الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امتزاج التأريخ بالشعر والخيال في ( غبار القصائد) / دراسة نقدية بقلم الناقد محسن الطوخي (مصر)

عبدالكريم الساعدي

2016 / 1 / 14
الادب والفن


امتزاج التأريخ بالشعر والخيال في (غبار القصائد)
دراسة نقدية
بقلم الناقد/ محسن الطوخي(مصر)

النص:

غبار القصائد
قصة قصيرة
القاص/عبدالكريم الساعدي

في ساحة الميدان رأيته يحثّ الخطى إلى شارعه، أسطورة علت صهوة القوافي، لم يمسَسْها كدر، تتبعه خيول من كبرياء، تظلّل سَيرَهُ أسراب السمو والبهاء، يهزّني طرب اللقاء، حسبي دقائق معدودات؛ لأبحر في عوالم الصور والخيال، عوالم تناطح الغيوم، تلكزها، فتشدو مطراً من كلمات، تتلو سورة المجد رعداً في مواكب الكلام. أمضي قدماً خلفه، لعلّي أدرك ظلّه قبل أن يختفي بين الباعة المتجولين، باعة أكل الرصيف أعمارهم، طاعنة وجوههم بالشقاء، أيديهم تلوّح له سلاماً، وقبل أن أجهّز أوراقي وأهيّء كاميرتي، سمعته يذمّ الدنيا ملتاعاً،
لَحا اللهُ الدنيا مُناخاً لِراكبٍ ... فَكلُّ بعيدِ الهمِّ فِيها مُعَذَّبُ
كان الوقت صباحاً، أنثر النداء خلفه:
- أبا محسد..
- نعم يا ولدي.
- أريد أن أقطف وردة من بستانك.
يبتسم، يطوّقني بندى السؤال:
- ألا يكفيك عطرها؟
- بلى، ولكن أريد أن أفخر بها.
عبرنا مقهى الزهاوي معاً، نقلّب صفحات مدائن الشعر، مدائن قضمتها الخرائب، توقف فجأة، أراه محدّقاً في لوحة تعلو باب المقهى:
- أ ترى تلك الندب؟. تلك أسماء أهيل التراب على مربدها.
- سيدي دعنا نسترح هنا قليلاً قبل أن تلتقي مريديك.
- أين؟
- في مقهى( حسن عجمي ). هنا يا سيدي، تتجلى أنفاس الشعراء والكتاب وعشاق الحرف، أماني وملامح أحبة افترشت أرضها قبل أن تزكم أنوفنا رائحة البارود؛ فتفارقنا إلى الأبد، فاملأ جوانحي غبطة وأوراقي جواباً قبل أن ترحل ثانية.
استوى على عرشه كما الطاووس، يقلّب بميمنة الشعر صفحات الكوفة وبغداد والشام، وأخرى لمصر، فتراني معلّقاً بغبار الأسماء والقصائد، ينتصب أمامي سيف الدولة الحمداني وأبو المسك وأبو الفضل بن العميد...سألته:
- لِمَ لم تحفل بشعراء بغداد لمّا نالوا من عرضك وتباروا في هجائك؟
- أتقصد ابن الحجاج والحاتمي وابن سكرة الهاشمي؟
- نعم سيدي الجليل.
- لقد فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرينَ غروا بذمى ... ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يكُ ذا فمٍ مرّ مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
أهزّ جذع الفضول، يتساقط صدى الشبهات أحجية نبوة، كان الشاعر مصلوباً على أجنحة الكفر،
- وأيم الحرفِ، إنّي نبي الشعر لا غير.
يداهمني أثر في جبهته، ينتزع ذكرى أليمة، أوصد عليها أبوابه مكرهاً،
- جرت بيني وبين ابن خالويه النحوي مسألة في اللغة، وقد ضعّفت رأيه، فما كان منه إلّا أن يرميني بدواة حبر؛ فكان هذا الجرح، جرح أعلن فراقي عن الأمير. وقتئذ أطلقت صرخة استنكار في حضرته:
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي ... فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
الماضي يمتدّ بيننا جسراً، الحرف يصهل بين شفتيه متّشحاً بالزهو، يطارد خيل ربات الشعر، عيناه تأسران المكان، أنفاسه تسكنني، نوارس التفرّد تحوم حول رأسه... قلبه يهفو إلى سوق الورّاقين، الشعراء والكتّاب يمدّون له سهلاً، يصطفّون شوقاً ليكتبوا معلّقة اللقاء.
عند بوابة سوق الوراقين، يستوقفنا رجال من الشرطة، تصفعهم الحيرة لرؤية صاحبي، تتملكهم الدهشة من غرابة زيّه، يخزني التساؤل:
- إلى أين؟ ومن يكون هذا الغريب؟
- هذا مالئ الدنيا وشاغل الناس.
- أمجنون أنت؟ أرني هويته.
يعتريني الصمت والذهول ممّا يجري، يصيبني الذعر، الأجواء غائمة، أقع في دائرة مشادة كلامية، يورق الغضب في دمي. الضابط الواقف جانباً يأمر باعتقالنا بتهمة الشغب:
- عجيبٌ أمركم، والله لو تعلم ما قاله الجواهري في حقّه لما اعتقلتموه.
- وماذا قال؟. كانت كلماته ساخرة.
- تحدّى الموتَ واختزل الزمانا ... فتىً لوّى من الزمنِ العنانا
فتىً خبطَ الدُنى والناسَ طرّاً... ...وآلى أن يكونَهما فكانا
وقبل أن نساق كالخراف إلى مركز الشرطة، أطلق ضحكة عالية:
- قل كلمتك لقاضي التحقيق، لعلّ الجواهري يكفل خروجكما.
وبعد ثلاثة أيام عصيبة قضيناه في غرفة مظلمة، أُطلق سراحنا لعدم كفاية الأدلة، على أن لا يدخل صاحبي سوق الورّاقين.
ودعته عند رقبة الجسر معتذراً لما جرى، وقبل أن يعبر الجسر ناحية الكرخ، التفت نحوي:
- أوصيك بني، والشعراء، أن تطعم حرفك بهاء الصدق وعظيم المعنى، اجعله وهجاً تهيم به فراشات الحب والجمال، ولا تخشَ إلّا الله.
كانت قوافي الشعر وبحور الفراهيدي تلهث خلفه شوقاً لنبضات قلبه. في ذلك اللقاء كنت غارقاً في ينبوع الجمال، تداهمني غفوة السحر، كنت تائهاً في كهف بيتين من الشعر، في حروف من ضوء، خُطّت بماء الألق على جيد تمثاله الغافي على شاطئ دجلة:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي ... وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني... وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
ربما نلتقي في المرة القادمة في سوق الورّاقين حين تحفّ بنا نهارات تحتضن ضوءاً شاسعاً، يتسع لوهج العاشقين على ضفاف مربدنا.

الدراسة:

قصة من أجمل ما قرأت, يمتزج فيها التاريخ بالشعر وبالخيال, وروعة السرد, وطلاوة اللغة. يلتقط القاص المبدع عبد الكريم الساعدي شخصية أثارت الجدل عبر التاريخ, وأثْرَت التراث الشعري العربي بفيض من الإبداع الذي ينهل منه الشعراء إلى اليوم, و هو أبو الطيب المتنبي, الكوفي المولد, وأحد أعظم شعراء العرب, وأكثرهم تمكناً باللغة العربية. وصف أبو الطيب بأنّه نادرة زمانه, وأعجوبة عصره. ورغم موهبته المتجاوزة للمألوف, فقد عاش حياة غير مستقرة لاعتداده الزائد بنفسه إلى حد الغرور, وطموحه إلى المناصب والجاه, الأمر الذي أوغر صدور معاصريه, من الشعراء والأمراء على السواء .والنص يلتقط الشاعر في ساحة الميدان المؤدى إلى سوق الوراقين, متبوعاً بصحافي شاب تعرف عليه, يسعى إلى اللحاق به ممنّيأ النفس بسبق صحفي مع الشاعر العملاق. ينتهي المطاف بالشاعر والصحافي إلى مقهى " حسن عجمى " ملتقى الكتاب والشعراء. ونلمح حنين الراوي إلى الزمن الجميل الذي شهده المقهى بمرتاديه من الصحاب عشاق الحرف قبل أن تفرقهم إلى الأبد أحداث الحرب المعاصرة الأخيرة بما جلبته من دمار. ونلمح أيضا سمات الشاعر الفحل التي أجاد الكاتب رسمها استنادا إلى الصفات التي وسمته بها كتب التراث , وكما يمكن رصده من أشعاره التي حفلت بالزهو والخيلاء. تبدو تلك السمات من سيره في الميدان تتبعه خيول من كبرياء, ومن استوائه على مقعده في المقهى استواء الطاووس على عرشه. يدور الحوار بين الشاعر ومضيّفه مستعرضاً جوانب من حياة الشاعر, وصراعاته مع معاصريه في بلاط سيف الدولة الحمدانى, ومظاهر الفتور في علاقته بالأمير التي بدت في النكوص عن مناصرته في واقعة اعتداء ابن خالويه عليه بالدواة في حضرته. ولعلّ صديقي قد أغفل الأسباب الخفية التي دفعت سيف الدولة إلى نبذ الشاعر, كما قصر الحديث على فترة مكوث الشاعر في بلاط الحمدانيين, ولم يعرج على مرحلته مع كافور فى مصر تحاشيا للإفراط فى طول النص , ولكنى كنت أتمنى أن يطول الحوار فيستعرض جوانب أكثر من حياة الشاعر. لما في لغة السرد من حلاوة وطلاوة وسهولة والتي أعدها مثالاً للسهل الممتنع, فقل من الكتّاب من يجيد طلاوة وأناقة اللغة بالسهولة واليسر, الأمر الذي يحقّق آفاقاً من المتعة قل أن تعثر عليها في كتابات المعاصرين. تتوهج الدراما في النص عندما يؤذن بانتهاء اللقاء, وقيام الشاعر مصحوباً بالصحافي ليمضي إلى شأنه, فيعترضهما العسكر، تصفعهم الحيرة لغرابة مظهره, فيسألون عن هويته, وتبدو السخرية في قمتها عندما يلجأ الصحافىي إلى شهادة الجواهري في حقّ الشاعر, فيسخر آمر الجنود من الجواهري مبديأ جهلاً بشعره وأصحابه, ويسوق الشاعر ومضيفه كالخراف إلى مركز الشرطة ليمضيا أياماً ثلاثة في الحجز حتى يطلق سراحهما لعدم كفاية الأدلة. ويبلغ النص نهايته بنصيحة الشاعر "أوصيك بني، والشعراء، أن تطعم حرفك بهاء الصدق وعظيم المعنى، اجعله وهجاً تهيم به فراشات الحب والجمال، ولا تخشَ إلّا الله. ), ويختتم بأمنية الراوي أن تنتهي الغمة, ويعود العراق إلى سابق عهده تحفّ به نهارات تحتضن ضوءاً شاسعاً، يتسع لوهج العاشقين على ضفاف مرابدهم .
تحية إعجاب للمبدع الجميل عبد الكريم الساعدى, ولنصه الرائع, ولغته الطلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با