الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما خنت هواك ولا خطرت ..... سلوى بالقلب تبرده

صباح راهي العبود

2015 / 12 / 10
الادب والفن


تكمن روعة الشاعر أحمد شوقي في تمكنه الكبير من البلاغة في الإيجاز وقوة الإحساس لما يملكه من عمق المشاعر وصدق العواطف الى جانب الخصب والعطاء الشعري الوفير, فكان متجدداً في كل ما كتبه من أبيات شعر( 23000 بيت) بقصائد شملت كل مناحيه وأنواعه بقدرة وتميز. ومن هذا يتضح جلياً ما يمتلكه من مقدرة وموهبة شعرية أهلته للقب ( أمير الشعراء) . وعلى الرغم من أنه لم يعد من الشعراء الصوفيين, لكنه إستطاع بلوغ قمة التصوف في وصف العشق والعشيق ,وظهر ذلك جلياً في قصيدته الشهيرة ( مضناك جفاه مرقده ) التي دخل من خلالها الى قلوب العشاق وذواقي الشعردون إستئذان فإستحوذ على مشاعرهم وعواطفهم . لقد كانت كلمات القصيدة تنساب وكأنها لحن موسيقي شجي يثير إذن كل من إمتلك حساً مرهفاً ومقدرة على تمييز الجمال وتلمسه. وهذا ما كان يمتلكه الموسيقار محمد عبد الوهاب والذي جعلته يختار بإندفاع بعض من أبيات هذه القصيدة ليضع لها لحناً شجياً بقي خالداً حياً على الرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على إنجازه لما له من عذوبة وروعة نادرة. ولم تكن تلك القصيدة هي الوحيدة التي لحنها عبد الوهاب لشوقي ,فقد سبق ذلك تلحينه للكثيرمن قصائده وبتشجيع من الشاعرنفسه قبل رحيله عام 1932 بعد أن أدرك مقدرة عبد الوهاب على صياغة الألحان الرقيقة وما يمتلكه من حنجرة ذهبية لها القابلية على تلبية كل ما يطلبه منها في اثناء الغناء سواء أكان صعوداً أم نزولاً أم إمتداداً ,ثم واصل عبد الوهاب تلحينه لقصائد أخرى لشوقي بعد رحيله إذ وضع لها أرق الألحان التي أثارت العشاق والمعذبون في الحب منها :-
ردت الروح , ياجارة الوادي , يانائماً رقت جفونه , علموه كيف يجفو فجفا , بلبل حيران , ياما بنيت قصر الأماني , سجى الليل , أوبريت مجنون ليلى , جبل التوباد , في الليل لما خلي , مقادير من جفنيك , أنا أنطونيو ... وغيرها .
لقد لحن عبد الوهاب قصيدة (مضناك جفاه مرقده) وغناها في عام 1938 أي بعد وفاة شوقي بأعوام عدة ,وتعد هذه القصيدة من أروع ما اختاره من شعر شوقي إذ إرتفعت به الى قمة مجده الفني تلحيناً وغناءاً بعد أن كانت إحدى المحطات المضيئة في حياة شوقي الشعرية لما تميزت به القصيدة من إنضغاط شديد في الكلمات والمعاني والألفاظ وما إحتوته من رمزية رائعة .
بعد أن ذاع وإنتشر خبر الأغنية أخذ الناس يتلهفون لسماعها من خلال أجهزة الكراموفون و أجهزة الراديو حينذاك ,وكان الكثير من محبي الأغنية لا يفقهون ما ورد فيها من كلمات على الرغم مما يثيره فيهم سماع الأغنية من طربية في نفوسهم ينقلهم الى عالم الرومانسية اللذيذ ,واستمر هذا ولحد الساعة ,ففي مقابلة أجريت لممثل شهير بثت على شاشات التلفاز قبل فترة من الزمن ذكر هذا الممثل بأنه يذوب طرباً لدى سماعه أغنية (مضناك جفه مرقده) لعبد الوهاب على الرغم من عدم فهمه لكلماتها !!.
إزاء كل ما تدم نجد حاجة لتقديم شرح مبسط ومقتضب لما كان يعيه الشاعر في هذه القصيدة وفقط للأبيات التي إختارها محمد عبد الوهاب في لحنه الخالد .
خذ البيت الأول في وصف عذاب العاشق بمحبوبته :- مُضناكَ جفاهُ مَرقَدُهُ ...وبَكاهُ ورَحَمَ عَوَدُهُ
(مضناك) تعني هو المضنى بك وعاشقك أسير هواك . (جفاه مرقده) فهو غادر الفراش (وهي رمز للسهر) فأصبح سهراناً مسهداً لاينام الليل.
أما ( بكاه ورحم عوده ) فتعني أن كل من زارحبيبك وعاده في مرضه قد بكى عليه بعد أن أعياه المرض وكان زواره يشفقون عليه ويترحمون بعد أن أصبح مشرفاً على الموت.
وفي البيت الثاني :- حيران القلب معذبه ... مقروح الجفن مسهده
فهو يصف الحالة الصحية للحبيب ,فقلبه معذب حائر,وجفنه مقرح من البكاء وعذابه في السهر .ويلاحظ القارئ أن الوصف قد تم بكلمات مركزة مكثفة ورمزية .
لقد إستطاع شوقي منح السامع صور جميلة مرسومة بإبداع بعيد عن التصنع,وهذا حصيلة ما كان يملكه الشاعر من ثقافة وتراكيب لغوية ثرة وتمكن على الحفظ منحه المقدرة الكبيرة على وصف مشاعره وحالته الوجدانية ببساطة خالية من التكلف .
بعد البيتين المذكورين اللذين وصف فيهما الشاعر عذابه وسهره الليالي من أجل حبيبته عاد ليكمل ...
يستهوي الوِرقَ تأوهه .... ويذيب الصخر تنهده
يناجي النجم ويتعبه ... ويقيم الليل ويقعده
فالحبيب يخبر حبيبته بأن الوِرق (نوع من الحمام) أثناء طيرانه يهوي أرضاً عندما يسمع تأوهاته ,أما تنهداته فقد أذابت الصخر وإنه يقضي الليل هائماً ,و يقضي ليله يناجي النجوم وقد أتعبتها تلك المناجاة , فهي سميره في سهاده.
فهل بعد هذا من شك على إمتلاك شوقي ثقافة لغوية راقية مكنته من قول الشعر بعيداً عن الإبتذال والضحالة إذ كانت قصائده خير معبر عما يمتلكه من رقي وروعة في طرح مشاعره بطريقة مستحدثة متجددة. ويمكن ملاحظة ذلك الرقي وتلك الروعة في وصف جمال الحبيب فيقارنه بجمال النبي يوسف (ع) الذي ورد في القرآن الكريم في سورة يوسف, إذ يمكن أن تكون حبيبته بهذا الوصف التي هي جديرة به :-
الحسن حلفت بيوسفه ... والسورة إنك مفرده
ثم يعرج على ما جرى للنساء المصريات في قصر العزيزاللواتي حززن أيديهن في أثناء قيامهن بعمل يحتاج الى سكين ولم يشعرن بذلك لِما ركبهن من إندهاش لجماله لدى النظر الى وجهه الذي يشع نوراً وهاجاً.
وتمنت كل مقطعة يدها ... لو تبعث تشهده
ولو علمت بجمالك تلكم النساء اللواتي قطعن أيديهن بسبب جمال يوسف ,لتمنين ولفعلن فعلتهن تلك إذا ماشاهدن ما أنت فيه من جمال وحسن .
والشاعريصف عتب الحبيب على حبيبته لجحودها لحبه بكلمات مختصرة تدل على مقدرة شعرية قل مثيلها. فيقول له إذا أنكرت عيناك ماشهدته من جروح وتقرحات على وجهي بسبب الدموع الجارية فيه,فإني أطلب أن تشهد خدودك على ذلك بعد أن صعب (عز) عليُ إيجاد شهود أخرين.
جحدت عيناك زكي دمي ... أكذلك خدك يجحده
قد عز شهودي إذ رمتا ... فأشرت لخدك يشهده
وهنا لابد للحبيب من تاكيد حبه وعشقه اللامحدود لحبيبته كما في الأبيات التي تلي :-
بيني في الحب وبينك ... ما لا يقدر واش يفسده
ما بال العاذل يفتح لي ... باب السلوان وأوصده
ويقول تكاد تجن به ... فأقول وأوشك أعبده
وهذا يمثل تحدياً للوشاة إذ لا يمكنهم إفساد ما بيني وبين الحبيب من حب , لا بل وأتحداهم إن هم أثروا سلباً عليه. فسأقف بالمرصاد لكل حاسد وعاذل ,وأصد كل محاولة تخريب يسعى لها الوشاة ولم أسمح بذلك .وعندما حذروني من الإصابة بجنون الحب إستهنت بذلك وأخبرتهم بأن حبي قد أوشك أن يتحول الى عبادة للحبيب.
لقد سرق الحبيب( مولاي ) قلبي وإني لا ألومه على ذلك لا بل أدعو له بالخير( سلمت يده ) . وهو ساكن في قلبي وغدت أضلاعي حصناً منيعاً تحفظه من كل المخاطر .وما دقات قلبي إلا تراتيل له وهو في معبده الأبدي.
ناقوس الحب يدق له ... وحنايا الأضلع معبده
أخيراً يقسم الحبيب لحبيبته ويعاهدها على أن لا يخونها ولا تخطر على باله لحظة للتفكير بتخفيف جذوة حبه وهيامه .وقد جاء هذا القسم على هيئة تغزل بجمال الحبيب وبثغرها الباسم الذي يكشف عن أسنان لؤلؤية مصفوفة بعناية كحبات ياقوت .
قسما بثنايا لؤلؤها ... قسم الياقوت منضده
ما خنت هواك ولا خطرت ... سلوى بالقلب , تبرده
لقد كان للتنوع اللحني والتوزيع غير الصاخب للموسيقى دورفي رقي الأغنية ونجاحها منقطع النظير ,ولقد إختار الملحن لحنا لها من مقام (حجاز كار) الذي يتميز برقته ووقعه الجميل على أذن السامع ما أضفى على الأغنية مسحة الحزن والشجن والحنين ,فكان لحناً صافياً ونغماً رائعاً يردده الجميع ,فانتشرت الأغنية في بقاع العالم العربي لتصبح خالدة على مر عقود من الزمان .
إن أغنية (مضناك جفاه مرقده) إرتبطت بعظمة الشعر وروعة اللحن وبخصائص صوتية نادرة من حنجرة لها قدرة على التحول والإستجابة لما يطلبه المطرب منها ممزوجة بعواطف وأحاسيس مرهفة رائعة مما أعطى للأغنية تأثيره القوي في أحاسيس المتلقين فأضحت وكأنها لوحة وتحفة فنية رائعة تطرب كل من يسمعها .
لقد أثار نجاح الأغنية الكثير من المطرين , فكان أولهم عبد الحليم حافظ الذي غناها بمصاحبة عود عبد الوهاب المنفرد نفسه في سهرة غنائية بثت من إذاعة القاهرة أواخر خمسينات القرن الماضي . وفي محاولة مني لجرد أسماء المطربين اللذين أدوها وتم تسجيلها بالصوت والصورة إستطعت الحصول على أكثر من 135إسماً لمطرب ومطربة منهم :- فيروز, أنغام, لطيفة, عادل مأمون , حسين الجسمي , عبد الله رويشد.....الخ.
إن فهم المطرب لما تعنيه كلمات القصيدة هذه وإستيعابها يمكن أن يتضح من خلال إندماج المطرب وإنسجامه معها وتعابيره الجسمية في أثناء الأداء. وتبقى ألحان محمد عبد الوهاب وصوته خالدين لعقود أخرى قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج