الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يقول عزيز

عدنان اللبان

2015 / 12 / 16
سيرة ذاتية


لم تمض ثلاثة ايام إلا وقد انتشر الخبر بين جميع الموجودين في القاعدة , لا بل وصل حتما الى مقر القاطع , وهو لا يبعد اكثر من نصف نهار سيرا على الاقدام والمفارز في ذهاب ومجئ يوميا . وماذا يهم ؟ اصدقائي في مقر القاطع او في السرايا سيسمعون ان لم يكن اليوم فغدا . المشكلة ليست اذا سمعوا اليوم او بعد عدة ايام , المشكلة هل سيصدقون ؟ جميع الانصار الذين عملت معهم في المفارز او المقرات يعرفونني جيدا , فلم اتردد يوما في تنفيذ اية مهمة مهما كانت صعوبتها . لقد تعودنا ان لا يرسل اي نصير في عملية مشتركة مع انصار باقي الاحزاب الاخرى الا من الرفاق الموثوقين بسلوكيتهم و بقدراتهم الانصارية , حفظا على سلامة سمعة الحزب في المعارك اضافة الى ان الكثير من انصار باقي الاحزاب الاخرى كانوا يسيئون الى الفلاحين ان لم يقدموا لهم افضل الطعام وأفضل الفراش . وطيلة السنتين الماضيتين لم تشكل مفرزة مشتركة في القاطع الا وانا من المشاركين فيها .

في بداية الامر تغافلت عن الموضوع رغم ان الاغلبية تعرف , الا ان من تقاليد العمل الانصاري الالتزام وعدم الثرثرة . ولكن البعض يجد لذته القصوى في الثرثرة ونشر الاخبار , وهنالك من لقب بالليبرالي اي الذي لا يضم سرا , ومن بينهم حبيب الذي رفع يده اليمنى عندما قابلني وفتح كفها بحركة تدل على الانتهاء للتأكيد : ها يابه شكَال البهلول ؟ مو كَلنه بعد جم يوم ما راح نشوفه للسجين , ينطك بالدهن والله وياه , حضر نفسك اخويه اجتي مثل ما تريد .
درج حبيب على بث وإشاعة الاخبار قبل ان تنشر , وبعضها اسرار , وعندما يسال عن مصدر الخبر يقول بانه حصل عليه من بيشمركَة الاحزاب الاخرى , ولكن هذه المرّة سأله اكثر من واحد وسرّح الجواب في مسارات اخرى . المسالة هذه المرّة داخلية ولا يمكن ان يكون مصدرها شخص خارج الحزب , وغير مسؤول . حبيب على علاقة وثيقة بآمر فصيل المقر , ولكن من المستحيل ان يعرف آمر الفصيل قبل اكثر من يوم على العملية . في اغلب الاحيان لا يستطيع احدا ان يفرق في كلام حبيب هل هو تأكيدا ل ليبراليته المعهودة ام صادقا في تساؤله فالاثنان مشبعان بالسخرية وهو ما استفزني عندما سألني : علينه النوب ؟ يعني معقولة ما بلغوك لحد الآن ؟! لو تريد تضمها علينه ؟

كنت في العاشرة من عمري عندما اعدم البعثيون والدي عام 1963 , وظلت والدتي تعمل في صنع الطرشي ونحن نساعدها حتى اخذ الناس بعد فترة يسموننا ولد ام الطرشي . اعتقل اخي الكبير عام 1979 لكونه شيوعي ايضا ولم نعرف عنه شئ لحد الآن . وفي عام 1980 سفرت والدتي وأختي وأخي الصغير الذي ولد بعد اعدام والدي الى ايران وقبل ان يصدر صدام قراره بحجز الشباب الفيلية وتسفير الاهل بيومين فقط , تمكنت انا من الاختفاء والصعود الى كوردستان للالتحاق بالأنصار في بداية عام 1982 . نفذنا عشرات العمليات العسكرية وخضنا عدة معارك , وجرحت مرتين , الاولى عندما كنت في السليمانية التي التحقت اليها قبل ان انقل الى اربيل . كنا اربعة انصار ومعنا بغل محمل عندما طوقنا بالكامل من قبل الجحوش الذين استسهلوا عددنا . كان الوقت قد تجاوز الرابعة عصرا ونحن في تشرين الثاني ولا احد يعتقد ان الجحوش يستمرون في مفارزهم الى هذا الوقت , كانوا في عز الصيف ينسحبون في الرابعة عصرا . الذي خدمنا اننا حوصرنا في منطقة مليئة بالأشجار وتكاد ان تكون غابة وهي عند نهاية سهل شهرزور وبداية السلسلة الجبلية التي تفصلنا عن ايران . اعتقد آمر الجحوش بأننا سنستسلم , وزاد كثافة النيران علينا , جرحت ليس بطلقة نارية بل بشظية من الحجر لصلية بي كي سي موجهة للصخرة التي استتر خلفها والأخرى التي بجانبي وقد دخلت في العضلة الخلفية لرجلي اليسرى . كنا قد اربكناهم بعدم اعطائهم الفرصة لتضييق دائرة تطويقهم لنا . وبعد اقل من نصف ساعة مالت الشمس الى المغيب فاضطروا للملمة وضعهم باتجاه الشارع العام المقابل للغابة حيث كانت سياراتهم الثلاث متوقفة هناك .انسحبنا وبعد قليل اشتعلت النار في رجلي اليسرى ولم اعد قادرا على الحركة , احد الرفاق اخرج السكينة التي يحتفظ بها وعقمها على لهب قداحة , وعلى ضوء مصباح يدوي وسع الجرح وسحب الشظية ومن حسن الحظ كان البغل سالما , وضعوني عليه فوق الحمل ووصلنا المقر بعد ساعتين . في اليوم الثاني عرفنا ان احد اللذين جرحناهم من الجحوش قد فارق الحياة .
لا اعرف لماذا اسرد هذه الوقائع . قد اكون بحاجة لأذكر نفسي قبل ان اذكّر الآخرين باني لم اكن يوما خائفا من اي تكليف حزبي او انصاري , ولكن من قال ذلك ؟! لا احد . لقد تعبت خلال الايام الثلاثة الاخيرة , وقد يكون حبيب صادق في مشاعره نحوي وهو اكيد صادق , ولكني شعرت بكلامه مثل نصل السكين ينغرز في احشائي . السجين كان شيوعيا ايضا , وفي عام 1979 تم ايقافه من قبل الامن حاله حال آلاف الشيوعيين في كل العراق , وبدل ان يدفع اقل الخسائر - رغم صعوبتها - بتوقيع التعهد وعدم العمل مع اي حزب آخر غير البعث , الا انه تخاذل وتعاون معهم . ذهب الى سوريا واحتضنه الحزب وذهب الى بيروت حيث دخل دورة عسكرية مع رفاق آخرين , وعاد الى كوردستان , ومنها ارسل الى مدينته في الجنوب لإعادة تشكيل المنظمات التي دمرت وإعادة العلاقة بمن سلم من الرفاق المقطوعين , وظل على هذا المنوال لما يقارب الخمسة سنوات نزل فيها وعاد الى كوردستان اكثر من عشرة مرات . وعند كشفه بسبب كذبه الذي رافق نزوله الاخير , انهار واعترف , وعرف حجم الدمار الذي سببه والرفاق الذين اعدموا بسببه , والاحتجاز لبعض عوائل الانصار .

زاع كل ما بداخله دون ان يمس حتى ولو بكلمة جارحة , كانت صدمته التي جعلته ينهار بهذه السرعة ان مفرزة الجحوش التي القت القبض عليه عند نزوله في المرّة الاخيرة وسلمته الى مديرية الامن في اربيل كان بينها رفيق , احد الجحوش عاجله بصفعة وهو يدخله السيارة , ولشدة الصفعة انطبعت صورة الجحش في ذهنه , وهو الذي يحقق معه الآن .
اعترافات السجين وتمرغه في قذارة البعث , اعادت لي صورة والدي الذي اعدم وهو في عقده الثالث . كان نجاراً في احد فروع سوق الصدرية المشرفة على ساحة العوينة يوم كانت اهم ساحة شعبية لكرة القدم في بغداد , كان يأخذني كثيرا الى دكانه عصرا كي نتفرج على لعبة كرة القدم بين الفرق البغدادية التي تأتي من كل احيائها , ولهذا السبب تمكنت ان اكون لاعبا في احدى فرق الدوري الممتاز . عادت صورة اخي الكبير الذي فقدنا اي اثر له , وتسفير اهلي الى ايران , وعشرات صور الرفيقات والرفاق وبالذات الذين كانوا معنا في الانصار وتم الايقاع بهم بسبب هذا الوضيع الذي امامنا والذي فقد كل شئ واخذ يتوسل كل من موجود في المقر .
منذ ان فتحنا عيوننا ولحد الآن , لم ير العراقيون على يد البعث غير الذل والدمار ولا يزال الحبل على الجرار . كنت اشبه بالزيت الذي يغلي , فهذا امامي ولا استطيع حتى ان افرغ كلمة جارحة في اذنه , كان ممنوعا علينا ان نوجه له اية اهانة او شتيمة , وفي هذه اللحظات كتبت رسالة سلمتها مباشرة الى المسؤول السياسي للمقر طلبت فيها ان اشارك في اعدامه بعد ان يصدر الحكم بحقه .

كان ذلك قبل اكثر من اربعة أشهر , تمكن الحزب خلالها من ايصال توجيهاته الى تنظيم الداخل والتأكد من المعلومات التي اعترف بها السجين . كان الحزب يمتلك ثلاثة قضاة في حركته الانصارية , ولهم باع طويل وخدمة كبيرة في المحاكم . تولى احدهم التحقيق معه , وأكمل الاجراءات التي تضمنت عدم الضغط عليه واستنفاذ حدود الممكن في اخراج المعلومات التي بحوزته , وظهر انه رفع الى رتبة نقيب شرطة في الامن نتيجة الخدمات التي قدمها لهم . منحه القاضي فرصة الدفاع عن نفسه , والاستفادة من افادة اي رفيق يعتقد انها في صالحه . وظنها سخرية , فهو يدرك ان لا شفاعة له , ولكن امله كبير بالحصول على العفو نتيجة طيبة الشيوعيين التي لا يمكن ان تدفعهم لقتل رفيق ارتكب خطأً , والحزب يعرف انه تعاون مع الامن بسبب الرعب والعذاب الذي رآه في الامن وتهديده بالاعتداء على زوجته وهي رفيقة ايضا , ولا اعتقد ان الحزب يقبل ان يصادر شرف الرفيقات .
سأله الرفيق القاضي : كملّت ؟ اخفض رأسه , وأكمل القاضي : لا احدا طلب منك ان تكون بطلا وتضحي بنفسك وبعائلتك . آلاف الشيوعيين وقعوا تعهدات على ان لا يعملوا مع الحزب الشيوعي , وتحملوا ذل مصادرة ارادتهم طيلة هذه السنين ولكنهم حافظوا على شرفهم وتاريخهم . لماذا لم توقع التعهد وتفلت حالك حال الآخرين ؟! وانهى الحديث معه : لا فائدة من الحديث معك . وأدرك السجين نهاية التحقيق دون ان يسمع اي كلام آخر لا من المحقق ولا من اي رفيق آخر .

تمنيت ان لا ينتهي التحقيق , تمنيت ان يطول الى مالا نهاية . ففي اليومين الاخيرين اللذين اعقبا التحقيق هاجمتني الكثير من الافكار السوداء , وكلها لا تبتعد عن رسالتي التي اطلب فيها تنفيذ الاعدام بهذا الوضيع . لقد اصبحت احقد عليه مرتين , الاولى بسبب جرائمه بحق الحزب والرفاق , والأخرى بسبب اندفاعي وطلبي من الحزب ان انفذ فيه الاعدام ان تمت ادانته , وقد تمت ادانته . انا لست خائفا من قتله , فهو باعترافه مدان , والجميع يعرف كم تسبب بإعدام رفاق ومنهم من كان بيننا منذ فترة قصيرة . اغلب الرفاق يتمنون تصفيته ويستحق ان يعدم عشرات المرات . والذي زاد الطين بله انهم منعوا علينا حتى ان نسمعه اية كلمة خشنة , ولا نأخذه لجلب الحطب , وأول المغتسلين يوم الحمّام ويذهب في اي وقت لقضاء حاجته . لا اعرف كيف سأنفذ العقوبة ؟ وفي اي مكان ؟ وكم المسافة التي ستفصلني عنه ؟ وما سيقال له آخر الكلمات ؟ اليوم ادركت لماذا يضعون كيسا في راس المحكوم بالإعدام , ليس لمساعدة المحكوم كي يتجاوز معرفة اللحظة الفاصلة . لا , الاهم هو ان لا ينظر بعيون من يطلق الرصاص عليه . لا اعرف هل سأرميه بكيس ام بدون كيس ؟ حتى وان وضعوا الكيس ؟! كيف سأتمكن من ان ارمي انسانا مكتوف اليدين والرجلين ؟! حتى وان كان مجرما ؟! هذه هي الحقيقة فعلام اكذب على نفسي ؟ واكذب على الآخرين ؟ لا اعرف هل كنت اريد ان اكون بطلا ؟ ام الحقد اعماني ؟ وطلبت ان انفذ العقوبة . العقوبة ؟ اخاف ان الفظ كلمة الاعدام . كنت اعجب لماذا لا يلفظون كلمة السرطان على المريض ويقولون المرض الموزين او المرض الما يتسمى , انه الخوف , الخوف حتى من الاسم . عشرات الاحلام التي تهاجمني في النوم وأكثرها ايلاما ابنته التي تعرفت عليها عندما التحق بكردستان من لبنان مع عائلته , كانت صغيرة تضحك عندما الاعبها , في الحلم تسألني : عمو وين وديت بابه ... ان بقيت على هذه الحالة سأفقد اتزاني , البارحة ذهبت لأتبوّل عدة مرات , وسألوني ثلاثة حراس في ساعات حراستهم عن السبب , فأجبت : شربت ماءا كثيرا وعندي اسهال ايضا . كنت اتقلب في فراشي , ولا اغفي دقائق لتوقظني الكوابيس . في الصباح وقبل ذهابي الى المستشار السياسي استعنت بالرفيق الطبيب كي يعطيني حبوب اسهال اعالج به تساؤل الحراس عن كثرة ذهابي للتبوّل.

في بعض الاحيان ينسب حدث , او يطلق وصف يتم تداوله بين الرفاق ولا يعلم به الشخص المعني الا بعد ان ينتشر ويصبح على لسان الجميع . وهذا الذي قض مضجعي في كلام حبيب حين بشرني (ان السجين سيطك بالدهن ) وأكمل (حضر نفسك ) . حبيب يعرف كم كنت متحمساً للمشاركة في تصفية هذا المجرم , وهو سيعرف حتما من صديقه آمر الفصيل او انه سيكون من بين الذين يكلفون بتنفيذ العملية ولم يراني معهم , فماذا سيفسر موقفي ؟.. حبيب حتى وان لم يتكلم وينشر الخبر , فان حركات وجهه وجسمه ستقول اكثر مما يتحدث , ويحول الموضوع الى مسخرة ويجعل منه مسرحية . انه يعرف جيدا اني احتقر اي جبان حتى وان كان اقرب الناس الي , وحصلت مواقف فيها تراجع اقل من هذا بكثير ووصفناها بالجبن , بالتأكيد سيعتقد اني كنت اكذب وامثل عليهم . ولا توجد اية وسيلة لإيقاف ليبراليته , لا صداقة ولا رفقة ولا ان يكون الآخر امتلك قناعة اخرى . قناعته فقط هي التي تحدد ما سيقوله , وقد حدثت عدة متاعب بينه وبين قيادة القاعدة بسبب ( ليبراليته ) ولم ينفع معه كثرة التنبيهات .

استغرب المستشار السياسي قدومي اليه في هذا الوقت المبكر قبل تناول فطورنا , كنت اريد ان اسبق الوقت قبل ان يصدر الامر لنا , اردت ان اعتذر عن التكليف قبل ان اكلف وأكون رافضا له , وقبل ان يعرف آمر الفصيل او اي شخص آخر . ذكرته بموضوع الرسالة ورغبتي بخصوص السجين , وطالما سينفذ الحكم به خلال هذه الايام فانا ليست لدي القدرة على ان اطلق النار على شخص اعزل , ليس جبنا وتعرفوني جيدا , جئتك كي تعفوني من هذه المهمة . اجابني وقد ادرك سبب قدومي المبكر : اولا احنه ما نعدمه للسجين ولا هي من صلاحيتنا , احنه نرسله للمقر العام والقيادة هي تقرر شراح تتصرف وياه . ثانيا ليش تفكر بان تراجعك جبن ؟! مو بس انت ما تكَدر , آني هم ما اكَدر , واغلب الرفاق مايكَدرون , هذي مو معركة وانت تعرف الفرق بين الاثنين . على كل حال انت منو خبرك بان راح ينعدم؟ اجبته : حبيب . اجابني متضايقا : هم حبيب . وأكمل بعد لحظات : قبل ثلاثة ايام خبرت آمر الفصيل وكان معه حبيب بأننا سنخلصكم من نقطة حراسة السجن وقصدي هو ان نقلل الواجبات . وفسرها حبيب على رغبته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع