الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
نظرية الاحتمالات و نظرية المؤامرة
باقر جاسم محمد
2005 / 11 / 1مواضيع وابحاث سياسية
أشتبك باحثان في نقاش مرير حول مسؤولية سوريا في حادث اغتيال الشهيد رفيق الحريري. و كان الأول، و لنسمه السيد ( أ )، ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة. و قد جزم بأن سوريا هي المسؤولة عن تدبير الحادث. بينما طلب الثاني، و لنسمه السيد( ب )، من الأول أن يأتي بدليل مادي يثبت ما زعمه بشكل قاطع. و هنا انبرى السيد( أ ) بالقول: أو لا تؤمن بنظرية الاحتمالات؟ فأجابه السيد ( ب ) : نعم. أومن بها. فواصل السيد( أ ) بحماس: فلماذا إذن تتجاهل أن تكون سوريا متورطة في هذه المؤامرة؟. و هنا اكتفى السيد( ب ) بتكرار ما طلبه من دليل في لهجة تنم عن الإحساس بضعف الموقف لأن السيد( أ ) قد دعّم موقفه ، ظاهريا، بحجة علمية. و قد عزز هذه القناعة لديّ قول بعض الذين شاهدوا و استمعوا إلى المناظرة أن السيد( أ ) قد أفحم خصمه. فهل حقا قد كان الأمر كذلك؟ و هل يجوز إسناد موقف قبلي أو اعتقاد ما بحجة علمية دون التثبت من كون الحجة العلمية تصلح فعلا لذلك لكونها تفسر علميا ما هو غامض في المسألة موضوع البحث؟ و هل ترتبط نظرية الاحتمالات بنظرية المؤامرة في هذا السياق بحيث تكون مسوغة للنتيجة التي خلص إليها السيد( أ )؟
لقد حفزني ذلك إلى فحص طبيعة المناقشة سعيا لإيجاد أجوبة يمكن الاطمئنان إليها لهذه الأسئلة ، و كذلك لصون الحجج العلمية من الابتذال أو الاستعمال المغلوط من جهة ، و محاولة تأسيس منطق عقلي و علمي يحتكم إليه المتحاورون في القضايا ذات الطابع العقدي الخلافي من جهة ثانية. و سوف أبدأ بتعريف موجز كل من النظريتين معتمدا في ذلك منهج التعريف بالماهية الذي يبين الخصائص البنيوية الأساسية لكل نظرية على حدة و منهج التعريف بذكر النقيض الذي يصلح لإظهار الجوهرية بين النظريتين. فما هي نظرية الاحتمالات؟ و ما هي نظرية المؤامرة؟
في البدء نقول أن نظرية الاحتمالات هي إحدى التطورات المهمة التي أنجزها العقل الرياضي الحديث. و يمكن شرحها بشكل مبسط على النحو الآتي: إذا كانت لدينا قطعة معدنية و رميناها إلى الأعلى (س) من المرات فإن احتمال أن تسقط على أحد الوجهين هو( ½ س ) و لو أعدنا المحاولة ألف مرة فإن هذه العلاقة الرياضية لن تتغير. و إذا رمينا زهر النرد المكعب ذا الوجوه الستة عدد (س) من المرات فإن احتمال أن يكون كل من الوجوه الستة إلى أعلى هو( 1/6 س ) و لن تتغير هذه النسبة مهما كررنا المحاولة. و لنظرية الاحتمالات تطبيقات في علوم الفيزياء و الكيمياء و الأحياء و بخاصة في علم الوراثة. أما نظرية المؤامرة فهي موقف قبلي أو مسبق في تفسير الأحداث يتخذه بعض المتحاورين الذين تتحكم فيهم آليات التفكير الأيديولوجي حين يختزلون الأسباب المعقدة لظاهرة أو حدث ما بردها إلى مؤامرة يدبرها الآخر المتربص بنا دون إقامة الحجة أو تقديم الدليل على مثل هذا الزعم. و هي مثال لما يمكن أن نطلق عليه موقف العقل المستقيل، مع الاعتذار للدكتور محمد عابد الجابري، إذ يقفز المتحاور من المقدمات إلى نتائج لا تترتب عليها بالضرورة. و المسألة الثانية الجديرة بالإشارة هي أن مفهوم الاحتمال، و هو المفهوم المركزي في هذه الحالة، يختلف في دلالته حين يستعمل في نظرية الاحتمالات عنه حين يستعمل في نظرية المؤامرة. فهو في الأولى ذا طبيعة علمية وصفية لعدد مرات حدوث ظاهرة ما الآن و في المستقبل. كما أن من يستعمل هذا المصطلح في سياق استثمار نظرية الاحتمالات إنما يستعمله بصورة موضوعية لا تنطوي على ميل إلى أحد الاحتمالات دون غيرها. أما في سياق نظرية المؤامرة فالاحتمال مفهوم يشير إلى أو الشك الذي رفع بقدرة قادر إلى مرتبة اليقين بأن سبب حدث ما قد حصل و صار واقعة تاريخية هو جهة معينة قد جرى تحديدها سلفا؛ و هو ما قد تكذبه الأحداث اللاحقة. و هنا يكشف من يستعمل كلمة احتمال عن انحياز كلي لموقف مسبق. و هذا الموقف المسبق يجعل من استعمال المصطلح يفتقر إلى الموضوعية بشكل مطلق لأنه يلغي كل الاحتمالات الأخرى دونما بحث أو تبصر. و لذلك فهو موقف ذاتي لا يلزم بالضرورة أن يقتنع أحد به أحد به سوى صاحبه. و لو قارنّا استعمال مصطلح الاحتمال في نظرية المؤامرة مع استعماله في التحقيقات الجنائية حين يبحث المحققون عن احتمال تورط شخص أو جهة بجريمة ما، لرأينا أن استعماله في التحقيقات أكثر موضوعية لأنه لا يرتبط بقناعات مسبقة لدى المحققين. فالأخذ بأحد الاحتمالات و استبعاد ما سواه لا يكون إلا بعد العثور على أدلة دامغة. و استنادا إلى كل ما سبق يمكن القول باختلاف نظرية الاحتمالات عن نظرية المؤامرة لاختلاف طبيعة كل منهما بنيويا واختلاف حقل الاشتغال لكل منهما؛ كما تختلف دلالة مصطلح الاحتمال في كليهما اختلافا جذريا.
إن ما سقناه يجعلنا نطمئن إلى أن الإجابة على الأسئلة التي أثرناها في مطلع هذه المقالة هي بالنفي. فالسيد( أ ) لم يفحم خصمه، و إنما قام بمغالطة معروفة و هي إيراد حجة لا يوجد بينها و بين النتيجة المترتبة عليها أي دليل. أي أنه قام بعملية استدلال فاسد ، إذ لا يجوز إيراد الحجج العلمية في المناقشات ذات الطابع الخلافي دون وجود مسوغ علمي واضح و يمكن التثبت منه. و الأهم من كل ذلك أننا أثبتنا عدم وجود صلة تربط بين نظرية الاحتمالات و نظرية المؤامرة؛ أو حتى ما يسوغ مثل هذا الربط. فلكل منهما طبيعة خاصة. كما أن كل واحدة منهما تنتسب إلى حقل مختلف تماما. إذ بينما تنتسب نظرية الاحتمالات إلى حقل العلوم الرياضية و تحظى بقبول و اهتمام يتناسبان مع ما تنطوي عليه النظرية من فائدة علمية و عملية فإن نظرية المؤامرة عرض من إعراض الانغلاق الأيديولوجي الذي يكاد يكون السمة السائدة في أغلب ما نشهده من حوارات على الفضائيات العربية. كما أثبتنا اختلاف المصطلح المركزي ، و هو الاحتمال، اختلافا دلاليا جوهريا بين النظريتين مما يسوغ القول أن الصلة المتوهمة بين النظريتين قد دحضت و ثبت بطلانها معرفيا.
و أخيرا أود التنويه بأنه لم يكن الغرض من هذه المقالة الدفاع عن الموقف السوري أو تبرئة بعض المسؤولين السوريين مما نسبه إليهم تقرير ميليس من مسؤولية في عملية اغتيال رفيق الحريري، فهذا موضوع مختلف تماما. و هو لن يحسم إلا بعد استكمال التحقيق و إجراء المحاكمات النزيهة و صدور الحكم القضائي العادل بشأن ذلك. و لسوف يستغرق ذلك زمنا ليس بالقصير. .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ألمانيا تدعو اسرائيل وإيران الى عدم توسيع رقعة الصراع | الأخ
.. ما الذي تخفيه زيارات جورجيا ميلوني المتكرّرة إلى تونس؟
.. سلّات مهملات في أبوظبي تستخدم الذكاء الاصطناعي لفرز البلاستي
.. تصعيد الضربات المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل.. ومخاوف من ال
.. زيلينسكي يستغيث.. وعود الغرب تبخرت! | #التاسعة