الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة 1/2

حسني إبراهيم عبد العظيم

2015 / 9 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفكر الاجتماعي
في الحضارات الشرقية القديمة 1/2

تعود جذور الحضارات الشرقية القديمة إلي ما يزيد عن سبعة آلاف عام, فلقد أسس الإنسان عدداً من الحضارات العظيمة على ضفاف الأنهار في مصر والعراق والهند والصين, كانت بمثابة الإرهاصات المبكرة في تطور الفكر الإنساني, وقدرته علي السيطرة علي البيئة المحيطة به, فتغلب علي صعابها, وقهر كل المعوقات التي حالت دون وصوله إلي المستوي الأرق والأفضل.

لقد شهدت الحضارات الشرقية القديمة بداية الفكر الاجتماعي المنظم, حيث قدمت هذه الحضارات أفكاراً متعددة حول علاقة الإنسان بأخيه الإنسان, وعلاقته بالقوي العلوية, كما طورت الكثير من التصورات حول النظام السياسي والاقتصادي والإداري والبناء الاجتماعي, ولقد خلفت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان علي تحقيق إنجازات كبري مازالت آثارها تشهد بعظمتها حتى الآن, فلقد كانت الشعوب التى أقامت تلك الحضارات بارعة في الاستخدام العملي التطبيقي للمعارف التي تملكها.

إن الحضارات الشرقية القديمة تمثل الأساس المتين الذي بنت عليه الإنسانية صرحها الفكري ـ بجانبيه النظري والتطبيقي ـ الذي وصل لأوج عظمته في الوقت الراهن.

وسوف نتناول في هذ ا المقال ملامح الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة من خلال المحاور التالية:

1ـ عوامل نشأة الحضارات الشرقية القديمة.
2ـ الملامح البنائية والثقافية للحضارات الشرقية القديمة.
3ـ الفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية القديمة.
(الحضارة المصرية نموذجا)

أولاً: عوامل نشأة الحضارات الشرقية القديمة:

تضافرت مجموعة من العوامل في الإسهام في تأسيس الحضارات الشرقية القديمة, فهذه الحضارات لم تولد فجأة بلا مقدمات, وإنما نتجت عن عدة أسباب تراكمت عبر فترات زمنية طويلة, وتبلورت بأوضح صورها في العصر الحجري الحديث الذي بدأ منذ حوالي عشرة آلاف عام قبل الميلاد.

ويمكن رصد أهم هذه العوامل فيما يلي:

1ـ اكتشاف الزراعة:

كانت الزراعة هي الخطوة الكبرى التي خطاها الإنسان نحو الانتقال من نمط الصيد والجمع المرتبط بالتنقل الدائم إلى السكن والاستقرار, ولقد كانت الزراعة بحق هي ثورة في تاريخ الإنسانية لما كان لها من آثار ضخمة في مسار التطور الإنساني , فلقد كانت الخطوة الأولي نحو المدنية الحديثة القائمة على العلم, لأنها كانت تتطلب المعرفة بمسار الحوادث, والتنبؤ بمجرى الطبيعة خلال الزمان.

ولا يعرف المؤرخون علي وجه التحديد متى عرف الإنسان الزراعة, ولكنهم يظنون أنها بدأت قبل حوالي عشرة آلاف عام ق.م, ويبدو أن اكتشافها كان عملية استغرقت وقتاً طويلاً, وتمت في مناطق متفرقة من العالم كان أبرزها شمال أفريقيا, وشرق آسيا وجنوبها, ومنطقة الشرق الأدنى, وكان القمح والشعير من أوائل الزراعات التي عرفها الإنسان.

وقد كان لمعرفة الزراعة تأثيرات واسعة على الإنسان, فقد أدت إلى الاستقرار الاجتماعي بدلاً من التنقل, وأدى ذلك بدوره إلى تأسيس التجمعات السكانية الدائمة التى تحولت فيما بعد إلى مدن وقرى, ونشوء نمط جديد من العلاقات الاجتماعية بين البشر, وكان ذلك كله مقدمة ضرورية لنشأة الحضارة والمدنية.

2ـ استئناس الحيوان:

وقد ارتبط بالزراعة عامل آخر مهم أسهم في تطور الحضارة الإنسانية, وهو استئناس الحيوان, ومن ثم الاستفادة به في بناء مدنيته وحضارته, فلقد شمل الاستئناس أنواعاً عديدة من الحيوانات ذات أهمية اقتصادية وتكنولوجية, حيث استطاع الإنسان استئناس أعداد كبيرة من الحيوانات استفاد منها في عدة نواح, فهي تمثل مصدراً غذائياً, حيث يأكل لحومها, ويشرب ألبانها, كما أنه يكتسي بجلودها وأصوافها وأوبارها, ويستخدم قرونها كأدوات قتالية, ويستخدم روثها كسماد للأرض, ووقود له, كما استفاد من قوتها في النقل, وسحب الأشياء الثقيلة, وغير ذلك.

ولقد كان الكلب هو الحيوان الأول الذي تم استئناسه, وذلك خلال العصر الحجري القديم الأعلى, وتم استئناس الأغنام والماعز والخنزير في الألف السابعة قبل الميلاد, ثم الأبقار والجاموس خلال الألفين السادسة والخامسة قبل الميلاد, أما الجمال والجياد فتم استئناسها في عصر المعادن خلال الألف الرابعة قبل الميلاد, وقد كانت مصر وشمال أفريقيا من أوائل المجتمعات التي تمكنت من استئناس الحيوانات, كما تدل علي ذلك المعطيات التاريخية.

ولا شك أن عملية الاستئناس كانت عاملاً مهماً في تطور الإنسان نحو المدنية, حيث استطاع الإنسان استغلالها جيداً في كافة مناحي الحياة المدنية والعسكرية, حيث يسرت له الكثير من المشكلات التي واجهته في هذه الفترة.

ونود أن نشير هنا إلي أن هناك ارتباط وثيق بين الزراعة واستئناس الحيوان, حيث يري المؤرخون أن هناك تزامناً بين الحدثين, وقد أثر كل منهما في الآخر.

3ـ اكتشاف المعادن:

لقد كان الكشف عن المعادن فتحاً عظيما آخر أسهم في تطور المجتمع الإنساني, لقد أدت معرفة الإنسان بالمعدن إلى انتقاله من مرحلة تاريخية معينة هي المرحلة الحجرية, إلى مرحلة أخري أرقي وهي عصر المعادن, حيث استطاع الإنسان أن يستبدل الأدوات الحجرية التي ظل يستعملها لأكثر من مليون عام إلي أدوات معدنية لها سمات متميزة وفوائد أكبر, ومزايا أعظم.

استطاع الإنسان أن يكتشف النحاس, وتمكن من خلطة فيما بعد بالقصدير مكوناً معدن البرونز, وسميت تلك الفترة بعصر البرونز, تم تمكن من الكشف عن الحديد, وعرف سماته, واستطاع أن يصنع منه أدوات عديدة, وبعد ذلك توالت اكتشافاته المعدنية, واستطاع بمهارة فائقة أن يحسن استخدامها بصورة رائعة.

وقد كان السومريون أول من نقي المعادن كالذهب والفضة والنحاس, وأول من صنع خليط البرونز, كما أن المصريين برعوا في تصنيع النحاس بما في ذلك تنقية الخام وخلطة وطرقه وصبه, كما أبدعوا في صناعة الذهب والفضة, وتدل الآثار التي تركوها على قدرة بارعة في هذا المجال.

4ـ تغير نمط حياة الإنسان:

أدت العوامل السابقة مجتمعة إلى تغيير جذري في نمط حياة الإنسان , حيث انتقل الاقتصاد من نمط الاقتصاد الزراعي القائم على وفرة الإنتاج, والمرتبط برعي الحيوانات المستأنسة, إلى نمط الاقتصاد الصناعي المرتبط بتصنيع المعادن واستخدامها، كما تحول الإنسان من سكنى الكهوف والغابات المختلفة, إلى الاستقرار في تجمعات سكنية ثابتة ودائمة, وقد كان كل ذلك بمثابة البيئة المناسبة والصالحة لانطلاق قدرات الإنسان وإبداعاته, وتحرر طاقاته, فبدأ في إقامة مجتمعات مستقرة, ونظم إدارية متطورة, وأنشطة اقتصادية ناضجة, وتلك كلها بمثابة الأعمدة التي قامت عليها الحضارة الإنسانية.

ولقد أدي التطور في النواحي المادية إلي اتجاه الإنسان في التفكير في الأمور الإنسانية والأخلاقية والدينية, فبدأ يفكر في فلسفة الحياة والموت، واحتمالية وجود حياة أخرى بعد الموت وكنه تلك الحياة, وبالتالي تبلورت لديه فكرة الثواب والعقاب, وشرع من ثم في صياغة العديد من المعتقدات والقيم التي اصطبغت بصبغة دينية, وكان ذلك جانباً آخر من جوانب التغير في نمط حياة الإنسان.

والحق أن الحضارات الشرقية القديمة قد عرفت مستويات مختلفة من الفكر الاجتماعي, والتأمل في الظواهر الاجتماعية المختلفة, غير أنها لم تصل إلى مستوي البحث المنهجي المنظم, وغالباً ما كان الفكر الاجتماعي مرتبطاً بالفكر الفلسفي والديني والأخلاقي, فلم تكن للفكر الاجتماعي سماته المستقلة كما هو الحال في الحضارتين اليونانية والرومانية، وهذا لا يعني أنه كان عديم الصلة والتأثير في الحضارتين المذكورتين, فكل المصادر التاريخية القديمة, والاكتشافات الحديثة, تؤكد أن العلاقات الاجتماعية والثقافية بين مختلف الحضارات القديمة كانت متواصلة منذ أقدم العصور.

فالفكر الاجتماعي في الحضارات الشرقية لم يكن عديم الفائدة, أو ليس له تأثير في الفكر السياسي والاجتماعي الذي ازدهر علي يد اليونان والرومان, ولكنه افتقر فقط إلى البنية النظرية والمنهجية المنظمة, التي تطورت لدي اليونان والرومان.

ثانيا: الملامح البنائية والثقافية للحضارات الشرقية القديمة:

اتسمت الحضارات القديمة بمجموعة من السمات الاجتماعية والثقافية أسهمت في بلورة الفكر الاجتماعي في هذه الحضارات، ويمكن تحديد أهم هذه السمات أو الملامح في العناصر التالية:

1ـ زيادة الكثافة السكانية:

أدي استقرار الإنسان في أودية الأنهار , وعمله بالزراعة إلى زيادة الكثافة السكانية بصورة مستمرة, مع ارتفاع ملحوظ في إنتاجية الزراعية, فبدأت تظهر القرى وتزدحم بالسكان، ثم ظهرت المدن, وكانت تلك بداية الاستقرار الإنساني المنظم, وترتب على ذلك ظهور علاقات اجتماعية جديدة, وتطور نظم اجتماعية متشابكة.

فلقد ترتب علي وجود عدد كبير من السكان في منطقة ما تطور في النظم الإدارية وأسلوب الحكم, وصياغة نظام لتوزيع السلع والخدمات بين السكان, وإيجاد نظام لفرض الضرائب وتوزيعها في مصارف معينة, وصياغة نظام تشريعي يتضمن قواعد قانونية وأخلاقية معينة.

2ـ نشأة علاقات اجتماعية ـ اقتصادية جديدة:

بدأ في إطار المجتمعات الشرقية القديمة نمط جديد من العلاقات الاجتماعية ـ الاقتصادية, فلقد استطاع الإنسان أن يغزو البيئة المحيطة به والغريبة عنه, ويستخلص أرضاً يملكها ويغرس ويحصد ويحتفظ بالباقي, إن فائض الطعام المنتج في شكل حبوب مخزونه أصبح بمثابة رأس مال أسهم في بروز أشكال جديدة من المعاملات الاقتصادية، فتطورت نظم المقايضة, وظهر الائتمان والتسليف نظير المنتج المستقبلي, كما أدت الحاجة إلى الاحتفاظ بحسابات وبيانات دقيقة إلي نشأة الكتابة والرياضيات.

وبما أن الأرض نفسها أصبحت مصدراً لتراكم رأس المال, فإن ملكيتها أدت إلى نشأة الطبقات الاجتماعية, حيث أصبح هناك طبقة الملاك, وطبقة المستأجرين, ووضح نوع من الترتيب أو التدرج الاجتماعي قائم علي أساس استغلال الطبقة العليا للطبقات الدنيا, وتطورت علاقات السيطرة من جانب الحكام على الأغلبية من المحكومين.

3ـ التطور في الناحية التقنية والصناعية:

تطورت الصناعات المعدنية, وتراجعت المصنوعات الحجرية, فتم صناعة حاويات لتخزين الحبوب من الفخار, وتم اختراع النول لنسج الملابس من الصوف والألياف النباتية, وتزايد استخدام النحاس في تصنيع المعدات وأدوات الزينة, وأدي التطور الصناعي إلي ظهور المهن المتخصصة كصانعي الفخار, والحدادين , والنجارين, والتجار, والإداريين .... إلخ.

وقد أُنشئت العديد من المشروعات الصناعية للاستفادة من موارد البيئة, فتم حفر القنوات وإقامة الجسور من أجل التحكم في مياه الفيضانات, وأنشئت مراكز علاجية ومستشفيات للعلاج بالأعشاب وغير ذلك, لقد بدأ في إطار الحضارات القديمة عصر الصناعات الكبيرة والتخصص المهني.

4ـ ظهور الكتابة وتطور العلوم والفنون:

كان توصل الإنسان للكتابة, وتسجيل الأحداث التي مرت به , والانجازات التي ابتكرها نقطة تحول في تاريخ الإنسانية , وبالإضافة إلي ذلك فلقد تطورت علوم النبات والحيوان, والفلك والأرصاد والرياضيات التي نشأت نتيجة تطور نظم المعايرة والقياس والعد, وقام الإنسان بتطبيقات نافعة لهذه العلوم في تحسين تقنياته الزراعية, وصناعة الغزل والنسيج والخزف, وغير ذلك من الأنشطة.

وقد أدي تطور العلوم إلى قدرة الإنسان علي تغيير البيئة المحيطة به, فقد أزال مساحات من الغابات, واستبدلها بزراعاته الجديدة, وتم حراثة الأرض وتسويتها وتنظيمها, وحفر قنوات الري, واستطاع استخراج المعادن وتنقيتها واستغلالها.

كما حدث تطور كبير في فنون الكتابة والنقش والرسم والنحت, حيث خلفت هذه الحضارات عدة أنواع من الكتابة كالهيروغليفية, والمسمارية, وتركت رسوماً رائعة وتماثيل ضخمة تشهد بروعة الجانب الفني في هذه الحضارات.

5ـ وجود المنشآت المعمارية الضخمة:

اتسمت الحضارات القديمة بوجود منشآت ضخمة ذات طابع طقوسي, وقد ظلت هذه المنشآت باقية حتى الوقت الراهن, ومثال هذه المنشآت الأهرامات المصرية, وأبي الهول, والمعابد الفرعونية المتعددة, والتماثيل الضخمة, وســور الصين العظيم, وحدائق بابل المعلقة, وغيرها من هذه المنشآت.

ولقد أقيمت هذه المنشآت لأسباب دينية طقوسية, كفكرة البعث والخلود لدي المصريين القدماء, كما كان للبعد السياسي دوره في ذلك, حيث كان الملوك يبنون قصوراً ومعابد ضخمة لكي تخلد أسمائهم وتاريخهم.

6ـ تطور بعض الأفكار الاجتماعية والثقافية:

حيث ظهرت قيم اجتماعية, مثل قيمة الانتماء, وقيمة الجوار, وتبلور مجموعة من الحقوق والواجبات المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية الراسخة في المدن والقرى, والقيم الدينية المرتبطة بالإله , والبعث والثواب والعقاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تمكن بايدن من تقليص الفارق مع ترمب في استطلاعات الرأي؟


.. البحرية الصينية تسمح للجمهور بالصعود على متن سفن حربية بمقاط




.. مديرة مدرسة في الهند تعض معلمة بعد أن صورتها وهي تخضع لجلسة


.. القوات الإسرائيلية تهدم مخبزاً على مدخل مخيم نور شمس بطولكرم




.. فايننشال تايمز تحلل أسباب الصمت الإيراني الإسرائيلي حول هجوم