الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيئة أم النظرة للقيمة الانتفاعية؟ قضية البيئة وما يسمى التنمية المستدامة

سمير أمين

2015 / 12 / 6
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


نبدأ بالاعتراف بوجود مشكلة حقيقية، وهى تدمير البيئة الطبيعية، وفى نهاية المطاف مشكلة بقاء الحياة على كوكب الأرض، وهى المشكلة التى تسبب فيها منطق التراكم الرأسمالي.



وهنا كذلك بدأت القضية فى السبعينيات وبالتحديد من مؤتمر ستوكهولم فى عام 1972. ولكنها بقيت فى مرتبة متأخرة من الخطاب السائد حول إدارة الاقتصاد، ولم ترفع إلى مستوى الأداة المهمة فى الاستراتيجية السائدة إلا أخيرا.



وهكذا لم تظهر الترجمة الإنجليزية لكتاب فاكيرناجيل وريس الذى حمل تأملا جادا من وجهة نظر الفكر الاجتماعى الراديكالى حول مستقبل هذه القضية إلا فى عام 1996. ولم يكتفِ فاكيرناجيل وريس من التقدم بمفهوم جديد وهو »موطئ القدم البيئي« ولكنهما وضعا نظاما لقياس ذلك المفهوم بوحدات »الهكتارات الكوكبية«، التى تقارن قدرة المجتمعات/البلدان الحيوية (أى قدرتها على إنتاج وإعادة إنتاج الحياة على الكوكب) باستهلاك تلك الجماعات/البلدان للموارد المتاحة لها من خلال تلك القدرة الحيوية.



وقد توصل المؤلفان لنتائج خطيرة للغاية، فقد وجدا أن القدرة الحيوية للكوكب هى 2,1 هكتار كوكبى للفرد الواحد، أى أن المجموع الذى يقابل 6,3 مليار فرد يعيشون حاليا على سطح الأرض هو 13,2 مليار هكتار كوكبي. ولكنه تبين لهما أن متوسط استهلاك الموارد العالمية قد بلغ ـ فى منتصف تسعينيات القرن الماضى 2,7 هكتار كوكبى للفرد، وهذا المتوسط يخفى حقيقة التباين الخطير بين البلدان المختلفة، فمتوسط استهلاك الفرد فى بلدان الثالوث الإمبريالى يساوى أربعة أضعاف المتوسط العالمي. وهذا يعنى أن بلدان المركز قد استولت على جزء كبير من القدرة الحيوية لمجتمعات الجنوب لمصلحتها الخاصة. وبعبارة أخري، فإن توسع الرأسمالية القائمة بالفعل يقوم حاليا بتدمير الكوكب والبشرية (حيث تجاوز الاستهلاك الفعلى للقدرة الحيوية مجموع القدرة الحيوية للكوكب). وفضلا عن ذلك فإن منطق الاستمرار فى هذا التوسع يقتضى إما عملية إبادة فعلية لهذه المليارات من شعوب الجنوب التى تقف فى الطريق، أو الإبقاء عليها فى حالة من الفقر المتزايد طوال الوقت. وينمو حاليا تيار فاشى بيئى يعطى شرعية لهذا النوع من الحل.



وتنبع أهمية هذه الدراسة من أنها لا تكتفى بحساب (وأؤكد هنا على فكرة الحساب وليس مجرد خطاب) القيمة الانتفاعية لكوكب الأرض وتقديرها بالهكتارات الكوكبية وليس بالدولارات، وذلك بغض النظر عن النتائج التى توصلا إليها.



وهكذا ثبت أنه من الممكن قياس القيمة الانتفاعية الاجتماعية بطريقة علمية رشيدة، وهذا أمر له أثر حاسم حيث إن الاشتراكية يجرى تعريفها على أنها مجتمع مبنى على القيمة الانتفاعية وليس القيمة التبادلية. وقد جادل المدافعون عن رأسمالية نهاية التاريخ دائما بأن الاشتراكية هى عالم مثالى غير واقعى لأن القيمة الانتفاعية ـ فى رأيهم ـ لا يمكن قياسها إلا بالمقارنة بالقيمة التبادلية (على أساس »المنفعة« قى أدبيات الاقتصاد الشائع).



وأخذ القيمة الانتفاعية فى الاعتبار (وموطئ القدم البيئية هو أول مثال جيد لذلك)، يعنى أن الاشتراكية يجب أن تكون »بيئية« ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، وقد عبر ألفاتار عن ذلك بالقول: »الاشتراكية الشمسية أو لا اشتراكية .ولكن ذلك يعنى كذلك أنه من المستحيل على أى نظام رأسمالي، حتى لو جرى إصلاحه، أن يحقق ذلك كما سنثبت لاحقا.



ولم يكتفِ ماركس بالحدس بقيام هذه المشكلة، ولكنه قدم دراسة جادة تثبت ضرورة التمييز بين القيمة والثروة، الأمر الذى تنكره أدبيات الاقتصاد الشائع. وقد قال بوضوح إن التراكم الرأسمالى يدمر الأساس الطبيعى الذى يقوم عليه وهو الإنسان (أى العمال المغربون والمستغلون والمسودون والمعرضون للاستبداد) والأرض (وهو ما يرمز للثروة الطبيعية المتاحة للإنسانية). ورغما عن محدودية هذا التعبير، وهو بالطبع أسير لعصره، فإنه يعبر عن رؤية ثاقبة للمشكلة (تتجاوز مجرد الحدس) يجب أن نقدرها.



وعلى ذلك فمن المؤسف أن علماء البيئة فى عصرنا، بمن فيهم فاكيرناجل وريس، لم يقرأوا ماركس، فقد كان ذلك جديرا بأن يدفعهم لتطوير اقتراحاتهم، وأن يقدروا أثرها الثورى بشكل أكبر، وبالطبع كانوا سيتجاوزون ما وصل إليه ماركس فى الموضوع.وهذا النقص فى النظرة الحديثة للبيئة يجعل من السهل على الاقتصاد الشائع وهو فى وضع السيطرة اليوم، أن يستولى عليها، وهو أمر يجرى حاليا، بل قد وصل إلى وضع متقدم.



وقد ظهرت البيئة كتيار سياسى كما عبر عنها ألان ليبيتز Lipietz، أول الأمر بين صفوف اليسار السياسى الميال للاشتراكية. وبعدها صُنفت حركة الخضر، ثم أحزاب الخضر على أنها تنتمى ليسار الوسط لتعاطفها مع مبادئ العدالة الاجتماعية والدولية، وانتقادها »لتبديد الموارد« وتعاطفها مع العمال والشعوب الفقيرة. ولكن، بغض النظر عن تعددية هذه الحركات، فإن أياً منها لم تُقِم علاقة ثابتة بين البعد الاشتراكى الضرورى للرد على التحديات وبين البعد البيئى الضرورى هو الآخر. ولتحقيق هذا الترابط لا مندوحة عن الرجوع للتفرقة بين القيمة والثروة كما عبر عنها ماركس قديماً.



واستيلاء الأيديولوجيا الشائعة على فكر البيئة يجرى على مستويين، أولاً بتحويل حساب القيمة الانتفاعية إلى مجرد قيمة تبادلية مُحسنة، وثانياً باستقطاب التحدى الإيكولوجى إلى إيديولوجيا »توافقية«. وكل من هاتين العمليتين تمنعان الرؤية الواضحة للتعارض المطلق بين الرأسمالية والإيكولوجيا (علم البيئة).



ويقوم الاقتصاد الشائع باستيعاب الحسابات البيئية بسرعة رهيبة، وقد جُند الآلاف من شباب الباحثين فى الولايات المتحدة، وبالتبعية فى أوروبا، للقيام بذلك.



ويجرى حساب »التكلفة البيئية« على أساس الظواهر الخارجية، فيجرى تحليل التكلفة/المنفعة لحساب القيمة التبادلية (وهى ذاتها تُسوى بالقيمة السوقية) للوصول إلى »ثمن عادل« يتضمن الاقتصاد الخارجى واللااقتصاد، وهكذا تمر الخديعة.وبالطبع ليس هناك ما يدل على أن النتيجة التى تتوصل إليها هذه الحسابات المعقدة للثمن العادل هى ذات القيمة السوقية الفعلية لهذا الثمن. وقد تكون هناك حوافز ضريبية وغيرها لتحقيق هذا التقارب، ولكن ليس هناك ما يثبت ذلك فى الواقع.



وكما هو واضح فقد استغلت الاحتكارات العالمية بالفعل موضوع البيئة لتبرير فتح ميادين جديدة لتوسعها المدمر. وقد أعطى فرانسوا أوتارHoutart مثالاً رائعاً على ذلك فى كتابه عن الوقود النباتى (أو الأخضر). والرأسمالية الخضراء هى اليوم على رأس قائمة الأعمال لأولئك القائمين على رأس السلطة فى بلدان الثالوث (يميناً ويساراً)، ولمديرى الاحتكارات. والبيئة المعنية تنتمى لما يسمى »الاستدامة الضعيفة« (حسب اللغة الشائعة) أى لمبادلة »حقوق استخدام موارد الأرض«. وانضم جميع الاقتصاديين التقليديين لهذا الموقف، حيث يقترحون »طرح موارد الأرض فى المزاد (أى مصايد الأسماك، وحقوق التلويث، الخ.) وهذا يعنى تدعيم طموح الاحتكارات العالمية لارتهان مستقبل شعوب الجنوب أكثر من ذى قبل.



واستيلاء الإمبريالية على خطاب البيئة هذا حقق لها خدمة كبيرة، فقد سمح بتهميش، إن لم يكن استبعاد قضية التنمية. وكما نعلم فقضية التنمية لم تكن على الأجندة الدولية إلا عندما استطاعت بلدان الجنوب فرضها بمبادرتها الخاصة واضطرت بلدان الثالوث إلى التفاوض وتقديم التنازلات. ولكن بمجرد انقضاء مرحلة باندونج لم تعد المشكلة قضية التنمية بل مجرد فتح الأسواق. والبيئة كما تفسرها القوى المسيطرة، لا تعدو أن تكون امتدادا لهذا الاتجاه (أى فتح الأسواق).



ويجرى كذلك على قدم وساق استيعاب الخطاب البيئى ضمن سياسات التوافق (وهى التعبير عن رأسمالية نهاية التاريخ).وقد جرى هذا الاستيلاء بسهولة لأنه يتفق مع الأوهام والتغريبات المرتبطة بالثقافة السائدة وهى الرأسمالية. ومما سهل ذلك أن هذه الثقافة موجودة بالفعل، وسائدة فى أذهان أغلب الناس، فى الجنوب كما فى الشمال.



وفى المقابل، يصعب التعبير عن احتياجات الثقافة الاشتراكية المضادة، إذ لا توجد ثقافة اشتراكية أمامنا. فهى ثقافة المستقبل التى يجب أن بجرى اختراعها، أى مشروع حضارة مفتوحة لجميع التصورات. ولا تكفى صيغ مثل »بناء الاشتراكية عن طريق الديمقراطية وليس السوق«، أو »السيطرة الثقافية بدلاً من الاقتصاد الذى تخدمه السياسة«، رغم نجاحها فى تحريك مبادرة عملية التحرك التاريخية. إنها ستكون عملية طويلة »قرنية« أن يجرى بناء المجتمعات على أسس غير رأسمالية، سواء فى الشمال أو الجنوب، ولا يمكن أن تجرى بسرعة. ولكن بناء المستقبل مهما كان بعيدا يبدأ اليوم.



يؤكد ما سبق أن كتبته بخصوص مستقبل الزراعة عالميا ومصريا (المنشور فى الأهرام بتاريخ 13-1-2015 ) خطورة قضية البيئة. فما سيترتب على تصفية الزراعة الفلاحية فى الشمال و الجنوب، وإحلال محلها زراعة يقال عنها انها » علمية » - بحجة أنها أكثر ربحية- ليس إلا نكبة. فلا يرتكز الترادف بين مفهومى الربحية والإنتاجية، على أسس علمية دقيقة. ولكنه نتاج تسويق خطاب أقرب للبروبجندا منه للعلمية. فالزراعة المزعومة علمية تعتمد على مدخلات كيماوية بمقادير غير مطلوبة. وذلك لأن الاستخدام المفرط لهذه المدخلات، يؤدى لتعظيم مستوى أرباح الشركات الكبرى بشكل كبير، ولنأخذ مثالا على ذلك »بشركة موسانتو، المشهورة بقدرتها على »شراء سوق رجال صنع القرار«. وأيضا يؤدى هذا الاستخدام المفرط للمدخلات الزراعية إلى فقدان الأرض لخصوبتها تماما. فهناك أمثلة كارثية، تؤكد هذه الحقيقة. فلقد أصبحت مناطق شاسعة من البامبا فى الأرجنتين صحراء بعد استغلالها لبضع سنوات فى إنتاج السوجا بهذا الأسلوب »العلمي«. ولكن مادام هناك مناطق أخرى يمكن الهجرة إليها بعد تدمير الأراضى المستغلة، ومادام ظل السعر الذى تباع به تلك الأراضى تافها، فليس هناك عقبة ستوقف استمرار عملية تخريب خصوبة أرض الأرجنتين بمعرفة شركة موسانتو، إذ يظل إيرادها المالى مضمونا ،بل وفى ارتفاع.



ويضاف إلى ذلك أن هذه الزراعة المزعومة »علمية«سوف تضر بالأجيال القادمة. ولا أقصد أن تأثيرها المضر سيفعل فعله بعد ألف سنة، أو مئة سنة، بل فى خلال عشرات الأعوام المقبلة.ذلك لأن الإفراط فى استخدام هذه المدخلات يضر بصحة المستهلك لمحاصيل هذه الأراضي. أرجع لكتاب إيزابيل سابورتا، ستجد فيه حججا دقيقة وعديدة ومرقمة، تدعم ما أقول.



هذا هو نمط التنمية المطروح علينا على أنه لا بديل عنه، بيد أن هناك بديلا حقيقيا غير وهمى ولا رومانتيكي، فى إنعاش وتحديث الزراعة الفلاحية. علما بأن الفلاح المصرى قادر على استيعاب المطلوب للتحديث المقصود. فقد قال لى أحد كبار مهندسى الزراعة المعروفين عالميا- وقد زار ويزور مصر دائما- » إن الفلاح المصرى من أذكى وأفضل الفلاحين فى العالم«، ثم أضاف » وأرى أن الرأى المصرى لا يتجاهل ذلك فقط، بل يحتقر هذا الكنز المحروث فى التربة المصرية منذ آلاف السنين«.



نعم، هناك بدائل حقيقية تضمن رفع الإنتاجية (الإنتاج للعامل بالفدان)، بمقدار محسوس حتى يضمن تحقيق الاستقلال الغذائي، كما تضمن توظيف القرويين بدلا من تهجيرهم إلى العشوائيات. وهذه الوسائل مدروسة فى الخارج لا سيما فى الصين وهى أيضا تشارك مصر فى كثافة السكان الريفيين-، ولكنها مجهولة فى مصر حيث الكلمة الأخيرة دائما »للقرار الأمريكي«.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي


.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن




.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح


.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا