الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكرة الخفية والإله الخفي

فاتن نور

2015 / 10 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يجيب ليون ليدرمان، العالم الفيزيائي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1988 بطريقة ذكية وشيقة على تساؤل يراود لربما الكثير من البشر ومفاده؛ إذا كنّا لا نستطيع رؤية الذرة ولا يمكننا تحسسها فكيف أصبح وجودها حقيقة تُدَرَّس.
يشي هذا التساؤل بطابعه الميتافيزيقي؛ أي بوجود مصمم للكون لا يمكننا رؤيته أو تحسسه ولكنه موجود هو الآخر وجوداً حقيقياً، وهذه النقلة من المنطق العلمي الى المنطق الغيبي تكشف، بتصوري، عن عمق الخلل عند الخليقيين في فهم منطق التشبيه والمقارنة. وليدرمان يسأل ومن باب الوجع العلمي لربما؛ لماذا أنتم متأكدون من وجود "بابا الفاتيكان" مع إنكم ترونه من خلال شاشات التلفزة؛ أي من خلال حزمة من الألكترونات ترتطم بشاشة فسفورية.
والمقصود من قوله؛ هو أننا نرى ما لا نستطيع رؤيته بالعين المجردة، من خلال وسائل العلم المتطورة التي تجاوزنا بها الذرة وفهمنا التقليدي لها، الى الجسيمات دون الذرية مثل الكوراكات المكونة للبروتونات والنيوترونات، واللبتونات المتضمنة الألكترونات والألكترونات عديمة الشحنة. وقد اتخذ ليدرمان عنوان (The Goddamn Particle) لمؤلفه عن تاريخ علم الجسيمات الذرية، ربما تعبيراً عن الأهمية القصوى لبوزونات هيغز التي افترضها العلماء منتصف ستينات القرن المنصرم ثم تأكد وجودها عبر /LHC مُصادِم الهدرونات الكبير عام 2012، والمعول عليها لسد الثغرات في النموذج المعياري للكون وحل اللغز الكوني؛ واعتزازاً بهذا الإنجاز العلمي الكبير الذي تحقق بشق الأنفس والمثابرة العلمية.

وفي مؤلفه الذي استقر عنوانه على (The God Particle) بمعنى جسيمات الله بعد أن رفض الناشر الإسم المذكور أعلاه بمعنى الجسيمات اللعينة؛ يستعير ليدرمان لعبة كرة القدم كأقصوصة يُبسِّط من خلالها المنهجية الأكاديمية لطبيعة الشغل العلمي الموصل لاستنتاج وجود الجسيمات اللامرئية. يحكي وبتصرف:
تعالوا نتصور كائنات فضائية جاءت من كوكب آخر لزيارة أهل الارض، تشبهنا في الشكل والذكاء مع اختلاف الثقافة والحضارة. الفرق الوحيد هو أنهم لا يبصرون اللونين الأسود والأبيض. ولا يدري الطرفان بهذا الفرق. ولنتصور أن فريقاً منا اصطحب فريقاً منهم للتفرج على لعبة كرة القدم بصفتها رياضة محلية تخص كوكب الأرض؛ ودون أن يذكروا لهم اسمها أو تفاصيلها. الكرة بلونها التقليدي الأبيض والأسود، غير مرئيّة تماماً بالنسبة للفريق الفضائي. ومع بداية اللعبة تبدأ الحيرة والاستغراب بالتسلل إلى وجوههم. لم يتمكنوا من فهم ما يجري، أناس يتراكضون هنا وهناك ويركلون الهواء في ساحة كبيرة. يسقطون وينهضون بعجالة ليتابعوا الركض والركل واللهاث؛ فيما يعلو تصفيق هنا أو ينطلق صفير هناك أو صرخة مفاجئة. كل شيء بدا غامضاً يتوسل التفسير؛ فراحوا يتشاورون فيما بينهم حول ما يحدث ولماذا يحدث بالشاكلة التي يحدث عليها، وكان استنتاجهم الأولي هو أن اللعبة في الحقيقة عبارة عن مباراة بين فريقين متكافئين في العدد، وكل لاعب له قطاع خاص من ساحة الملعب يدافع عنه، وثمة تناظر في توزيع القطاعات بين الفريقين وثمة حكم.. الخ. مع هذا اخرجوا حواسيبهم الخاصة وبدأوا يشتغلون على ما توافر لديهم من معلومات. وبعد جدولة المعلومات وإعداد رسوم بيانية لأداء اللاعبين والمتفرجين، وعقد المقارنات ومقاربات النتائج؛ توصلوا الى حل الكثير من شفرات اللعبة؛ لكنها ظلت مبهمة وعصيّة على الفهم حتى تدخل أحدهم وقال؛ تعالوا نفترض أن هناك شيء ما يركلونه. ليكن كرة مثلاً، كرة لا نستطيع نحن رؤيتها لسبب أو آخر. تسارع الفريق لدراسة هذه الفرضية فدخلت الكرة المفترضة في حساباتهم وتم فحصها ومراجعة البيانات على أساسها، فإذا بكل شيء يصبح واضحا جلياً، كل ركلة لها معنى وقيمة، كل تصفيق أو صفير له ما يبرره... الخ. انتهى.
فرضية "الكرة الخفية" في أقصوصة ليدرمان هذه؛ فسرت كل شيء بدقة، وتضمنت أجوبة شافية لكل التساؤلات فأزالت اللبس والغموض وارتقت الى مستوى النظرية، التي بدونها لا يمكن لأهل الفضاء فهم لعبة أهل الأرض أو وضعها حيّز التطبيق والممارسة على كوكبهم بإدخال كرة مرئيّة في المباراة.
بشكل عام؛ أي نظرية علمية لابد أن تجيب على كافة الأسئلة المتعلقة بالموضوع الذي وضعت النظرية من أجله، وأن تستوفي كل الشروط العلمية وباتساق مع القوانين الطبيعية. ولا يمكن اخضاع الشغل الغيبي، لو وضعناه جدلاً في الكفة المقابلة؛ لمثل هذه المنهجية وذلك لخصوصيته، كونه مبني على الإيمان الصرف وليس على قاعدة معلوماتية من الأدلة والبيانات. لهذا يصعب التحاور مع أهل الدين أو محاججتهم من منطلقات علمية بحتة؛ لأن الدين لا ينطلق منها ولا يبنى على أساسها ولا يعمل بموجبها.
لقد حاولت الكنيسة إخراج "نظرية" الخلق من قالبها الديني الغيبي الصرف الى قالب النظرية العلمية كي تقابل نظرية التطور الداروينية؛ وتتأخذ لها موقعاً نديّاً في مناهج التدريس العلمي؛ كونها ومن وجهة نظر المنظرين للكنيسة؛ تفسر الذكاء البيولوجي وتعقيداته التخصصية التي لا يمكن اختزالها وليس لها صوراً تطورية متسلسلة من البسيط الى المعقَّد. وغيرها من الطروحات الهشة بالقياس العلمي والتي أجاب عنها العلماء مع أنهم لم يأخذوا "النظرية" على محمل الجد.
لكن المفيد حقاً في قولبة نظرية الخلق الغيبية ومحاولة تقديمها كنظرية علمية، هو أن المنظرين قد سدّوا كل المنافذ الميتافيزيقية على أنفسهم وكانت لهم مهرباً لفذلكة الإجابات أو تعليقها على شماعة الخالق المطلق بعلمه وحكمته، وألزموا أنفسهم بتقديم إجابات عقلانية واتباع منهجية علمية في المحاججة وضمن أُطر المعرفة البشرية وفي غمارها؛ من أجل إقناع المجمعات العلمية بأن الكون مصمم تصميماً ذكياً بعيداً عن الخوض في الغيبيات والماورائيات وغيرها مما لا يسمح به المجال العلمي.

ولو حاولنا جدلاً التعامل مع فكرة التصميم الذكي أو الإله الخفي، ولجأنا الى فحصها على غرار مافعله أهل الفضاء في أقصوصة ليدرمان مع فكرة الكرة الخفية؛ سنجد أنها لا تفسر شيئاً ولا تجيب عن شيء، بل على العكس، ستزيد الوضع غموضاً وتعقيداً وستجعل المصمم لو حاولنا تصوره بصفته علة التصميم؛ يبدو مقيداً ومعتمداً على مبدأ المحاولة والخطأ مع ترك الأخطاء في بنية التصميم دون تصحيح أو تحديث. ندرج أدناه بعض أنماط المحاججة المطروقة في هذا المضمار:

يعول منظرو التصميم الذكي على خاصية الدقة والتوافق في الكون، ويركزون على مسألة تعذر حياة الإنسان لو حصل أي تغيير طفيف في بنية النظام الشمسي، أو لو تغيرت الثوابت الفيزيائية التي تحكم الكون مما سيؤول لانهياره، ويحسبون هذه الحالة تصميماً ذكياً، بينما يرى العلماء أن هذه الخاصية تحتسب ضد التصميم الذكي لا لصالحه؛ فتعذر وجود الحياة إلا في حالة واحدة محددة بمواصفات معينة، ليس من الذكاء بشيء لانعدام المرونة وغياب تعدد الخيارات. كما أن الكون غير مستقر منذ نشأته وفي حالة "أكشن" مستمر أي حالة فعل ورد فعل.
وجود إنسان مقيد بالأوكسجين ولا يمكنه تنفس غازات بديلة في حالات الضرورة والاضطرار على أقل تقدير؛ يصعب فهمه كتصميم ذكي. والقائمة ستطول لو أردنا سرد "تصاميم" فسلجة الأحياء في الطبيعة وما عليها من مؤاخذات.
لا يفسر التصميم الذكي الكوارث الطبيعية وما يصاحبها من فواجع إنسانية، ولا يفسر ولادة أطفال معاقين. وكيف لنا أن نتصور كل الأمراض والعاهات والآفات كضرورة من ضرورات التصميم الأحيائي. فمثلاً؛ صناعة حواسيب مجهزة ضمناً بشتى أنواع العلل وبفيروسات تعيق تشغيلها أو تؤدي الى تعطيلها كلياً لا يبدو أمراً رائعاً ينم عن ذكاء.
الصراع الدموي من أجل البقاء بين الكائنات الحية؛ لا يبدو ضرورة ذكية من ضرورات التصميم.
ما وجه الذكاء في أن تكون 97% من المياه التي تغطي سطح الأرض مالحة ولا تصلح للاستهلاك. وما وجه الذكاء في ظواهر الانقراض والتصحر التي تهدد الحيوانات والنباتات وكوكب الأرض برمته. ونكتفي بهذا القدر ونقول:
بعد أن فشلت مساعي الخليقيين والكنيسة من ورائهم، في تغيير التعريف العالمي المعتمد للعلم لتدخل في سياقه الغيبيات والروحانيات، وبعد أن قضت المحكمة الأمريكية عام 1987 بعدم دستورية تدريس نظرية الخلق في المدارس الحكومية؛ جاءوا بفكرة قديمة تمتد بجذورها لفلسفة ما قبل الميلاد وكانت قد ظهرت بصياغات مختلفة مثل اصطلاح اللوغوس، المحرك البدئي، الذكاء العلوي والدليل الغائي؛ وقدموها بقالب التصميم الذكي. ومازالوا يكدحون من أجل رفعها الى مصاف النظريات العلمية مع أن الكثير من جمهور "نظرية" الخلق يرفض فكرة التصميم الذكي، وقد تعرضت لنقودات كثيرة ووصفت بأنها نظرية سطحية فجة، تهمش الخالق وتجعله مجرد مهندس للكون. إنما الأبشع بتصوري وربما المعيب؛ هي محاولة تقديم الحجج والأدلة على أنه مهندس ذكي.
والتساؤل المحوري؛ هو ماذا ستقدم فكرة التصميم الذكي للإنسان لو اعتمدها المجمع العلمي كنظرية علمية؟ وكيف ستقدم النظرية صورة المصمم بطريقة علمية بحتة دون الخوض في الماورائيات، وما هي الآليات والمعايير العلمية التي ستطرحها لقياس ذكاء المصمم واختباره؟ وهل سيجرؤ منظروها على تحديد الثغرات ومواطن الضعف والخلل في نظريتهم مثلما يفعل العلماء مع النظريات العلمية على أساس أن لا حقيقة مطلقة.. فالحقيقة المطلقة من السبع الموبقات في المجال العلمي..


فاتن نور
Oct 15, 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى


.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة




.. #shorts - 49- Baqarah


.. #shorts - 50-Baqarah




.. تابعونا في برنامج معالم مع سلطان المرواني واكتشفوا الجوانب ا