الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتظار

عبدالكريم الساعدي

2015 / 10 / 14
الادب والفن


انتظار

بعد عناء طويل، أقتطف تذكرة السفر فرحاً، أحزم حقائب شوقي لامرأة لم أرها من قبل، تداعبني أحلام اليقظة, تسابقني الخطوات، وأنا أشاكس ضوءاً مندلقاً من بين عربات القطار، يتلو بعض انتظاري. كانت عيناي معلّقتين بعقارب الساعة، لمّا تطهّرت بدمي عند لحظة غياب، معتّقاً بالندم، تائهاً وسط ضجيج المسافرين؛ فتراني آخيت متاهات الدروب، مذ أتيت هنا، متخبطاً أسير على ذات الدرب، خطوة خطوة. الهنا محطة لا غير، يلفّها العويل ودخان كثيف ورائحة شواء، قابع فيها وحدي، قدماي تطويان أرصفة الذعر، ذراعاي معلّقتان في فضاء مغلق، أبحث عن نافذة، أتنفس جحيم احتراقي، ظلّي يهرب إلى جهة قصية، أهرول إلى منعطف التذكّر، أنشد حكاية قديمة، تبوح بجرح ما زال فاغراً فاه؛ لعلّي أرتّب ما تبقّى من ثياب الأماني، أعبر ضفة المحطة، أقتفي أثري، عيناي تخطّان حلماً يعزف تراتيل الأمس، أمضي على عجل صوب البدايات، كان الفجر يتنفس براءتي؛ وأنا أحبو بين بساتين النخيل، مرايا ( نهير الليل)* تداعب خيالي، أخلع قماطي، أرتدي ماءه، أبحث عن سرّ وجودي. خالي الذي رأيته في أول المحطات، عند طرف قريتنا البائسة، يهتف بالجموع أملاً، دثّرني بهمسه،
" أراك تتبع خطى الحرائق، عد إلى قريتك فما زال الوقت باكراً "
آنسته وهجاً في حلكة الليالي، ألوذ بكلماته زهواً، مرتدياً ظلّ خطواته، وأمضي منتشياً بعبقي السومري، أحطّ الرحال على ضفاف السواقي، وتراب الحقول، خضرة وماء، طيور البط والخضيري وأم سكة، حكايات تنبلج منها رائحة التبغ ورنين دلّة القهوة، كانت أنفاسي تدغدغ سعف النخيل، تشدو غناء بقصائد السياب، فرحاً أغازل شناشيل بنت الجلبي، أهطل حبوراً على شط العرب، أنزف مطراً. وحين أزهرت الأرض جفافاً في غفلة منّا، انتصبت الأحزان جسراً يحملني إلى المدن البعيدة، غريباً أهبط هناك، خلف السدة الترابية، شرق العتمة، والقلب يخفق شوقاً لظلّ شجيرات الحناء، لظلّ أبي، ودثار أمي. كانت المدن رقعة شطرنج بلا ملوك، وكنّا بيادق لا لون لها، تحركنا أيد خفية، ولمّا امتنعنا عن اللعب، ولم نتحرك فوقها؛ كانت المنافي رقعتنا، وفضاء من مواجع تأسرنا. أوقدوا نار الحروب، لم تكن برداً وسلاماً، لثمنا ضرع الخراب وسنوات التيه، نلهث خلف أحلام من سراب، أحلام بعرض السموات والأرض، نهذي بملامح تحلم بالفناء؛ فتعمّ العتمة ولم نسمع آذاناً للفجر... هكذا تولج محطة قلب أخرى، فلماذا تتّشح كلّ المحطات بالحنين لأيام خلت؟ ولماذا تنتصب الآن أمامي؟،
" إنّه لأمر عجيب، من أيقظ رقاد السنين؟ "
أنفاسي تتوقف عند نداء ينطلق من أقصى المحطة،
"جاء القطار".
المسافرون لملموا حقائبهم، عيناي تعانقان ظلّ شبحين يهبطان من علو، يرتديان ثياباً من ضباب ناصع البياض، تلفّني موجة هلع، أرتبك، أرتجف رعباً، أبحث عن منفذ، ولو ثقب إبرة، أحاول أن أتحسّس ساقيّ؛ كي أطلقهما تسابقان الريح، يصيبني الذعر، كنت بلا ذراعين، عيناي تحدّقان بي عن بعد، تغرقان في موجة دمع، يداي تلوحان لي بالوداع، لم يكن أمامي غير أن أتدثّر بآخر أنفاسي، تاركاً أشلائي وصرة أسفاري على رصيف مكتظّ بالنواح. ابتسمت لعقارب الساعة المعلّقة على بوابة المحطة...كان الموت صحواً.

* نهير الليل: نهر يقع في محافظة البصرة، كان يسكن حوله فقراء الناس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق