الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهَنْكَرة والمَبْخَرة

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2015 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


"لكنها تدور"

الهَنْكَرة والمَبْخَرة
د.خالد سالم
من فوائد ثورات الربيع العربي الغير مرئية أننا أدركنا أمد بعض أوهامنا التي تولدت على إثر ما حدث نتيجةً لمقتل شابين، المصري خالد سعيد و التونسي طارق البوعزيزي، فتيلا هذا الربيع المؤود. ومن أبرز هذه الأوهام محاولة من بيدهم الأمر الايهام بأن الأمور لم تتغير، سيرًا على خطى أسلافهم الذين اقتلعتهم رياح الانتفاضات الشعبية، وتهز عروش الآخرين بينما يحاول هؤلاء الأشاوس التشبث بسدد حكم نسجتها العناكب بينما يُطبق الغرب بيديه عليها. لم يدركوا بعد أن حكم الحزب الواحد والمستبد المستنير انتهى مهما طالت أمد سياسة النعام والإيهام، وخلفهما ظاهرة السراب التي نصبوها لشعوب تُضمر الكثير.
بيد أن سند أصحاب هذه السُدد الهشة، حكامًا ومسؤولين من أي درجة، لا تكمن في ذواتهم بقدر ما تكمن فيمن يدقون لهم الطبول ومن يحرقون لهم البخور. ويدرك من بيدهم الأمر، على أى مستوى هرمي في الدولة، أنهم لن يعدموا من يتبرع لهم بدق الطبول وحرق البخور، فتتأصل فكرة المبخرة. ومع مرور الوقت، وانطلاقًا من تصديق الكاذب لأكاذيبه مع تواترها، يقتنع المسؤول أن البساط الأحمر إرث له، اصطفاه الله به وعلى الشعب الإذعان له. لكنه في برهات، يخرج بها من أحلامه وأوهامه، يدرك أن عليه أن يلاعب الرعية،، لا المواطنين، فيوهم المتلقي المنغمس في الركوع وحرق البخور لما يبذله من أجل الرعية ، ولسهره الليل من أجلهم، وهنا يلجأ إلى الهنكرة، فتقفان، الهنكرة والمبخرة، في وضع تتبادلان فيه الغمز والتناضح.
تبرز اللهجة المصرية بتراكماتها الثقافية كون أرض الكنانة نقطة جاذبة لثقافات وحضارات عديدة ومعبرًا للغزاة والمحتلين، وهو التميز الذي اكتسبته من موقعها الجغرافي بين حضارات وثقافات مختلفة. وعليه فإن لهجة أهلها تحتفظ برواسب لغوية تثريها وتجعل لها خصوصية تؤدي بها إلى توليد ونحت وابتكار ألفاظ تضرب بجذورها في لغات الثقافات والحضارات التي احتضنتها مصر.
ومن بين المفردات التي لا وجود لها في اللهجات العربية الأخرى لفظة الهَنْكَرَة، وهي على وزن لازمتها في دنيا الرئيس والمرؤوس، المَبْخَرَة. والهنكرة أداة من أدوات الخداع والاحتيال لتحقيق أغراض لا تتحقق بالعمل والجهد والاستقامة، وتأتي في زمن قياسي بنتائج اشرأب لها صاحبها عبر طرق ملتوية. ولا يجرؤ الهنكار، أي الذي يمارس فن الهنكرة، على امتطاء صهوتها إلا إذا رأى من يحملون المبخرة ، بكافة أنواعها بدءًا بالمباخر الطينية ومرورًا بالفخارية إلى الكهربائية، ليحرقوا له البخور. وبدلاً من أن يجلب البخور البركة ويطرد الشياطين، وهي وظيفته الأصلية في معابد شرق آسيا منذ ابتكاره، تتغير وظيفته تمامًا فيأتي بالخراب ويجذب أبناء إبليس ليعيثوا فسادًا وينهبوا ما ليس لهم.
واستولد أهل مصر لفظة أخرى من الهنكرة وهى الهنكار، أي معتلي صهوة الهنكرة، سواء أكان مسؤولاً كبيرًا أم صغيرًا، رئيس دولة أم رئيس شحاذين، وهو على وزن منشار، وكلاهما لا يفل في الأكل، طالع نازل، بينما يبتسم الضحايا المتبرعين، ويهدون الهنكار ألف أغنية وأغنية لمسيرته الثرة والبهية. وإذا توقفنا أمام محفوظات وحوليات الموسيقى العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة سنجدها مترعة بالأغاني والأناشيد إلى آخر يوم في جلوس الرؤساء الذين أطاحت بهم ثورات الربيع العربي ومن لا يزالون ينعمون بقصور الحكم وسط سوس الفساد الذي ينخر سددهم.
لا يدرك الهناكير -على وزن مسامير ومنابير ومزامير، وكلها لها فوائد تختلف حسب اللحظة والحاجة إليها-، ومعهم حارقو البخور لهم، هشاشة المناصب وزوالها في أي لحظة في دول حُرمت من نعمة المؤسسات الفاعلة. والغريب أن حاملي المباخر لا يتورعون في التراجع عن مواقفهم التطوعية فور سقوط الهنكار أو تحوله إلى التقاعد. وهذا الموقف يتكرر مع الهنكار والمستقيم سواء. وهنا تحضرني وقائع في هذا السياق عشتها عن قرب. فقد حكى لي وزيران اشتكيا من عدم توقف رنين الهاتف وهما في الوزارة وفي اليوم التالي لخروجهما منها لم يُنعم أي واحد من حارقي البخور على أحدهما بمخابرة واحدة.
كان من بين حسنات ثورة يناير 2011 أن أعادت للجامعات المصرية نظام انتخاب العمداء، وهو النظام الذي عطله مبارك في عام 1994. وذات صباح أشعث أصر الزملاء على ترشيحي وانتخابي عنوة ومحبة وتقديرًا لشخصي. اعطوني أعلى نسبة من الأصوات رغم ترشيحهم لي للمركز الثاني مبدئيًا. يومها تلقيت مكالمات من العشرات من زملاء لم يكن بيننا تواصل منذ سنوات. وكان هذا الحدث بداية طريق أغبر لأن من بيدهم الأمر، وهم يحتلون مقاعد ليست لهم، اعتبروه سابقة ستسقطهم من على كراسيهم الصدئة. ورغم زهدي في المنصب إلا أن السهام انهالت عليَ وأدخلوني متاهات وغياهب فسادهم بالتزوير والتدليس، واستمرأوا التنكيل بي لاثبات أنهم على حق بأفعالهم الرثة المخالفة القانون والدستور واللوائح. ومن يومها لم اتلق سوى مكالمات معدودة من أوفياء بينما تلصص علي آخرون ضمن لعبة المبخرة والهنكرة، وتلون الحرباء، متناسين هشاشة المناصب التي يعملون خدمًا وجواسيس لها.
قد يكون وطننا العربي أكثر بقع اليابسة التي نادت أبواقه بالحرية ورفع الرأس منذ ثورات التحرر العربي في القرن العشرين، إلا أننا نسعى دائمًا للبحث عن جلادين، عن الطاغية المستنير، ولا نقترب من الحرية والديمقراطية وكأنهما رجس من عمل الشيطان، ونواصل استمراء الاستلاب أمام الآخر منذ سقوط بغداد على يد المغول في الشرق وبعدها غرناطة في الغرب.
الوضع اليوم في وطننا العربي الكبير، بأغلبيته وأقلياته، لا يسر سوى الصهاينة وبعض العواصم الغربية. لقد أصبحنا منبوذين من هذا الآخر ونتقاتل مستحدثين أسلوب ممالك الطوائف في الأندلس. في شباب أبناء جيلي كنا نبكي عند سماع فيروز تتغنى بكلمات هارون هاشم رشيد في قصيدة "الغرباء"، وكان بكاؤنا على فلسطين، أما اليوم فأصبحت كلمات هذا الشاعر الفلسطيني المنسي تنسحب على الوطن كله من المحيط إلى الخليج. ومن بين كلمات تلك الأغنية تشدو فيروز وتتساءل:
لِمَاذَا..؟
نَحْنُ يَا أَبَتِي..؟
لِمَاذَا، نَحْنُ أَغْرَابُ!؟
أَلَيْسَ لَنَا، بهَذَا الْكَوْنِ
أصْحَابٌ، وَأحْبَابُ؟
أَلَيْسَ لَنَا أخِلَّاءُ
أَلَيْسَ لَنَا أحِبَّاءُ؟
لِمَاذَا..؟
نَحْنُ يَا أَبَتِي..؟
لِمَاذَا، نَحْنُ أَغْرَابُ!؟
لماذا نحن لا نزرع أحرارًا بأيدينا؟
ونأكل خير موطننا ونعطيه ويعطينا؟!
لماذا لا نسقيه من جهدٍ ويسقينا؟

أصبحنا مسكونين بوجع بلاد مسروقة، وطن تطحنه حروب ومؤامرات، داخلية وخارجية، وتسرق من أطفاله براءتهم وبراءة وطنيتهم ونقاء قوميتهم وثراء تنوعه الديني والعرقي. المخرج لا يزال في أيدينا قبل أن نلقي باللائمة على الآخر، فلو لم نهن على أنفسنا لما استهان بنا الآخر و"تآمر" علينا، حسب أبواقنا وحملة المباخر. الحل يكمن في الداخل، في اعادة ترتيبه بدءًا بتفعيل دولة المؤسسات فهي الكفيلة بمراقبة الجميع، من رأس الهرم إلى قاعدته، بلا استثناء، مؤسسات قادرة على اقتفاء اثر الفاسدين وعقابهم بموجب القوانين المتراكمة التي تعج بها الأرفف والأقراص المدمجة.
رغم ضبابية الوضع والشعور باطباق المفسدين على أعناق الأغلبية، وهي نظيفة الأيدي، فإننا لم نعدم امكان الإصلاح. فعندما تشعر الأغلبية بأن البلد له وبوجود مشروع قومي أو وطني مشترك يجمعها فإن السياق، من ظروف استثنائية ووجود دولة مؤسسات، يحمل المواطن على السير على الصراط المستقيم.
وهنا تحضرني واقعة إيجابية بطلها صديق كان يسعى لاستصدار تراخيص شركة في الشهور الأخيرة من عام 2010 وعانى الأمرين من فساد موظفي الوزارة المعنية. وفي مارس 2011 حصل على الترخيص، فما كان منه إلإ أن حمل "هدية محبة " للموظفة المسؤولة على جهدها وقيامها بواجبها، فما كان منها إلا أن نهرته وأفهمته أن الماضي البائس انتهى ولن يعود وعلينا اجتثاث الفساد من أجل بناء مصر الجديدة التي روتها دماء شهداء الثورة ". رغم احمرار وجه صديقي أمام موقف الموظفة عاد منتشيًا داعيًا من حوله إلى السير على نهج تلك الموظفة الشريفة.
شهدنا في بر مصر، بعد الثورة، أن الجموع أخذت تنظم نفسها وتنضبط في الكثير من الأمور اليومية كالطوابير في المؤسسات العامة والخاصة والسير في الطرق ورفض الرشوة والمحسوبية... كنا في حلم لم يدم كثيرًا، إذا سرعان ما خابت الآمال ودب اليأس في النفوس وأصبحت الطرق في أرض الكنانة تشهد أعلى معدل وفيات بسبب الانفلات والهمجية، وكأن الكل يحاول أن ينجو بنفسه من محرقة لا يحدد مصدرها.
الحل لا يزال بأيدينا، بعيدًا عن المثل القديم "بيدي لا بيد عمرو"، قبل أن نضطر إلى تجرع السم أو نسير على خطى الهنود الحمر لنصبح أقلية في وطننا العريض. علينا أن نتعايش مع العالم انطلاقًا من مسلمات الحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات الفاعلة. لا مفر من الإصلاح، التطهير Catharsis، حسب مفهوم المأساة عند أرسطو، أو علاج الداء بالداء بغية الشفاء من أفة المبخرة والهنكرة والخروج من الرماد كالعنقاء، الأسطورة التي قدمها طمي النيل للبشرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي وقصف مكثف لشمال القطاع | الأخب


.. صنّاع الشهرة - تيك توكر تطلب يد عريس ??.. وكيف تجني الأموال




.. إيران تتوعد بمحو إسرائيل وتدرس بدقة سيناريوهات المواجهة


.. بآلاف الجنود.. روسيا تحاول اقتحام منطقة استراتيجية شرق أوكرا




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل.. هل تتطورالاشتباكات إ