الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعود الفاشية الجديدة في أوروبا

ماري الدبس

2015 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية



صعود الفاشية الجديدة في أوروبا:

عود عن بدء أم مرحلة يمكن تجاوزها؟


هل يمكن تشبيه أوروبا اليوم بتلك التي سبقت صعود النازية والفاشية وما جرتاه من ويلات على البشرية جمعاء؟ وهل أن التاريخ، الذي انقضى منذ سبعين عاماً بالانتصار على الفاشية بفعل مقاومين أبطال من الاتحاد السوفياتي إلى فرنسا وبريطانيا وايطاليا واليونان والصين وغيرها، يتجدد اليوم بمهزلة أو مأساة جديدة – كما كان ماركس يقول – ستؤدي إلى توسّع "الحرب العالمية الثالثة" التي نعيشها في منطقتنا وغيرها من المناطق؟

إذا ما نظرنا إلى الظروف الموضوعية للمرحلتين، يستوقفنا الكثير من أوجه الشبه بين الأزمة العامة للرأسمالية التي انفجرت في العام 1929 في وول ستريت، المركز المالي للولايات المتحدة الأميركية، والتي شملت بنتائجها السلبية كل أوروبا، الغربية على وجه التحديد، وبين الأزمة المماثلة التي بدأت طلائعها في العام 2002 لتنفجر بعد ست سنوات ولتتابع رحلتها الأوروبية والعالمية حتى يومنا هذا.

فصعود النازية والفاشية في أوائل الربع الثاني من القرن العشرين لم يكن سوى النتيجة الحتمية لعاملين، هما: انعكاسات تلك الأزمة المالية والاقتصادية للرأسمالية انكماشاً وفقراً وبطالة وإفلاسات، ترافقت مع ما كانت الحرب العالمية الأولى قد أحدثته من خراب ودمار، خاصة في ألمانيا المهزومة، وما تبع ذلك من إعادة اقتسام العالم تبعاً لمعاهدة فرساي التي نصت، في العام 1919، على إعادة النظر بحدود الدول في أوروبا وعلى اقتسام المستعمرات التي كانت خاضعة لسلطة الدول التي خسرت الحرب... هذان السببان هما اللذان أديّا بالبرجوازية الألمانية، الصناعية خاصة، ومعها رجال الأعمال الكبار، إلى دعم القوى النازية المتطرفة خوفاً من تغيير اشتراكي كان يلوح في الأفق القريب. فعملوا على الإتيان بهتلر إلى موقع المستشار، رغم هزيمته الانتخابية، ولم يحركوا ساكناً عندما قام بانقلابه على البرلمان، طالما أنه استطاع في آن أن يجمع العاطلين عن العمل، عبر تحميل الشيوعيين والديمقراطيين مسؤولية الأزمة الاجتماعية، من جهة، وعبر طرح أوهام لحل قريب يعتمد على إغلاق البلاد أمام غير أصحابها بالتزامن مع إطلاق عجلة التصنيع، من جهة أخرى... ولم يكتف الرأسماليون بما فعلوه على الصعيد الداخلي، بل إنهم مدّوا يد العون إلى هتلر وساعدوه في التقرّب من ايطاليا الفاشية، ودعموا خطواته المساعدة للديكتاتورية الفرانكوية، بل وسكتوا عن وضع يده على منطقة راينلاند والرور... في وقت كان زميله موسوليني يهاجم أثيوبيا ويحتلّها.

وإذا ما انطلقنا من المنظار نفسه لنتطلّع إلى الحاضر، بعد سبع سنوات على انفجار الأزمة الرأسمالية الجديدة (التي بدأت مالية ساعة انفجارها، هي الأخرى، والتي انطلقت كذلك من الولايات المتحدة الأميركية)، أمكننا رؤية بعض أوجه الشبه مع سابقتها، وإن يكن الفارق شاسعاً بين الاثنين، إن من حيث العمق أم من حيث الشمولية أم، خاصة، من حيث النتائج والتداعيات، باعتراف القادة الرأسماليين أنفسهم.

فهذه الأزمة الجديدة لم تنجم فقط – كما يحاول البعض تصوريها - عن تطور مضطرد للإيداعات في المصارف العالمية نتيجة عدة عوامل أهمها زيادة غير مسبوقة في أسعار النفط، هذه الإيداعات التي ذهبت غالبيتها باتجاه القروض العقارية ذات التصنيف الائتماني المنخفض. بل من الضروري إضافة عامل آخر، لعلّه أهم، يكمن في المرحلة الممتدة من العام 2001 وحتى العام 2008، أي من مرحلة دخول الإدارة الأميركية في حروب متنقلة وطاحنة بناء على ما سمي بنظرية "الفوضى الخلاقة"، التي صاغها مايكل ليدين في العام 2003 وتبنّاها جورج بوش الابن، والتي كانت في أساس تصعيد الحروب العدوانية "الاستباقية" التي لم تقتصر لا على القوى العسكرية الأميركية، ولا على القوى المنضوية في حلف الناتو، بل تعدتها إلى تشكيل أوسع ائتلاف عسكري دولي بحجة محاربة الشر، تارة في العراق وطوراً في أفغانستان... أو غيرهما من الدول أو المجموعات التي سميت بالمارقة، ومنها ما تم تشكيله بفعل حاجة الولايات المتحدة لمحاربة الاتحاد السوفياتي، كتنظيم القاعدة مثلاً.

غير أن السلاح الأخطر كان عودة القوى الفاشية واليمين المتطرّف والشعبويين (populistes) إلى مقدمة الأحداث وبأسماء جديدة أو قديمة متجددة، بدءاً بالمحافظين الجدد (أو من يطلقون على أنفسهم اسم "الصهاينة – المسيحيين")، ومنهم مايكل ليدين وجورج بوش الابن، في الولايات المتحدة وامتداداً إلى كل القوى الفاشية والنازية الجديدة التي تنتشر اليوم على خارطة أوروبا ككل، من "الفنلنديين الأصليين" في الشمال الذين تخطوا نسبة 20 بالمائة، إلى "الحزب الشعوبي الدانمركي"، إلى حزب "جوبيك" (أي الأفضل أو "الأكثر إلى اليمين") في المجر والذي وصلت نسبة أصواته إلى 68 بالمائة، إلى "حزب الحرّية" في النمسا الذي تخطّى عتبة الـ 30 بالمائة من أصوات الناخبين، إلى فرنسا والصعود المضطرد للـ"جبهة الوطنية"، إلى ايطاليا. حيث يحتل حزب "ليغا" اليميني المتطرّف (ليغا نورد سابقاً) موقعاً متقدماً بعد استطاعته تجميع كل أطراف اليمين تحت رايته وحول البرنامج الذي طرحه...

وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن كل هذه القوى استفادت من السياسات اليمينية التي انتهجتها الأحزاب الاشتراكية - الديمقراطية طوال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وبالتحديد في المرحلة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية الأخرى في العام 1990، بدءاً بما قام به الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران من ضرب الحزب الشيوعي الفرنسي إرضاء لرونالد ريغان ومساعدة للسياسات النيوليبرالية التي حمل رايتها، ووصولاً إلى الاشتراكيين الألمان المتحالفين اليوم مع إنجيلا ميركل للحصول على موقع من ضمن قيادة الاتحاد الأوروبي... ولا ننسى، بالطبع، الدور السلبي لقيادتي الحزب الاشتراكي الأسباني أو الحزب الاشتراكي اليوناني في الواقع المرير الذي يعيشه هذان البلدان...

كما استفادت هذه القوى، كذلك، من المعارك التي خاضها اليمين التقليدي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة لجهة ضرب المكتسبات الكبرى التي حققتها الطبقة العاملة طوال عقود من الزمن، وفي مقدمتها حق العمل والضمانات الاجتماعية، عدا عن تفكيك التجمعات العمالية الكبرى وشل دور الاتحادات النقابية وتهميشها. ولا ننسى السياسات العنصرية التي مورست ضد المهاجرين من بلدان الجنوب، وبالتحديد من العالم العربي وأفريقيا وربط ذلك بقضايا أخذت أبعاداً دينية واضحة.

في ظل هذا الواقع المأزوم وتداعياته المتمثّلة بزيادة الفقر والتهميش وكذلك معدّلات البطالة، من غير المعقول ألّا يتقدم الإرهاب وينمو، وألّا تنمو معه كل أشكال العصبيات التي يمكن لليمين المتطرف استغلالها. وهكذا كان... فالتقدم الذي سجلته "الجبهة الوطنية" الفرنسية مؤخراً في مجال انتخابات الأقاليم بني ليس فقط على أساس فشل حكومة الحزب الاشتراكي الفرنسي في مواجهة الإرهاب الذي ضرب مرتين متتاليتين العاصمة باريس والتصدي لمسببيه، بل كذلك وبشكل خاص على أساس التحريض الدائر منذ سنوات عديدة ضد "الأجنبي" المختلف لوناً وديناً وحضارة والذي أتى ليقاسم ابن البلد "الأصلي" في ماله وعمله والتأمينات المقدمة له.

ما نريد قوله هنا هو أن ما يطرحه اليمين المتطرف اليوم من سلاح في المعركة هو سلاح لا يختلف كثيراً عن ذاك الذي استخدم في معارك النازية الأصلية. فالنازية الأصلية ركزت حربها على عدوين: الشيوعية والمؤسسات التمثيلية المنتخبة؛ وكلنا يتذكر من دروس التاريخ أن الخطوة الأولى التي قام بها هتلر لترسيخ دوره الصاعد هو حل البرلمان على طريق بناء نظام حكم استبدادي. واليوم، لا تزال محاربة الشيوعية تحتل موقعاً أساسياً في المعركة التي يخوضها النازيون والفاشيون الجدد وإن تكن قد انتقلت إلى المرتبة الثانية لتحل محلها الحرب ضد المهاجرين؛ أما بالنسبة للمؤسسات التمثيلية، فهي تشكل اليوم وسيلة أساسية للوصول إلى السلطة.

في الخلاصة نقول إن الصعود اللافت للقوى المتطرفة في أوروبا (فاشية كانت أم إرهابية) إنما هو النتيجة الحتمية لعدم فعالية الأحزاب التقليدية (اليمين التقليدي والاشتراكية – الديمقراطية) في إيجاد الحلول الناجعة للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية المتعددة والمتتالية منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى اليوم... في وقت دخلت فيه قوى التغيير في أزمة وجودية بعد سقوط التجربة الاشتراكية المحققة، بفعل تفكك الاتحاد السوفياتي وعدم قدرة الصين على ملء الفراغ. وباعتقادنا أن تجربة اليسار الجديد في أوروبا، المتمثلة بائتلاف سيريزا في اليونان أو بالائتلاف الأسباني "بوذيموس"، لا تزال غير كافية لاعتمادها كقوة من بين قوى التغيير الجديدة في مواجهة التحديات التي أطلقتها الأزمة الرأسمالية الجديدة، وأولها سياسات "التقشّف"، المتمثلة بضرب قوى العمل وبإفقار الطبقة العاملة والفئات الشعبية، والتي زادت من الهوة الموجودة أصلاً بين شمال العالم وجنوبه ومن النهب المنظم للثروات التي تختزنها الكرة الأرضية...

وحده السعي لإنتاج أممية جديدة "تمتاز بمرونة الشكل وصلابة المضمون" – كما يقول مشروع برنامج الحزب الشيوعي اللبناني المقدم أمام مؤتمره الحادي عشر – يمكن أن يساعد على أن تقوم القوى المناهضة للامبريالية، ومنها بالتحديد الأحزاب الشيوعية، بدورها الطليعي في مواجهة الرأسمالية المتوحشة وما تنتجه من أزمات وحروب، إنما ذلك يتطلّب بالأساس أن تقوم تلك القوى بمراجعة نقدية لأزمتها باتجاه تجاوز تلك الأزمة وبناء المجتمع الاشتراكي. فهل تستطيع؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة