الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول انعدام براءة النص

حسن محسن رمضان

2015 / 11 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من بين الآراء التي ذكرتها بخصوص "النص" بصفة عامة والتي تسببت ببعض ردود الأفعال هو رأي "انعدام براءة النص". فمن وجهة نظري أن "النص"، أي نص، كتركيب لغوي وكبنية سردية، يحمل بين طياته دوافع كاتبه، عقائده وعقده، مشكلاته وضغوط محيطه، رغباته ومواضيع قلقه وخوفه، نزاهته أو انعدامها، تطرفه واعتداله، نظرته إلى مجتمعه سلباً أو إيجاباً، موقفه من قضايا محيطه، وإلى آخر تلك المؤثرات. وبما أن "النص" هو تركيب لغوي يكون كاتبه مخيراً بين "كلمات" متعددة في ذلك التركيب، وهو أيضاً "بنية سردية" تكون الواقعة التي يسردها الكاتب طوع أمره في صياغتها كيفما يشاء، فإن "النص" بالضرورة هو انعكاس لمجال واسع جداً من "الخيارات" المتاحة أمام كاتبه. هذا المجال الواسع من "الاختيارات" أمام كاتب النص هي التي تطبع النص الذي يكتبه، بوعي منه أو من دون وعي، بانعدام البراءة، إذ كل تلك المؤثرات قد تركت، من دون أدنى شك، أثرها على النص الذي كتبه. ولا يستثنى من ذلك "النص المقدس". وبما أنني كنت مضطراً أن أشرح وجهة نظري هذه عدة مرات، شفهياً أو كتابة، فقدر رأيت أن أضعه على شكلة مقالة مختصرة.

سوف أستخدم في سبيل البرهان مثال من نصوص "العهد الجديد". ففي رأيي، وهو رأي الكثير بالمناسبة، أن أكثر النصوص المقدسة في الأديان الثلاثة السماوية، كما يطلق عليها، انعداماً للبراءة على الإطلاق في نصوصها هي نصوص "العهد الجديد" المسيحي. فلا يوجد بها، تقريباً، نص يكون خالياً من تلك التأثيرات، ولذلك فإن (العهد الجديد) المسيحي هو (أسهل) النصوص الدينية المقدسة نقداً وتفنيداً على الإطلاق.

جاء في إنجيل مرقس ما يلي:

(ودعا [أي يسوع] الاثني عشر [أي تلاميذه] وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة) [مرقس 6: 7]

أما إنجيل لوقا فالعدد لديه مختلف:

(وبعد ذلك عين الرب [يقصد يسوع] سبعين آخرين أيضاً، وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتي [...] فقال [أي يسوع] لهم: رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء، ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء) [لوقا 10: 1 و 18-19]

لن أتطرق هنا إلى دلالة الأرقام (12 في مقابل 70) ولماذا رفض لوقا رقم مرقس. ولكنني يجب أن أشير إلى أن الأحبار اليهود كانوا بالفعل يسافرون إثنين إثنين، ولكن هذا التقليد الديني اليهودي لم يخرج إلى حيز الوجود إلا (بعد هدم المعبد اليهودي في سنة 70 ميلادية بكثير جداً، وينتمي إلى بدايات القرن الثاني وليس قبل ذلك، ولا يوجد أي دليل إطلاقاً على تلك الممارسة من جانب رجال الدين اليهود قبل ذلك التاريخ) وبالتالي هذين النصين لا علاقة لهما بهذا التقليد اليهودي الذي تطور بعد تاريخ كتابة إنجيلي مرقس ولوقا [ما بين سنة 70 إلى 90 ميلادية]. ولكننا نريد أن نركز انتباهنا على نص:

(يرسلهم اثنين اثنين)
(وأرسلهم اثنين اثنين)

ولنتساءل هنا: لماذا كان مهماً للفضاء العقائدي المسيحي أن (يضع على لسان يسوع، وينسب لأفعاله، أنه كان يرسل "إثنين إثنين" من تلامذته أو دعاته)؟

حتى نجيب على هذا السؤال لابد لنا أن نربط عدة نصوص مع بعضها البعض ونجيب معها على عدة أسئلة. لنقرأ هذا النص في إنجيل لوقا:

(وإذا اثنان منهم [المقصود من تلاميذ يسوع من غير تحديد لجنسهما، وذلك بعد مقتل يسوع] كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة، اسمها عمواس [...] وفيما هما يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما [...] فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟ فأجاب أحدهما، الذي اسمه كليوباس وقال له: [...] بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكرا عند القبر [أي قبر يسوع] ولما لم يجدن جسده أتين [...] ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر)
[لوقا 24: 13، 15، 17، 18، 22-23، 24]

أول ما نلاحظه هنا أن كاتب إنجيل لوقا قد صوّر واقعة [هي واقعة وهمية لم تقع على الحقيقة فيما يخص ظهور يسوع بعد مقتله، وتندرج تحت بنود أسطرة النصوص المقدسة لصالح إثبات قضية إيمانية عند كاتب النص، ولكنها تتبنى بذرة تاريخية فيما يخص سَفَر الدعاة، اثنين اثنين كما يتكرر في نصوص العهد الجديد، ثم يحيك كاتب إنجيل لوقا حولها رواية أسطورية]، كاتب إنجيل لوقا قد صوّر واقعة يسافر من خلالها (إثنان) من دعاة المسيحية (وحدهما)، ولكنه (قد سمّى واحداً، كليوباس، ثم تعمد إبهام اسم وهوية الشخص الثاني من دون سبب واضح). والملاحظة الثانية أن الواقعة التي يسردها كاتب إنجيل لوقا على لسان أحد تلامذة يسوع يستخدم فيها لفظ (منا) عند كلامه عن النساء: (بعض النساء منا)، تماماً مثلما استخدم لفظ مشابه للذكور (ومضى قوم من الذين معنا).

إذن، كان هناك عادة أو تقليد مسيحي مبكر، بدليل التكرار في نصوص العهد الجديد، بأن يكون (إثنان) من دعاة المسيحية، يسافران (وحدهما) للدعوة في القرى. إلا أن الملاحظ أيضاً أنه كانت هناك (حاجة ماسة) لدى كاتب النص، أي كاتب إنجيل لوقا في هذه الحالة، لأن (يُخفي أمراً ما بخصوص هذا التقليد) وهذا الأمر هو الذي دعاه إلى (إبهام اسم الشخص الثاني في النص). فما هو هذا الأمر؟

في حوالي منتصف الخمسينيات من القرن الأول الميلادي، (53 – 55 م)، أي قبل تاريخ كتابة إنجيل مرقس ولوقا، كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. جاء في هذه الرسالة نص قد يُلقي الضوء على هذا التقليد المسيحي وعلى السبب الذي دعا كاتب إنجيل لوقا لأن يُبهم اسم أو هوية الشخص الثاني. يتساءل بولس في رسالته بما يلي:

(ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأختٍ زوجة كباقي الرسل وإخوة الرب وصفا [يقصد بطرس])
[رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 9: 5]
[يقصد بولس بالرب: يسوع، وأخوة الرب هنا بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أخوة يسوع، وليس كما يفسرها السياق الكاثوليكي على الخصوص]

إذن كان رسل المسيحية الأوئل يسافرون بالفعل (إثنان إثنان)، ولكنهما كانا (رجل واحد وامرأة واحدة) وليسا رجلين رجلين كما يفهم القارئ العابر لنصوص العهد الجديد. أي سفر دعاة المسيحية الأوائل هو سفر امرأة ورجل وحدهما. إلا أن بولس، في تلك الرسالة، يؤكد بأن رسل المسيحية الأوائل، ومنهم بطرس وأخوة يسوع، كانوا (يجولون بأختٍ زوجة). ولكن ماذا كان بولس يعني بعبارة (أخت زوجة)؟

السياق العقائدي المسيحي يتبنى مقولة أن المعنى هو (زوجة مسيحية)، والأخت على معنى الإيمان بالعقيدة، إلا أن هذا المعنى يصطدم مباشرة بلغة الرسالة. بل إنه يصطدم بحقيقة أن (بولس لم يكن متزوجاً)، فكيف يريد أن يسافر بزوجة؟! بل حتى آباء المسيحية الأوائل واجهوا صعوبة في فهم النص على المعنى التي تروج له الكنيسة اليوم، أي على معنى زوجة مسيحية. فهذا القديس كلمنت الإسكندري يقول عن هذا النص محاولاً التملص من المعنى الذي يدل عليه نص بولس: (ركز الرسل على الكرازة بدون تشتيت، فأخذوا زوجاتهم معهم كأخوات مسيحيات أكثر منهن زوجات). كلمنت يحاول أن يصور المعنى على أن المرأة التي ترافق الرجل هي (أخت له أكثر منها زوجة)(!!!). بالطبع، هذا تملص غير مقنع من المعنى المباشر للنص، كيف هي "أخت" أكثر منها زوجة؟ الحقيقة هي أن بولس لم يكن يقصد هذا المعنى فقط، هذا واضح من نص الرسالة.

معنى كلمة بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس هي: (نجول بأخت [أو] زوجة)، هذه هي الدلالة الحقيقية للنص. أي إما مع امرأة مسيحية أو مع زوجة. ويؤكد ذلك المعنى أن (يسوع ذاته)، كما يصوره كتبة الأناجيل، كان بالفعل (يجول بنساء ليس بينهن وبين الآخرين من أتباعه أي رباط زوجي) انظر على سبيل المثال [لوقا 8: 1-3] و [مرقس 15: 40-41]. والحقيقة هي أنه كان يكفي جداً، عند رسل المسيحية الأوائل، (أن تكون المرأة على العقيدة المسيحية الأولى حتى ترافق رجل مسيحي، من دون رابط الزوجية بينهما، في السفر وحدهما للدعوة بين القرى). بالطبع، (المشكلة التي تفتقت عنها) في مجتمع قروي شامل، كالذي كان في فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى في وقت يسوع والقرن الأول الميلادي، عندما يسافر رجل وامراة من دون رابط الزوجية بينهما، واضح ولا يحتاج إلى توضيح. وهذا هو السبب الذي أنتج لنا (واقعة وهمية صيغت على لسان يسوع، وبفعله، غرضها التبرير لأمر واقع عند رسل المسيحية الأوائل) في إرساله الإثنى عشر أو السبعين تلميذاً (إثنين إثنين) بالتحديد، وهذا هو السبب أيضاً الذي (انتج الحرج، لاحقاً، ضمن المعايير الاجتماعية السائدة آنذاك وأدى إلى إبهام اسم الشخص الثاني، التي هي امرأة في الحقيقة، في رواية لوقا عندما كتب إنجيله بعد أكثر من خمسين سنة من مقتل يسوع، وكل روايات العهد الجديد بعد هدم المعبد في سنة 70 ميلادية).

الخلاصة: نص قصير جداً من ثلاث كلمات، يبدو مباشر الدلالة وواضح وبريئ جداً، ولا يبدو أنه يستحق أن يقف عنده أحد كثيراً، كهذا:

(يرسلهم اثنين اثنين) [مرقس 6: 7]
(وأرسلهم اثنين اثنين) [لوقا 10: 1]

فإذا به يحمل كل "إشكالات" كتابة النص المقدس، وكل التقلبات الذهنية والقِيَمية والإنسانية في داخله.
لا يوجد نص بريئ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح