الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيحيون وضيق الأمكنة في أرض العرب

أنيس يحيى

2005 / 11 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان الباعث إلى كتابة هذه المقالة ما سمعته البارحة 29 / 10 / 2005 من إحدى المحطات التلفزيونية عند تقديمها نشرة الأخبار : " ثلاث فتيات مسيحيات في اندونيسيا قُطعت رؤوسهن لعدم ارتدائهن غطاء الرأس " .
رغم أن الباعث حصل في مكان بعيد جداً عن أرض العرب ، إلا أن المرء لا يستطيع إكمال حياته بالنمط الذي ألفه قبل سماعه هذا النبأ ، فالأمكنة تصبح متشابهة في ألوانها وتضاريسها عندما نقيس مساحاتها بالمسافة التي تفصل الإدانة عن البراءة ، أو المسافة بين البراءة والإدانة . فالمسافتان تتساويان بطولهما ، إلا أن الواحد منا يحتاج إلى أكثر من عمر واحد لاجتياز أي منهما . ماذا يحدث ؟؟ سؤال ، تبقى جميع الاجابات التي يمكن استنباطها عاجزة عن إقناع السويّة من البشر بأن هذا العالم يتسع لجميع كائناته ، خاصة وأن البعض من هؤلاء الكائنات يستعجلون مغادرة كرتنا الأرضية إلى عالم يبدو أنه يتهيأ بدوره لاستقبالهم .
مَن منا لم يلحظ الدرك الذي وصل إليه المسيحيون في عالمنا العربي ؟ وكيف أصبحت الغالبية منهم تنظر إلى مستقبل لا يتحدث اللغة العربية .
ليس القصد من هذه المقالة تناول تاريخ الوجود المسيحي في عالمنا العربي ، مع العلم أن جميعنا يعلم أن هذا التواجد كان مكتظاً ، حتى أنه كان التواجد شبه الوحيد في الكثير من أقطارنا العربية قبل دخول الاسلام إليها . إنما القصد إلقاء الضوء على واقع المسيحيين في أيامنا المعاصرة ، وكيف أخذ دورهم بالتقلّص والانكماش إلى درجة تنذر بأننا الجيل الأخير ربما الذي تعرّف بالمسيحيين في عالم العرب . فتدمير الكنائس في العراق ، وإلقاء المناشير التي تتهم النصارى بالكفر ، وانبراء بعض خطباء الجوامع إلى إزاحة النصرانية من خانة الأديان السماوية التي أقرّ بها القرآن الكريم ، وإدخالهم في خانة الكفر التي يصحّ الجهاد من أجل إزالتها . كذلك التعدّي جهاراً على ممتلكات المسيحيين الأقباط في مصر ، إلى استسهال الظهور بمسيرات وإقامة التجمعات التي تهدد المسيحيين وتتوعدهم بالانتقام ، كما حدث في مدينة الاسكندرية . جميع هذه ، وغيرها الكثير تشكّل المشهد الذي وصل إليه المسيحيون . فالتي نطلق عليها مجموعة أرهابية متهورة ، وتنال بالتالي الكثير من شعارات التنديد والاستنكار من باقي مؤسسات المجتمع العربي ، لهي كفيلة في خلق حالة من الذعر والخوف المبررة عند أصحابها الذين باتوا لا يواجهون أفراداً شذاذ بل حالة تتنقل بيسر بين أحيائنا ومدننا مظهرة مخالبها التي ترعب مشاهديها وإن عجزت عن اقتناصهم .
لا يستوي الكلام عن المسيحيين في البلاد العربية من غير الالتفاتة إلى واقع المسيحيين في لبنان . لبنان الذي كانت أبرز مسببات نشأته في الشكل الذي هو عليه كان لاعطاء الطمأنينة إلى مسيحييه من غلبة المحيط المسلم ، خاصة بعد سلسلة الأحداث الطائفية الدامية التي عصفت به في محطات كثيرة من القرن التاسع عشر . وقد تراضى اللبنانيون منذ استقلال لبنان عام 1943 على إضفاء مزيد من الطمأنينة إلى المسيحيين ، فكانت لهم الرئاسة الأولى مع عدد من المناصب الفاعلة في الدولة التي هي الوحيدة التي يترأسها غير مسلم بين الدول العربية الكثيرة . إن واقع المسيحيين في لبنان اليوم بعد الحرب الضروس التي خاضها اللبنانيون في الفترة الأخيرة ، في تراجع كبير ، فالطائفية كانت أبرز شعارات الحرب . ليس بالمهم الآن تحديد مسؤوليات هذه الحرب ، إلا أن نتائجها جعلت ما تبقى من المسيحيين الذين لم يتيسر لهم الهجرة إلى خارج لبنان ، يتجمعون في رقعة ضيقة من أراضيه وهم يشاهدون تنامي الأفكار الدينية الضيقة عند سواهم من المذاهب اللبنانية التي لا تتوانى بين الحين والآخر عن إعطاء جرعات من الطمأنينة تكون في العادة غير شافية عند الاستحقاقات الفعلية . بالمحصلة ، خسر لبنان قدراً ليس بالقليل من تلك النكهة التي امتاز بها في محيطه . فالتحديث والعصرنة أمام امتحانات حقيقية ، وكأن باللبنانيين يسيرون إلى الوراء بارادتهم ، خاصة مع وجود مجموعات يجدون كل الصالح والمفيد عند مَن مضى من الأسلاف ، وما علينا وعلى الأجيال القادمة سوى السير باتجاههم . أما الأفكار القومية التي ساهم المسيحيون العرب وخاصة اللبنانيين والسوريين منهم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أصبحت ضيقة على أصحاب العقائد الواسعة الانتشار في وقتنا الحاضر .
بالنهاية لا بد من إبداء الخلاصة الآتية : لا يمكن الفصل القاطع بين الأفكار وبين حامليها . المسيحية مشرقية المنبت . لاقت خلال القرون الطويلة من الحكم الاسلامي تقلبات وأحوال مختلفة ، كان أزهاها فترة الحكم الاسلامي القوي ، الحكم الواثق من شريعته وعدلها ، وقد كان ذلك فترة حكم العباسيين الأولى ، وما بعدها من حكم عرب الأندلس . إستطاع المسلمون حينها الانفتاح على شتى معارف العالم ، وأنتجوا بالتالي معارف ما زال بعد المنغلقين في عصرنا يتباهون بها . وقد ساهم في هذه النهضة المسلمون المتنورون والمسيحيون واليهود وجماعات من قوميات مختلفة . أما اليوم فالأمر لا يشابه هذا الأمس بشيء ، بل على العكس فانه نقيضه . فمن لا يستطيع من المسلمين تقبل المسيحيين بين ظهرانيه لهو خطر ماحق على الجماعة بأسرها . فهؤلاء لن يكتفوا بـ " الجهاد " ضد المسيحيين فحسب ، لكنهم سيرتدون قريباً " للجهاد " ضد باقي المذهب الاسلامية نفسها . ومن ثم سيرتدون ضد مَن يخالفهم من شركائهم في المذهب عينه . فالمسيرة عند هؤلاء حرب دائمة ضد المختلف والمغاير لما يشهدون أنه الحق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا


.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد




.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو


.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي




.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل