الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل المبالغة، أيضا، من عاداتنا وتقاليدنا؟!

سليمان جبران

2015 / 9 / 24
الادب والفن


سليمان جبران: هل المبالغة، أيضا، من عاداتنا وتقاليدنا؟!

قبل مدّة قرأت، في أحد المواقع الإلكترونيّة، عنوانا يتحدّث عن "تظاهرة حاشدة" كانت في حيفا. ما دامت التظاهرة حاشدة، قلت في نفسي، فلا بدّ أن تضمّ الألوف، أو المئات في أقلّ تقدير. فتحت الخبر لأقرأ تفاصيل هذه التظاهرة الحاشدة، فإذا بعدد المشاركين يتقلّص فجأة عمّا ورد في العنوان، فيبلغ "أكثر من مئة"، بكلمات المراسل. وهو تقدير لا يُفترض فيه، طبعا، أن يكون موضوعيًّا ودقيقا. كاتب آخر، من عصرنا هذا، يكتب بهذا الأسلوب حرفيا: ".. عليها ملاقاة أعدائها بالسيوف الدمشقية الصلبة والبتارة والمرصعة بالذهب الخالص، المنبثقة من معدن أسطوري ونادر من روح سيف ذي الفقار". إي والله! تقرأ فتعجب وتتساءل: هل المبالغة أيضا "من عاداتنا وتقاليدنا"، فلا يجوز لنا التخلّي عنها في كتاباتنا السياسيّة، وغير السياسيّة أيضا؟ لو اقتصرت المبالغة على رجال السياسة وكتّاب السياسة، دون غيرهم، لهان الأمر. تلك "سجيّة" ملازمة لهؤلاء في خطاباتهم وكتاباتهم، بحيث لم يعدْ بعض الناس يعدّونها مذمّة، بل يعتبرونها من مقتضيات المهنة. إلا أنّ المبالغة، يجب أن نعترف، لا تقتصر على الأخبار والمقالات السياسيّة، بل تتعدّاها إلى كتاباتنا عامّة؛ في السياسة والصحافة والاجتماع، والنقد الأدبي أحيانا. حتى في كتابات نتوقّع فيها الموضوعيّة، ينحرف بنا الأسلوب إلى المغالاة المفرطة؛ كأنّما ذكر الوقائع كما هي لا وقع له في الأنفس، ولذا لا بدّ من "البهار" يضاف إليها ليضفي عليها الإبهار!

أعود إلى السؤال: هل المبالغة "تقليد أدبي"، ورثناه عن الشعراء القدامى في مدائحهم ومراثيهم، فلم نعدْ نستطيع منه فكاكا؟ هل يجب علينا أن نجعل من الحبّة قبّة ليكون كلامنا بليغًا مؤثّرا ؟ هل من الضروري إذا أُعجبنا بشخص أن نجعله: أوفى من السموأل، أشجع من عنترة، أكرم من حاتم، أفصح من سحبان، أعزّ من كليب، أحكم من لقمان؛ هل يضير الشخص الممدوح، مثلا، إذا كان في صفات السادة المذكورين آنفا، ولم يتفوّق عليهم؟! وهل يجوز لنا أخيرًا، في هذا العصر، أن نقتفي آثار الشعراء العباسيّين، ونتبنّى مبالغاتهم، ونحن نعلم أنها كلّها كذب في كذب؟ تعجبون إذا عرفتم، مثلا، أن أحد الكتّاب عندنا وصف كاتبا آخر، فجعله: "صريحا، صادقا، نزيها، وأمينا، خيِّرًا وكريما، رحيما وحليما، حرّا، شجاعا وجريئا، مناضلا وطنيّا، نبيلا، صاحب مبدأ وله رأي وصاحب رسالة". أتخيّل "الممدوح" وقد أغرق في الضحك، حين قرأ هذه المتوالية من المديح اللانهائي!

ننظر أيضا في لقاءات التكريم لأدبائنا ومثقّفينا وغيرهم. ما أكثر ما يشكو المشاركون في هذه اللقاءات من تكريم هؤلاء بعد وفاتهم فحسب، والأجدر بنا تكريمهم في حياتهم، ليعرفوا أن عملهم يُقابل بالشكر وعرفان الجميل. هذه اللازمة ما زال كثيرون يردّدونها، رغم أن تكريم الأحياء بالذات غدا معلما بارزا في حياتنا الأدبيّة والاجتماعيّة، وهي ظاهرة إيجابيّة طبعا، إذا اتّسمت بالموضوعيّة والأسلوب الواقعي، بعيدًا عن المبالغات المقيتة. يكفي في هذه المناسبات، مثلا، ذكر ما للمحتفى به من سجايا إنسانيّة طيّبة، كحبّ الناس، ونقاء اليد والقلب، والغيرة على الصالح العامّ، والإخلاص في العمل، دونما تهويل وإطالة وإملال. لن يصغي إلينا الحضور، ولن يقتنعوا، إذا سمعونا نردّد أنّ المحتفى به " يذهب والإبشيهي يدا بيد... في الأعراس الأدبية ينزل الخيّال إلى الساحة.. فيصول ويجول... ويفرح الإبشيهي بالشيخ الجليل.. الذي أطلعه الجليل.. كان صديقا لسيبويه.. ويحسب له ألف حساب... كان صديقا لمهيار الديلمي.. فجمع المجد من أطرافه... اسألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي: من الذي ركب البحر.. فاعتلى الموجة المشاغبة وحاول كبحها وترويضها". جدير بالذكر، هنا، أن هذه "الخطبة" المغالية كانت في الواقع ردّ جميل، مقايضة يعني، على خطبة مماثلة سابقة، لم تقتصر على النثر بل تعدّته في خاتمتها إلى النظم أيضا:
أستاذ [...] أيا شبــلاً بمأســدةٍ /نحبّكم ونبـاهي فيكمُ الأُمَما
حيِّيتَ يــا رجلاً يسعى لمكـرمـةٍ / فأنت شهمٌ عزيزٌ تكرهُ الظّلما
وليس تنحني شموخا دائما وعُــلاً / تمضي عنيدًا بسبل الحقِّ والندما
أنت الذي في ركاب المجد مفخرة / وفي العليين لا، لا تعرف الندما
اِهنأْ أخي فقد حقَّقت مرتبةً / بين النجومِ فأنت النورُ ما عتما

نعم، هكذا نكتب في هذه الأيّام! ومثل المقتبسين أعلاه كثير، يُلقى حينا في الاحتفالات، وينشر في الصحف والمواقع الإلكتروبية مرّات ومرّات. ما جدوى هذه المغالاة التي لا تنفع المحتفى به شيئا، بل تصرف الانتباه عنه عادة إلى البلاغة الرخيصة والأسلوب الخاوي؟ لماذا "يشبّهونه بما ليس يشبهه، فيغرقونه في الإغراق ويغلونه في الغلوّ، حتى يأتي مبلولا ًمحروقا"؟!

المراثي "العصرية" أيضا غالبا ما تنقلب مسرحا للمبالغة والبلاغة المجوّفة. ألم يعلّمونا أن الرثاء هو مدح أيضا، لكن في غياب الممدوح؟ فإذا كان المدح التقليدي كذبا في كذب، فالرثاء التقليدي مثله طبعا، رغم جلال المناسبة، وفاجعيتها أحيانا. والمغالاة هنا لا تقتصر على ما يقال، بل على كمّية ما يقال أيضا. حضرت بنفسي ذات مرة أحد مجالس التأبين، فتواصل الكلام حوالى ساعتين ونصف، والناس جالسون كالرهائن، يستمعون ويستمعون، لاعنين الساعة التي قدموا فيها إلى هذا التأبين. مثل هذا التأبين يحطّ من وقع الحدث، ومن احترام المرثيّ، ما في ذلك شكّ. لكنّ الخطيب لا يعنيه الأمر، فهي مناسبة سنحت يُظهر فيها بلاغته، ولينفلق المحتجّون والمتذمّرون!

آخر تقليعة مستحدثة، في رثاء "القادة" أو "الزعماء" خاصّة، أن ينشروا قائمة بأسماء لجنة التأبين، فتطول وتطول حتّى تضمّ مئات الأسماء في صفحات عديدة. بعض هؤلاء في القائمة لم يعرفوا الفقيد، وآخرون لم يسمعوا به أيضا، ولا تعرف أصلا إذا كان بلغهم كلّهم نشر أسمائهم في "قائمة التأبين"... وليس لك إلاَّ أن تسأل: ماذا تفيد هذه القائمة اللانهائية من الأسماء في تكريم الفقيد، وإعلاء شأنه، وتخليد ذكراه؟ ثمّ تتوالى "المراثي" في الصحف والمواقع الإلكترونية، فتقرأ مع كلّ صباح مرثية جديدة لا تأتي بغير الكلام العامّ المكرور حتى الإملال، لتتعدّى المراثي في أحدهم أربعين مرثية! إذا كان عندك ما تضيف، في صدق وموضوعية وإيجاز، فأهلا وسهلا. أمّا أن تمتطي المناسبة لتأكيد فصاحتك الفائقة، وصلتك بالفقيد الكبير؛ حتّى إذا لم تعرفه حقّ المعرفة، فهذه انتهازيّة ومباهاة وتطفّل، لا الفقيد في حاجة إليها ولا الناس.

قبل أكثر من مئة وخمسين سنة، ضاقت نفس الشدياق، "جبّار القرن التاسع عشر"، بمن يستغلّون مصائب الناس وفواجعهم لإبراز عبقريّتهم البلاغيّة والأسلوبيّة، فسلقهم بقلمه علّهم يتّعظون، ولمّا يتّعظوا: "المؤلّف منهم بينا هو يذكر مصيبة أحد من العباد في عقله أو امرأته أو ماله، إذا به تكلّف لإيراد الفقر المسجّعة والعبارات المرصّعة، وحشّى قصّته بجميع ضروب الاستعارات والكنايات، وتشاغل عن همّ صاحبه بما أنّه غير مكترث به. فترى المصاب ينتحب ويولول ويشكو ويتظلّم، والمؤلّف يسجّع ويجنّس ويورّي ويستطرد ويلتفت، ويتناول المعاني البعيدة، فيمدّ يده تارة إلى الشمس وتارة إلى النجوم، ويحاول إنزالها من أوج سمائها إلى سافل قوله، ومرّة يقتحم البحار، وأخرى يقتطف الأزهار، ويطفر في الحدائق والغياض، من أصل إلى فرع ومن غوطة إلى ربوة"!

ملاحظة: لم نذكر أصحاب المقتبسات أعلاه، لأنّ غايتنا هي نقد الظاهرة فحسب، لا التعريض بكتّابها. لا ننسَ، أخيرا، أنّ الإنترنت تحفظ بأمانة كلّ ما ننشره؛ ما يتطلّب منّا جميعا الحيطة والحذر! ["أوراق ملوّنة" ص. 135 – 140.]


[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد