الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو قتادة الفلسطيني - 1

حسن محسن رمضان

2016 / 1 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




الأحداث الإرهابية المأساوية التي شهدتها العاصمة الأندونيسية، جاكرتا، اليوم تُثبت بما لا يدع معها مجال للشك بأن العمليات العسكرية والمنظومات الأمنية غير كافيَيَن لهزيمة أي فكر متطرف. فالذين تعرضوا اليوم لتلك العمليات الإرهابية هم (مسلمون)، يمثلون الأغلبية المطلقة من المسلمين في الحاضر والتاريخ، سقطوا ضحايا بأيدي (مسلمين آخرين)، يمثلون أقلية ساحقة ولكنها متطرفة، تحت دعاوى الكفر والمروق من الدين. هؤلاء الضحايا، وتلك الدولة، كانت تبدو وكأنها بعيدة جداً عن تقلبات التطرف والسياسة في أوطاننا وفي بلاد مَنْ تختلط مصالحه بنا، إلا أن الوقائع بدءاً من تفجيرات مدينة بالي في أكتوبر 2002 وحتى الساعات القليلة الماضية أثبتت أنَ "الفكر والعقيدة" لا تتم هزيمتهما إلا بواسطة "فهم وتفنيد" على مستوى الوعي الجمعي. وعندما أقول "فهم وتفنيد" فإن حقيقة الأمر مغاير تماماً لِما يفعله بعض السُذج ومتطرفي الديانات الأخرى، لأسباب متعددة أغلبها يدخل ضمن صراع الأديان، وذلك في اعتقادهم أن هجومهم على الإسلام كعقيدة جمعية سوف يؤدي إلى إنهياره وتلاشي العقيدة المتطرفة معه، إلا أن أبسط مبادئ سيكولوجية الجماهير والأرقام والوقائع التي يتم جمعها وتتبعها ودراستها جميعها تشير إلى أن ردة الفعل لِما يفعلونه كانت عكسية تماماً وازدادت معها حدة التوترات الدينية والطائفية ضمن المجتمع الواحد والمجتمعات المتباعدة معاً، بل وازداد معها حدة الاستقطاب المتطرف ليشمل معه حتى أفراد من ديانات أخرى منها المسيحية ذاتها [انظر أدناه في المقالة لمثال]. ولهذا السبب فإن الحل يكمن في الفهم المحايد المجرد أولاً، ومِن ثم التفنيد والتفكيك ثانياً لصالح "إسلام الأغلبية المسالمة" التي تميزت بها تلك المجتمعات وذلك ضمن الإطار الإسلامي ذاته. هذا هو الحل الأكثر واقعية، المتوسط والبعيد المدى، للخروج من المأزق الكارثي الذي يحيط بأوطاننا كلها. وإنْ كنت تعرضت في مقالات سابقة للمقدمات الأساسية في العقيدة التكفيرية والقتالية عند هؤلاء الجهاديين المتطرفين، فإن تناول شخصياته بالدراسة يُفيد في هذا الفهم المحوري لأساس الإشكالية. ففي هذه المقالة، والتي تليها، سوف أتناول بالتقديم لأحد أهم منظري العقيدة الجهادية القتالية في الفكر السلفي المتطرف، ومِن خلال هذا التقديم غير المسترسل سوف نفهم أساس المشكلة العقدية عند هؤلاء وآلياتهم في الاقناع والتجنيد.

يعتبر أبو قتادة الفلسطيني (اسمه الحقيقي: عمر محمود عثمان أبو عمر) أحد أهم منظري التيار السلفي المتطرف بكافة فصائله وجماعاته. فمن الواضح أن هذا التأثير قد امتد من كشمير في باكستان شرقاً حتى الجزائر غرباً، ونسخ فتاويه وإجاباته ومحاضراته وردوده تواجدت بصورها المكتوبة والصوتية في كل الامتداد الجغرافي الذي يحده هذان البلدان من طرفيه. بل إن نسخة من بعض محاضراته وفتاويه وجدت في شقة خاصة في ألمانيا كان يسكنها محمد عطا أحد المنفذين الرئيسيين للهجوم على مدينتي نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001. كما أن نسخ من فتاواه وجدت ضمن موجودات أحد المخابئ التي تستعملها الجماعات المسلحة في الجزائر، وبعث اليه المقاتلون الكشميريون يستفتونه في بعض المسائل، واستشاره الليبيون، ويستشهد به التيار السلفي المتطرف في الجزيرة العربية ومصر، وتحتوي المواقع الجهادية العراقية على نسخ متعددة لمقالاته وفتاواه. إلا أن جهوده تركزت على الجانب النظري فقط الذي يدعو صراحة إلى تبني العنف المسلح لهذا التيار، فأبو قتادة لم يطلق طلقة واحدة في سبيل أفكاره، ومن المحتمل جداً أنه لم ير سلاحاً في حياته خارج إطار الصور وربما شاشات التلفاز. كتب عنه أحد أهم المواقع الجهادية على الشبكة العنكبوتية "ولما كان اهتمامه بأصول الفقه، وهو علم تنظيري تأصيلي معياري، فقد أكسبه ذلك ملكة تنظيرية لا تخطئها العين عند قراءة ردوده ومناظراته".

أبو قتادة، أردني من أصل فلسطيني،. ولد أبو قتادة في سنة 1961 (وليس سنة 1960 كما في بعض المواقع) في منطقة راس العين (وليس في بيت لحم كما تذكر بعض المواقع) التي تقع في الجزء الأوسط من العاصمة الأردنية عمّان. وأرجعت بعض المصادر تحوله إلى التدين السلفي الملتزم لفترة مبكرة من حياته، وأشارت مصادر أخرى إلى أنها كانت في فترة دراسته الثانوية. بعد إنهائه الثانوية العامة انتسب إلى الجامعة الأردنية وتخرج منها سنة 1984 بدرجة بكالوريوس في الشريعة الإسلامية. وذكر موقعه الرسمي على الشبكة العنكبوتية الذي تم اغلاقه واعاد فتحه بعناوين مختلفة عدة مرات أنه حاصل على ماجستير في أصول الفقه، هذا على الرغم من أن بعض من كتبوا شذرات متعددة عن سيرته أكدوا بأنه لم يستطع إكمال دراساته العليا. بعد تخرجه من الجامعة الأردنية انتسب إلى الجيش الأردني، الذي سوف يُكفّر أبو قتادة جميع أفراده لاحقاً، برتبة "وكيل" وعمل في مجال الإفتاء في السجن العسكري. استمر أبو قتادة في الجيش الأردني حتى نهاية الثمانينات حيث برز نشاطه السلفي المتشدد. بعد حرب تحرير الكويت من الإحتلال العراقي حاول أبو قتادة مع آخرين توحيد التوجهات السلفية على الساحة الأردنية تحت تيار واحد، إلا أنه فشل في ذلك بسبب معارضة الشيخ ناصر الدين الألباني لهذا التوجه. ثم بعد ذلك حاول إنشاء حركة سلفية مستقلة في الأردن إلا أنه فشل أيضاً في ذلك. وبسبب هذا الفشل المتكرر في مشاريعه الحركية غادر أبو قتادة الأردن متوجهاً إلى ماليزيا في سنة 1991، ومنها توجه إلى باكستان. أشارت بعض المصادر إلى أنه في باكستان خاض أبو قتادة صراعاً فكرياً، كما اسمته، مع الحركات الإسلامية المتواجدة هناك، إلا أنها لم تشر إلى طبيعة هذا الصراع ومحاوره، كما أن كتاباته المتوفرة لا تعكس بأي حال من الأحوال ولا تحوي أية إشارة إلى حالة هذا الصراع الباكستاني هذا. في سنة 1994 توجه أبو قتادة إلى بريطانيا طالباً اللجوء السياسي هناك. وفي هذا البلد تفرغ أبو قتادة إلى مجهوداته النظرية التكفيرية المسلحة، ومنها انتشرت كتاباته ومحاضراته وفتاواه شرقاً وغرباً. كما أنه أشرف على إصدار مجلات تتبنى توجهاته السلفية تحت أسماء "الفجر" و "المنهاج".

أبو قتادة الفلسطيني واسع الإطلاع ولا شك، ويملك مخزوناً معرفياً سلفياً لا يمكن انكاره. فنظرة سريعة للمصادر التي يستشهد بها في سياق طرحه العام تعطينا دليلاً أولياً على مدى تباين وسعة اطلاعه وقراءاته من ناحية، وعلى مدى تركيزه الذهني غير القابل للتحوير أو التحويل أو التعديل للفكرة والقناعة التي يدعو لها. هذا الإطلاع ذاته جعله لا يُبقي على حاكم أو محكوم، عالم أو فقيه، مفكر أو فيلسوف، قديم أو معاصر إلا سلقه بقلمه سلقـاً. فإن كان هذا الرجل حياً، لم يدخر أبو قتادة كلمة نبز أو سخرية أو استهزاء أو تجهيل أو تبديع أو تفسيق أو حتى تكفير إلا وجعلها لصيقة به. وإن كان ميتاً، أخرجه من قبره ليجلده جلداً حتى لا يبقى منه بعد ذلك ما يواريه مرة أخرى في التراب. فأبو قتادة الفلسطيني، وإن كان أحياناً يجنح إلى التلميح في قصصه ورواياته، إلا أنه في السياق الأعظم من كتاباته صريح جداً في طرح اسماء البلاد والعباد، وأكثر صراحة في طرح اعتقاده وفكره ومبدأه. بل إنه حتى يجنح، على غرار الحطيئة الذي إذا لم يجد أحداً يهجوه هجا نفسه، إلى نبز نفسه أيضاً عندما لم يجد أحد آخر يلقي عليه ثورة غضبه. فمثلاً، عندما وصل إلى علمه أن البعض قد فهم من فتوى هو أفتاها عن أن "من دلائل دخولهم [يقصد المجاهدين] في الطّائفة المنصورة أنهم يأكلون ويُرزقون" من غنائم الكفار، أنه، أي أبو قتادة في فتواه تلك، قد أباح للمسلمين المقيمين في أوروبا سرقة أموال الكفار هناك، عندما وصل إلى علمه أن أحدهم قد فهم من فتواه هذا الفهم من الواضح أنه استشاط غضباً. فبعد أن وصف قائل هذا الكلام بـ "الغباوة والبلادة"، وبعد أن يعلن ذهوله من ظن أي أحد "أنه [يقصد نفسه وكل مهاجر إليهم] من الطائفة المنصورة وهو مقيم في أوروبا"، وبعد أن يشمل المسلمين وغيرهم من المهاجرين من البلاد العربية هناك كلهم بقوله: "يا الله، هل فقد الناس الحياء؟ هل سقط برقع الفضيلة عن وجوههم؟ يعيشون في أوروبا وهم لا يُعتبرون إلا رقماً خسيساً تتعامل معه دول أوروبا ويظن نفسه أنه من الطائفة المنصورة"، وبعد أن يسائلهم أجمعين "أي نصر أنتم تعيشونه هنا في أوروبا أيتها الأرقام الخسيسة؟"، وبعد أن يشفي نفسه منهم تماماً بقوله: "هذه الأرقام الخسيسة، المهزومة، المخذولة، حقّها أن تبحث في كتب الفقه في باب يُسمّى باب (اللصوصية) إن أردت أن تأكل شيئاً من مال الكفّار، نعم هناك، يا أيها الأرقام، باب في كتب الفقه يُسمّى (باب اللصوصيّة في بلاد الكفر)، فأمركم لا يخرج عن هذا الأمر، أرقام، لصوص، لاجئ، متسول، هذه أوصافكم". بعد هذا كله ينتبه فجأة إلى حقيقة أنه هو يعيش أيضاً في أوروبا حيث يُفتي فتاواه هذه لطائفته المنصورة تلك فيقول عن نفسه:

"وقد يسأل سائل، صبيّ: وهل أنت كذلك؟، فأقول نعم وألف نعم، وقد أحسن إليّ بعضهم حين سمّاني: مستريحاً. وهو قد رقّق العبارة وهذّبها، فجزاه الله خيراً" .

فعند أبو قتادة فإن الدعاة إلى الله، وهو يعتقد في نفسه أنه منهم، لابد وأن يُبتلوا بصنفين من الناس "أولاهما أهل الغباوة والبلادة، وثانيهما الخصوم والأعداء"، وما أكثر هؤلاء من وجهة نظره وفيما تخط يداه. فلا أذكر أنني قرأت له مدحاً لشخص من المعاصرين إلا لسيد قطب وشقيقه محمد قطب وأيمن الظواهري الذي الّف فيه رسالة تحت عنوان (حكيم الحركة الإسلامية الدكتور أيمن الظواهري)، وربما يزيد هؤلاء شخصاً أو اثنين، لا غير. وأما من القدماء فابن تيمية وتلميذه ابن القيّم والشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام الشافعي، يزيدون اثنين أو ثلاثة أيضاً. وكان الله في عون الباقي.

ولكن هذا السياق لا يجب أن يعطيناً انطباعاً خاطئاً عن أسلوب أبي قتادة في سياقه العام وقدرته على استدعاء مصادره الفقهية والشرعية لتدعيم حجته. فهو قوي الأسلوب واضح العبارة غزير الإنتاج ويجنح إلى نكأ الجروح لكسب العاطفة قبل العقل. فالرجل قد حقق العديد من المصادر الشرعية المطبوعة مع تخريج أحاديثها، وألّف الكتب، وحرر المقالات، وكتبَ الفتاوى، وأجاب عن الأسئلة. هذا بالإضافة إلى أنه يُعتبر أحد المصادر لفقه الجماعات السلفية المتطرفة في أنحاء كثيرة. بل إن نسخة من فتاواه في حِلّية قتل النساء والأطفال قد وُجدت في الجزائر سنة 1997 ضمن أوراق ووثائق الجماعات الإسلامية المسلحة هناك، ومن الواضح أنهم اعتمدوا عليه وعليها في جرائمهم تلك.

أسلوب أبو قتادة في الاقناع يعتمد على خاصية محورية تكاد تتكرر في أدبياته كلها ومن الواضح أنها ذات تأثير وفاعلية. هو (يجلد واقعك وينكأ جراحك أولاً، يفعله بتعمد وبثورة وبأكبر قدر من تعمد إلحاق الألم بقارئه، ثم يخاطب عاطفتك وكرامتك المهدورة أمامه ثانياً، وبعد أن يُهيئ قارئه نفسياً لِما يريده نراه يدخل في موضوعه المتطرف). وفي الحقيقة إن هذه النظرة التي تجنح إلى جلد الذات ومواجهة الدعاوى ونكأ الجراح واستعادة التقريرات المهينة لها من الأسباب المنطقية التي تبررها في وعي أبو قتادة ولا يتردد في شرحها لقرائه لاستمالة عاطفتهم [لاحظ هنا ما يفعله السُذج والمتطرفون من الديانات الأخرى، هُم يلعبون بسذاجة متناهية في يدي أبو قتادة وأمثاله من منظري الفكر السلفي المتطرف، فهو، كما غيره، يستخدمهم بدون حرج إطلاقاً لصالح ثورة مضادة]. يقول أبو قتادة:

"إن بلادنا تفقد الكثير من الاحترام وهي تملك هذا الثراء، لأنه ثراء نُعيّر دائماً فيه أنه جاءنا من غير جهد منا ولم نحققه بذواتنا ولا بإبداع عقولنا، بل هو ثروة تفجرت من تحت أقدامنا وبتفتيش غيرنا واكتشافه. وبالتالي يُنظر الينا كمجموعة من الأغبياء ساقتهم أقدارهم واضطراب مسالكهم إلى كنز لا يستحقونه. وتأكد هذا الشعور وتفاقم عدم الاحترام لنا أننا اتخذنا هذا الثراء مطية لاستهلاكنا والتنعم به حتى الثمالة دون أن نحقق قدراً ولو يسيراً من الإستثمار الواعي الذي يضمن شيئاً من هذه الرفاهية لأجيالنا القادمة، وبالتالي صرنا في إطار العولمة، أي المعركة الجديدة، ليس مجرد ثروة منهوبة وسلة جواهر للسرقة بل حققنا لهم متعة جديدة وذلك بأن نُسوّق لهم منتجاتهم، ومرات كثيرة زبالاتهم كتلك الأسلحة الصدئة التي هي بأيدينا أشبه بدمى الأطفال نقلبها ونستعرض بها جيوشنا السمينة المهترئة دون أن تحقق لنا أي قدر من الأمن أمام أي عدو مهما كان صغيراً أو تافها".

هذا السياق الذي يُمَهَّد له بما يبدو أنه طرح مباشر صريح لا مجاملة فيه، هو سياق فعّال جداً في تهيئة العواطف لتلقي ما يأتي بعده من تقريرات وأحكام ودعاوى مع ما يبدو أنه دليل من القرآن والأحاديث. بل إنه أسلوب فعّال جداً في استمالة القارئ حتى من دون دليل شرعي أو عقلاني منطقي لما سيأتي بعد تلك المقدمة. فالقارئ العادي سوف يرجع إلى تلك العاطفة التي تم تهيأتها سابقـاً بما قرأ من مقدمات تبدو صريحة مباشرة وهي حتماً ضمن ما يراه ويسمعه في محيطه الاجتماعي والسياسي. فمثلاً، الكفر بمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان والسلام العالمي والمساواة مثلاً، سوف يكون دليله عند أبي قتادة، بعد تهيأة عاطفية مماثلة ومسهبة، هو، فقط، ضحك شبان ثلاثة في ذكرى هجمات سبتمبر في نيويورك مما أدى إلى اعتقالهم لهذا السبب. وقد يستغرب القارئ الكريم، ولكن الحقيقة هي أن هذا الأسلوب ناجح جداً وذو فعالية شديدة في اقناع واستمالة من يقرأه، ولن يلزمك من دليل أكثر من تهيأة عاطفية فعالة قد سبقها توطئة أعادت إلى ذهنك كل شيء أهانوك به أو قهروك من خلاله مخالفيك في الدين أو المصلحة. لن يلزمك أكثر من هذا، بصياغة جيدة، في أن تجعل عدة أفراد يقرأوا هذا الكلام، ثم لتتفاجأ بعدها بإعلان قناعتهم، الكلية أو الجزئية، بما قرأوه وليعلنوا كفرهم، صراحة أو ضمناً، بالديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما من الشعارات ذات المضمون الإنساني الحضاري. يقول أبو قتادة:

"لكن إن كنت بصيراً اهتم فقط وأنت سائر مع الكاتب أن لا يسرقك بعبارات جميلة كالديموقراطية وحقوق الإنسان والسلام العالمي ونزع أدوات الدمار الشامل فهي عبارات سخيفة ألبست على واقع دموي وشرس وقذر، تكون أشبه بالمساحيق على وجه وحش دميم قاتل. خذ شعار الديموقراطية وحقق كم يخفي تحته من قهر ودكتاتورية وتسلط وسحق للآخر. يقولون لك بكل صفاقة وقلة حياء وتبجح: هذا عصر الديموقراطية والحريات السياسية وحقوق الانسان، وأنت ترى بأم عينيك أن ثلاثة شباب في نيويورك ضحكوا، فقط ضحكوا، في ذكرى يوم الحادي عشر من سبتمبر يوم الغزوة المباركة كانت ضحكاتهم سبباً لسجنهم. وأنا ضربت لك هذا المثال حتى أمارس عليك عملية التضليل وتغطية بصرك فلا ترى آلاف الضحايا والقتلى وعشرات الآلاف من المشردين والمسجونين لأقل من هذا الصنيع، وكل ذلك من بركات عصر الديموقراطية والسلام العالمي والنظام العالمي الجديد. إنها مهزلة الشعار التي لم يتطور في البشرية منذ أولها إلى يومنا هذا أكثر منه، ولا صار خلق في الوجود أعمق وأقوى وأرسخ من خلق الكذب. حين ترى العالم كله بلداً واحداً ويتحدث بلغة واحدة وهي لغة الشرعية الدولية، وتحت مظلة الأمم المتحدة الملحدة وحين تنكش عوداً صغيراً تحت هذه الشعارات فترى كيف تدار المواخير، وأي لعبة عهر تُمَارس داخلها تعرف أن العالم صحيح محكوم بنظام عالمي جديد وبشرعية دولية واحدة لكنها لا تختلف عما يسمونه هم بشريعة الغاب، بل إن للغاب شريعة وقانوناً هما أرقى بكثير مما يمارسه هؤلاء الذين هم أقسى من الذئاب والكلاب المسعورة" .

أنا أجزم بأن بعض القراء الكرام ممن قرأ هذه الفقرة أعلاه قد نسي حتى المقدمة التي قرأها قبل هذه الفقرة لتحذره من تأثير الكلمات ونكأ الجراح. ولا عجب، فالكاتب يبدو وكأنه يخاطب "منطقـاً" يلامس واقعاً معاشاً حولنا لا سبيل إلى انكاره. لكن الحقيقة أنه لا وجود لمنطق حقيقي بين المقدمة وبين النتيجة التي يريد أبو قتادة أن يصل إليها. ومكمن الخطورة هنا أن الكاتب لا يوضح لك ابتداءاً أن الأفكار والفلسفات، كما الأديان والشرائع، تتساوى جميعها في إمكانية توحشها. فكم من دماء اريقت، وكم من أجساد شُوهت، وكم من أوطان هُجرت، وكم من حُرَم هتكت، وكم من مباني هُدمت، وكم من نساء ترملت، وكم من أطفال يُتمت وشُردت تحت شعار الإسلام والجهاد ودعاوى تطبيقهما، تماماً مثل ما سقطوا تحت شعار يسوع والمسيحية، وموسى واليهودية، وماركس والشيوعية، والديموقراطية والرأسمالية؟ فهل يكون هذا، على منطق أبو قتادة نفسه، دليلٌ على سوء الأديان وسببٌ للكفر بها؟! ولكن، كم من قارئ لكلام أبي قتادة أعلاه سوف يقف لثوان معدودة فقط ليسأل نفسه هذا السؤال؟ ولكن من الواضح أن أتباع السياق المتطرف لم يقفوا حتى لتلك الثوان معدودة، ليفكروا.


..... يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا على المعلومات
عماد عمر ( 2016 / 1 / 15 - 23:18 )
انا شخصيا احب ان اقراء مقالاتك و دائما اجد قيها معلومات جديدة ولكن لا احب اسلوب الاطالة و الاسهاب في اللغة


2 - أنتهى من التهجم على بولص وبدأ بتلميع سيرة أرهابي
عراقي ( 2016 / 1 / 16 - 17:41 )
وشتان بين بولص الرسول وتعاليمه المنيرة وأبو قتادة الأرهابي , وكما يقول المثل العربي:-شتان ما بين الثرى والثرية


3 - لو أردنا تركيز المشكلة على جزئية واحدة
الدكتور أياد مصطفى ( 2016 / 1 / 18 - 10:33 )
الاستاذ حسن رمضان
فى البدء لا يسعني الا شكرك على مجهودك النقدي والبحثي ومساهماتك في اضائة جوانب عديدة من المسلمات أو المشكلات ومنها مشكلة التطرف في هذه المقالات، فهي قد ساهمت في زيادة الفهم بدون شك
لدي سؤال
لو أردنا تركيز مشكلة التطرف الاسلامي في جزئية محددة لصالح عمل بحث يتطرق لجوانب قد تكون مفيدة ولكن لا تزال تعاني من قصور في البحث، فماذا تكون؟ ماذا تقترح أن تكون؟
أكرر اعجابي بمجهودك البحثي والنقدي وإلى المزيد
تقبل تحيتي


4 - رد على الدكتور أياد مصطفى - 1
حسن محسن رمضان ( 2016 / 1 / 18 - 19:41 )
ا
لدكتور أياد مصطفى
مساء الخير

امتناني الشديد لما تفضلت به في مقدمة مداخلتك ونهايتها.

بالنسبة لسؤالك. أنا افترض هنا أن الدافع لسؤالك هو مشروع بحثي أكاديمي متخصص. فإذا كان الأمر كذلك فإن أحد الجزئيات المهمة جداً في البحوث والتي لا تزال تعاني من نقص شديد في المصادر والأوراق البحثية هي تلك المتعلقة بـ (سيكولوجية التطرف). بالطبع التطرف له مشارب وأنواع متعددة، وله دوافع متعددة أغلبها يخفى على القارئ العابر، وبإمكانك ملاحظتها في كل مكان حتى في هذا الموقع ضمن التعليقات والكتابات، وله بعض المصادر التي تناولت بعض أشكاله بالبحث السيكولوجي، إلا أن ما ينقص الدوائر البحثية، حسب علمي المتواضع، هو دراسة شاملة لـ (سيكولوجية التطرف الإسلامي) بالتحديد. هذه الدراسة ليست مكانها في مقالة أو سلسلة مقالات بالطبع، هي دراسة مكانها في كتاب مستقل أو دوريات علمية متخصصة. وهي لا يمكن دراستها من خلال كتابات أو أدبيات، ولكن تحتاج إلى تفاعل مباشر على أرض الواقع مع قطاعات من المجتمع ومع أفراد فاعلون في الفكر المتطرف أو ممارسته، وهنا مكمن صعوبة هذا المشروع كما هو واضح، وهذا أيضاً سبب تميزه لو تم.

... يتبع


5 - رد على الدكتور أياد مصطفى - 2
حسن محسن رمضان ( 2016 / 1 / 18 - 19:58 )


هناك جزئية أخرى مختلفة في بحوث التطرف وتفاعله العام، وهي الآن تكتسب زخماً، وهي المتعلقة بحتمية الصراع بين المنهج السلفي والدولة المدنية، وأوجه حلها، وكيفية تحييد المنهج السلفي لصالح الدولة المدنية إنْ أمكن ذلك، وتوقع إفرازاتها المستقبلية كشكل من أشكال الصراع. فالإشكالية ذات شقين أساسيين: سياسي من جهة ومن جهة أخرى عقائدي-اجتماعي. وكنت قد كتبت ما يُعرف بـ

Crude introduction

لهذه الإشكالية وسوف تجدها في مدونتي الشخصية هنا:

https://cordobi.wordpress.com/2012/09/03/hatem/


إلا أن التركيز الآن على الشق السياسي، وهو: إذا كان المنهج السلفي، بصورته الحالية وبشكله وبتعاليمه، لا يستطيع التعايش أو الذوبان ضمن أي شكل من أشكال الدولة المدنية (بسبب مطالباته الأساسية بإدخال الفكرة العقائدية كتشريع مجتمعي أصيل)، وبما أن الدولة المدنية هي مقدمة وضرورة حتمية للخروج من الإشكالية الراهنة بكل كوارثها، فما هو:


... يتبع


6 - رد على الدكتور أياد مصطفى - 3
حسن محسن رمضان ( 2016 / 1 / 18 - 20:09 )

1- التقييم لمستقبل الفكر السلفي ضمن المجتمعات الإسلامية؟
2- مميزات التطرف السلفي الذي يجعله قابلاً للاستقطاب شرقاً وغرباً بحيث أصبح يفاجئ الجميع في مواقع متعددة؟
3- أوجه الصراع المتوقع نشوئها في دول، كالسعودية، قائمة بالفعل على ممارسة السلفية كعقيدة، وخصوصاً أن أساس مشكلة التطرف عندهم أصبحت متعلقة بالشرعية السياسية السلفية؟
4- مستقبل الصراع الاجتماعي العربي (العرقي – المذهبي - الديني) وأثره كأحد الدوافع لتبني السلفية كمنهج؟
5- تأثير السلفيات غير الإسلامية (المسيحية العربية على وجه الخصوص) على الصراع الديني ومستقبل الدولة المدنية؟
6- الأنظمة السياسية العربية وعلاقتها بالمؤسسات الدينية الرسمية كأحد أوجه الإشكالية الراهنة وليس أحد أوجه حلها؟

والاسئلة كثيرة جداً في هذا المجال، وكلها تستكشف زوايا لم يُلقى عليها ضوء بحث محايد ومنهجي.

أتمنى أن أكون قد أجبت على سؤالك، ويسعدني أن تراسلني على بريدي الإلكتروني لمزيد من المناقشة إذا كان خيارك هو مزيد من البحث في موضوع سيكولوجية التطرف لو أحببت ذلك، فأنا أتطلع إلى مثل تلك الدراسة لو كُتب لها الحظ.


تحياتي، وامتناني مرة أخرى لكلماتك

حسن




اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س