وحريفة مره، ودافئة منداة مرة أخرى. مما أنشأ هذا المزيج المتعاقب، تكاثف معتل، كأنه يعلن عن فرح دفاق، في مقصف يقع في عهده حي فقير.
***
النساء كن الغالبية اللائي يتراكمن في كنف السوق. عجائز، متزوجات، مطلقات، تتصدرهن بضائعهن المبثوثة، بين فضاءات الدكاكين، قد تميزت من بينهن عجوز أنقشع عنها ري العافية، وتهالك جلدها مستلقياً على عظامها، تشرأب على ذبوله أوتار الأعصاب، فاترة كسيرة، بدأت حركاتها، عندما أنخرطت توشج حديثها مع شاب، دس قوامه للتو ببدلة كاكية ممزقة. كرست تطوحات يديه بأهالت دقاق من الرمل والغبار المغروس في تشابك خيوط بدلته. ند الشاب متقاذفاً بتأرجح رخو مثلما تنسل الأفعى من جرة الحاوي، ومستغرقاً في الكلام بأعصاب مشدودة وسحنة متشنجة، تحسبه عندما يهبط بيديه أثناء كلامه، كأنه يهم بضرب شئ صلب. الناس تطالعك بين متأوه ومتأنف. النظر يتقد بالأثارة حينما، برزت الأشياء تميل الى السكون. إذ ترمق الشباب يكبلهم الفتور بعدم الأكتراث لمرور الفتيات بالقرب منهم، وبتسأل موجع عن الحقيقة. يظل السؤال الوحيد الذي يذكي الأذهان. صمت ممض كأنه نذير ينبئ بقدوم أعصار مدمر يقوض البيوت، ويمسخ تفاصيل المدن.
***
طالب يراقب كل ما يدور في حنايا السوق، بألتياع ووجع، عندها ينبثق في ذهنه حكاية الوادي التي نصبت نيركز زوجته لها في كل بيت صورة مخيفة. وكثيراً ما ينتفض صوته، عندما تتصارع كلماته مع الجدل الذي يثيره هوس السوق، وكلمات بيمان:
- الحكومة مطرقة هائلة، تهرس عظام الفرح.
(هذا أخر ما صرخ به طالب).
يستمر السوق في اللامبالاة، يقبض على أوقاته، ويسمح لشتاته أن يرسم لوحة بيكاسوية بعفوية . يكشف من خلال مناداة بعض الباعة. البهظ الواضح في أرتفاع معظم الأسعار. السوق أستجلى عن جعبته بمكيدة جديدة. فقد ظهرت الأشياء تباع على غير عادتها. الشحاذون قد أزدحم بهم السوق. أقعى كل واحد منهم في الزوايا، ومنعطفات الطرق يعتمرون خرق متسخة. الباعة أستبدت بهم بلاهة متأنفة دون الأيام الماضية، فقد همدت لديهم الرغبة بالتباري في أنتقاء كلمات الأغراء، وصقل عبارات التجمل والتندر، فالسوق أمسى يعاني من الضألة والنضوب في السلع. حيث بدت المناضد حاسرة. والمواد شاحبة كأن ذبولها يعني ضياع المطر عن أحراشها، في مدن بعيدة ضجرت من تطفله، وكأن صوت متقيح بالحزن، يشنف همجية السوق قائلاً:
- اللعنة لسلالة هذا الزمن . لماذا الأيام تتمادى في حزنها.
ينتابك شعور قميء بأن نذير مدمر يوشك أن يحدث. في هذه الأثناء شق السوق، ريوان، مدرس القرية الذي غاب عن نواحيها لفترة طويلة، دون أن يعرف به أحد، وقد تشعث شعره، وتقبحت لحيته، وتقطب وجهه. يخطر بجسد ضامر كعادته مثلما كان يبدو في دروب القرية. تشفت ثيابه منحسرة عن عرقوب منتفخ النتوء، وقدم غارت بحذاء تنافر نسيجها، فبدت تثير السخرية، والترحم في آن واحد. سكن ساهماً فجأة في منتصف السوق بتبلد واضح، ألقى بنظره الى ناحية حانوت بيمان، فمال وجهه عندما حدّق به طالب. أرتجفت شفتيه كمن يريد أن يبكي، وشدها بقوة الى الأمام. وبغضب حاقن عصفت كلماته بفضح تمائم القدر، الذي طوعته الدولة لمآربها. وما ينتحل في جنبات الأيام، بحق الفقراء، ومايضمر في أحشاء مخابئ الخوف. تكتمت أنفاسه، وجاءت مع الدموع كلمات ملئها المرارة والتوجع. وبعنت يوغر القلب، صك أسنانه. وتغيب في الأرتباك والعربدة. برقت على شدقيه بقايا بصاق، وتابع يتكلم بنكد وقسوة:
- التضور، يحز أنفاس أطفالي التي تتوق الى كسرة رغيف.
وأطرد بغضب مجنون قائلاً:
- لِمَ الرغيف أصبح ثمنه ذهباً، وتأفف عن تنورنا. وأنا ألمحه بعيون مهزومة فتاتاً مبتذلاً .
كان يفرد سبابته طوراً، ويضمها طوراً أخر. لأحت على رقبته المتعفنة خطوط أوداجه النافرة، والدموع واصلت تسح بهوس ونهم. أنهال مرة أخرى بكلام يتسم بالشفقة والعطف:
- هل أقول لهم درب كيس الدقيق ملغز وطويل.
فصرخ:
- يا اله كيس الدقيق، أكشف لي سر طريقه، فقد ساومت أطفالي بحفنة طحين.
صرخ بحرقة وشد قبضته، وبنبرة حازمة أخذ يتوعد:
- سوف أسرقكم جميعاً فأنا كما النمل لي نصيب من متاجركم المتخمة.
وكان عندما يتحدث كأنه كمن يتذرع بمسوغ لكل ما تفوه به. لحظتئذ تولد واجس بالتيقن على ضوء أنفعاله المستشاط وأصراره الصادق بأنه لا يستطيع أن يشتري كيساً من الطحين. بادره طالب أن يأتي معه الى حانوت بيمان ليقوم بواجبه إتجاه. وقال له:
- لا أعرف بأن لديك أطفال.
نظر اليه ملياً، وقال بلهجة صارمة كسيل متوثب لفظ صخرته الكأداء:
- أنا لم أترك أطفالي يا طالب، أخذوهم رهينة من أجلي. ولهذا هربت الى القرية. لكني ساعود الى مدينتي .
حاول طالب أن يحقن ذهنه بالهدوء، بعد ما تبسم في وجهه، وأدرك بأنه فقد صوابه، ومصاب بنوبة نفسية. لكن لم يطفح على قسماته أي حافز أستمر في صراخه :
- أنا ما أتيت لاتسول مستجدياً رغيفي منكم. فالرغيف يعرف دروب الفقراء، ويتوق لفرحتنا بلذته.
شاح جاراً جسده بعيداً عن حماقة العيون. شق السوق كالمجنون، بعد أن أصلح ثيابه المتهدلة. كانت ثمة مفرزة عسكرية في مدخل السوق، أعترض طريقه رجل ملثم، تجلت في عينيه نية مبيتة، وسحبه من يده بقوة، بعد أن قال له:
- ستذهب معنا لأنك تطاولت على الدولة، وحان الوقت أن تكون خلف القضبان.
تفاجأ الكل عندما أنتزع ريوان مسدس من جيبه الأيمن وفتح النار عليه. ترجل جندي أخر من السيارة وفتح النار عليه، إخترق عدد من العيارات جسده. أخذ ينزف. علت الأصوات بهوس تمزق ذهول السوق. قذف طالب نفسه نحوه من أجل أن يسعفه بعد أن تركته المفرزة على الأرض وذهبت دون أن تكرس أي أنتباه له. تمتم ريوان بكلمات هامسة، تتضمخ مع خليط الأصوات:
- الملثم كان بيدار كبير العبيد .
بكى طالب بإلتياع بعد أن لفظ ريوان إنفاسه على لهاث صدره. صرخ بيمان بغضب ولوعة لموت ريوان، أخرج طالب مسدسه الماكوروف، وأخذ يطلق النار في الهواء، تمخض السوق عن مسيرة صاخبة، أجابت أطراف القرى الراكنة الى صلابة الجبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/