الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكنز

ناصرقوطي

2015 / 12 / 10
الادب والفن


قصة قصيرة
الكنز..
ناصرقوطي

لم تكن مريم التي لم تتعد الخامسة والعشرين من عمرها، وهي تتحسس بأصابعها الآثار المطبوعة على جدران غرفة الضيوف العارية من الأثاث،فرحة أو حزينة،كان في داخلها شيء ما يصرخ..يعوي..شيء لا يعبر عنه،كما لو غمامات رمادية مختلطة، شعور بالإحباط واللاجدوى. هي التي لم تسأل يوماً وتشتكي ولم تعترض. كان في أعماقها مرجل يضطرم ويغلي بفورات تتصاعد مع أنفاسها الحرى في الفجر الندي المحمل بالرطوبة والبرد..
“هل يصدق أحد أن زوجها حسن المياحي هرب وتركها الى الأبد..لا..المياحي لن يفعلها،هي تعرف ذلك جيداً،لن يتركها مع بناتها الصغيرات”.
فكرت بذلك وتقهقرت الى غرفة الضيوف وراحت تجيل النظر في الحفرة، لم ترَ شيئاً على الرغم من أن المياحي كان ممدداً هناك داخل الحفرة التي حفرها بيديه واستلقى بطمأنينة لايعكر صفوها إلا سقوط حبات المطر من السقف. كان راضياً، قنوعاً، كما لو كان في قبر.
-“اشسويت بنفسك ياحسن”
رددت زوجته بضع كلمات أخر ورجعت الى الغرفة الصغيرة الرطبة،حيث بناتها الثلاث الوحيدات يغرقن في أحلامهن. وقفت هناك، جالت النظر، استرجعت كل مواقف حياتها وعوزها، وبؤسها معه،تراءى لها المياحي بحلته البيضاء يرقص رقصته الثملة تحت المطر. تحسست الجدار البارد الذي تساقط عنه الكلس،عبرت نظراتها سقف الغرفة التي كانت قطرات المطر تعزف لحنها الرتيب في القدور التي وضعت في زوايا الغرفة.. تحسست الجدار مرات عدة ودون أن تخطو خطوة أخرى صعد _ رغم البرد_ نسغ حار ومتدفق من أطراف أصابع قدميها.. صعد دفعة واحدة وانبثق من عيونها،مطر مهذار، راح ينهال من كل صوب يبلل روحها بركام سنين طويلة، عذابات لا تستطيع اعادتها دون ان تحس بالغصة.
“اشسويت بنفسك..اشسويت بينه ياحسن”
أكدت مريم لزوجها أنها لاتملك إلا مبلغا ضئيلا لايكفي حتى وجبة فطور لبناتها الثلاث الصغيرات، ولاتستطيع أن تفرط فيه من أجل قنينة خمر. نظر المياحي اليها شزرا وصرخ بالفصحى كما لو انه يؤدي دورا في مسرحية:
_ كيف تقارنين ثمن الفطور مع ماسنحصل عليه.
ردت المرأة بنبرة عتاب:
_ شنو علاقة هذا السم الي تشربه والشغل.
_(بانفعال) أنتِ تعرفين أنني لا أقدر على العمل دون أن أشرب.
في نهاية الأمر خضعت الزوجة أمام عناده وقالت:
_هاي آخر مرة.
وفي الحقيقة ان تلك المرأة الطيبة لاتستطيع أن تتخلى عن تلبية طلبات حسن حين يعود تعباً ويائساً من المسرح الوطني الذي لم يوفر له الكثير من الاحتياجات ويسد عوزه الدائم. كانت تحزن حين تراه محتاجاً. وهو بدوره كان انساناً طيباً لم يبخل بشيء طوال حياته معها لكن اليد قصيرة والحال عسيرة كما يقال، فهو الذي يعمل كومبارسا مرة وأخرى في التأثيرات الضوئية في صالة المسرح الوطني، كان يحلم بكتابة مسرحية يراها مجسدة أمام عينيه،تحت الأضواء التي تخطف الأبصار. تلك الأضواء التي رسخت خيالات عدة في ذاكرته وجمجمته.تلك الخيالات كانت تضج في رأسه كلما عاد الى بيته وهو غارق في أحلامه.
فلم تكن تلك الليلة التي قضاها “حسن المياحي”غريبة عليه هو الذي امتلأت جمجمته وكل كيانه بعشرات الأحلام المحبطة، فالانتفاخ المزمن الذي أحدثته الرطوبة في بلاط غرفة الضيوف التي لم يدخلها ضيفا منذ أعوام هذا الانتفاخ والورم مر عبر مخيلته لسنوات عديدة. حتى إذا ماعاد في ليلة ممطرة يتعتعه السكر وهو يقلد رقصة”زوربا”تحت سيل المطر عزم على تحقيق حلمه الذي يؤرقه. أقفل الغرفة على نفسه بعد ان تزود بعدة الحفر ولم ينس قنينة العرق التي حملها معه. زوجته هي الأخرى اقتنعت بأن كنزاًَ يكمن تحت البلاط من كثرة ماكان يؤكد لها ذلك. كل يوم كان ينوي القيام برفع البلاط ويزيل الانتفاخ الملعون الذي يشبه بطن امرأة حامل. ليعثر على الكنز كان يؤكد لها وبإيقاع مسرحي:
_ أنتِ تعرفين جيداً أنني لم أكذب عليك طوال حياتي، وتعرفين الكتب الكثيرة التي قرأتها خاصة فيما يتعلق بطوبغرافية الأرض ارتفاع هذه البقعة بهذا المستوى يؤكد أن تحته شيء ما كما ان عملي في المسرح علمني الكثير.
كانت زوجته تستمع اليه فيما ابتسامة مريرة ترتسم على شفتيها،نظرت اليه بحزن وهمست:
– إذا صدك نكدر ندفع الدين..الناس يطلبونه.
– سترين ولكن إياك أن تتنفسي أو تخبري أحداً، حتى البنات ، والله يعلم ماذا سيحصل لكِ ان أفشيت السر.
قال لها ذلك وتركها في الغرفة المجاورة مع صغيراتها المتلفعات بالاغطية. كان الوقت بعد منتصف الليل والسماء لاتكف عن انزال سيولها في المزاريب التي راحت توشوش ثم تسيل على الأرض حين ولج المياحي غرفة الضيوف وأغلق الباب وراءه بأحكام. وبدأ بإزالة أول بلاطة وهو يسمع رنينها المكبوت يبعث رعشة فرح داخل نفسه. كان كلما يضرب ضربة يرتشف رشفة من قنينة العرق ويتلمظ. لم العجلة مادام الكنز تحت قدميه فليتلذذ بسعادته. كانت ضربات معوله حين يهوي على البلاط تهز الجدران التي تتآكلها الرطوبة ويتساقط الكلس المشبع بألوان لاتحصى. فيما السقف ينز بمياه المطر. كانت زوجته في غرفة النوم مع بناتها تتلذذ هي الأخرى بسماع تلك الأصوات ورنينها النحاسي كانت بين اليقظة والنوم وهي التي قضت ثلاثين عاماًَ معه في فقر مدقع. لم تكن الاّ الأحلام سلوتها الوحيدة،ولكنها الآن اقتربت من تحقيق آمالها قريباً ستسمع زوجها يطلق صرخته الفرحة ويتحقق كل شيء.

*****

في غرفة الضيوف كان العمل قائما على قدم وساق،مع رشفات متتالية من القنينة التي أفرغ نصفها في جوفه الملتهب وهو يتصبب عرقاً رغم برودة المكان، لقد أزيلت عشر بلاطات تكفي ليباشر الحفر في التربة الرطبة،صوت ضربات المعول تغير رنينها، خفت حدتها، راوده فرح غامر وهو يتوغل في التربة الطينية اللزجة ثم يزيل بالرفش ماتراكم حوله. كانت عيناه لاتفارقان قنينة الخمر التي لايريد ان يحتسيها قبل أن يكمل مهمته ويعثر على كنزه. تعدت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وقد اختفى نصف جسده داخل الحفرة وعلى حين غرة انقطع التيار الكهربائي وسادت العتمة من حوله، لم يتذمر انما فكر قليلاً وسأل نفسه: ياابن المياحي كان عليك ان تحتاط للأمر وتحضر شمعة، ولكن لابأس لاتبتأس ياحسن لاتهتم لقد اقتربت من حلمك وسيتحقق كل شيء.. ترك المعول بين قدميه التي تغمرها المياه وتحسس بيديه حافة الحفرة وتسلق بعد محاولات عدة من انزلاق قدميه على الطين. دار في الغرفة متجنباً السقوط في الهوة التي حفرها وراح يزحف على أربعة يتلمس بأطراف أصابعه البلاط البارد كان كلما يدور تتلمس أصابعه حافة الحفرة الرطبة ليعود يتلمس أثر البلاط الذي سيقوده الى الباب دار مرات عدة حول الحفرة وبعد جهد جهيد عثر على الباب فوثب ليفتحه وبعد محاولات فاشلة وهو يدير المفتاح في الثقب استطاع ان يفتحه وحال خروجه من الغرفة صفعته رشقة من المطر وبرقت السماء بلون أخضر.. توقف هنيهة حاول أن يعيد توازنه وراحت قدماه تدكان الأرض وذراعاه مرفوعتان ليرقص رقصة ”زوربا” المحببة الى نفسه ثم دلف الى المطبخ وهو يترنح معتمدا على الجدار ليتجه باتجاه بصيص ضوء الشمعة. كانت مريم قد تركت بقايا شمعة موقدة في المطبخ تتراقص ذؤابتها في العتمة. وضع فوق الشمعة غطاء قدر صغير وعاد مستندا الى الجدار متوخياً أن لاتنطفئ. دخل غرفة الضيوف ورفع الغطاء عن الشمعة فانفلقت الظلال ترسم أشباحا طويلة مرتعشة ما أعطى للمكان سحراً خاصاً عمق خياله وأجج أحلامه. كما لوكان في أجواء إحدى قصص ألف ليلة وليلة. وضع الشمعة قرب الحفرة واتجه الى قنينة الخمر التي كان يضعها في ركن بعيد أمسكها بحنان ورضع منها رضعة طويلة مسح شفتيه بكم قميصه ثم أعادها قرب الضوء المتراقص هو الآن في ذروة نشوته وقريباً سيمتلك العالم.. وسيعرف جميع من في المسرح الوطني من هو حسن المياحي,, استغرق بضع لحظات ثم تحرك بصعوبة انحنى مرة ثانية الى قنينة العرق وحملها معه ثم فكر مع نفسه: إن الحفرة تزداد عمقاً وليس من السهل الخروج منها.. دخل الحفرة وضع القنينة عند حافتها بحيث يستطيع أن يتناولها بيده وما ان نزل الحفرة حتى اصطدمت احدى قدميه بشيء صلد فانحبست أنفاسه حرك قدمه الأخرى وراح يرقص ويهمس لنفسه: لقد وصلت لقد نجحت..لم يكن في الحفرة إلا طين رطب لكنه متيقن ان تحت قدمه اليمنى شيء ما وقبل ان يتحسس ذلك الشيء بيده تناول الزجاجة وأخذ رشفة طويلة، كانت شفتاه ترتعشان فرحا بعد ان ترك الزجاجة انحنى ببطء وتحسست أصابعه أخاديد متعرجة لكنها منتظمة ومتوازية،ظل يمرر أصابعه حول ذلك الشيء ليمسك بحافته ثم يقتلعه من الطين بصعوبة رفعه أمام عينيه، وتحت الضوء الراعش دقق النظر لم يكن ذلك الشيء الصلد إلا إطارا مطاطيا صغيرا لحجلة طفل..انها عجلة، من دفنها هنا؟.. ولكن ياترى أي طفل كان يستخدمها؟!! هل كبر الطفل؟!! هل أصبح رجلا وسحقته احدى الحروب؟ تساءل في سريرته ورماها بعيدا، تناول قنينته التي أوشكت على نفاد مافيها من سائل حارق وأفرغها في جوفه وعاد يهمس من جديد.. آه..قد تصلح مشنقة لطفل..لا بأس بها ربما سأستخدمها كقطعة ديكور لمسرحيتي التي لم أكملها بعد..وعاد يحفر في العمق كانت الحفرة قد أضيئت بضوء الفجر الذي راح يغزو الغرفة عبر النافذة الوحيدة وكان المطر قد توقف وصياح الديكة يصاعد مع صوت ضربات المعول المكتومة لقد غاص بعيدا في الحفرة حتى أن رأسه يكاد لايظهر للعيان، لقد انهكه التعب وتعتعه السكر حتى انهار على ركبتيه داخل الحفرة مدد ساقيه الخدرتين فيما ظهره على الجدار الطيني وراح في شبه اغماءة حين نهضت مريم في حدود الساعة السادسة صباحا وهي تتمطى مع حلم لم يفارق ليلتها استغربت من ذلك الصمت،فكرت للحظة خاطفة بأن زوجها لن يخدعها ويهرب بالكنز فهو يحبها وهي التي لم تقصر يوما معه.. (لا لن يفعلها).. فكرت بذلك ودلفت الى المطبخ. رأت آثار أقدام موحلة تنطبع على البلاط ثم عرجت باتجاه غرفة الضيوف لم تر إلا حفرة عميقة وعلى الجدران والأرض آثار من الوحل لأكف مطبوعة وفي زاوية الغرفة إطارا مطاطيا تقدمت بحذر لم يصدر منها أي صوت.. أين ذهب أبن المياحي؟،من المحال أن يخذلها ويتركها مع فتياتها.. تقدمت بحذر الى الحفرة رأت زوجها يغط في النوم.. نصف جسده يغرق في الوحل فيما قنينة العرق تستكين بين فخذيه، لم تتفوه المرأة بكلمة، لم تنهضه من غيبوبته، انما راحت تفكر، كيف ومن أين ستستدين ثمن الفطور له ولبناته الثلاث ومن أين لها ثمن اعادة البلاطات الى حالها وردم تلك الهوة التي حفرها زوجها، وراحت تقلب أقرب الأسماء من ذويها ومعارفها لتستدين منه، فيما المياحي يغط في سبات عميق ربما يحلم بكنوز بعيدة وهو يرقص رقصته المجنونة..تطلعت بخيبة الى أعوامها الأخيرة معه، تلك الاعوام التي لم يصحو فيها يوما.
” ياابن المياحي ما الذي فعلته بنا وبنفسك”..
همست مريم بحسرة وأسى وابتعدت عن الحفرة.. ابتعدت عن غرفة الضيوف.. قررت أن لاتحلم، وهي تجرجر خطواتها بصعوبة.. ابتعدت عن المطبخ.. عن البيت بسقوفه التي ينز منها ماء المطر.. عن زوجها الحالم الذي يفشل دوما، ولم يحقق حلما في حياته..تلاشت رقصته في ذاكرتها.. الرقصة التي طالما رقصها أمامها منذ الصبا.. ابتعدت عن شجرة السدر التي تظلل البيت بعصافير الصبح.. عن اليشن والكنوز.. ابتعدت عن مقبرة اليهود وشط الشويب، ابتعدت عن كل شيء، حتى عن نفسها.. لم تقترب الا من شيء واحد أحد.. شيء مرير وقاس يشبه الاحساس بالهزيمة والخذلان.. شيء لايعبر عنه.. وثمة دمعتان عصيتان تترقرقان في عينيها وهي تنقل النظر بين الأجساد الصغيرة النائمة كما القطط في البرد، تستكين بطمأنينة تحت الأغطية الرثة.. ظلت واقفة هناك تطيل النظر.. و..انهمر المطر مدراراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا