الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني: الميثولوجيا والمارتيرولوجيا في تربية الشيوعيين

عادل عبد العاطي

2005 / 10 / 24
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


الميثولوجيا في اللغة هي الاسطورة؛ والمارتيرولوجيا هي الاحتفاء بالشهداء؛ أو قل هي روح القربنة؛ اى الاحتفاء بالشهداء – القرابين وتعليقهم ايقونات على الصدور؛ او بالتعبير القديم قل هى البكاء على الاطلال والقبور.
الشيوعيون في تطويرهم لملامح غيبية قوية في اطار ايدلوجيتهم التي يقال انها علمية؛ ادخلوا كثيرا من الميثولوجيا والمارتيرولوجيا قى نظامهم لتربية الاعضاء؛ وهذه ظاهرة يمكن رصدها في تجربتهم على المستوى العالمي؛ او في صيغتها المحلية في السودان.
هذه الاسطرة للتاريخ الخاص؛ والبكاء الدائم على قبور الشهداء – القرابين؛ تحول الحزب السياسي من كونه أداة للفعل السياسي؛ لتحقيق برنامج سياسي بعينه؛ الى هدف في حد ذاته؛ ويتحول الحزب نفسه – بفعل الاستخدام الطوطمي لتاريخه وقادته وشهدائه - الى اسطورة والي ايقونة يصلي تجاهها؛ او الى صنم جديد يعبد من قبل من رفضوا الاصنام القديمة.
يقول عثمان محمد صالح؛ في استخدام الشهداء في صنع ايدلوجيات الاستلاب السياسي والوجودي في شمال السودان؛ وهي الظاهرة التي مارسها الحزب الشيوعي عن جدارة:
"الإستشهاد مفـهـوم مـركزيّ بالنسبة للعـقـل السياسي لشمال السودان . إنـه " الفـصل " السـّري اللامكـتوب من برامج الأحـزاب السياسية و مكـوّن أساسيّ من مكونات صورة كل حـزب عـن نفـسه و آليات عـملـه في مجال الدعـاية و التـبـشـير و الإسـتـقـطاب. مـن العـسـير العـثـور عـلى حـزب سـياسي ـ راسخ ـ لا يمـتـلك فـعلياً أو يـدّعـي إمـتلاكـه لرصـيد من الشـهـداء في" بـنـك السياسـة "، وكـأن ممارسـة السياسة مـرادفـة للمـوت، لكن الأمـر ليس كـما يتـبـدّى للوهـلة الأولى، فالرسـالة " الخـفـيّة" تـقـول ما يلي : أنا حـزب الشـهـداء ، إذن أنا موجـود ! وبقـدر ما تطول قائمة الشهداء بقـدر ما يُـمـنـّي الحزب المعـيّن نـفـسـه بإكـتـسـاب عـمـر مـديـد . ( عثمان محمد صالح: الإسـتشهاد و الشـهداء في شـمـال السـودان : زاوية نظر سـوسـيولوجـية؛ فرناى – هولندا؛ 28/4/2004)
هذه الاسطرة للتاريخ والبكاء الدائم على الشهداء واستخدامها عاملا لربط العضوية بالحزب وتراثه الرمزي؛ نجدها تدخل في تربية الشيوعيين منذ أول ملامسة لهم للحزب؛ أى في مراحل الدعاية والتبشير والاستقطاب؛ وفي ظل واقع تنتشر فيه الافكار الغيبية والميتافيزيقية؛ ويأتى فيه الانسان الى مواقع العمل السياسي المتأدلج الى درجة كبيرة؛ مليئا بالحماس والنهج الرسالي؛ يكون لهذا المنهج بعض الفعالية مرات؛ ولكنه لا يؤدي بأي حال الى بناء الوعي النقدي والعلمي المرتقب في ومن حزب ثوري.
هذا المدخل لا يستخدم فقط للاستقطاب؛ وانما لزيادة لحمة الاعضاء بالحزب؛ حيث يصبح الارتباط بالحزب ليس ارتباطا ببرنامجا سياسيا محددا؛ وانما بتراث روحي طويل؛ ممتلئ بالشهداء – القرابين؛ الذين يملاؤا على العضو كل مسامات حياته؛ وتصبح قمة المني ليست الحياة والانجاز فيها؛ وانما الموت مستشهدا؛ وتصبح بذلك حقا ممارسة السياسة مرادفة للموت؛ ويكون حينها الخروج عن الحزب؛ اذا ما عاد يوافق آراء الانسان؛ او تم الاختلاف مع قيادته؛ بمثابة موت معنوي؛ وتخلي عن كل هذا التراث الروحي العظيم.
نفس الشي يتم انتاجه وتطويره عن القادة الأحياء ؛ والذين تروي عنهم ايضا قصص تقرب للأساطير؛ ويتم تضخيم انجازاتهم و"تضحياتهم" الى حدودها القصوى؛ ويفرض نوع من الغموض والسرية والهالا ت النورانية عليهم؛ ويتم التعامل معهم كشهداء – أحياء؛ ويكون مجرد استمرارهم في قيادة الحزب لعقود؛ غض النظر عن نتيجة هذا الاستمرار او سببه او مثالبه؛ مصدرا للفخر ؛ كعلامة للصمود؛ وتكون اى محاولة لنقدهم؛ فكريا او سياسيا؛ بمثابة هرطقة وكفر عظيم بالمقدسات والمقامات.
هذا طبعا لا ينفصل عن الطبيعة التقليدية للمجتمع السوداني؛ بكل ما فيه من ارث طائفي وعشائري وابوي؛ ووجود المؤسسات التسلطية والقمعية والقهرية التي اشرنا اليها سابقا؛ حيث سلطة الاب مستمرة على ابنائه وبناته حتى الموت؛ ولو بلغوا – وبلغ – من العمر عتيا؛ اما المريد فهو في يد شيخه؛ كالميت في يد الغاسل؛ والاستاذ في تعامله مع التلميذ لا يقبل حوار ولا نقدا؛ وزعيم الطائفة يكاد يُعبد من قبل اتباعه؛ الخ الخ؛ لذلك لا غرابة ان تنخرط القيادة اليمينية للحزب الشيوعي وان تنسجم مع هذا الجو العام؛ وان تستمرأه وتعيد انتاجه في حزبها الذي قيل انه "من طراز جديد" ؛ وخصوصا انه كلما كبر عمر الانسان؛ زاد ميله للحلول التقليدية وابتعد عن دعوات وممارسات التغيير والتجديد.
هذا كله يؤدي الي بناء عقليات غير نقدية؛ وسط عضوية الحزب الشيوعي؛ تتعامل مع حزبها بصورة صنمية؛ ومع قادتها بصورة عاطفية؛ وتؤدي الي الرد الرافض العنيف والتعامل بتشنج مع اية اطروحات نقدية؛ تأتى تجاه هذه القيادة او الحزب؛ وتجعل اعدادا كبيرة من هذه العضوية متحجرة تجاه النقد ودعوات التغيبير التي تأتي من خارج القيادة؛ وفي نفس الوقت تتعايش بخضوع مع كل ما تأتي به القيادة من سياسات وممارسات؛ مهما احتوت من تناقضات؛ ومهما صادمت مقتضيالت الواقع؛ او خالفت اهداف ومبادئ وبرامج وتاريخ وتراث الحزب؛ او شذت عن المنطق السليم؛ او تصادمت مع مصالح الشعب الملحة.
من كان يصدق قبل 5 سنوات مثلا؛ ان بعض الشيوعيون سيدافعوا عن تعامل قيادتهم مع حزب الترابي؛ وزياراتهم للرجل ومحاولتهم ادخالة حلبة السياسة السودانية من الباب؛ بعد ان اخرجه منها تلاميذه – الاعداء من النافذة؛ وانهم سيهاجموا كل من يرفض هذا السلوك الانتهازي؛ وانهم لن يألوا جهدا في ذلك؛ وسيطوعوا كل المناهج البراجماتية وسيجعلوا من الفسيخ شربات؛ لتبرير ما لا يبرر بالعقل والمنطق"؛ وينفوا ما هو معلوم بالضرورة.
من كان يصدق مثلا؛ ان يوافق بعض الشيوعيون على انخراط قيادتهم في صفقة نيفاشا؛ وتقديمها التنازلات الواحدة تلو الأخري تجاه نظام الانقاذ الدموي الفاشي؛ وان تدوس على دماء الشهداء؛ وان تجعل سقف مطالبها منخضا حتى عن مطالب الاحزاب الطائفية؛ وان تتراجع عن دعم ما طالب به المجتمع العالمي من محاكمة مجرمي النظام؛ والذين استشهد عشرات الشيوعيين تحت ايديهم؛ كما جاء في موقفها المضطرب من قرار مجلس ألامن رقم 1593؛ والذي عجزت قيادة الحزب الشيوعي اليمينية عن صياغة موقف واضح منه؛ بعد شهور عديدة من صدوره؟
التعامل الصنمي مع الحزب؛ يظهر كذلك في أدبيات الشيوعيين؛ في تقديم الحزب على الشعب؛ حيث نجد قولهم "شهيد الحزب والشعب " ؛ " قضية الحزب والشعب " ؛ " مصالح الحزب والشعب" ؛ الخ الخ ؛ ونحن هنا نتسائل؛ هل هذا الحزب هو كيان خارج الشعب؛ حتى يُميز عنه؛ وهل هو اهم من الشعب؛ حتى يقدم عليه ؟
من الواضح ان الشيوعيين ينظروا للشعب ومصالحه وقضاياه؛ من منظور حزبهم ومصالحه وقضاياه؛ ويعتقدوا ان حزبهم هو خلاصة الشعب السوداني؛ وان الانتماء اليه هو قمة الانتماء لذلك الشعب؛ وان كل الانتماءات السياسية والفكرية الاخري؛ هي مشبوهة باحسن الاحوال؛ وخائنة في اسؤاها؛ ومن هنا يتبدى ويُفهم لنا حجم الهستيرية والتشنج والعداء والكراهية التي يتعامل بها بعض الشيوعيين مع الخارجين عن حزبهم؛ حيث يعدونهم مباشرة خارجين عن الشعب؛ الذي تماهى لهم مع حزبهم.
هذا يفسر ايضا؛ كيف ان العديد من الشيوعيين؛ ممن توصلوا الى قناعات مخالفة تماما لاطروحات حزبهم؛ يتخوفوا من الخروج من ذلك الحزب؛ او الانضمام الى حزب آخر؛ وذلك بسبب من صورة ذلك الحزب الاسطورية في لاوعيهم؛ وحفاظا على العلاقات الاجتماعية والنفسية التي طوروها اثناء وجودهم فيه؛ وخوفا من السقوط في عيون "الزملاء"؛ والذين هم اشداء كل الشدة مع رفاقهم السابقين؛ والذين يقف معظمهم في الصف الديمقراطي والثوري؛ ورحماء كل الرحمة اليسوم مع قادة النظام والفاشيين مثل الترابي ومع الزعماء الطائفيين؛ رغم مواقفهم المعادية للشعب و"الحزب الشيوعي".
ان هذا ما يفسر وجود شيوعيين مغتربين داخل حزبهم؛ يلهجوا بلسان؛ وحزبهم بلسان آخر؛ وفي ذلك فانني اذكر ان احد الاعضاء في فرع الحزب الشيوعي ببولندا؛ قد كان يتبني اطروحات اقتصادية متطرفة في دعوتها ودفاعها عن الراسمالية؛ في اكثر اشكالها يمينية؛ ومع ذلك كان عضوا في الحزب الشيوعي. اذكر انه قد دارت لي محاورات مطولة مع هذا العضو؛ والذي كنت اقف على يساره من ناحية الآراء الاقتصادية؛ وذلك بعد خروجي من الحزب الشيوعي؛ ولم يستطع ان يقدم شرحا لانتمائه للحزب الشيوعي السوداني؛ مع تبنيه لتلك الاطروحات الاقتصادية الراسمالية المتطرفة؛ غير الانتماء التاريخي والعلائق العاطفية وعجزه عن قطع الحبل السري مع صورة ذلك الحزب الميثولوجية والمارتيريولوجية التى تربى عليها عبر السنين.
هذه الممارسات والعقلية والنهج؛ لا يمكن بأى حال من الاحوال ان تطور بناء علاقات سليمة فيما يتعلق بعلاقة العضو بالحزب؛ فالعلاقة هنا ليست مع تنظيم زمني؛ تقوم على الاتفاق على برنامج؛ والالنتزام بلائحة؛ وانما هي علاقة روحية ميتافيزيقية؛ يكون فيها العضو دائما تحت الضغط الهائل لميثويلوجيا الحزب؛ ولهيمنة قيادته؛ وهي هلاقة في حدها الادني تشكل علاقة استلاب؛ وفي اشكالها الاكثر تطرفا؛ تشكل علاقة عبودية.
ان صورة الحزب الشيوعي في عيون بعض اعضائه؛ او قل الصورة التي يربي عليها العضو؛ لا علاقة لها بعلم السياسة الحديث؛ حي الحزب السياسي ما هو الا اداة واحدة؛ من ادوات العمل السياسي. وليس العمل السياسي نفسه؛ الا شكلا واحدا من اشكال النشاط العام؛ لا تتوقف الحياة دونهما؛ ولا ينبغي ان يعطيا اكثر من حجمهما؛ كادوات لتحقيق اهداف اهم منهما؛ وهذه الاهداف هي ما تستحق النقاش والحوار والتمسك بها؛ طالما اقتنعنا بها؛ وليس الادوات المتغيرة؛ والتي يمكن ان تبلي وان تتغير؛ بمرور الايام وتبدل الاحوال.
هذا العلاقة الطوعية والصحية لعلاقة العضو بالحزب؛ والتي تفترض حق الاختلاف والنقد والخروج عن الحزب وتغييره؛ تنبع اساسا من مفهوم المواطنة؛ ومن حرية وكرامة الفرد وحقوقه ككينونة مستقلة؛ وان يكون المواطن هو الهدف والغاية؛ وليس الحزب او الايدلوجية او القائد؛ وهذا هو لب النهج الليبرالي او الديمقراطي.
بالمقابل فان علاقات الخضوع والاستلاب والعبودية؛ المطورة عبر آليات الأسطرة وعبادة الشهداء والقادة؛ أنما تنتمي الي مجال فكري واجتماعي آخر؛ اقطاعي - طائفي عشائري على المستوي الاجتماعي؛ وعقيدي رسالي ميتافيزيقي على المستوى الفكري؛ يُغيّب فيه الانسان لصالح المؤسسة ( التي تصبح طائفة)؛ وينسحق فيه التابع امام القائد؛ وتضيع فيه الحقيقة امام الاسطورة؛ ويتراجع فيه الواقع امام الايقونة؛ وينهزم فيه العقل امام الصنم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمجد فريد :-الحرب في السودان تجري بين طرفين يتفاوتان في السو


.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي




.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض


.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا




.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24