الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتَبقَى طفلةُ العصافير الموسميّة*

عفيف إسماعيل

2015 / 10 / 30
الادب والفن


«ما أجملَ الفتى، خفيفاً... خفيفاً، هابطاً في المياهِ، لا يَرَى سوى خُصلةِ الحوريَّـة».
سعدي يوسف
في أوائل التسعينيَّات من القرن المنصرم، في تقليدٍ حميدٍ وحميمٍ للتفاكُر وتبادُل الآراء، دَعَاني ابن مدينتي الحَصَاحِيصَا المغنّي الملحِّن الهادي جمعه جابر؛ أحَدُ المؤسِّسين لمجموعة ساوْرَا الغنائية، إلى حضور البروﭬ-;---;--ـات التحضيرية تمهيداً لبدء انطلاقها في أفق الغناء السوداني الواسع. إلى جانب الفكرة الواعية نفسها في استصحاب آخرين يقيِّمون تجربة ساوْرَا، قبل انطلاقها، من مواقعهم الإبداعية المختلفة، فقد كان الحضور يشملُ أطيافاً من الموسيقيين والشُّعراء، والتشكيليين، والمسرحيين، والنقّاد، والعديد من طلاب الجامعات والمعاهد العليا بالخرطوم. كانت هناك أكثر من مفاجأة تنتظرني:
الأولي: تلك الأغنية الساحرة الطازجة الشعر، كشأن ساوْرَا مع كل نصوصها الشعرية، الأغنية المعنونة بـ«طفلة العصافير الموسميّة» للمسرحي والشاعر مجدي النور، الذي رحل عن عالمنا إلى الضفة الأخرى في أواخر العام 2006م، قبل شهر من عيد ميلاده الأربعين.
الثانية: أن أستمع إلى أجمل صوتٍ غنائيٍّ نسائيٍّ سودانيٍّ من فصيلة «السوبرانو» وهو صوت المغنّية هناء عبيدي، على حسب تقديري، الذي يمكن أن أُغمِض عينيَّ وأسمعه إلى الأبد.
الثالثة: أن تعلن تلك البروﭬ-;---;--ـات ميلادَ ملحِّنٍ وُلدَ عملاقاً، وهو الموسيقار عبد الوهاب وردي. ليس للأمر علاقة بالوراثة الجينية فقط، التي لا نقلِّل من شأنها، بل لأنّ له خصوصيته في التلحين، وله زوايا رؤيته الموسيقية الواضحة البصمة والتفرُّد والجَمال والخيال، بعيداً عن ذاك الأسد فنّان إفريقيا الأوّل محمد وردي.
عندما بدأت المجموعة تشدُو بأغنية «طفلة العصافير الموسميّة» التي جانَسَ فيها الشاعر مجدي النور بين معارفه الدرامية والسردية، والشعرية، انتابتني حالة تشبه الجذب الصوفي المبين، وطارَت بي الأغنيةُ إلى سماواتٍ لم أدركها من قبل، وصرتُ طليقاً مثل طيرٍ تخلَّص حتى من الفضاء نفسه، وليس أمامه جوارح أو فخاخ، حالة من العذوبة والشفافية والانبهار والسموّ والسُّكر والانعتاق والتخلُّص من الوزن والزمكان، ومن برزخ الما بَين، ومن الهموم الآنيّة والدَّوران اللهاث اليومي لِمَا يَسدّ رمَق الحياة. تناولتُ في تلك اللحظات، بمتعةٍ فائقةٍ وجبةً كاملةَ الدّسم من غذاء الروح ما زالت تسندني حتى الآن.
تتبَّعتُ بعد ذلك خطوات الشاعر والمسرحي الراحل مجدي النور الفارهة وإسهاماته المتعدِّدة في مجالات إبداعية مختلفة أبرزها آثاره المسرحية التي ينطبق عليها قول غبريال غارسيا ماكيز: «الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فناً»، فمجدي النور المسرحي، في أغلب مسرحياته التي كتبها، يتجوَّل بين المنسيّ، بين أبصار الآخرين، بين اليومي العابر/الهامشي/ الدّارِج/ ليُؤَسْطِرَ اللحظةَ الساكنةَ والعادية، ويُخرجها من كمونها وعاديّتها إلى أفق السحرية، لتعرض واقعاً مأساوياً يُضحِكك إلى حَدّ نهنهات البكاء. ويَعْلق بذهنك، مثل نصلٍ مازقٍ، السؤالُ الذي سوف تظلّ تبحث بنهمٍ عن إجابة له، وتشهد بذلك مسرحياته «مستورة» و«عجلة جادين الترزي»، وغيرهما من مسرحياته العديدة التي، بعد أن تشاهدها، تظلّ معك، تؤرِّق أحلامك، بكوابيسها الغرائبية، وبواقعيتها المفرطة المغلَّفة بدِقّة فنية في إطار فنتازي. فتَخرُج من عرضه المسرحيّ كالناجي من أهوال حرب، وتحاول، إن استطعتَ سبيلاً، التخلُّصَ من كلّ أوجاع التروما، وتفكِّر عملياً؛ كيف سوف تغيِّر وتُنقذ ما يمكن إنقاذه من بؤس الحياة السودانية الذي اقتطَفَ منه مجدي النور، بحساسيّته الخاصة، وإيماءاته اللمَّاحة، مشهديةً كاملةً للخراب، وجعلها تشغلك إلى حدّ الانتباه والوسواس، وجعلَنا نرَى أنفسَنا في مرايا الواقع بعقولنا وقلوبنا في آنٍ واحد. وتتوقَّد أذهانُنا كمتفرِّجين فاعلين، وكطرفٍ أصيلٍ في عملية إنتاجه الإبداعية على حسب منهجه النظريّ الذي يتّبعه ويقف خلفَ كلّ أعماله العظيمة، مُحقِّقاً بذلك واحداً ضرورات الفنّ الساميَة للحياة.
أتذكَّر، وكأنه بالأمس فقط، في العام 1994م، مجدي النور الممثِّل، وتشخيصه المتمكِّن لشخصية «ذو الكُوع الناشفة» في مسرحية «فرسان الرِّمال» المأخوذة عن رواية للكاتب البرازيلي جورجي أمادو بذات العنوان، في عام تخرُّجه من كلية الدراما والمسرح؛ تلك المسرحية التي هي مشروع التخرُّج لرفيقه وزميل دراسته المخرج عبد المنعم إبراهيم «شوف»، والتي تُعدّ من أبرز الأعمال في تاريخ كلية الموسيقى والدراما بالخرطوم، تَميُّزاً وتمثيلاً وإخراجاً وإعداداً مسرحياً.
وفي نبض القلب والذاكرة أفلام مجدي النور، ومسلسلاته القصيرة، وأغنياته «طفلة العصافير الموسمية»، «فاجأني النهار»، «مشوار»، ...، وابتسامته التي لا تموت، هي عنوانه الدائم في كلّ القلوب، وأغنيته السرمديّة.
سوف تظلّ سيرته وآثاره الملهِمة لكلِّ مَن يريد أن يسير في طريق المجد والنور، إذا امتدَّت كلّ أيادي أصدقائه، واجتمعَت بعيداً عن الأشكال البيروقراطية، لتنجز لنا وللأجيال القادمة مشروع مطبوعة «الآثار الكاملة للمبدع مجدي النور»؛ كتابته الشعرية والمسرحية وسيناريوهات الأفلام والمسلسلات، حتى تخطيطه الأوَّلي لمشاريعه القادمة بخطّ يَدِه، وقصاصات قصائده المنسيّة هنا وهناك بطرف الأصدقاء، كي نستطيع أن نبتلعَ أهوال هذا الغياب المبكر ولوعته للمبدع مجدي النور [1967-2006م]. الدعوة أيضاً إلى مجموعة ساوْرَا الغنائية، وإلى الموسيقار عبد الوهاب وردي، بوصفهما أوَّل من أطلَقَ شعرَهُ مُغنَّىً، لتبنِّي إنتاج ألبوم غنائي باسم «طفلة العصافير الموسمية» وتلحين نصوص أخرى من شعره. كي يبقى بيننا أحد رسل الحداثة والتجديد والتجريب والتنوير في الثقافة السودانية.
فلَهُ المجد..
وله النور..
وسوف تبقى ابتسامته، و«طفلة العصافير الموسميّة»، تتوهَّج ولا تصدَأ، وتشتعل فينا مثلَ لبلابٍ سماويٍّ، إلى أبد الأبدين.

*عفيف إسماعيل، مُسامرة من وراء المحيط، دار النسيم للنشر والتوزيع ، القاهرة 2013-م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد