الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صائد الذباب

احمد الباسوسي

2016 / 1 / 11
الادب والفن


فوجئت به يقف في منتصف المكان، في مواجهة الطاولة التي أجلس عليها بالضبط، شاب صغير، ضئيل، يرتدي قميص برتقالي باهت اللون، فضفاض، متهدل ومتدلي حتى ساقيه، بدا مشدوها، شاخصا عيناه الضيقتان بإهتمام شديد في الفضاء نحو هدف خلفي، كأنه لايراني أو حتى يشعر بوجودي أو بوجود الآخرين على الطاولات الأخرى في تلك المساحة الدائرية التي أعدوها لإستراحة الزبائن في منطقة المطاعم داخل المتجر الكبير بالطابق الثاني. ظهوره المفاجئ على هذه الشاكلة، وكان يحمل في يده عصى على هيئة مضرب تنس أرضي جعلني أعتقد بقوة أنه سوف يؤدي فقرة مسرحية في قاعة الطعام لتسلية الزبائن. شٌد إهتمامي وهو يسير ببطء نحو الهدف خلفي، قطب حاجبيه، وكأنه منع نفسه من التنفس، أدرت رأسي للخلف لمتابعته، تجاوزني والطاولة التي خلفي، والتي تليها، حتى وصل الى الطاولات بجوار الحائط الزجاجي الدائري المطل بشكل مباشر على مدخل المدينة والطريق حيث يفضل أغلب الزبائن احتلال طاولات هذا المكان من المتجر لمنح أنفسهم فرصة للشرود واجترار الذكريات والأحداث والأفكار، ومحاولة التحرر من أثقال مقبضة ومنغصة في نفس الوقت الذي تتوحد فيه أبصارهم في الفضاء الرحيب مع حركة الناس في الأسفل، والشوارع التي تعج بالبشر والصخب، والسيارات التي تفر بسرعة على الأسفلت من دون رادع، كأنهم يرغبون في اختلاس لحظات من الشعور بالإئتناس والتخفف، والاندماج الوجداني مع هذا المكان المترف الذي تدفئه شمس يناير الرائعة. ذهبت عيوني المستطلعة بشغف مع حركة الفتى المتباطئة بين الطاولات، رصدته وكان يفرد ذراعه الى منتهاه قابضا على مضرب التنس في أحد الأركان القصيه، وبعد ثوان يصدُر صوت فرقعة مميز "تك"، ثم يتحرك الفتى الى ركن آخر بنفس ايقاعه الحركي البطيء، وتلك الحالة من الاندماج والانعزالية عن العالم حوله، والوجدان المسطح. لم اتمكن في البداية من الربط بين بين حركة ذراعه في توجيه مضرب التنس الى أحد الأركان وبين ذلك الصوت الذي يصدر لاحقا بصورة مميزة يهتك ستر القاعة "تك... تك". كان قد تملكني إعتقاد قوي أنه سوف يؤدي فقرة تمثيلية ترفيهية لزبائن الاستراحة مثل فقرة البهلوان في السيرك القومي، وجال خيالي في فضاء التوحد مع هذا الشاب الذي يشي مظهره الفقير الناضج، وبريق الذكاء الذي يفر من عينيه إنه شاب جامعى، تخرج حديثا في كليته، ووجد ضالته في هذا المكان وتلك الوظيفة مثل الملايين غيره المنتشرين في المولات الضخمة الفاخرة التي انتشرت بسرعة كبيرة هذه الأيام، وكذلك المتاجر العظيمة التي تبيع البضاعة من الإبرة الى الصاروخ والمستوردة من الصين على شاكلة هذا المتجر، وأيضا محطات البنزين، وشركات الأمن الخاصة التي انتشرت بصورة وبائية واحتلت واجهات وأحشاء كل المؤسسات العامة والخاصة تقريبا، حيث يؤدي صاحبنا دور بهلوان السيرك في هذا المتجر. اندمجت مع الفتى أكثر وهو يتنقل بين الطاولات قابضا على مضرب التنس بقوة. أوصله شرودي الى حيث يقطن في أحد الأحياء الشعبية التي تكتظ بالبشر، وتنتشر فيها رائحة الفقر والمرض والبطالة، ازقتها غارقة في مياه المجاري. راقبته وكان يحجل، ويقفز من حجر الى حجر فوق الأرض الغارقة بمياه المجاري والروث، يحفظ توازنه بطريقة مدهشة كمن إعتاد على ذلك مستغلا نحافته ومرونته وخفة وزنه في تخطي الحواجز والوصول الى باب البيت، هناك يرقد الأب صريع فيروس سي وقد نهش كبده، وتورمت بطنه، وينتظر معجزة طبية أو ربانية تخرجه ولو لساعة واحدة فقط يقضيها بين من تبقى من اصداقئه القدامي على المقهى المجاور، وأمه التي ضرب السكري أوصالها ومع ذلك تصر على ابتسامتها وطيبتها، وأملها في أن يصبح ولدها الوحيد على أربعة بنات العامل في المتجر المشهور محام كبير، وكذلك طريقتها المدهشة غير المنطقية في ضخ الحياة في منزل كان من المفروض إعلان وفاته بالسكتة القلبية منذ زمن بعيد وفق الحسابات المنطقية أيضا. تملكني شرودي لخيالات وصور بعيدة حتى قطعتها ثرثرة بعض الفتيات الصغيرات اللائي احتللن الطاولة بجواري بالرغم من انشغالهن مع هواتفهم المحمولة في التحدث عبر برنامج الواتس أب مثلما فهمت من ثرثرتهن. جالت عيني بحثا عن الفتى صاحب مضرب التنس، ما يزال يقف هناك، عيناه تتلفتان في الفضاء، ما يزال مندمجا، لا يلتفت الى أحد، والشيء المدهش والذي إسترعى انتباهي إن أحدا لا يلتفت اليه أيضا، كأنهم يعرفونه جيدا، ويعرفون ماالذي يفعله، وإني الوحيد الذي اشاهده، وأترقب العرض الذي سوف يؤديه. دققت النظر، إكتشفت أنني بالفعل الشخص الوحيد الذي حاول إختراق عالم هذا الشاب الصغير صاحب البشرة البيضاء، غير المهندم، من دون إذنه، والمدهش كذلك أن عينينا لم تتلاقيا على الرغم من اصراري على ملاحقته ببصري الحاد أينما تحرك في المكان، ربما تملكته احترافية التركيز في عمله وعالمه ولا يلتفت لما يدور حوله، أو يهتم بعيون الفضوليين من أمثالي خشية فصله من العمل، أو ربما إستغرقه عمله تماما وتملك كل عالمه ولم يعد يشعر بما يدور حواليه. ازداد نهم فضولي جدا، ما الذي يفعله الشاب، ومتى يبدأ عرضه التمثيلي حسبما إعتقدت، ولحسن الحظ جاءت الإجابة سريعا، كأن الشاب قرأني، اقترب من طاولتي، وقف في منتصف المسافة بين طاولتي وطاولة الفتيات الثرثارات، شٌخص بصره في الفضاء، استجمعت جل قدراتي من أجل أن اتابع موضع سقوط بصره، إكتشفت أنها مجرد ذبابة حطت على حرف الطاولة، وطفق يتتبعها حتى إستقرت، مد ذراعه بمضرب التنس بحيث غطت رأس المضرب محيطها كله وأصبحت الذبابة في متناول المضرب، كبس زرا تحت أصابعه حيث يقبض على المضرب، دوت صوت الفرقعة التي سبق أن سمعت دويها عدة مرات من قبل "تك" في المكان، وهلكت الذبابة، لم تلتفت الفتيات للشاب ولا للعبته، بينما تحرك بطريقة روتينية من المكان بإيقاعه البطيء المعتاد، يطارد ذبابة أخرى كانت قد رصدتها عيناه المعلقتان دوما في الفضاء، حتى تحط على طرف أحد المقاعد أو الطاولات أو تقف على الحائط الزجاجي الذي يسمح للشمس بالدخول، ولا يسمح له حتى بمجرد النظر من خلاله للسيارات التي تفر في الطريق السريع. عقدت الدهشة كياني، ظللت فترة في مكاني أترقب حركاته، وأصيخ السمع لصوت " التك تك" قبل أن أغادر الطاولة والمكان برمته وأنا على يقين إن هذا الشاب لن ينتصر أبدا في معركته التي يشنها ضد الذباب.
د. احمد الباسوسي
يناير2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد