الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية هي الرد الوحيد لتغيير عالمنا اليوم - حوار مع جورج لابيكا - الفصل الثاني

حسان خالد شاتيلا

2016 / 1 / 26
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية

                        في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
                                حوار مع جورج لابيكا
                         أجرى الحوار ومهد له حسان خالد شاتيلا
 
                                     الفصل الثاني
                            الماركسـية هـي الـرد الوحـيد
                               لتغــيير عـالمـنا الـيوم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أولا- العولمة بوصفها العامل المُقرِّر وإطار للعالم،                                                            أو الواقع في السياسة من حيث هو ما لا يرى بالعين المجرّدة:                                                                      
 
1/ ما هو دور الوعي في عالمنا المثير لحالات كثر من الاستلاب:
* *   سأتوخى الاختصار، وإن كان الموضوع يستحق إطالة معمّقة. إن المهمة الأولى الملقاة على الوعي هي التيقظ النقدي حيال الفكر السائد أو المسيطِر والذي يَهدف بصورة رئيسة، بالاعتماد على التلاعب الإعلامي-السياسي والأكاذيب والأخبار المنحازة، إلى حيازة إجماع الرأي العام. أي بتعبير آخر غسل الأدمغة لبرمجتها وفق مصالح الطبقة السائدة. والمهمة الثانية تُلْزِمُنا بامتحان يقظ لوقائع زماننا والتي تَحمل الخصائص المرتبطة بعلاقات الإنتاج الرأسمالية في مرحلة العولمة. والمهمة الثالثة، وهي امتداد للمهمَّتين السابقتين، تتعلق بالأدوات والوسائل التي من شانها، إذا ما توفَّر للمُستَغَلَّين حيازتها، أن تأتي في المجالين القومي والأممي على الاستغلال .
 
2/ في ضوء الاجتماع الذي عُقد في اسطنبول في شهر تموز/يوليو للعام 2007 من أجل التضامن مع نضال الشعوب ضد العدوان الإمبريالي في الشرق الأوسط، وشاركت فيه الأحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني، ما هي إمكانيات المقاومة المتاحة اليوم لمواجهة الإمبريالية والنيوليبرالية حسب ما ظهرت في هذا الاجتماع، ولا سيما في البيان الختامي الذي صدر عنه؟ حيث كنتَ قدَّمت فيه مداخلة بعنوان: "العراق من حيث هو البرهان"(1). إن اجتماع اسطنبول يكتسب أهميته كونه يُعلن عن ضرورة بناء جبهة دولية ديمقراطية لمقاومة الإمبريالية، وهو ما نفتقد إليه. فتشكيل جبهة كهذه يبدو أمراً متعذراً حتى الآن.  ولعل الاجتماع، أسوة باجتماعات مماثلة، يُعلن عن البوادر الأولى لتشييد هذه الجبهة.  كيف ترى مسألة الجبهة المعادية للإمبريالية.
**    يجب البدء من حيث بدأ اجتماع اسطنبول أعماله، أي طرح المشكلة على بساط البحث بصورة واقعية أو في ضوء الوقائع والمعطيات. أي أن نفهم العولمة ونكوِّن صورة واضحة عنها لأن كل المسائل التي تَطرح نفسها علينا تأتي من العولمة. فالسيرورة التاريخية اليوم هي سيرورة العولمة.
لقد بَلغ حجم ما كُتب حتى اليوم عن سيرورة العولمة أكداساً وأكداساَ، ولن أعود إلى هذه التفاصيل. ولنقل بداية إن العولمة هي ما وصلت إليه الرأسمالية في آخر مراحل تطورها. وكانت كتابات ماركس وإنجلز أَعلنت عن هذه المرحلة العالمية منذ "البيان الشيوعي". فالرأسمالية نزَّاعة إلى العالمية، أو إلى توسيع نظامها بحيث يشمل الكوكب بكامله ( 2 و33). فما هي العولمة اليوم؟ إنها نظام الفوضى على صعيد الكوكب. وهذا يعني أن للعولمة حيزاً مركزياً تَشْغَلُه الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا المركز هو الذي يَحكم العولمة وفقاً للأمر الواقع. والحاكم هنا يمارس حكمه بالأمر الواقع. 
لكن حكومة العولمة هذه تنطوي على وهم، لأن ما يَحكم العولمة ليس قوة سياسية متأتية من سلطة ما، وإنما هي السوق، أي السيطرة الاقتصادية، وما يرتبط بها من سيطرة مالية وعسكرية، وهي التي تمارِس دور العامل الحتمي المقرّر في هذا النظام العالمي الذي يَتكشَّف أمامنا اليوم. هذا النظام فوضى لأن العقلانية فيه معدومة. إن هذه العولمة تَحْمِل معها جوانب مثيرة للقلق بصورة بالغة الخطورة، حسبما تُبيِّن بعض الدراسات الدولية التي ذكرت أن ما يقارب من 1700 مليار دولار تدور عبر ما يسمي بالشبكات القذرة؛ أي مال المخدرات والدعارة والاتجار غير المشروع بالأسلحة، إلخ. ويجري تناقل رؤوس الأموال هذه في ما يُعرف ب/ "الفردوس المالي". ومن خلاله تَنجح بالاندماج في النظام المالي الذي يَتخذ مظاهر     قانونية. إن تعميم الجريمة بهذا المعنى مصطلحٌ يُترجِم عن الصيرورة المالية التي تحدِّد بدورها          طبيعة العولمة.
هذا الأمر ينطوي على أهمية بالغة ما دام يَنجح غالباً في التواري عن أنظارنا. هذا ما يجري على سبيل المثال في كولومبيا التي تَحتل المقام الأول في سلَّم البلدان المنتجة للكوكايين بمليارات الدولارات. هذه المليارات تغادر كولومبيا لتصبَّ في بلدان الفردوس المالي المجاورة لكولومبيا والولايات المتحدة. وتنتقل من هذه الأخيرة إلى بعض البنوك التي توافق على تشغيل هذه الأموال. إلا أنها تختار مجالات إنتاجية بعينها، وليس كل المجالات أو كيفما اتفق. إنها تعمل في المجالات المدرَّة للربح أكثر من غيرها، وعلى وجه التحديد في المجالين المالي والعقاري. هذا هو ما نراه اليوم أمام أعيننا. إذ يكفي أن تظهر في الولايات المتحدة مشكلة عقارية ما حتى يتأثر بها الاقتصاد العالمي برمته. كما نشهده في البورصات التي تُعتَبَر بمثابة مُجَسَّمات للاقتصاد العالمي. فمن المعروف أن الأزمة العقارية في الولايات المتحدة كانت قد امتدت إلى موسكو ولندن وباريس، إلخ. وقد لعبت البنوك دوراً تعويضياً عندما ضخَّت في الأسواق مليارات الدولارات لمواجهة هذه الأزمة التي اجتازت النظام الرأسمالي.
تأتي أهمية العولمة هنا من كونها تُمارِس دور العامل الحاسم المتحكِّم، بمعنى أن دور الولايات المتحدة مستمَد من الظروف التاريخية للعولمة، ولم يتأتَّ لها ذلك من قوتها السياسية الذاتية. ذك أن انهيار جدار برلين جعل من الرأسمالية، في لحظة ما، الخيار الوحيد أمام العالم، ما أتاح في الوقت نفسه هيمنة رأس المال. أما في عهد الحرب الباردة فقد كان العالم يعيش في ظل نظامين يواجه أحدهما الآخر. أولهما يمثِّل الخير وثانيهما الشر حسب ما كان يقال. ولم تكن هذه المواجهة على الأغلب بين هذين النظامين بشكلها البارد هذا كافية لتغيير العالم. بيد أن ما كان سائداً في عهد الحرب الباردة كان يتيح أمام الشعوب كلها أن تختار حتى لو كان ذلك بوساطة الابتزاز. كان ثمة خياران فقط، إما انتهاج المسار السوفياتي، أي الاشتراكية التي كانت سائدة في ذلك البلد، وحسب مصالح البلدين، أو الطريق الرأسمالية.
وما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى وَجَدت الولايات المتحدة نفسها فجأة وقد عُهِد اليها بحكم العالم، الأمر الذي أعطى هذا البلد دور أول قوة مالية واقتصادية، فضلاً عن القوة العسكرية والدبلوماسية والاستراتيجية والثقافية. وإن للجانب الثقافي هيمنة واسعة تترك أثرها في كل مكان من العالم. انظر على سبيل المثال ظاهرة ماغدونالد التي تَنتشر في كل أنحاء العالم، من اسطنبول إلى بكين عبر موسكو. هذا يدل على أن السيطرة الأمريكية في عهد العولمة النيوليبرالية تشمل المجال الثقافي أيضاً. وكان رئيس مجلس إدارة كوكاكولا قد أَعلن قبل فترة وجيزة أن توزيع كوكاكولا يجب أن يتسع بحيث يحل في آسيا محل الشاي. وإذا كان بعض الآسيويين يضحك لدى سماعه مثل هذه الأقوال، فإن الأكثرية منهم تستقبلها بامتعاض من جرَّاء حجم ما يستهلكه الشبان يومياً من عبوات الكوكاكولا. ولاسيما أن أسعارها في ارتفاع مستمر.
إن التوجُّه الحالي للعولمة، الذي يتميز بالسيطرة الاقتصادية، يجعل من رأس المال المالي المنظِّمَ الوحيد، وذلك باعتباره الهوس المتسلِّط المشترك. قبل فترة وجيزة نُشرت نتائج دراسة أجراها المعهد الوطني للإحصاء في فرنسا Institut National des Statistiques، تبيِّن أن التفاوت ما بين دخل العمال ودخل أرباب العمل للعام 2006 قد تعاظم. كما ازدادت دخول أرباب العمل أضعاف أضعاف دخول العمال، حتى أن متوسط الدخل الشهري للفرد الواحد في فرنسا يبلغ 1500 يورو، في ما يرتفع الدخل الأعلى لأرباب العمل إلى 350 ألفا. والدرس الأول المستنتج هنا هو أن التفاوت بين الدخول قد اتسع بصورة واسعة. فإذا كان متوسط دخل العامل في فرنسا يبلغ ألف يورو، فإن أ دخل أرباب العمل يبلغ 350 ضعفاً عن دخل العامل. أما الدرس الثاني، وهو غريب من نوعه، فيفيد بأن الصحفيين الذين نقلوا نتائج هذه الإحصاءات إلى الراديو والتلفزيون هم اليوم عبيدٌ مملوكون للإعلام الرسمي. والملاحظ - كما هو معروف - أن دخل أرباب العمل في فرنسا، أي 350 ألف يورو شهرياً، ما هو سوى نصف أحسن دخول            أرباب العمل في الولايات المتحدة. علماً أن خمسة ملايين نسمة في الولايات المتحدة يعيشون تحت         خط الفقر.
إلى ذلك، فإننا أمام حالة يبدو فيها الرب، حسب تشبيه أستعيره بين حين وآخر، كأنه متعب وقد تخلَّى عن سلطته، واختار الموت الحر. لقد قرَّر تدمير ما خلقه بنفسه. هذا هو حالنا ما دام الكوكب – حسب ما يردِّده أنصار البيئة – مهدَّداً بخطر. وهو أمر يَحْمِل في طياته نتائج مثقلة بالأخطار. إذ أن ما هو مهدَّد في كوكبنا ليس أمرا آخر غير الإنسانية نفسها. إن السباق المحموم نحو الربح خلوٌ من أية عقلانية. وهو يَستدرج وراءه الجميع بدون استثناء. إنه لتشبيه مفيد. فهل الرب متعب لأن الإنسانية خيَّبت أمله، أم لأن المال نال من العالم والإنسانية على حد سواء؟ أيا كان الجواب، فإن الرب كما يبدو قد عقد العزم على وضع نهاية لهذه المصيبة العظمى التي تُخطِر بزوال الحياة من الكوكب تحت تأثير الأضرار التي تَلحق بالبيئة جراء نمط الإنتاج الرأسمالي.
 
3/  يقال إن عصر العولمة هو بمثابة عودة الإنسانية إلى العصر الوحشي. هذه العولمة التي صادرت الوعي والسياسة. وقد اتَّسَعت هذه المصادرة حتى ابتلعت بصورة شاملة كل المجالات. من هو المسؤول عن هذا التقهقر الشامل؟ ألم يصبح الإنسان في عهد العولمة ذا بعد واحد ؟
 * *   أنا لا أعتقد أبدا أن الإنسانية عادت إلى الحياة الوحشية. فنحن نجهل - أولا - ما هي حقيقة الحياة التي يُطلق عليها تسمية الوحشية، وهي حياة قدامى أجدادنا. ربما كانت هذه الحياة حضارية. ثم إني – ثانيا - أُلاحظ أن سمة الوحشية تُنسَب إلى الكائنات الحية، وبوجه خاص الحيوانية منها، والتي لم تُرَوَّض، أو تلك التي لم تُوْضَع في خدمة الإنسان، والمقصود من وراء ذلك أن الوحشية تَحٍمِل أشكالا من العدائية المتطرفة، هي من طبائع الحيوانات التي تصارِع من أجل البقاء على قيد الحياة. والنتيجة إذن هي أن المسؤولية تقع على ما هو إنساني، وعلى السياسة. والمسألة هنا لا صلة لها البتة بأي تفسير ميتافيزيقي. وإنما المقصود هنا هو السياسة في حالة معيَّنة، في عصر مُعَيَّن مصنوع بأيدي أناس بعينهم. أي، وبتعبير آخر، أننا اليوم في مرحلة من الرأسمالية التي تُثير حالة من التراجع بصورة غير مسبوقة في كل المجالات، الاقتصادية، المجتمعية (العمل، والتعليم، والصحة، بين أمور كثر غيرها)، المعلوماتية والثقافية. إن الحداثة (حداثتنا) منذ القرن التاسع عشر تتميّز بالعنف بجميع أشكاله ومظاهره (الاستغلال، الحروب والانقياد).
أما أيديولوجية الإنسان ذو البعد الواحد، فإني لتفنيدها أكتفي هنا بأن أُوَجِّه تحية للرجال والنساء المتحلِّين بالشجاعة، بالرغم من عنف الرقابة والقمع، والذين يدافعون عن القيم الإنسانية، ليس بالمعنى التجريدي كما يفعل المنافقون، وإنما هذه القيم من حيث هي الكرامة، ورفض الانقياد، والسلام.
 
4/ هل أنتَ تتحدَّث عن "الإنسانية" من حيث هي مفهوم فلسفي أو قيمة عندما تقول إن ما هو مهَّدد إنما هو الإنسانية؟ فكأن الماركسية تدافع عن الإنسانية كمذهب أخلاقي! وهل الإنسان من حيث هو مفهوم حقوقي أو مثل أعلى هو هدف للنضال الشيوعي والماركسي؟ إن هذا الترادف بين الماركسية والإنسانية يستدعي التوضيح.
* *   عندما أنا أقول إن العولمة تهِّدد الإنسانية بكارثة كونية عظمى أو بالفناء، إنما أُريد أن أقول إن تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية لا تشكِّل فقط تهديداً لهذا القطاع أو ذاك من السكان، في هذا البلد أو ذاك من البلدان، وفي هذه الشروط أو تلك، وإنما أنا أقصد إلى القول إن الإنسانية من حيث هي كذلك هي لأول مرة المهدَّدة لأن استغلال المصادر الطبيعية دون أية رقابة، وكل ما يرافق التقدم التكنولوجي من أضرار بيئية، وبوجه خاص في ما يتعلق بالأُوزون والانحباس الحراري، إنما هو يهدِّد الحياة. إن ارتفاع درجة حرارة الكوكب بمقدار درجتين أو ثلاث درجات سيقود إلى فناء الملايين من سكان المعمورة في إندونيسيا والهند. وسوف يَغمر البحر أراضٍ شاسعة، إلخ..إلخ. ولنذكر أن نحو ثلاثة آلاف جنس حيواني آلت إلى الفناء، فضلاً عن الأجناس النباتية. وإن الإنسانية، من حيث هي مكونات حيوية، لأول مرة مهدَّدة. فأنا إذن أتحدَّث عن الحياة وليس عن الإنسانية. والماركسية ليست مذهباً إنسانياً. فأنا، على غرار لويس ألتوسير، أرى أن فكرة الإنسانية ليست ضرورة لا مفر منها، وهي لو أنها لم تبتكر لما كان من الضروري ابتكارها (3). بيد أني أُضيف بأن الماركسية تبحث عن سعادة الإنسان لا عن شقائه، ناهيكم بأنها لا تنادي بالعنف والدمار من حيث هما هدف. إن الهدف من الثورة هو سعادة الناس وليس بؤسهم. وليس ثمة ما يدعو هنا إلى الخوف. إن الثورة تبحث عن سعادة الإنسان.
 
                                           ثانياً : الولايات المتحدة الأمريكية
                                                   ومناهضة الشعوب للإمبريالية
 
1/            ما هو دور الولايات المتحدة الأمريكية في عصر العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية كما تسميها؟
  **  لقد وَجَدَت الولايات المتحدة نفسها على رأس العولمة عن طريق الصدفة تقريباً، وأصبحت حسب ما يبدو المسؤولة عن حكم العالم. العولمة هنا من حيث هي سيطرة المال والسوق والبورصة. وإن أول ما نلاحظه في ما يتعلق بالبورصة أنها عصية على أي تحكُّم. إنها ليست موضعا للتنبؤ، وإن أفضل الاقتصاديين عاجزون عن معرفة ما الذي سيجري في هذا المجال غداً. والبورصة أشبه ما تكون بالعمل في مجال الأرصاد الجوية. فزمن البورصة آني ومؤقت وراهن، وتنعدم فيه التنبؤات. وهي لا تتسع لمشاريع الشعوب طالما هي مجهولة المستقبل. لذا، فإن بعض الحمقى يذهب إلى القول إن نهاية التاريخ أزفَّت، وإن البشرية وصلت إلى عصر الفراغ والعدم. وهؤلاء مُحِقُّون بالرغم من بلاهتهم ما دام العصر هو زمن البورصة.
إن الولايات المتحدة التي تتربع اليوم على عرش العولمة تبدو قوة محصَّنة من أي اعتداء، ومستقرة، أمرها بيدها تفعل ما تريده بالعالم. لكن الأمر في الواقع ليس كذلك؛ إذ أن هذه القوة تقف على قدم من فخار سريع العطب. ذلك أن القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، وبوجه خاص  المالية  منها،  والتي  يعود  تاريخها  إلى  نهاية  معاهدة  بريانت  كيلوغ    Briant- Kellogg(4) مع بدء الحرب العالمية الثانية، هذه المعاهدة التي تؤرخ بدورها لإحدى مراحل الاقتصاد العالمي ولتطور الدولار، تبدو هذه القوة في الظاهر فقط وكأنها تقف على قدم من حديد. إلا أن الحقيقة غير ذلك، ففي الولايات المتحدة يعيش نحو 35 مليون فقير، والضمان الاجتماعي غير متوفر، والنفقات الصحية باهظة الثمن، واقتصاد الولايات المتحدة مصطنع وغير متين من حيث بناه الذاتية مادام العالم أجمع هو الذي يوفِّر أسباب الحياة للولايات المتحدة. إنها تعيش بفضل ما تأخذه من العالم ككل. ناهيكم وأن ديونها الخارجية تساوي أربعة أمثال ديون العالم الثالث التي تَستقطب أنظار العالم وتُخفي بالمقابل الديون الأمريكية. الأمر الذي يفيد بأن الاقتصاد الأمريكي مرشِّح في أية لحظة للانهيار. وإذا ما حدث ذلك، فإن الانهيار سوف يَستَدرج وراءه انهيار الاقتصاد في عدد كبير من البلدان، لأن الوضع الإمبريالي للولايات المتحدة اليوم هو وضع إمبريالية مهيمِنة. فغيرها من الدول الإمبريالية يقع بدوره تحت السيطرة الأمريكية. وإذا ما انهارت الإمبريالية الرئيسة، فإن الأخريات ستلحق بها. بيد أن ما هو مرشّح في مثل هذه الحالة للانهيار ليس هو البورصات، وإنما الأمم والناس والأحياء الذين سيجدون أنفسهم ما بين ليلة وضحاها أمام الطامة الكبرى.
إن الولايات المتحدة تستمد قوتها اليوم من اتساع حجم حصتها من السوق. وهي توسع حصَّتها بقوة السلاح. وليس في العالم اليوم قوة تستطيع مواجهة القوة العسكرية للولايات المتحدة. بيد أن ما يُشَجِّع كل البلدان الواقعة تحت سيطرة الأجنبي على المقاومة والثورة أن الولايات المتحدة لم تَكسب في التاريخ حرباً واحدة. لقد انتصرت في حربين اثنتين فقط. حربان قذرتان كُتِب لها فيها النجاح. كان ذلك في مطلع تأسيسها. حربها ضد الهنود الحمر حيث أبادتهم على غرار ما يحاول الإسرائيليون أن يفعلوا اليوم بالفلسطينيين. وحربها المكسيكية التي بَترت ثلث مساحة هذا البلد، ومعه ثلث سكانه. إن إحدى كبرى المدن الأمريكية مكسيكية الأصل، ألا وهي لوس أنجلوٍس، بالإضافة إلى سان فرانسيسكو. وإن تاريخها منذ تأسيسها تاريخ نزاعات صنعتها بيدها. ذلك أن وجودها متعذر ما لم تستمر النزاعات، فهي في حاجة مستديمة إلى عدو. لقد كان الهندي في الماضي البعيد عدواً، ثم تحدَّثت عن الخطر الآسيوي، إلا أنهم الآن لا يصرِّحون بذلك لأن آسيا أصبحت قوية للغاية. ثم جاء العدو الشيوعي، العدو الأحمر. وها هو العربي يحل محل الخطر الأحمر بعد زوال هذا الأخير. وهي، وإن كانت بحاجة مستديمة إلى العدو، إلا أنها تخسر، في غمار الحروب على الساحات العسكرية، في العراق، وفلسطين عبر إسرائيل، ثم أفغانستان، تخسر الحرب تلوى الأخرى. الأمر الذي يقودنا إلى القول: إن تعبئة الشعوب في مواجهة الولايات المتحدة حقيقة عيانية واقعية وملموسة؛ فالشعوب قادرة على التصدي للخصم مهما بَلَغَت درجة تقدّمه في سلم الوحشية، وأياً كانت أيضاً درجة ارتقائه في سلم التقنيات.
هذا هو الإطار العام للعالم اليوم بدون أية مشاعر متشائمة من جهتي شخصياً. يبقى علينا أن نَعرِف ما هو الرد؟ وكيف يكون؟ وما العمل؟
 
2/ ما هي برأيك الحالة النضالية في وقتنا الراهن؟ وما الذي آلت إليه؟ وكيف نناضل؟
* *   إن أثر النظام الإمبريالي، بوصفه قوة مسيطِرَة على العالم يعبِّر عن نفسه في ما يمكن لنا أن نسمّيه الرأي العام في كل بلد على حدة. إن ما يميِّز الرأي العام العالمي اليوم هو نمط من الاستسلام أو الانقياد كما لو أن القدَر المحتوم أَطبق على الناس. ذلك أن العولمة تَمسح وتُكَنِّس في تقدُّمها كل ما يقف في وجهها. بالمقابل، ثمة شعور بالعجز يُترجم عن نفسه سياسياً، وما دام كذلك فإنه ينطوي على أهمية قصوى. إن الترجمة السياسية للعجز أمام النظام الإمبريالي تَظهر حيث توجد انتخابات على سبيل المثال. ولنقل إن هذه الانتخابات ديمقراطية، علما أن مثل هذه الانتخابات الديمقراطية لا وجود لها في أي مكان من العالم، لأن معدَّلات الامتناع عن التصويت في ارتفاع ما انفك يتكاثر. وفي حال فرنسا، على سبيل المثال، يصرخ الإعلام مرحباً بنهاية ما كان يخيَّل إليه ويسمِّيه نفور الفرنسيين من السياسة، حيث عاد اهتمام هؤلاء بالسياسية إلى الظهور مجدَّداً على حد زعم الإعلام، لأن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية (نيسان/أبريل2007) سَجَّلَت أقل نسبة امتناع عن التصويت في صناديق الاقتراع في تاريخ الجمهورية الخامسة. وهذه حقيقة لا شك فيها. لكن، وما أن مرت أسابيع معدودات على الانتخابات الرئاسية في شهر أيار/مايو من العام 2007، وجاءت الانتخابات التشريعية، حتى سجَّل الامتناع عن التصويت أعلى نسبة له منذ الحرب العالمية الثانية. فما الذي حدث في الانتخابات التشريعية، وهي الأهم من غيرها مقارنةً بالانتخابات الرئاسية لأنها وثيقة الصلة بقضايا الفرنسيين وشؤونهم الحياتية وقوت عيشهم وأمنهم اليومي. إن ما يجري على صعيد صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية يدلِّل بأن  الامتناع عن  التصويت  ما  انفك  يتكاثر  مع َ مرور الأيام.
وإن للامتناع عن التصويت أسبابٌ كثيرة، لعل أهمها تأثير العولمة على الحياة السياسية ومشاركة المواطنين فيها. فالحياة السياسية في عهد العولمة لم تعد لتحتاج في العديد من البلدان إلى برامج سياسية، فقد امَّحت الحدود ما بين أحزاب اليمين واليسار، حتى أن البرامج السياسية لم تعد ضرورة لا مفر منها للفوز في الانتخابات. كما أنها لم تَفرض نفسها على المتنافسين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وفي ما يتعلق بشؤون السياسة المجتمعية والدولية لم يقدِّم المتنافسون خطاباً سياسياً مختلفاً جوهرياً ما بين هذا وذاك من المرشَّحين. لقد تحدَّثوا جميعاً وفق لوازم موسيقية معروفة، وكنتَ تراهم يردِّدون العبارات نفسها، كلٌ حسب شخصيته. وكانوا يردِّدون الكلام نفسه، ويقترحون الإجراءات والتدابير نفسها. لذا فإن التمايز بالنتيجة معدوم ما بين الاشتراكية الديمقراطية واليمين. الأمر الذي جعل الشعب يغوص في أعماق بحر من البلبلة (5).
إن البرامج الانتخابية والحملة الرئاسية تتجاهل بلا قيد أو شرط الإشارة إلى طبيعة النظام السائد، أو إنها بالكاد تشير إلى نمط النظام السائد تلميحا فقط، وبعضهم يتحدَّث أحيانا عن جمهورية سادسة هي أشبه ما تكون بالسر؛ بيد أن البرامج الانتخابية والمرشحين في حملاتهم يمتنعون بصورة نهائية عن الإدلاء بأي إعلان يَحمِل برامج واضحة ودقيقة.
هذا، وتتميز الظروف الراهنة في فرنسا بانزلاق القوى السياسية الرئيسة باتجاه اليمين. ويَنتُج عن هذه الظروف أن الحالة الراهنة مَنَحَت الناخب الفرنسي من الخيارات بين مرشحي اليمين ما لم تمنحه الانتخابات الرئاسية في أي وقت مضى: جان ماري لوبين، فيليب دوفيلييه عن اليمين المتطرف، نيكولا ساركوزي عن اليمين الليبرالي، فرانسوا بايرو مرشح اليمين المحافظ، وسيغولين روايَّال مرشحة الحزب الاشتراكي. ولما أصبح الخطاب الأمني أيديولوجية سائدة، فإن هذا الخطاب يُبَرِّر كل الإجراءات القتالية التي تأتي عن الليبرالية من حيث هي آخر مرحلة للرأسمالية المعولَمَة؛ طالما تُعلٍن هذه الأيديولوجيا أن هذه الإجراءات أمرٌ واقع لا مفر منه.
إن قياس التباينات أو تداخل الألوان يُقَدَّر بالملليمترات بين أضخم مرشَّحين اثنين، ساركوزي- روايال، وذلك في ما يتعلق بقيمة العمل، ابتداءً من مرونة الأسعار، وحرية انتقال المصانع والشركات إلى البلدان الأجنبية، وانتهاءً بالبطالة والنظام التقاعدي، والمدرسة والبحث العلمي، والأمن أو السياسة الدولية، من بين أمور كثيرة غيرها. وبصرف النظر عن الالتزامات الاجتماعية التي تلازم العملية الانتخابية بدون فكاك، فإن مقترحات المرشحة الاشتراكية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سيغولين روايَّال تفتقد للضمانات في ما يتعلق بالمسألتين اللتين تُميّزان الأبيض عن الأسود، ألا وهما أوروبا والنزاع العربي الإسرائيلي، وذلك بين أسئلة غيرها. ففي ما يتعلق بأوروبا، فإن سيغولين روايّال المخلصة لمنطقها المؤيِّد لمشروع الدستور الأوروبي لم تتخل أبدا عن الدعوة إلى مداولات جديدة تُلغي الرفض الفرنسي للمشروع، وذلك تمشِّيا مع رغبات المستشارة الألمانية آنجيلا ميركيل ورئيس المفوضية الأوروبية خوزي مانويل باروزو. ومن جهة أخرى، وفي ما يتعلق بزيارتها لعدد من بلدان الشرق الأوسط في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي لم تتردَّد في الإعراب عن تأييدها لبناء جدار "العار" باسم "أمن" إسرائيل، كما أن مساعديها في حملتها الانتخابية يزعمون، في محاولة منهم للتبرير، أن البعض أدلى قبلها بتصريحات مماثلة، وأنها لم تتلق الاستشارة المناسبة. وهذا كله يدعو إلى قلق جدِّي في ما يتعلق بكفاءة هذه التي يلقبونها، السيدة "أنا أُريد"، للاضطلاع بالوظائف العظمى لفرنسا. ولم تلبث أن عادت وارتكبت ما كانت ارتكبته قبل ذلك، فقد التحقت بخصمها ساركوزي لتعلن عن تأييدها لاستقبال إسرائيل ضمن مجموعة البلدان الفرنكفونية (بانتظار انضمامها للاتحاد الأوروبي)، كما شاركت في مأدبة العشاء التي تُقام سنويا بدعوة من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف CRIF ).
والحال إن الديمقراطية معدومة، فقطاعات بأكملها من الرأي العام، أي القوى الاجتماعية، مٌبْعَدَة عن كل تمثيل سواء عبر لعبة جمع التواقيع من خمسمائة عمدة لاستكمال شروط الترشُّح لرئاسة الجمهورية - والأخطر من ذلك أن الحزب الاشتراكي أوصى العمد الاشتراكيين بحجب تواقيعهم عن مرشحي اليسار الشيوعي – أم من جراء الآلية الانتخابية التي تقسِّم الاقتراع إلى دوائر ما تزال هي هي نفسها منذ العام 1982. فضلا عن أن البرلمان، الذي يضطلع بدور شكلي، استشاري، يُذعن لحكومة هي نفسها معدومة السلطة، وتعيش على حافة الهاوية الانتخابية التي تفصل ما بين السلطات المنتَخَبَة والشعب، ولاسيما أن الرئيس المُنتَخَب فردٌ مُخَوَّل بسلطات مَلَكِيَّة.
ولنضف إلى ما تقدّم طريقاً آخراً مسدودا، وهو أعلى شأنا من حيث أبعاده. إن هذا الطريق يتعلق بما يجب أن نصفه ب "النبذ السياسي". هذا النبذ سواء أكان مفروضا أم طوعيا فإنه يَشمَل في أغلب الأحيان النبذ المجتمعي. إنه يجعل من الهيئة الانتخابية عضوية عاجزة، شبه مَعطوبة، من جراء ما يَلحق بها من بتر للأعضاء، وذلك في ما يتعلق بالأصوات التي تسقط من حساب النتائج الانتخابية، وهي: الامتناع عن التصويت، وسقوط الأسماء من قوائم الناخبين، التصويت الأبيض أو المرفوض، وإلى غير ذلك من تصويت احتجاجي ملغى دستوريا. إن التمييز القهري يصل هنا إلى قمته ما دام الامتناع عن التصويت ورفض التصويت مقبولين بصورة قانونية في الانتخابات النقابية والشركات والجمعيات. لكن وظيفة ما يسمونه ب"التصويت المفيد" لا يَكتمل معناها إلا على أسس من "التصويت غير المفيد" الذي يخضع للتمويه بطريقة دقيقة. والحال إن التصويت غير المفيد أيا كانت الطريقة التي تُستَخدَم للحماية منه، بالإضافة إلى الدوافع التي تحرِّك الأفراد، فإنه يُشكِّل المستودع لاحتجاج عميق من حيث المبدأ، طالما هو يعني الرفض في حالة التوكيد للُّعبة المفروضة وما تحمله من نبذ واختلاط.
 ويتمخَّض عن هذا النظام واقعين اثنين:
أولا: وجود منظمات حزبوية مُكَرَّسَة للرهان الانتخابي والحفاظ على مواقعها المكتَسَبَة، السياسية والأخلاقية والمالية، وتوسيعها.
ثانيا: عدد الممتنعين عن التصويت الذي ما انفك يتضخم منذ نحو عشرين سنة، حتى أنه أصبح يُشَكِّل نسبة عالية من الناخبين، علما أن هذا العدد لا يَدْخُلُ في حسابات الاقتراع. ويرافق ذلك كله نتيجتان تشكِّلان قاسماً مشتركاً بين كل ديمقراطياتنا الغربية "النموذجية": 1- سيطرة حزبين اثنين حسب ما هو واضح بصورة مؤكَّدة في فرنسا  والذي ما ينفك يظهر إلى العلن من انتخاب إلى آخر، وسَيَكَرَّس التصويت المقبل لهذه السيطرة على الأرجح. 2- مُنْتَخَبون غير مؤهلين بحكم الدستور الذي يعطي رئيس الجمهورية سلطات واسعة في ما يتعلق بالسلطة التنفيذية للدولة لممارسة وظائف هذه السلطة. وفي الحالتين فإن الهوة تتسع أكثر فأكثر ما بين "لنُخَب" والشعب.
إن هذا القفل يضمن سيطرة القوى الاحتكارية عبر وسائط الإعلام التي تقع بوجه خاص تحت سيطرة هذه القوى. وإن جمعية اللصوص التي تَجْمَع بينهم قد تَوزَّعت الأدوار في ما يتعلق بالاقتراع القادم.              
ها هنا تكمن حقيقة المشكلة، أي استخلاص الدرس المُستقى من الظروف الراهنة التي تلزمنا بالقطيعة مع الأوهام التقليدية، وذلك برفضنا حتى لمبدأ التحالف مع الحزب الاشتراكي، أو حتى لتسوية ما. وبتعبير آخر فإن المسَّلم به هو أن خيار الحزب الاشتراكي خيار غير ملائم البتة للظروف. فلنتجنب تشييد خرافات تتستر على الواقع. ولنُذَكِّر بما انتهى إليه نظام الحزبين من دمار، شأنه شأن التناوب بين جهازين على السلطة حسب الأسلوب الأنجلوساكسوني، هذا النظام الذي يعني، حسب ما تردِّده "الطبقة" الإعلامية- السياسية وتهيء له، نهاية كل مجابهة وتمييز بين اليمين واليسار، مجابهة أصابها المرض منذ وقت. في حين أن السلطة إياها ستجد مجدَّدا نفسها مرتاحة دائما وأبدا على الرغم مما تواجهه من اتهامات "الانقلاب العسكري الدائم" ضد الجمهورية بالنظر إلى السلطات الملكية لرئيس الدولة، والتي                كان الدستور الديغولي أسس لها من خلال منح الوظائف الرئاسية مزايا النظام الملكي (الحصانة    القضائية، والتكتم على النفقات المالية للرئاسة، و"المجال المحفوظ للرئيس وحده" أي المجال الدبلوماسي.                                             
إنها بلبلة عميقة مادامت أحزاب اليسار البديل واليسار الجذري عاجزة عن إنجاز اختراق في الجبهة اليمينية المسيطرة. ثم إن الحزب الشيوعي الفرنسي انهار لأنه ارتكب أفظع خطأ، ألا وهو الربط ما بين مصيره ومصير الاشتراكية الديمقراطية التي قادته إلى ممارسة دور المدير للنظام الرأسمالي وإدارة نظام الليبرالية الجديدة وآليات عملها (6).
ذلكم رأيي عن العجز؛ أما المقاومة التي تتحدَّث أنت عنها، وهي في حالة من التعبئة في العالم العربي، وتتميز – أيا كان التباين ما بين هذه القوة وتلك – من حيث مدى ارتقائها درجات التقدم في سلم الديمقراطية، (وليس هذا هو الأهم)، فإن ما يجمع ما بينها هو الاعتماد على الدِيًن. وهي تعتمد الدين مرجعاً لها بدرجات متفاوتة، من تبني العنف كحد أقصى، إلى السعي من أجل حيازة الثقافة الدينية كحد أدنى.
 
3/ لم يَشْغَل الدين خلال القرن العشرين حيزا هاما في النضال التحرُّري كما هو الأمر في القرن الواحد والعشرين. فالدين يأخذ مع عودته المسلَّحة بالقنابل والانتحاريين، وذلكم تحت تأثير الهجوم الإمبريالي الاستفزازي، حيزا من الأهمية في عالم السياسة ما كان ليشغله قبل الحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي. فما هو برأيك دور الديانات، ومنها بوجه خاص الإسلام، في حركة الاحتجاج التي تواجه العولمة النيوليبرالية.
 **  لم تعد الأصولية توفِّر أية ديانة، من المسيحية إلى اليهودية إلى الإسلام، بالإضافة إلى الجماعات الإثنية الدينية والثقافية والجنسية، وأصبحت الأصولية إحدى السمات البارزة لعصرنا. وإذا كنتُ لا أزعم أني أعالج الآن وهنا هذا الموضوع بصورة كاملة، فإني أُلاحظ بأن العامل المحدِّد للحالة الراهنة هو أنها تمخَّضَت كما قلت سالفا عن العولمة. فالعولمة بحاجة إلى إخفاء ما تمارسه من إيذاء في كافة المجالات، وما تفتقد إليه من مشاريع، طالما أنها تتعرَّف على زمان واحد، ألا وهو زمان السوق، وزمان البورصة، أي زمان الفوضى واللحظة الراهنة.  وكلاهما غير قابل للتنبؤ به. إلا أن العولمة بحاجة إلى ما يَمنح شاغلها الوحيد بالتسويق العام وزيادة الربح بصورة مستديمة، شرعيةً ما. وقد لجأتْ إلى حقوق الإنسان. غير أن هذا التبرير سرعان ما انهار تحت تأثير "الحرب التي لا تَعرِف نهاية"، و"صراع الحضارات"، والصليبية العسكرية المعادية للعرب بقيادة جورج دابليو بوش. وقد تحدَّثوا، في ما يبدو قريبا من حقيقة الواقع، عن "نهاية التاريخ"، أو "عصر لا شيء". والحال، أن الأفراد والشعوب التي حُكِمَ عليها باليأس ليس بوسعها إزاء مثل هذه الأفكار المتشائمة حول "نهاية التاريخ" و"عصر لا شيء" إلا أن تهرب منها إلى ملاجىء بحثا عن هويات بديلة. 
ولنأخذ الإسلام مثالا على حالة الأصولية والعولمة. إن هذه الأصولية هي أقرب إلى الإسلام السياسي منه إلى العودة إلى القيم القديمة كالمدينة الفاضلة. وهذا الإسلام السياسي نتاج لتاريخ طويل. وكانت الخمسينات من القرن الماضي غداة الحرب العالمية الثانية شهدت انفجار حالات من الاستقلال، وتفتَّحت أمام بلدان العالم الثالث آفاق الحرية، والاستقلال القومي، والتطور والنمو. كان ذلك زمان نهرو، وبنبركة، وناصر، وسوهارتو، ولومومبا، وموديبو كيتا، وسيكوتوري، وجومو كينياتا، وتيتو، وشي غيفارا، وكاسترو، ونيكروما. ولقد استفادت الإمبريالية من التناقضات الداخلية، والخصومات، والخيانات، والعطش إلى السلطة، فشنَّت هجوما مضادا وحشيا، قوامه اغتيال الزعماء، واستئصال كل القوى أو الحركات التقدمية، اشتراكية، شيوعية وقومية، وحروب لاستعادة المستعمرات السابقة في ظل نظام الاستعمار الجديد، والسيطرة على الثروات القومية للشعوب من مواد أوليَّة، وطاقة، وإقامة أنظمة سلطوية تأتمر بالقوى المسَيطِرَة.
من هذا الفراغ نشأ الإسلام السياسي بوصفه دعوة شعبية، احتجاجية، معادية للإمبريالية. وإذا كانت القوى العظمى تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية قد نجحت في التلاعب بها وتقليبها، إلا أن الاعتداءات المسلَّحة على  هذه الحركات والقوى زادت من قوَّتها. وعلى هذا النحو، فإن إرهاب الدولة المعولمة  يُنتِج بصورة مستمرة إرهابيين، وهي تَخلط ما بين المقاومين والإرهابيين (راجع الفصل الخامس الذي يعالج العلاقة ما بين الإرهاب والمقاومة).
ماذا حدث؟ ولمَ تأخذ مناهضة الإمبريالية منحى دينيا؟ كيف انتقلت حالات الصراع المناهضة للإمبريالية من المقاربة المادية والسياسية إلى الدين؟ إن حزب الله يمارس نضالا مناهضا للإمبريالية، وذلك على غرار نضال حماس والمقاومة الفلسطينية، والطالبان أيضا. نعم، لماذا يأخذ النضال المعادي للإمبريالية هذا المنحى الديني؟
       
                                  ثالثاً –  أزمة البرامج المناهضة للإمبريالية
                                            في العهد القمعي للعولمة الليبرالية
 
1/  هل البرامج المناهضة للعولمة النيوليبرالية في آزمة؟
** السبب الأول يعود إلى العولمة وانعدام البرامج في عهدها. ثم لأن السياسة الإمبريالية أعطت ثمارها في هذه المنطقة من العالم، من المغرب إلى بعض مناطق آسيا. وسأوفِّر على القارىء كثيرا من التفاصيل، لأعود بصورة مباشرة إلى مؤتمر باندونغ في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. إن مؤتمر باندونغ يشكل، من حيث هو مرحلة تاريخية، ظهور القوة الثالثة في العالم، قوة للبلدان المستَعمَرَة أو التي كانت مستَعمَرَة، وهو ما سمي بالعالم الثالث. كانت القوى المنبثقة عن مؤتمر باندونغ، ارتباطاً بمرحلة تاريخية، تشكِّل قوة خارقة للعادة بالرغم من من افتقارها إلى برنامج معمَّق، لأن باندونغ كان إطاراً لشخصيات تَستَقطب أنظار العالم أجمع، ويصح أن يقال عنها إنها كانت بطولية: غاندي، نهرو، بن بركة، تشي غيفارا، لومومبا، سيكوتوري، عبد الناصر، وتيتو، إلخ. فلماذا تحطَّمت مرحلة باندونغ؟
من جرَّاء ضعفِ الحركات الديمقراطية. نعم. كان الأحرى بهذه الشخصيات البطولية أن تَعتَمد في ممارستها للسلطة وقيادة شعوبها على الحركات الديمقراطية على ما يلازم هذه الأخيرة من ضعف. لكننا نضيف أيضا، وبصورة خاصة، أن الهجوم المضاد الذي كانت الإمبريالية تشنه كان شديد القوة. فإذا ما نظرنا إلى البلدان العربية الواحدة تلوى الأخرى، فإننا سنرى أن كل ما كان يبدو تصميما على الاستقلال، وتوجُّها نحو الاشتراكية، والشيوعية، والقومية والوطنية، قد دُمِّر بشتى الوسائل، وبصورة منظَّمة ومستديمة، اقتصاديا وسياسيا وبوليسيا. هذه هي سلسلة الاغتيالات: لومومبا، وبن بركة، وتشي غيفارا، ومُصَدِّق. حينذاك وَجَدَت هذه البلدان نفسها مسحوقة بصورة كاملة. أي أنها ابتُلِعَت حتى اللقمة الأخيرة، ووَقَعت تحت السيطرة التامة، إن لم تكن تحوِّلت إلى مستعمرات. حتى تموينها الغذائي أصبح تابعا للمعسكر الإمبريالي الذي نجح في تشييد أنظمة تابعة له؛ وما يزال الأمر مستمرا حتى يومنا هذا. فهذا حسني مبارك وهو يتناول وجبات غذائه من يد أمريكا التي أصبحت بالنسبة إليه بمثابة صحن طعام، لأن توفير أسباب الاستمرار لنظامه وحياته أصبحت لعبة موضع رهان. إنه لا يستطيع الاستمرار على رأس السلطة ما لم يأكل وجبته على يد أمريكا. ولا يوجد اليوم في العالم العربي نظام ليس تابعا للولايات المتحدة. وإن الأنظمة السياسية الحاكمة في أفريقيا ما تزال تابعة للمستَعمِرين القدامى. فالرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي هرع إلى أفريقيا ما إن انتُخب رئيسا للجمهورية لملاقاة الرئيس عمر بونغو. علما أن هذا الأخير أقذر الديكتاتوريين في أفريقيا وأقدمهم على الإطلاق ما دام ينفرد في حكم بلاده منذ أربعين         سنة. وكان المظليُّون الفرنسيون في عهد ديغول سندا له في تمكين سلطته. الأمر الذي يدلِّل بأن   للإمبريالية  قدرة  واسعة  على  التحكُّم  بهذه  القوة  الرائعة  التي  كانت  رأت  النور  في  العام          1955-1956.
واليوم، فإن المنطقة تَخرُج من الفراغ. فالشعوب العربية وغيرها في هذه المنطقة لا تستطيع في نزوعها إلى التحرر أيا كان معناه، سياسيا، نفسانيا، مجتمعيا، أن تَستند إلى قوى سياسة لحق بها الدمار. إذ كيف لها أن تعتمد على قادة مسجونين أو منفيين. كما هي تفتقر إلى قوى مجتمعية وبرامج ديمقراطية تكون لها سندا وعونا على التحرر. لذا، تراها استَندت إلى ما يشكِّل وحدتها الثقافية، وإلى ما يربطها بتاريخ  يَحمل  هوية ما،  أي  الدين.
إن مثل هذا الارتباط الديني حقيقة واقعة لا يستهان بها، حتى أن الإمبريالية أدركت معناها ولم يفتها الاستفادة منها إلى أقصى حدود الاستفادة. فقد لَعبت الإمبريالية دور العامل المقرِّر الحتمي عندما مدِّت حركة الاحتجاج الأًصولي في بداية عهدها بالمال والسلاح. على ألاَّ ننسى أن معنى عبارة الأصولية لدى العرب ليس هو نفسه لدى الغرب. ومصطلح الإسلام السياسي ليس هو نفسه عبارة الأصولية. فإذا كان العالم العربي يَعرف ما معنى الإسلام السياسي، فإن الأصولية مفهوم غربي المنشأ.
وقد أصبحت اليوم قصة أسامة بن لادن معروفة لدى الجميع.  إنه "المقاتل من أجل الحرية" الذي كان تلقى التمويل من الولايات المتحدة من أجل إشعال نار الحرب في أفغانستان. فالحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي لم تَشتعل تلقاء نفسها. إنها اشتعلت بمبادرة من الولايات المتحدة وبتدبير منها. وهي ليست من صنع الحكومة الأفغانية، ولم تَشتَعل بيد الاتحاد السوفياتي. إنما هي اشتعلت بيد ابن لادن، صاحب الثروة المالية الذي تلقى المال من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وإن هذا الكلام يصحُّ أيضا على غير هذا الأخير. ومن هؤلاء حركة تستحق الاحترام ك"حركة حماس". علما أن هذه الحركة مرتبطة بحالات من التلاعب الإسرائيلي كان الغرض منها مساندة التيار الديني لكسر البرنامج الفلسطيني، الذي كان يتبنى العلمانية والديمقراطية وتحرر المرأة بقسط واسع أو ضئيل، وذلك كله من أجل أن تضل منظمة التحرير الفلسطينية طريقها.
ويتمخض عن ذلك كله حالة مثيرة لليأس إلى حد كاف. ذلك أن الشعوب العربية تجد نفسها اليوم على متن مغامرة مجنونة لا يمكن التحكم بها. فمن جهة، لم تعد الشعوب في العالم العربي تتحكَّم بأي شيء. والدليل على ذلك أن المظاهرات في أي بلد عربي للتضامن مع النضال البطولي للشعب الفلسطيني تُقمع بأيدي قوى الأمن، وهذا ما حدث في تونس ومصر. ثم إن ابتكار مفهوم "محور الشر"، وفكرة الحرب الصليبية ضد الإرهاب، تجد – من جهة ثانية – رواجا في الغرب. فقد توصلت الأنظمة التابعة للإمبريالية إلى إقناع فئات واسعة من السكان في البلدان الرأسمالية في الغرب بأن الأمن ومحاربة الإرهاب هو الأهم. بل إن أجهزة الأمن الإمبريالية نفَّذَت عمليات إرهابية ثم أَسنَدتها إلى الإسلاميين. ومن هذه العمليات على سبيل المثال ما قامت به القوات الأمريكية من اعتداءات إرهابية ضد سكان يهود في العراق. إن ابتكار محاربة الإرهاب عمَّت في الواقع وشملت العديد من البلدان التي أعادت النظر بقوانينها من أجل اعتماد تدابير يَزعمون أنها أمنية. إلا أنها في حقيقة الأمر تدابير للشرطة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى قمعي ممقوت. إنها تُفرَض وتُمارَس على السكان لمراقبة كل ما يبدو احتجاجا مجتمعيا.
 
2/ أعود إلى الموضوع نفسه بأمل الحصول منك على مزيد من التفصيل. إن القوى المناهضة للرأسمالية في عصر العولمة والتي تسعى إلى إعادة تنظيم العالم ومنحه صفة أكثر إنسانية، كثيرة.  كيف أنت تصنِّفها ؟ وأي مستقبل تحرُّري يرجى من وراء نضالها؟
* * أُذَكِّر بأن الإيديولوجية السائدة تحاول أن تحكم علينا بالاكتفاء بالشح الفكري، أي العجز والطاعة بهدف الحفاظ على النظام السائد.  لكن حالات المقاومة والرفض في جميع أنحاء العالم كثيرة كما بيّنت قبل قليل. أول هذه الحالات هو الحركات التقليدية التي ما تزال تَظهَر في قلب الديمقراطيات "الغربية"، والتي تبيِّن أن العمال يرفضون الاستسلام والانبطاح. فالمظاهرات وحالات الإضراب والتعبئة ضد العرقية، والتسلُّح، وللدفاع عن القدرة الشرائية والخدمات العامة، تتكاثر يوما بعد يوم، في فرنسا وغيرها. وثانيها ما كان يتعلق بلجان التنسيق الدولية التي صاحبت، من حيث ظهورها، نشأة حركات العولمة الأخرى، ومنها بوجه خاص المنتديات الاجتماعية. وهي امتدت من بورتو أليغري إلى الجماهير الفلاحية، وبوجه خاص في الهند والبرازيل. وثالثها تجده في المسارات الثورية في أمريكا اللاتينية، والتي تعبِّر عن رفضها للسيطرة الأمريكية التي تَعٍتَبر هذه البلدان منطقة نفوذ تابعة لها.
إنها حركات ثورية بدرجات متفاوتة. منها –أولا - تلك التي، وإن كانت تَبتعد عن النظام الرأسمالي متبنيه بعض التدابير المجتمعية، إلا أنها ما تزال جزءاً من النيوليبرالية وتأتمر بأوامر صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي. بلدان كالأرجنتين، وشيلي، والبرازيل. ومنها – ثانيا - تلك التي بدأت في مسارات من التحرُّر السلمي، كالأرغواي، وغواتيمالا، أو المسلَّحة، كتلك التي تقاتل في كولومبيا. ومنها – ثالثا - تلك التي انخرطت في ثورات شعبية حقيقية، كفنزويلا، وبوليفيا، وإكوادور. ولنَذكُر الشعوب التي تقاوم منذ سنوات، ككوبا، وفيتنام. ولابد من التنويه هنا بالبلدان الناشئة التي تُشكِّل تهديدا للهيمنة الاقتصادية للقوى الإمبريالية، كالهند، والبرازيل، وبوجه خاص الصين. والبلدان التي بدأت تصحو، كروسيا، وإن كانت دوافعها المحرِّكة قوميةٌ. ويجب أن لا ننسى أن الحنين إلى الماضي لا يعدم من تأثير في بلدان أوروبا الشرقية التي كانت اشتراكية. وإن كل الأنظار موجَّهة إلى المناطق التي تشكِّل الطليعة المقاتلة، الشعبين الباسلين، الفلسطيني والعراقي.  إن آمال التحرر والخلاص من الاستغلال هي  التي  تحرِّك  هذه الشعوب.
وغير خافٍ أن حالات المقاومة نخبوية، وهي متباينة في ما بينها إلى حد كبير، سواء من حيث الأهداف أم المضمون. ومهمَّتنا حيال هذا الواقع، أيا كانت وسائلنا المتواضعة، تملي علينا أن نعمل من أجل التقريب ما بينها، وتشجيعها على المزيد من الجذرية، وذلك كله في إطار مشروع لهجوم مُنَسَّق ضد النظام السائد والمسَيطِر. وباختصار شديد: إننا ملزمون بالإرساء لقواعد أممية جديدة. 
 
3 / هل المقاومة في العراق تندرج في سياقٍ مناهضة الإمبريالية؟ هل الجماعات المسلحة في العراق إرهابية؟ هل هي عصابات مسلَّحة للقتل والسرقة وانتهاك الأعراض أم مقاومة؟
* *  بالإضافة إلى اللوحة الفنية التي رُسمت بصورة مبتذلة للمدن المُدًمَّرة، ومنها فلوجة، ومذابح المدنيين، تأتي علاوة على ذلك لوحات فنية أخرى رسمت بصورة مبتذلة للتعذيب الذي يمارس على السجناء، هذا التعذيب المُنَظَّم الذي يأتي تنفيذا لقرار صادر عن أعلى مراتب السلطة. إن فلُّوجة تضيف اسما جديدا لقائمة من المدن التي استَشهَدَت ما بعد غيرنيكا الإسبانية، وذلك جنبا إلى جنب مع هيروشيما أو ناغازاكي. وكانت وزارة الثقافة في فنزويلا أعادت طباعة لوحة غيرنيكا لبيكاسو، وطبعت فوق عنوان غيرنيكا اسم فلوجة. 
إن أبطال حملة الخير ضد الشر والدفاع عن حقوق الإنسان إذ هم يطلقون العنان للهمجية فإنهم يكشفون عن حقيقة ما يسمُّونه صدام الحضارات.
وحرب العراق هي أيضا فرصة أمام الليبرالية كي تَطرح الحرب في السوق وتفتحها أمام القطاع الخاص، وذلك في إشارة إلى الشركات الخاصة التي تتعاقد مع الجيش الأمريكي لإمداده بعشرات ألوف المرتزقة،  وغير  ذلك  من  احتياجاته  في  زمن الحرب  في  العراق.
إن هدف الحرب في العراق هو الحؤول دون أي تطور قومي يحاول أن يَفلَت من سيطرة النيوليبرالية عليه، والاستيلاء على أهم مصادر الطاقة في العالم أو ما يسميه الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس  Carlos Fuentesسلطة البترول Petropoder ، والحفاظ في الشرق الأوسط على الدرع النووي الإسرائيلي، وتشييد قوة عسكرية لا مثيل لها في الماضي للحفاظ على هيمنة الدولار المهدَّد من جراء ديون لامثيل لها من جهة، وأمام اتساع نفوذ اليورو من جهة ثانية. ومن أجل إنجاز هذه الأهداف فإن المنهج المتَّبع يقوم على أسس من تفكيك الدول من يوغسلافيا إلى العراق مرورا بالاتحاد السوفياتي، بانتظار النيل من السودان الذي يمد الصين بالنفط، وذلك بفضل تحريك أزمة دارفور. أليس من التعسف بمكان أن  يزعموا لأنفسهم الحق بحظر الطاقة النووية عن إيران! ناهيكم وأن مشروع الشرق الأوسط الكبير يترجم عن تصميم لإعادة رسم خارطة البلدان العربية المسلمة وفق مصالح إمبريالية لا تُخفى  نواياها على أحد.
إن مذابح الهنود، وهيروشيما، وسلسلة من الضربات الموجَّهة لأمريكا اللاتينية، إن ذلك كله يؤكِّد من دون شك أن الحرب هي نمط وجود الولايات المتحدة. وكان هاري ترومان عَقَدَ علاقة وثيقة منذ العام 1945 ما بين ما يسمونه الحرب الوقائية وتصدير الديمقراطية، وذلك عندما نادى بمقولة: "إن علينا أن نجعل من أمريكا ترسانة للديمقراطية (كذا)".
في ما يتعلق بخطاب الإرهاب، فإن الإمبريالية الأمريكية تَحصد مكاسب واسعة من وراء ما تسميه مكافحة الإرهاب الذي يُعتبر السند الأيديولوجي لها. إن الفوائد لا تَقتصر على صناعات الأسلحة التي تعمل بكامل طاقاتها، بل تتعداها إلى الاستثمارات هائلة الحجم في الأبحاث من أجل تطوير التقنيات النووية والصاروخية وطائرات التجسس بدون طيار، من جهة، وتزويد حلفائها بأجهزة الإنذار المبكر (سبعة مليارات دولار ثمن الأجهزة لأفغانستان). وتتسع مكاسب الحرب في العراق لتشمل مجالات سياسية وأخرى مجتمعية، ومنها بوجه خاص تعزيز التدابير السلطوية والتعسفية من أجل ممارسة القمع، ناهيكم بالتضحية بالمكتسبات المجتمعية، والتراجع عن مكاسب الديمقراطية السياسية، وغير ذلك مما تجنيه الإمبريالية من مكاسب كانت المجتمعات حازت عليها والتي تَعْرِف كما كان لينين يقول إن الإمبريالية ألد أعدائها. وإن اختراع مثل هذا العدو الذي يسمَّى الإرهاب، هو عدو يفلت من أي تحديد له طالما لا تُعرف له قاعدة محدَّدة جغرافيا، ما يَسمح بالتالي للإمبريالية أن توجِّه ضرباتها حيثما تريد، وفي كل مكان. الأمر الذي يَخدم بدوره وبالمقابل انتشار الإرهاب بصورة واسعة ومماثلة للخطاب الإمبريالي الذي يزعم بأنه يحاربه.
في فلسطين وضعوا منذ 11 سبتمبر الرئيس ياسر عرفات الحائز على جائزة نوبل للسلام جنبا إلى جنب مع ابن لادن في علاقة تشابه، ثم شبَّهوا عرفات بصدام حسين، في ما حازت إسرائيل على إذن بدون شروط لمتابعة مشروع بناء إسرائيل الكبرى، وبناء جدار التمييز العنصري استعدادا لضم كل الأراضي التي استولت عليها ما بعد 5 حزيران/يونيو 1967. أما الحكومات التي كانت أبدت بلطف معارضتها للعدوان الأمريكي على العراق، فإنها عادت ودخلت إلى الصف، سواء بدعوة الأمم المتحدة إلى تحمل مسؤولياتها، أو بالتصويت، كما فعلت فرنسا، على القرار الأمريكي في مجلس الأمن والذي يَمنح صفة شرعية للاحتلال الأمريكي، أو باستئناف علاقتها الدبلوماسية مع الصور التي نُصَّبها المحتل كواجهة للحكم. ولم يعارض أيٌ من هؤلاء في تحويل مطاراته نزولا عند طلب الإدارة الأمريكية إلى مخفر كبير للشرطة كل شيء فيه مراقب ومعدوم الحرية.
ليست السياسة الإمبريالية للثالوث الامريكي الأوروبي الياباني وليدة اللحظة. إنها سياسة مبنية منذ مدة بعيدة يعود تاريخها إلى ما قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الذي مَنح هذه السياسة كفالة ما. وكان من الواضح أن القضية الأفغانية ما إن تُقفل فإن المستهدف هو العراق بوصفه العائق رقم واحد أمام   الاستيلاء على النفط. هذا الاستيلاء هو عملية بعيدة المدى ولا غنى عنها من أجل تمكين القوة           العظمى من جبروتها.
إن الوضع في العراق يُخبرنا بأن العدوان مُني بالفشل، وقد فَشِل مرتين اثنتين. ففي ساحة الواقع، فَشلت أقوى جيوش العالم المجهَّزة بأكثر التقنيات تقدُّما وبأدوات تدمير لا تضاهى، وهي علاوة على ذلك لا توفِّر على نفسها فرصة لانتهاك القيم "الإنسانية" إلا وتنتهكها، فشلت في إخضاع هذا البلد الذي كانت قد فتكت به، كما فشلت في النيل من مقاومة شعب كان يُعتقد أنه ركع أمامها.  وبخلاف ما كانت الولايات          المتحدة تعتقد، فإن الأهالي لم يقفزوا إلى عنق جيش التحرير معانقين، وإنما ليخنقوه. والغزاة            يعدُّون أمواتهم بالمئات، وجرحاهم بالألوف، وهم لا يوفِّرون جهدا لإخفاء حقيقة ذلك عن الرأي             العام الأمريكي.
إن وسائط الإعلام الداجنة تنكر على المقاومة اسمها الحقيقي، فهي لا تتحدَّث عنها إلا من حيث هي "إرهاب" و"عصاة". هذه المقاومة لم تَنجح فقط في تنظيم نفسها، بل إنها على الأرجح عاكفة على توحيد صفوفها، وإنها تحظى، بالرغم من بعض زمر من المافيات وأخرى متلاعب بها، بتأييد واسع من الشعب بما يسمح لها تنفيذ عمليات في مختلف مناطق العراق وفي وقت واحد.
إن تضامننا، نحن الغربيون، مع المقاومة العراقية هو تضامنٌ غير مشروط بأية نصائح، أيا كانت تحفُّظاتنا حيال هذه المبالغة المُفرِطة أو تلك. ونحن نعلم أن جيش الاحتلال خلّف وراءه حالة من الدمار الواسع. الأمر الذي يفسح المجال واسعا أمام العصابات. ويجب علينا نحن الغربيون أن نمتنع عن الإدلاء بأية أحكام حيال هذه الأشكال. إن الحركات التقدمية في الغرب ملزَمَة - على حد قول رئيس منظمة فوكس أون غلوبال سوت   Focus on Global South  والدن بيللو  Walden Bello -  باحترام العصيان والمقاومة العراقية كما هي، دون أن نُملي عليها ما يحب أن تكون عليه". وهل كنا نحن لنرفض في القرن السادس عشر مساندة الفلاحين الألمان في انتفاضتهم ضد الأسياد لأن القس توماس مونتزير Thomas Münzer هو من كان على رأسهم ؟ 
وقد مُني العدوان على العراق بفشل ثانٍ على صعيد الوعي العالمي الذي كان بدأ عندما رفضت الشعوب هذا العدوان قبل أن يقع في آذار/ مارس 2003، والذي لم يهدأ أو يضعف حسب ما يتبيَّن من إرغام الحكام في الديمقراطيات البورجوازية، في أسبانيا والفيليبين، على سحب قواتهم، في حين تقلَّص معدل مؤيِّدى المغامرة العراقية في الأمبراطورية الإمبريالية من 80 بالمائة إلى أقل من 50 بالمائة. وثمة وعي جماهيري لم تعد تنطلي عليه الخطابات الفخمة حول الحق والقانون والديمقراطية والقيم وشرعية الحرب الوقائية والحملات الإعلامية لتشويه الحقائق.
إن خطاب الإرهاب يُنتِج مضادات حيوية قاتلة لنفسه. فإذا كانت هذه المضادات الحيوية فشلت في كسب المعركة بالرغم من شبكاتها الواسعة والفتاكة، فإنها لا تَفتح مع ذلك أفقا للمستقبل أمام النضال. ومع أنها كانت معادية للإمبريالية، لكنها ليست نتاج رؤية لامعة، وبالمقابل ليست أيضا مجرد فكرة تجريدية عديمة الصلة بالواقع. وهي، وإن كانت عاجزة عن تحطيم غل نظام الهيمنة بين ليلة وضحاها، إلا أنها لا تعدم الوسيلة لمجابهته. إنها نزَّاعة نحو جمع القوى المشتَّتة حتى الآن، والتي يبحث أحيانا بعضها عن البعض الآخر عبر المنتديات الاجتماعية، والحركات المعادية للعولمة أو التي تنادي بعولمة من نمط آخر، بالإضافة إلى المنظمات التقدمية الأكثر تمسكا بالتقاليد، وذلك من أجل تشييد جبهة دولية للمقاومة الديمقراطية، جبهة لا تَستبعد اللجوء إلى العنف الثوري. إن مهمتها الأولى حسب ما يتبيّن من العراق، "العراق من حيث هو البرهان"على المقاومة واندحار الإمبريالية، إن مهمتها الأولى جزءٌ لا يتجزأ مع كل أشكال التضامن مع أولئك الذين يقفون في الخط الأمامي: الشعب العراقي، ومعه الشعب الفلسطيني، وكل معذبي الأرض، من الشمال والجنوب على حد سواء. وعلى هؤلاء كلهم تُعَوَّل الآمال (7).
 
4/ كيف لنا أن نقاوم العولمة النيوليبرالية ونفنِّد أيديولوجيتها بدءاً من مفهوم الإرهاب من حيث هو إحدى الأدوات الأيديولوجية؟
 ** في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا كل التدابير التي اعتُمِدَت باسم الإرهاب نالت من حقوق الفرد، ومن الحقوق الديمقراطية، وذلك بالحد منها بصورة مستديمة. فمن يَحتجّ اليوم على تدابير في بلده يكون عرضة للاتهام بالإرهاب. فإذا ما وَقَف أمام القضاة، فإن هؤلاء سيجدون نصا ما يُبرِّر التحقيق معه ومن ثم إيقافه. وهو الأمر الذي لم ينل حتى الآن حقَّه من الاهتمام. وإننا نلاحظ اليوم أن المواطنين المحصَّنين من أي عقاب هم من كانوا ينتمون للمدارات المالية، أي الشبكات التابعة للمافيا. ولما كانت المافيا مرتبطة بالسلطة السياسية، فإن المدارات المالية وشبكات الجريمة معفيَّة من العقاب. هؤلاء على غرار الشرطة معفون من العقاب. وعلى هذا المسار تنمو أيضا العنصرية المعادية للعرب بوجه خاص في البلدان الغربية، وذلك في ما يعاني السكان العرب في هذه البلدان من الحرمان والقيود والأوبئة وكل  الأوجاع،  على  نحو   ما  نراه في  ضواحي  المدن  الكبرى  في  فرنسا.
فما العمل في ضوء كل ذلك؟ لا بد من النظر إلى مختلف النظريات. ويُمكن تنحية إحداها فورا لأنها ذات أصول بورجوازية خبيثة. ألا وهي الفكرة القائلة بأن تحويل العولمة من داخلها ممكن للحصول على ما يسميه آلان مانكAlain Minc   ب"العولمة السعيدة". لكن العولمة من حيث تكوينها لن تكون أبدا سعيدة.       
                           رابعا:  العولمة النيوليبرالية
                                    تُهدِّد الإنسانية بالفناء: ما هو البديل؟
1 / ماهو البديل للعولمة االنيوليبرالية؟
**  ثمة إمكانية ثانية لمواجهة العولمة النيوليبرالية، وهي التي تعوِّل الآمال على البلدان العظمى الناشئة لأنها تنتمي إلى العالم الثالث، وتَحتج في الوقت نفسه على الولايات المتحدة، الأمر الذي يَجعل من القوى الناشئة – حسب ما هو شائع- أقطاب اجتذاب: البرازيل، الهند، الصين، بالإضافة إلى روسيا التي تعود إلى حد ما إلى ممارسة دور هام في الساحة الدولية. إن هذه البلدان تطرح نفسها على أنها منافسة للغرب الرأسمالي والولايات المتحدة. ومما لاشك فيه أن النمو الاقتصادي الهائل في هذه البلدان يستأثر باهتمام الـعالم. بيد أن لظاهرة النشوء في تكوُّن هذه القوى العظمى الحديثة منطقاً هو نفسه منطق العولمة. فالرأسمالية هنا هي القائد. والعولمة بالنسبة للدول الناشئة هي أشبه بزوبعة ضخمة في أواسط المحيط تبتلع كل ما يقترب منها. ولقد ابتلعت زوبعة العولمة الدول العظمى الناشئة. فالتوجُّه الرأسمالي للصين لم يعد موضع سؤال.(34).
2/ بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية التي دَخَلت في العام 2006 إلى الصين 60 مليار دولار.
** نعم، إن الصين تملك اليوم أكبر احتياطي عالمي من الدولارات. فلنتخيل أن الصين رَمَت بين ليلة وضحاها بملياراتها هذه في السوق. سيؤدي ذلك لا محالة إلى انهيار الصين والولايات المتحدة على حد سواء.
إن ما تحتج القوى العظمى الناشئة عليه حيال السياسة الإمبريالية لا يختلف من حيث طبيعته عنها هي نفسها. إنها تحتج على العنف الذي يُشكِّل إحدى موضوعات العولمة. هذا العنف هو اليوم أداة العولمة ووظيفتها. ليس العنف بشكله العسكري وحده دون غيره، وإنما كل أشكال العنف المجتمعي. في الماضي، كان ثمة مجالات في المجتمع لا يتسرب إليها العنف، كالمستشفى والمدرسة والجامعة، والأماكن العامة على وجه الإجمال. أما اليوم في عهد العولمة فقد اجتاح العنف المجتمع. ولا يخلو اليوم حيزٌ من المجتمع لم يتسلَّل إليه العنف  (8).
كانت الأخبار أفادت قبل أيام قليلة أن إحدى الشركات ابتكرت وأنتجت قمصانا للأطفال مضادة للرصاص. إن مثل هذا الخبر يثير بلا شك لدى ملايين البشر مشاعر الاستنكار. ولكن بالرغم من هذا الاستياء والتنديد بيد أنه مرَّ مرور الكرام. ويبلغ سعر القميص الواحد 1500 يورو، أي أن الأسرة تستطيع أن تُجهِّز ابنها بقميص مضاد للرصاص لحمايته من طعنات سكين ما في باحة المدرسة! إن وراء ذلك كله ما يبعث على الذعر. فقد طَلَبَت إحدى المدارس في الولايات المتحدة – وهذا بلد أُنموذجي للعنف والعولمة – من تلاميذها أن يَفتحوا حقائبهم لتفتيشها قبل الدخول إلى الصف، وذلك بعدما كانت الشرطة أحصت عددا كبيرا من السكاكين والمسدسات في هذه المدرسة.
إن حالة العنف لن تَشهَد انخفاضا من حيث الحجم ودرجة الحدَّة إذا ما ظَهر عالم متعدِّد الأقطاب حسب ما يعوِّل عليه المتحمِّسون للقوى العظمى الناشئة. وغالبا ما يجري الحديث عن احتمال افتراضي كهذا بكثير من الحنان، طالما هو يذكِّرنا بعالم متعدِّد الأقطاب كان أفضل حالا من العالم الحالي. كان ذاك العالم منقسما إلى قطبين: قوى المال من جهة، وقوى التقدُّم من جهة ثانية. فإذا ما ظهر في المستقبل عالما متعدِّد الأقطاب، قطب أوروبي، وآخر أمريكي، وثالث صيني، ورابع هندي، وخامس برازيلي، فإن مثل هذا العالم سيكون متعدِّد المراكز، ويَشهد تنافسا ما بين أقطابه. لكن هيهات لنا مثل هذا العالم وزوبعة العولمة تبتلع كل من يقترب منها. إن مثل هذا العالم يَصًدر عن فكرة كريمة وفاضلة، إلا أنها بعيدة المنال. فلننظر إذاً في حل آخر غير هذا لمواجهة العولمة.
ثمة فكرة ثالثة بديلة للعولمة تقول إن الحد من السباق من أجل النمو ورفع معدَّلاته هو الحل البديل للعولمة المتوحشة. هذه الفكرة تَقترح تقليص النمو للرجوع به نحو الوراء بما يحد من تلوث البيئة. هذا التلوث الخطير المتأتي من السباق المحموم للنمو بموجب منطق الربح والاستهلاك في نمط الإنتاج الرأسمالي. إنها فكرة محبَّبة إلى النفس ولطيفة طالما هي تحاول الحيلولة دون أن يستمر الأمر على حاله إلى ما نهاية. أي أن الحؤول دون انتقال نمط الحياة الأمريكية والغربية - نمط كوكاكولا وماغدونال - إلى سائر أنحاء   الكوكب  أمر  ضروري  ومُلزم  من  أجل  إنقاذ  البيئة   من  كارثة  التلوث،  وإنقاذ البشرية  من  الدمار.
إن السباق للسيطرة على مصادر الطاقة مصدرٌ للحروب. ففي دارفور تنخرط كل القوى العالمية. وثمة سباق آخر للهيمنة على الثروات الطبيعية للقطب الشمالي. وتحاول الصين اليوم، حيث ستكون بكين في العام المقبل 2008 عاصمة الألعاب الأولمبية، (سُجِّلَت هذه المقابلة في النصف الثاني من العام 2007،ح.خ.ش.) كل ما بوسعها لتبديد غطاء من التلوث البيئي يغلِّف العاصمة. ولهذا فإنهم يَستخدمون مدافع لتدمير التلوث. بالمحصِّلة إذا ما استمرت الصين في الطريق نفسه، فإن مدنا مثل بكين وشنغهاي، حيث كان من الممكن حتى وقت ليس بالبعيد التجوُّل فيها سيرا على الأقدام في وسط الطريق العام دون خطر أو عقبات، أصبح السير فيهما اليوم ضربا من المستحيل من جراء الازدحام الشديد. فإذا ما انتقلت عدوى التلوُّث البيئي إلى الصين برمتها ما بعد بكين وشنغهاي، فإن ما سيكون مهدَّدا في مثل هذه الحال ليس الصين وحدها، وإنما الكوكب برمته، وذلك بعدما يكون الصينيون هلكوا بالملايين.
 
3/  هل أنت تعتقد أن النظام الرأسمالي الذي يجري وراء الربح في سباق محموم ضمن علاقات التنافس يتعايش بوجه الإمكان مع تقليص النمو؟ أم أن الثورة وحدها هي الرد على المجتمع الاستهلاكي، وبالتالي هي الحل لمشكلة التلوُّث البيئي؟ 
**  إن فكرة الحد من النمو لمواجهة العولمة وما تحمله من أخطار بيئية جسيمة تَقترح حلولاً لطيفة، إلا أنها غير مجدية. ومن هذه المقترحات حل يقول بمراعاة قواعد الاقتصاد في استهلاك المياه بدون طائل، وآخر يدعو إلى استخدام السيارات في الحالات الضرورية فقط وترجيح ركوب الدراجات الهوائية على السيارة، وثالث يَطلب منا أن نُحَسِّن في طرق استخدام المواد القابلة للتجديد. هي حلول للحد من التلوث لا طائل منها طالما أنها أسيرة النظام الرأسمالي. بل إن أهم التدابير سارية المفعول بتأثير من أنصار البيئة سرعان ما تقع أسيرة الشركات متعدِّدة الجنسيات. ذلك أن هذه الأخيرة هي التي يُعهد إليها بمعالجة التلوُّث البيئي وتبديده، وهي نفسها مصدر للتلوث! إنها تُراكِم على هذا النحو الأرباح من الجانبين. من أنصار البيئة، ومن السباق الرأسمالي إلى النمو، من حيث هو هنا مصدر للتلوث. إن تقليص النمو فكرة مثالية ونموذجية إلا أنها كسابقتيها غير مجدية. فقد ولَّى العهد الذي كان فيه الريف والمدينة يتعايشان أحدهما إلى جانب الآخر، شأنه شأن التعايش ما بين بيئات مختلفة في وحدة منسجمة مع احتفاظ كل بيئة بنمط حياتها وثقافتها وغذائها. وبات من غير الممكن إعادة بناء هذا العالم من جديد.
إن الرأسمالية عاجزة عن تقليص النمو لمعالجة التلوُّث البيئي لأن النمو حافزُها، بمعنى إن الهدف مضاعفة حجم الملكية من حيث هي مصدر لأقصى درجات الربح. والعلاقة ما بين الملكية والربح مطردة. لذا فإن أهم مصدَرين اثنين للربح المالي هما الاتجار غير المشروع بالسلاح والمخدرات. وهذان قطاعان مخفيَّان لأن الدولة المعنية لن تُعلن عن دورها بالاتجار في المخدرات، شأنها في ذلك شأن السلاح. وإن بلدين اثنين هما فرنسا والولايات المتحدة يُصدِّران صناعتهما من الأسلحة بصورة علنية. إلا أن البلدين يصدِّران بالمقابل الأسلحة بصورة سرية عبر الوسطاء. وتبلغ قيمة ما يرد الاقتصاد العالمي من هذه التجارة غير المشروعة ألفي مليار دولار سنويا.
وتقليص النمو نقيضٌ للرأسمالية. إذ أن الرأسمالية تشبه لعبة البلبل، فإذا ما هو توقف عن الدوران، سقط. لذا، فإن النظام الرأسمالي مرغم على الجري بصورة مستديمة وراء الربح واستغلال الطاقات والعمال، إلخ..إلخ. وجوابنا على هذه العلاقة المطردة ما بين الربح والملكية والنمو والتلوث هو الصراع الطبقي على الصعيد الدولي. والأحرى بالعقول النقدية والثورية أن تعود اليوم في فكرها وعملها إلى الصراع الطبقي العالمي. إنهم يقولون اليوم في الغرب الرأسمالي لعمال النسيج والمعلوماتية والأدوات المنزلية الكهربائية بأن الصين هي عدوكم الرئيس. إذ عندما يُغلَق معمل للنسيج في فرنسا، فإن العدو المزعوم كما تَزعم البورجوازية الغربية هو العامل الصيني الذي يَستفيد من انتقال المصنع من فرنسا إلى الصين، وأَنه السبب وراء حرمان العامل في فرنسا من العمل، بيد  أن العمال  الصينيين  في  حقيقة  الأمر  مستغَلُّون  أكثر  مما يُستغل  العمال الأوروبيون.
هذا يذكُّرنا بأن الصراع الطبقي دولي، لأن المصالح الطبقية للصينيين والفرنسيين على حد سواء هي نفسها في كل مكان، على ضفاف الراين أم ما بين النهرين (دجلة والفرات). أي أن تقسيم الطبقة العاملة إلى مصالح متناقضة بين البلدان يتناقض مع وحدة مصالحها كطبقة عاملة واحدة في كل مكان. ففي ما تشير بعض البوادر إلى أن العمال الصينيين بصدد تنظيم أنفسهم، ثمة محاولات لبناء نقابات مستقلة. وإن عدد الإضرابات يتكاثر في جميع أنحاء الصين. وبوجه خاص في أوساط عمال المناجم. وكل ذلك يجري حتى الآن خفية. ذلك أن شروط عمل العامل الصيني صعبة للغاية. ولم يعد العامل الصيني لِيَقْبَلَ أن يعمل  يوما  كاملا  مقابل  قصعة  من  الأرز. إن الأمور على  هذا النحو  في  طور النضج.
 
                                             خامسا: ردُّ الاعتبار للثورة
 
السياسة كالطبيعة تكره الفراغ. والشعوب تَعرف عندما يأتي وقت الشدة كيف تغرف من احتياطيِّها العميق ما تحتاج إليه من طاقة تساعدها على الوقوف على قدميها.
 
1 / ماذا عن رد الاعتبار للثورة؟
**  هذه الوسائل كلها غير مجدية، وتصطدم بطريق مسدود. وإن أيا منها غير قابل للتنفيذ. لذا فإنني أقول إن العقلانية تملي علينا التفكير بالثورة. أي أن الجواب الوحيد الذي يرد على العنف هو الموقف الثوري. الثورة لسبين اثنين.
نحن، من جهة، نَستَنتج الدروس من الوضع الدولي الذي نحن فيه، دروس العولمة من حيث هي سلبية، بل وإنها علاوة على ذلك خطيرة. هذا الخطر يعبِّر عن نفسه من حيث هو يهدِّد الإنسانية على الصعيدين، الديمقراطي والمجتمعي. فالعولمة قرينة للتفاوت المستمر والمطَّرد من حيث انعدام المساواة بين أجور العمال وأجور أرباب العمل في فرنسا. ليس ذلك فحسب، وإنما أيضا وعلاوة على ذلك، تفاوت يَفتك بملايين الأفريقيين لأن فرص معالجة مرض فقدان المناعة المُكتَسبة ليست في متناول يدهم من جراء أسعارها المرتفعة في البلدان الرأسمالية الصناعية، ولأن ثرواتهم الطبيعية منهوبة، أو لأنهم مُكبَّلون بديون غير قابلة للتسديد. ديون مُثمرة للفوائد والأرباح ولا تستفيد منها سوى القوى المُدينة. هذا هو التفاوت من حيث انعدام المساواة. وهذه هي العولمة. فإذا كنا نريد أن ننتهي من  العنف والحروب والتلوُّث  لبيئي،  فإن  الثورة  ضرورةٌ  لا  مفر منها.
والسبب الثاني، وهو أكثر أهمية من سابقه، ذو صلة بما يسمّى بموت ماركس والماركسية، وغير ذلك من مزاعم تقول إن الأيديولوجيا الماركسية لم تَلحَق بالتاريخ وتسايره، وأن عصر الأيديولوجيا قد انتهى، إلخ..إلخ. فما هي الحقيقة؟
إن أية نظرية اقتصادية ومجتمعية لتفسير ما نحن عليه من أوضاع تبقى، أيا كان محتواها، مفتقرة للأسباب التي تجعل منها بديلا عن الماركسية.  وكان أحد الاقتصاديين الحائز على جائزة نوبل في العام 1988، ويُدعى جان يليكس شارل آلِّيJean Felix Charles Allais   وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة نانتير (باريس العاشرة)، يقول إننا نحن المنظِّرون الاقتصاديون غير معنيين بمعرفة ما إذا كانت النظرية الاقتصادية قابلة للتنفيذ على أرض الواقع أم لا. ثمة تشابه كبير من هذه الجهة ما بين الرياضيات والاقتصاد من حيث الفرضيات والنظريات في عالم غير ملموس. لذا، فإن النظرية الاقتصادية القابلة للحياة لا وجود لها. وإن ما يسمى بالنيوليبرالية لا يمت للنظرية بصلة، وإنما هو معاينة للواقع. معاينة للسوق تشد خيوط الاقتصاد وحباله، وتسعى إلى تقديم حلول آنية. ثمة نظرية واحدة تتيح لنا أن نفهم بعض الشيء العالم، ألا وهي الماركسية، وذلك لسبب واحد وبسيط لا يأتي أبدا الحديث عنه. إن العلاقات الرأسمالية للإنتاج، منذ كتب كارل ماركس "رأس المال" وحتى غاية مرحلة الإمبريالية السائدة اليوم، هي نفسها. نعم، إن علاقات الإنتاج هي التي تغيَّرت، وأصبحت على حال ما كان لماركس أن يعرفه، إلا أنها تغيَّرت ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه.
كان ماركس متفائلا. وكان يتخيَّل أن تناقضات الرأسمالية ستنفجر ربما وهو حيٌّ يرزق. وذهب إنجلز في المنحى نفسه من التفاؤل. إلا أن رأس المال، كما هو معروف اليوم، قد استطاع بصورة مستديمة ومنتظمة أن يتجاوز كل الأزمات التي مرَّت به. كما استطاع أن يعيد تنظيم نفسه ويستجيب للأزمات ويخرج منها وهو أكثر قوة مما كان عليه قبل نشوب الأزمة. ونحن نعرف أيضا أن القوى المعادية لرأس المال لم تنضج ويعظم شأنها بما فيه الكفاية بحيث يُكتب لها القضاء على الرأسمالية، وإنما سُحقت من قِبَل رأس المال. فالمرونة fléxibilité في ما يتعلق بالعمال (إعادة تنظيم العمل والمؤسَّسة الإنتاجية للتلاؤم مع متطلبات السوق، ح.خ.ش.) تَنصب العقبات أمام تنظيم النقابات. وحيث يُمارَس القمع ضد قوى الاحتجاج، فإن التنظيم النقابي يصبح بدوره صعبا.
إن طبيعة رأس المال، وإن كانت علاقات الإنتاج تغيَّرت، هي نفسها اليوم كما كانت عليه بالأمس. فالإمبريالية التي كان لينين تحدَّث عنها هي نفسها الإمبريالية التي تسود العالم اليوم. ولينين بهذا المعنى معاصر. إننا نعيش في عصر الإمبريالية. وسواء كنا بصدد إمبريالية واحدة مهيمنة، أم بصدد إمبرياليات متنافسة، فإن الأمر في الحالتين يبقى هو نفسه بدون تغيير في ما يتعلق بصيرورة الربح وتراكمه، والسباق إلى المال، وكل ما يرافق التراكم الرأسمالي، وهذا السباق إلى الربح، من نتائج.
لماذا كانت الثورة ضرورة لا مفر منها لمعالجة العولمة المتوحشة وما تحمله من أخطار على البشرية؟ لماذا كان لا بد من ردِّ الاعتبار للثورة؟ لأن كل الأجوبة التي لا تعيد النظر بصورة جذرية في الوضع السائد حاليا هي أجوبة عاجزة عن الفعل. كل الأجوبة باستثناء تلك التي تجيب عن سؤالك: كيف لنا أن نشيِّد أممية تجمع القوى الديمقراطية – نَعَم ْالقوى الديمقراطية - التي تلتقي في ما بينها من أجل إعادة النظر بالنظام العالمي المفروض علينا. هذا النظام المفروض على العالم أجمع، دون أن نضع أرباب العمل والجنرالات في سلة واحدة مع العمال والجنود والضحايا. كلا، إذ إن السوق نظام غير قابل للتحكُّم به ومراقبته. إن السوق الرأسمالية تَفلَت من التحكم والرقابة. إن الاقتصاد الرأسمالي فوضى. صحيح أن السوق تُنتِج منطقها، إلا أن هذا المنطق هو منطق الفوضى واللاعقلانية.
كيف لنا كما أنتَ تتساءل أن نشيِّد هذه الأممية؟ أممية البديل الديمقراطي؟ كنا نحن شيَّدنا قبل حوالي ثلاث سنوات حركة أطلقنا عليها اسم "التجمع الديمقراطي الدولي". وهي عديمة التأثير، وغير معروفة، لأنها تفتقر إلى مصادر التمويل، ثم إن وسائط الإعلام غير معنية بها. الأمر الذي يُعبر عن انتصار الرأسمالية من حيث نجاحها في الحؤول دون انتشار أي تعبير احتجاجي انتشارا واسعا. ووسائط الإعلام تقع اليوم تحت سيطرة رأس المال.  إنها مُستَعبَدَة، باستثناء بعض الوسائط التي   تحتل موقعا هامشيا.
الحل لا يأتي أيضا عن طريق العولمة البديلة mondialisme، فهذه الأخيرة محببة إلى النفس، لطيفة ومستساغة، ولاسيما أنها أعطت نتائج تستحق العناية والمتابعة. وقد أتاحت لقوى منعزلة بعضها عن الآخر أن تتجمع في ما بينها. إلا أن العولمة البديلة ليست هي الحل.
 
2/ وهي تلهث أيضا بعد أن كوَّنت بعض القدرة على تعبئة القوى المعادية للنيوليبرالية في العالم.
* *  نعم، إنها تلهث في فرنسا بوجه خاص.
 
3/ لقد رأينا كيف تقلَّص المنتدى الاجتماعي الأوروبي في أثينا(2006) بعد دخوله حالة انحسار في لند ن (2004 ).
**  باستثناء المنتدى الاجتماعي الذي عُقد في نيروبي والآخر الذي عُقد في الهند، فإن المنتديات الاجتماعية دخلت في حالة انحسار. وكان المنتدى في كل من نيروبي والهند لقي نجاحا كبيرا لأن الأول كالثاني عُقد في إحدى بلدان العالم الثالث. ولأول مرة تشارك قوى فلاحية من هذين البلدين في المنتدى الاجتماعي العالمي. ومن المهم بمكان أن نأخذ حالات النضال كما هي على أرض الواقع، وأن نرى كيف يمكن لها أن تَجتمع في ما بينها. وهو الأمر الذي يخص كل الحركات في العالم العربي. والمشكلة هي أن المُعتدَى عليهم هم من طبيعة المعتدين نفسها. وهو أمر لا مفر منه إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار التناقضات ونواحي الضعف السائدة.
ويجب أيضا أن نوَّجه أنظارنا إلى ما يجري في بقاع أخرى من العالم. ما يجب هنا أن يَستأثر بأنظار التقدميين والثوريين هو ما يجري في أمريكا اللاتينية التي كانت صيد خاص بالولايات المتحدة تنفرد به وحدها. فلا أحد غيرها يصطاد فيه منذ عقيدة مونرو(( Doctrine Monroe((9) حيث أن الولايات المتحدة لم تَسمح لأية أمة من أمم أمريكا اللاتينية أن تَفلت من سيطرتها. وبصورة عامة، فإن الإمبريالية لا تسمح لبلد ما أن يتطور بصورة مستقلة. لذا تراهم سحقوا العراق. وكان العراق يريد أن يتطور بصورة مستقلة، وأن يَشيِّد النظام الخاص به، وأن يَستثمر أموال البترول في مشاريع مجتمعية. لكنه سُحق شأنه شأن يوغوسلافيا التي حُظر عليها أن تتطور بصورة مستقلة. وهذا يصح أيضا في ما يتعلق بكل بلدان أمريكا اللاتينية، باستثناء كوبا التي لم تَعرف هذا الانسحاق نفسه، بالرغم من أن الولايات المتحدة لم توفِّر جهدا، بما في ذلك عدد من المحاولات لا يحصى لاغتيال فيدل كاسترو، لسحق هذا البلد الصغير للغاية. بل إن ما انتهى إلى الفشل في تشيلي الليندي تحوَّل إلى شرارة صغيرة في بلد آخر هو فنزويلا التي تَستأثر اليوم بانتباهنا. فما الذي حدث في فنزويلا، حيث لا يوجد هنا عددا من الثوار أكبر مما هو موجود في أي بلد آخر؟ ما حدث هو أن عددا من الثوريين وضعوا يدهم على الثروة النفطية، واستثمروا أموال النفط في مشاريع من أجل خير الأمة. الأمر الذي انتهى إلى محو الأمية بصورة كاملة حسب ما تقر به اليونسكو. وهو أمر في غاية الأهمية عندما نتذكَّر أنهم في فرنسا أثاروا ضجة إعلامية واسعة لأن فنزويلا حظرت قناة تلفزيونية. هذه الأخيرة كانت شاركت في كل الانقلابات العسكرية. وكانت تَنشر أنباء كاذبة إلى حد فظيع. والحقيقة هي أنها لم تُحظر أو تؤمَّم، وإنما هي لم تَنل ترخيصا قانونيا للاستمرار                ببث برامجها، وذلك على نحو ما يجري في كل القنوات التلفزيونية في العالم، والتي تخضع              لرخصة التجديد.
إن بوليفيا بدورها تُحقِّق اليوم أحلام ملايين البشر في أمريكا اللاتينية. هنا انْتُخِبَ أحد السكان الأصليين رئيسا للجمهورية. وهذه هي المرة الأولى التي يُنتَخَب فيها رئيس للجمهورية ليس من أصول أوروبية أو غيرها. ولم تَعرف بوليفيا مثالا أخر مشابه في تاريخها. بل إن الإكوادور وغواتيمالا، وحتى نيكاراغوا، تحولت كل منها إلى مخزن للمتفجرات غير قابل للتحكُّم به. وإذا كانت الولايات المتحدة ما تزال تُمسك بالمكسيك، إلا أن التحالف الواسع الذي يُراد لأمريكا اللاتينية من قِبَل الولايات المتحدة لا يلاقي نجاحا، بل إن القوى الثورية في أمريكا اللاتينية شَيَّدت، على النقيض من المساعي الأمريكية هذه، محطات إذاعية وقناة تلفزيونية مشتركة، كما أن بنوكها هي التي توفِّر القروض لها في ما بينها. بل إن بعض البلدان التي كانت حتى وقت قريب موالية للولايات المتحدة تبتعد اليوم عنها. ففي الأرجنتين، على سيبل المثال، التي ما تزال بين أيدي الحزب البيروني، وهو ليس حزبا يساريا، فإن الرئيس الأرجنتيني مرغم على أخذ مسافة من الولايات المتحدة. فقد استقبَل هذا البلد فيدل كاسترو، حتى أن الرئيس الأرجنتيني استقبله في ملعب رياضي ضخم، واضطر إلى توزيع مكبرات الصوت في كل الساحات الكبرى والشوارع الرئيسة في العاصمة بوينوس آيريس من جراء ازدحام المكان الذي غص بالناس المتوافدين إلى  المكان  للاستماع  إلى فيدل.
ما يحدث في البرازيل حيث خان لولا دي سيلفا التزاماته الثورية، فإن هذا الأخير يواجِه قوة ثورية ماثلة في حزب معدومي الأرضMovimento dos Trabalhadores Sen Terra (MST)، ويُشَكِّل هؤلاء الفلاحين اليوم أقوى حركة ثورية للفلاحين في العالم أجمع ( 10).
هذا هو ما يَستحق المتابعة والانتباه من أجل ملاحقة الكيفية التي تجري الأمور بمقتضاها. والأمل أن تتلاقى هذه القوى في ما بينها. ومن الضرورة بمكان اليوم أن نتمسِّك بأقل بادرة تنم عن التوافق وتبعث على الأمل. على سبيل المثال: حزب الله هو الذي قاد مقاومة العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان.
 
4/ إن مقاومة حزب الله للعدوان الإسرائيلي استمرارٌ لمقاومة كانت بدأت منذ تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948، وإذا كانت تلقى تأييداً واسعا من التقدميين والتحرريين في الوطن العربي وغيره، إلا أنها ستَحكُم على نفسها بالعزلة إذا بقيت أسيرة الطائفة والعلاقات الإقليمية. وأنتَ كنَتَ في أعقاب حرب تموز كتبت مؤيداً حزب الله في مقاومته. فما رأيك بمستقبل هذه المقاومة في ضوء انسداد الأفق أمامها من جراء انغلاقها في إطار علاقاتها الطائفية والإقليمية؟
* *   ليس من سبب يدعو هنا للعودة إلى بن غوريون كي نُذَكِّر بأن الخطة الرامية إلى إخضاع لبنان قديمة العهد، وأن آرييل شارون أبلى من أجل ذلك بلاءً حسناً عندما زحف على بيروت، واختتم خطته بمذبحة صبرا وشاتيلا في العام 1982. واليوم، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية تندرج بصورة واضحة في خطة المحافظين الجدد وراء بوش، وترمي إلى إرساء قواعد لـ "الشرق الأوسط الكبير"، تحت جزمة الإمبريالية، وهذا هو دورها؛ على حد قول أوري أفنيري. إن المطلوب هنا هو بسط سيطرة إسرائيل حتى نهر الليطاني على أقل تقدير، وإبادة حزب الله من أجل بلوغ هذا الهدف. ولا بد من الإشارة، فضلاً عن ذلك، أن الهجوم بدأ عشية التوقيع على اتفاق حكومي بين فتح وحماس، انطلاقاً من وثيقة كان سجناء منتمون للحركتين قد حرَّروها.      
خلال فترة تكاد تبلغ الشهر الواحد، وعلى غرار مرآة تعكس أمام أنظارنا ما يجري في أفغانستان والعراق، حيث يقود تصدير الديموقراطية إلى ما نراه بأم أعيننا، فإن الحصاد في لبنان يَحمل معه كل مكونات مذبحة مقصودة لبلد بعينه. في هذه الأثناء، أَطَلقَ أولمرت وعصابته أيديهم حرة من أي قيد في فلسطين، في عملية روتينية من القمع، حيث بلغ عدد المقتولين خلال شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو نحو 200 ضحية، والجرحى 800 جريح، واستُكمِل الأمر ب/إيقاف - هم لا يقولون خطف - رئيس البرلمان، ووزراء في الحكومة، ونواب، التحقوا على هذا النحو بألوف المعتَقَلين الفلسطينيين واللبنانيين، الأمر الذي حدا بمعلق صحفي إيطالي إلى الكتابة أن الأمر يتعدّى الصهــــــيـــــونية ليبـــــــلغ مرحلة أعلى أَطلق هو عليها تســـــميـــة "صــــهيوانيه " Sionazisme.          
 وعلى الصعيد الخارجي فإن التواطؤ والخضوع والجبن بلغ حدَّه الأقصى، بل وأكثر قليلاً من المعتاد. فالقادة العرب التقوا في بيروت ليعلنوا عن تضامنهم (المعنوي) بعدما أصبح الجزر مسلوقاً بصورة كافية. وفرنسا المحبوبة بقوة في الشرق الأوسط، والتي بدورها تحب الشرق الأوسط، لا لشيء إلا من أجل حوالى أربعة آلاف مؤسسة هي بحوزتها في مستعمرتها السابقة، قد عَهَدَت للخبير فيليب دوست بلازي (وزير الخارجية الفرنسي في حينه) بأن يُلوِّح بيديه ما أمكن له ذلك، وعزَّزت التحالف الذي كان قد عُقد مع الولايات المتحدة بعد اغتيال رفيق حريري الذي لا نزال ننتظر معرفة الحقيقة بشأنه، وعبّأت مجلس الأمن الدولي من أجل تبني القرار 1701. هذا القرار الذي يَستعيد، تحت غطاء وقف إطلاق النار وعودة السلام، القرار 1559 الذي كان قد سَمَحَ للشريكين بـ "أن يعملا معاً بنشاط من أجل انبثاق سلطة محلية مؤيِّدَة للأفكار الأمريكية" - على حد قول جورج قرم - وذلك بفضل تصفية الحركة "الإرهابية"، حزب الله (11) .         
 وكان حزب الله موضعاً لكل أنواع الخزي التي انهالت عليه، فهو إرهابي، وعميل لدولة أجنبية، وفاشي، حتى أن أعداداً كبيرة من أصحاب النفوس الضعيفة ضمن «اليسار» (واليسار الجذري) في فرنسا وغيرها، استعادت بدورها هذه العبارات. فكيف لهم أن يفعلوا ذلك؟ إلى هؤلاء، وهم أنفسهم الذين كانوا إبان "أزمة الضواحي" في فرنسا في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2005 يوزِّعون النصائح والتحذير تلو الآخر "للمتوحشين الصغار". يجدر بنا أن نسألهم بأي حق ينصِّبون أنفسهم مدافعين عن مقاومة، هم في الحقيقة لا يريدون السماع باسمها. إنهم يعتقدون أن الحزب ما دام "حزب الله"، وإسلامياً، فإنه إذن غير تقدمي. وهم بالتالي يأخذون بمعادلة بسيطة. فلنذكِّرهم، ما دام الوقت لا يتسع أمامنا هنا للعودة إلى التاريخ البعيد، بأننا نتحمل قسطاً من المسؤولية أمام هذه الظاهرة التي تمتد إلى ما وراء لبنان. نحن الشيوعيون والاشتراكيون والتقدميون والديمقراطيين والقوميون والعلمانيون، وحتى الجمهوريون، تحت تأثير ما بعد باندونغ، أي تفاعل أخطائنا وفشلنا في مرات كثيرة، وبسبب من الهجمات المضادة التي كانت تشنها الإمبريالية، ومن جراء تشييد أنظمة رجعية شُجِّعَت على القضاء على كل قوة معارضة في بلدانها، قد لَحِقَت بنا الهزيمة. فالسياسة كالطبيعة تكره الفراغ. وإن الشعوب تَعرف عندما يأتي وقت الشدة كيف تغرف من احتياطيِّها العميق ما تحتاج إليه من طاقة تساعدها على الوقوف على قدميها. والأمثلة على ذلك لا حصر لها. وفي الشرق الأوسط، فإن عهد منظمة التحرير الفلسطينية، الديموقراطية، العلمانية، حيث التساوي بين النساء والرجال، قد دخل في حالة تسودها الظلال. ونحن نواجه مشروعاً حقيقياً للطرد والإبادة في كل من فلسطين ولبنان اللذين لا ينفصل بصورة قاطعة أحدهما عن الآخر. مشروع من المحتمل أن يمتد إلى ما وراء هذين البلدين، باتجاه سوريا وإيران، بانتظار أوسع المسافات في ما بعد. وإن هذا المشروع قد رَفَع ضد نفسه، وفي مواجهته، قوة نجحت في معاندته بصمود، بل إن هذا المشروع قد وُضِعَ أمام صعوبات عظيمة، كما رأى كل واحد منا.         
ولنقل مجدداً: إن حزب الله وُلِد في إحدى المراحل الأكثر قسوة في التاريخ المعاصر للبنان. لقد وُلد للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي بوجه خاص. وأصبح الحزب بمقاومته للاحتلال حزباً قومياً، بعدما كان يمثل حزب الأكثرية الشيعية التي يَلحَق بها من الغبن ما لم يلحق بسواها. وكان لدى الحزب وزراء ونواب. ولما كان هو البديل لدولة عاجزة، فإنه يسهر على العديد من شبكات التعاضد، ويدير المدارس والمستشفيات. وفي مواجهته للعدوان في صيف 2006 لقي التأييد من المسيحيين المُلتفين حول الجنرال عون، والحزب الشيوعي الذي كان يضطهده قبل عشر سنوات، وغيرهم من القوى القومية. كما برهن على شجاعة مناضليه. وعلى غرار ما كان عليه الفيتناميون في الماضي، فقد برهن أيضاً على التحكُّم بتكتيك حرب العصابات. ونَجَحَ في مواجهة أطلق عليها علماء الحرب، من باب الخجل، تسمية المواجهة "غير المتناسقة". نَجَحَ بأن يُكَبِّدَ "رابع جيش في العالم" ضربات أبعد ما تكون عن التوقع المسبق: بضع عشرات الدبابات غير القابلة للتدمير دُمِّرِت، وطائرة لا ينال منها سلاح أُسقِطَت، وباخرة غير قابلة للغرق أُغرِقَت، ناهيكم والحفلة المستمرة للألعاب النارية لصواريخ الكاتيوشا التي لم يكن يُعْرَف مصدر انطلاقها. ونجح أيضاً في الحؤول دون اندلاع حرب أهلية بين شعب ذي هويات طائفية صلبة، بالرغم من أن الحرب الأهلية كانت تلقى مشجعين، وهو الأمر الذي استحق من أجله تضامناً فعالاً من قِبَل قسم كبير من السكان، وكان هذا التضامن في أغلب الأحيان ذا تأثير. حتى أن حزب الله أثار أيضاً موجة من الحماسة لدى شعوب العالم الإسلامي قاطبة، وبوجه خاص لدى جيرانهم الأقربين، لأنه نجح في البرهنة على ما كان يَنتظر برهاناً منذ مدة طويلة، ألا وهو المجابهة بنجاح مع الخصم المشترك. ومن البديهي أن هذا البرهان ليس قليل الشـأن أبداً. فالأمور لا تَعرف هنا حالة الجمود. إذ أن نصر الله أعرب في خطاب له عن اغتباطه لأن جماهير الشبان كانوا يرفعون في التظاهرات التي كانوا يسيرونها تأييداً له، صور تشي غيفارا وتشافيز, ولنذكِّر هنا بأن تشافيز هو رئيس الدولة الوحيد الذي استدعى سفيره لدى إسرائيل. هذا الحزب مرشِّح للتطور السياسي في المستقبل قوميا ومجتمعيا في سياق بيئته العربية ومؤيِّديه من المحرومين والمظلومين. فإذا كان الإسلام هو الذي سينتشر ويتفوق، فإن هذا شأن لبناني يخص اللبنانيين وحدهم، وهو ليس من شأن وكلائنا من أصحاب القفازات البيض، دبلوماسيين وسياسيين. أضف إلى ذلك أن ما تردِّده وسائل الإعلام صباح مساء كالمطرقة من حجج كانت قد استُخدمت بصورة واسعة عن الدعم بالمال والسلاح من سوريا وإيران لحزب الله، إذا ما كانت هذه موجودة بالفعل، فإنها لا تُخَلِّف في النفس أي شعور بالصدمة. فإن لم نتطرق هنا، بالرغم من أن صحافتنا المريضة تتناساه عن وعي، إلى الكتل الضخمة من الأموال - مؤسسة سبيلبيرغ ضخَّت بمليون دولار قبل أيام قليلة- وقنابل الحرب ما فوق المتطورة التي تذهب كل يوم من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، والتي كانت حتى وقت قريب تمنحها تفوقها، إذا نحن لم نتحدث عن ذلك كله، فلنذكر فقط، على أقل تقدير، أن من حسن حظ فيتنام أنها تلقت المساعدة السوفياتية، وأن المقاومة الفرنسية استفادت مما كانت بريطانيا ترسله إليها بالمظلات.                
وماذا عن القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة في لبنان؟ إن القرار 1701/1559 ، وهو القرار الوحيد الذي يلقى حتى اليوم من إسرائيل موافقة كاملة، قد دخل إلى حيز التنفيذ بموافقتها. وإن نزع أسلحة حزب الله مدرجٌ في جدول الأعمال. ولتنفيذ ذلك، فإن القبعات الزرق، وهي قوة احتلال إمبريالية بكل معنى الكلمة، ملزمة بارتداء اللباس الموحَّد للجندي الذي يكمل العمل، وهو المكلف بـ "إنهاء ما كان" جيش تساحال قد بدأ به قبل أن يُغلَب. من المحتمل أن يبدأ هذا الجيش المغلوب، نزولاً عند رغبة المصابين من أفراده بجنون العظمة، الإعداد بهدوء «للجولة الثانية». وستحتفظ إسرائيل التي لن تُرغم أبداً على العودة إلى حدودها، بالأراضي التي ضمَّتها إليها، أي مزارع شبعا، وتلك القطعة من سوريا التي لا يتحدث عنها أحد، الجولان. وحينئذ سيبدأ كل شيء من جديد. فالفلسطينيون الذين تُركوا وشأنهم سيستمرون بتلقي الضربات.
فلسطين والعراق ولبنان، نحن هنا أمام المواقع المتقدِّمة لمقاومة تتكوَّن حالياً في كل مكان من العالم ضد مجرمي «الحرب بدون نهاية». إن تقديم الدعم إليها هو أضعف واجبٍ مُلْزِمٍ للتقدميين من جميع الانتماءات.
                                  
 5/ هل مقاومة الإمبريالية مجدية بدون أممية شيوعية جديدة؟
**  إن حالات التوافق هذه ما بين حركات المقاومة، مهما قل شأنها أو عظم، تستحق منا أن نعمل من أجل الجمع ما بينها بدلا من أن نتركها تتعارض. والمثال الحي على ذلك أن تشافيز ذهب في العديد من المناسبات لملاقاة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي يظهر بمظهر الوحش المرعب على شاشات الإعلام الرأسمالي في الغرب. فلماذا أصبح كل من تتشافيز ونجاد وحشا مرعبا؟ ليس من سبب آخر غير هذا السلاح الخارق للعادة والمشهور بيد كل منهما للدفاع عن النفس، سلاح النفط. وهو قوة فعالة للابتزاز ما بين القوى. لذا، فإن إيران كانت دوما بأنظار الغرب الرأسمالي موضعا للحذر. والإمبريالية إذ امتنعت حتى الآن عن الاعتداء على إيران فلأنها تخاف مغبة ذلك.
هذه بوادر تدلِّل على المقاومة، لذا فإنها هامة. ومن هذه البوادر أيضا أن العراق حاول في أحد الأيام أن يَستبدل الدولار باليورو في تبادلاته التجارية على الصعيد الدولي. وهذه البادرة هي من وجهة نظري أحد الأسباب وراء الاعتداء على العراق. وكان صدام حسين بدأ يبيع النفط باليورو. من حيث الشكل يبدو أن الأمر لا يستحق أية عناية. إلا أن احتكار الدولار عملة للتبادلات التجارية العالمية، والتهديد بأن يَفقَد الدولار مكانته يدلِّل على تناقضات ضمن الإمبريالية نفسها. ومن الضرورة بمكان أن تستفيد القوى الثورية من هذه التناقضات. إن حالات التوافق كلها مفيدة.
ومفتاح المقاومة يكمن في التلاقي ما بين الجماهير في عمل مشترك. بين الجماهير المستقلة والفكر النقدي والمثقفين النقدييِّن. ذلك إن للمثقفين الثوريين حتى الآن أثراً فاعلاً في بلدان العالم كله. ويوجد بين المثقفين النقدييِّن أممية مصغَّرة. بيد أنها تَفتقر إلى إمكانيات اللقاء مع الجماهير. ففي بلدان العالم جميعاً، حيث توجد لقاءات دولية، يبرز حزب العمال في تركيا، وغير هذا وذاك من أحزاب تقدُّمية وثورية من مختلف أنحاء العالم. فالقوى متوفِّرة، إلا أنها تفتقر إلى الإمكانيات المادية، ما خلا تلك المتصلة بالأنترنيت. لكن الثورة لن تأتي عبر الأنترنيت. فالتبادل الإنساني في هذا الحيز من التواصل معدوم تقريبا. وإذا ما نحن نظرنا في عودة إلى الوراء إلى الدول الغربية الكبرى، ومن بينها تلك التي تُعرف باسم الدول العظمى، فإنك تلقى قوى معارضة كانت موجودة في فرنسا على سبيل المثال منذ عهد فولتير(12) وبومارشيه (13). هذه المعارضة القوية والواسعة وقديمة العهد كانت تندرج بصورة مستديمة في سياق من تقاليد ثورية. بيد أن هذه التقاليد عَرِفَت حالة من الانحسار قبل سنوات قليلة. فمنذ عدد قليل من العقود أصبحت وسائل الإعلام المتاحة للقوى الثورية غير متوفرة، إلا ما قل وندر منها. ووقَعَت وسائط الإعلام بصورة كاملة بأيدي السلطة البورجوازية. وإن إعلام السلطة الرأسمالية هو الذي يَنشر أيديولوجية تَحُول دون ظهور الحقيقة؛ حقيقة حزب الله، وإيران، وهوغو تشافيز الذي يأخذ تحت تأثير وسائط الإعلام هذه صورة الوحش.
وأما الحقيقة عن شبكات المافيا، وجرائم العولمة، ولجوء البورجوازيات الحاكمة إلى العنف والتعذيب، إلخ..إلخ، إن كل ما تقدَّم يبقى مخفيا ولا يَظهر إلى العلن. ويبقى الباب مغلقا أمام كل من يريد الكشف عنها. وإلى جانب ذلك، فإن الأحزاب السياسية خانت مهمتها، وفَقَدَت صلاتها ليس مع الجماهير فقط، وإنما أيضا مع الناخبين الذين كانوا يقعون قبل سنوات قليلة تحت تأثيرها. وهذا الأمر جلي وواضح في ما يتعلق بالحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي في فرنسا (14).
هذا كله يستدعى إذن أن يَنْصَب العمل على هذه المعطيات لمعالجتها بما يخدم مقاومة الإمبريالية وانطلاب الثورة. الأمر الذي يَفترض منا أن نضع أمامنا هدفا مشتركا، ألا وهو تشييد أممية. على أن تكون هذه الأممية في وقتنا الحاضر – كما يقول سمير أمين – ليست كسابقاتها، وإنما أممية هي اجتماع بين حركات تضمن كل منها لنفسها هويتها الخاصة بها (15). واعتبارا من هذا المنطلق، فإن الشرط المطلوب للانضمام إلى هذه الأممية يُلزِم المُنتسب بأن يتبنى عدداً من الأهداف دون إكراه وتقييد، وذلك على نقيض ما كان يحدث في الأممية الثالثة. إذ أن التشدد في تطبيق الانضباط العسكري أصبح عبثاً لا طائل منه. ثم إن مثل هذا النمط في العمل لم يعد لحسن الحظ يَجِد تجاوبا لدى الجماهير.
وثمة معطيات في عالمنا اليوم تبعث على التفاؤل.
 
سادساً: الدين من حيث هو مبرِّر للسياسة،                                                              ومن الأسهل على الإمبريالية أن تحارب  الثقافة
       من أن تهزم الصراع الطبقي
 
1/ هل يجوز برأيك اعتبار الأصوليين الذين يحملون اليوم السلاح ضد الأمريكيين في العراق حركة معادية للإمبريالية لاسيما وأن الأصولية تناضل ضد الثقافة الغربية وليس ضد الإمبريالية، ضد الكفرة، بل وحتى ضد المسلمين ممن لا ينتمون مثلهم إلى الجهادية؟
**  ثمة نقطتين اثنتين هنا.
الأولى هي أن تقديم حالات من الكفاح في العالم تَحتدم اليوم باعتبارها صراع بين ثقافتين، ثقافة ضد ثقافة، هو تقديم يأتينا بصورة مباشرة من الولايات المتحدة. إنه نتاج المكاتب شبه الرسمية في الولايات المتحدة أو القريبة من وزارة الخارجية، والتي أُنشئت في أعقاب الهجوم على البرجين في 11 أيلول/سبتمبر 2001. وهذا العرض للأمور على هذا النحو يُستَخدَم كذريعة بين أيدي الولايات المتحدة لغزو أفغانستان والعراق، ومن ثم لتهديد قوى من أمثال إيران. وما يسترعي الانتباه هنا هو أن جماعات مسلمة متطرفة تتبنى عرضاً للتاريخ كهذا. الأمر الذي يدلِّل بأن ثمة تواطؤاً ما بين هذه الجماعات وبين سياسة الولايات المتحدة. تواطؤٌ إن لم يكن بالمعنى الحقوقي للكلمة، فإنه كذلك من حيث الوقائع الموضوعية. وأسامة بن لادن هو الصورة التوضيحية على تواطؤ كهذا. فهذا الأخير عميل سابق لمركز المعلومات الأمريكي (سي.أي.إيه)، وقد خَدَم بولاء مصالح الولايات المتحدة في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، ثم حلَّق عاليا بجناحيه.
 أما النقطة الثانية، فإنها أكثر أهمية من الأولى. إذ أن ما يُوصف بأنه معركة ما بين ثقافتين ما هو في حقيقة الأمر سوى معركة سياسية معادية للإمبريالية من قِبَل مجموعات إسلامية. وللتدليل على ذلك نقول إن هذه الجماعات كسبت شرائح واسعة من الرأي العام في البلدان المسلمة، فالرأي العام المسلم يساند هذه الجماعات الإسلامية، بل وحتى ابن لادن نفسه. ذلك أن الرأي العام يجد لأول مرة في هذه الجماعات وسيلة للتعبير عن موقف جذري للرد على إهانة لحقت بهم من جانب الغرب. وما نستطيع أن نقوله أمام مثل هذا الوضع هو أن من المؤسف أن تكون هذه القوى هي التي تمثِّل ثورة لا بد منها في البلدان المسلمة.
أما إذا ما تساءلنا الآن لماذا تجري الأمور على هذا النحو، فإننا مضطرين للإجابة على هذا النحو: إن القوى المسلمة المتطرفة التي تُدعى بالإسلامية، قد نشأت في حيز من الفراغ. فمن أين أتي هذا المكان الفارغ؟ لا بد هنا كما أردِّد دوما من العودة إلى باندونغ. فما بين مؤتمر باندونغ وأيامنا هذه تتابعت حالات من انهيار الآمال وحالات من الإحباط بنيل استقلال حقيقي، ناهيكم بإنجاز الثورة. فلقد حطَّمت الإمبريالية في البلدان المسلمة كل القوى التي تمثِّل على وجه الإمكان قوى الاحتجاج. وهي لم توفِّر على نفسها في فعلها هذا أيا من هذه القوى، اشتراكية كانت أم شيوعية أم قومية. بل إنهم أتوا على حياة بعض قادة الاحتجاج، كالمهدي بن بركة، ومهدي عامل، وقبل هذين مصدِّق في إيران. ثم عُهِد بالحكم في البلدان العربية إلى ديكتاتوريات. وهذه الديكتاتوريات محمولة على أكتاف وأكف القوة الأمريكية، وذلك بالتواطؤ مع الدول العربية. ويَنتج عن هذه الشروط الموضوعية أن حالة من الاستعصاء قد تمكنت من الأوضاع وسدت المنافذ أمام التغيير. حتى أن قوى من هذا النمط ظهرت إلى ساحة الواقع. واليوم، فإننا مرغمون على التعامل معها، أيا كان موقفنا الأيديولوجي منها.
وإذا ما نحن تفحصنا الأمور على أرض الواقع عن كثب، فإننا ندرك أن أربعة أخماس الإنسانية اغتبطت حيال الاعتداء ضد الولايات المتحدة. وهذا أمر طبيعي لأن هذه الأكثرية من البشر شعرت أن ما لحق بها من دمار ليس هو شيء آخر غير هذا الرمز للقوة التي تَسحق العالم قاطبة. وكانت الصحف الفرنسية انهالت بالسوط على الفلسطينيين الذين خرجوا بتلقائية إلى الشوارع للتعبير عن فرحتهم إزاء الاعتداء على القوة الإمبريالية المدمِّرِة. وأنا شخصيا أُقاسم الفلسطينيين مشاعرهم هذه.  
 
2/ إن مصطلح "إسلامي" محدث. ولربما كان المستشرقون في الغرب الرأسمالي أو أنور عبد الملك ، وكان في حينه بحَّاثة في المركز القومي (الفرنسي) للبحث العلمي، هو أول من استخدم هذا المصطلح. ويعود ذلك إلى السبعينات. إن هذا التمييز بين المسلم والإسلامي يَنزع عن المسلم أية صفة سياسية ويلصقها بالمسلم عندما يحمل فكرا دينيا ذا ممارسات سياسية معادية للاستعمار والإمبريالية، علما أن السياسة في الاسلام ليست واحدة لدى المسلمين كلهم وفي العصور كلها. وقد استخدم مصطلح الإسلام السياسي من أجل إرغام الإسلام بالقوة على حمل سياسة واحدة هي ما يريده المستشرقون والمكاتب والمؤسسات التابعة للدول الاستعمارية. إذ أن التاريخ السياسي للإسلام لم يُنتِج يوما منذ جلسة السقيفة حتى اليوم نظرية سياسية واحدة تلقى قبولا من الأكثرية والأقلية، مذاهباً وفرقاً. وقد جاء هذا المصطلح في بداية الأمر كي يشير إلى أن المسلمين يحاربون الغرب. المسلمون من حيث هم ثقافة إثنية، والغرب من حيث هو أيضا ثقافة مختلفة عن الأولى. كان الجزائري يسمَّى حتى وقت متأخر من القرن العشرين بالمسلم. فلا هو عربي، ولا هو أمازيغي، ولا هو شيوعي، ولا هو تحرري. كلا، إنه مسلم. وكان هذا الإسلام في بداية الأمر يمارس دور الهوية الوطنية في محاربة الاستعمار، حسب النمط الجزائري. إن حركة التحرر الوطني الجزائرية مدينه للهوية المسلمة بالمعنى الشعبوي للكلمة. حتى إذا ما انتهت الحرب ضد الشيوعية في أفغانستان فإن الإسلام السياسي ظهر من حيث هو معادٍ للثقافة الغربية.
* *   إن التقديم الذي أنت تطرحه يحملني على القول بأن مصطلح الأصولية المسلمة أو الإسلامية هي ترجمة عن خطاب إمبريالي طالما تريد هذه المصطلحات، سلفي وأصولي وإسلامي، أن تندِّد وتشوِّه         ما هو ديني وثقافي. وهذا الخطاب هو الذي يخوِّلهم القول بأن العرب، ومنهم المسلمين، متعصِّبون.    وهذا الخطاب يندِّد بهم ميتافيزيقيا أو بمنطق الماهية، ومن حيث هم ماهية عنيفة بصورة              مستديمة.
مقابل ذلك، فإن مفهوم الإسلام السياسي صحيح برأي صديقي سمير أمين. إن هذا الإسلام السياسي يرفض الرجعية الثقافية، ملحَّا على واقعة مؤداها أن الجماعات، وبوجه خاص من كان منها مسلحا ويخوض بالسلاح معركة معادية للإمبريالية، ظهرت بدافع سياسي، وهي لا تحمل أهدافا ثقافية.  فما هو دور الدين في هذه المعركة؟ إن الدين في إطار الإسلام السياسي أصبح أداة لتبرير فعل سياسي، لأن هذه الجماعات سواء أكانت "جبهة الإنقاذ الإسلامي" في الجزائر، أم ابن لادن، أم غير هذه وتلك من الجماعات، تريد أن تستولي على السلطة. إن الإسلام، والإعلان عن الشريعة التي تحتوي ما هم يريدون أن تحتويه، ما هو سوى بحث عن شرعية دينية لعمل سياسي. ألم تأخذ عبر تاريخ الإسلام مختلف الأشكال السياسية للإسلام، ومنها الشيعة والسنة والمذاهب الأربعة للسنة وفرق الشيعة، تبريرا لنفسها عبر قراءات دينية للعمل السياسي. وهل الدين، من حيث هو خطاب لتبرير السياسة، خصوصية ينفرد بها الإسلام دون غيره. كلا، فتاريخ الدين المسيحي لا يفيد في شيء سوى في تبرير السلطات القائمة، سلطات الملوك. كانت أوروبا خاضعة لسلطة البابا. وكان كلما وقعت أزمة يحدث انقسام ضمن المسيحية. فإدوارد الثامن على سبيل المثال انشق عن الكنيسة وأسس الكنيسة الأنجليكانيكية. وكانت الحركات ضد الكاتار حركات سياسية معارضة للسلطة الكاثوليكية التي كانت تَستَغل الفلاحين. وثمة شكل من أشكال السلطة المسيحية في غاية الوحشية، كانت قد سادت وحَكَمَت طوال قرون، وهي مستمرة بأشكال مختلفة، ألا وهي محاكم التفتيش التي ذَبَحت وحَرَقت وقَتَلت كبار العلماء. إن محاربة ثقافة الآخر، ونظرية تضاد الثقافات هي بدورها استمرار ما لمحاكم التفتيش. فمن الأسهل على الأيديولوجيا الإمبريالية السائدة أن تجلد الإسلام من حيث هو دين، من أن تحارب الواقع السياسي وموازين القوى والكفاح ضد الاستعمار والإمبريالية والبورجوازية والإقطاع، وصراع الطبقات...    .
 
3/ جورج لابيكا، أنتَ عايشت اليسار العربي، وهو نخبوي، ويتميز بأنه ثقافي، مادام هو نخبوي، أكثر منه سياسي. وثمة معوِّقات تقف وراء ذلك، فهل هي موضوعية، كتأثير البنية المجتمعية التي تغلَّبت فيها علاقات العصبية الموروثة، أم ثقافية كتأثير البنية الدينية، أم غيرها كالسياسة؟ ولماذا فشل اليسار حيثما حاول في الوطن العربي تشييد دولة ومجتمع "اشتراكي"؟
* *  إن التاريخ بسماته العريضة التي تحدَّثتُ عنها سالفا لم ينته، وهو لاينته. وإن شروط التغيير الراديكالي غير متوفِّرة بعد. فالإمبريالية، بالرغم من الهزائم الهامة التي لحقت بها في كل من لبنان والعراق وإيران، إلا أنها ما تزال تحتفظ بقوتها القمعية كاملة، وما تزال أيضا الأنظمة الفاسدة هي الطاغية في العالم العربي، وذلك في ما تفتقر إيديولوجيات صراع الطبقات والتحويل الاجتماعي، وفي مقدِّمتها الماركسية، إلى النضج، وهي بالكاد تستيقظ الآن. ولا يتسع المجال في جميع الأحوال إلى الندب أو الاتهام الذاتي، وليس ثمة لعنة تلاحق مجتمع ما. وإن القتال من أجل صياغة تغيير العالم، ومن أجل صياغة الأفكار اللازمة لمثل هذا التغيير الراديكالي والدفاع عنها، هو الذي سينتصر لأنه قتال عادل ويهدف إلى تشييد العدل ونشره.
 
                           سابعاً: الماركسية هي الجواب
                                    للرد على الإمبريالية والعولمة والنيوليبرالية
 
1/  هل يَنجح العمل السياسي الثوري إذا لم تتوفَّر فيه درجة دنيا من المركزية، والسؤال هنا لا يمت بصلة إلى المركزية الديمقراطية؟ كيف لهذه الحركات المتعدَّدة التي تتحدَّث أنت عنها مقاومة الليبرالية والنضال ضد النيوليبرالية إذا لم يتوفَّر لها تنظيم مركزي يجمع ما بين هذه الحالات؟
 **  ثمة بوادر تعبر عن الخطوط الأولية لمثل هذا التنظيم المركزي. فلنأخذ على سبيل المثال المنتدى العالمي للبدائل (16) والمنتديات الاجتماعية (17) التي تشكِّل عنصرا هاما إذا ما تخلَّت عن العودة إلى ما لا نهاية إلى الطقوس الحجرية والصلاة الكنائسية في بورتو أليغريه. نعم، إن تشكيل مجموعات ضمن المنتديات الاجتماعية تَنشر أصواتا ثورية أمرٌ ضروري بصورة ملحَّة. أصوات ثورية من أجل البدائل، ومن أجل اعتماد القرارات، طالما تستمر المنتديات المنبثقة عن بورتو أليغريه في رفضها لاعتماد قرارات. وكنت أنا دُعِيتُ إلى آخر منتدى عالمي في بورتو أليغري (2005). وعندما أَخذت الكلام قلت إن المنتديات ستنفق إذا ما هي استمرت في عجزها عن إرساء برنامج، لنقل برنامجا من أجل مشكلة المياه في العالم، حيث ثمة أعمال لا بد من إنجازها في هذا الشأن في مختلف بقاع كوكبنا. وهي لن تلبث إذا ما برمجنا لهذا الهدف أن تلتقي في ما بينها على الفور. بل إنني تقدَّمت باقتراح يبدو تافها وهو مقاطعة كوكاكولا عالميا. صحيح إن هذا الاقتراح تافه، إلا أنه يتضمن مع ذلك قيمة ما مادام يتطلع إلى أن يكون عالميا.
وبالرغم من أن "منتديات البديل" تفتقر إلى الوسائل المادية، إلا أنها تحاول مع ذلك أن تشق طريقها إلى الوجود إلى جانب سمير أمين وعدد آخر من مناهضي الإمبريالية والنيوليبرالية في العالم. وثمة أيضا "المقاومة الديمقراطية الدولية Internationale Résistance démocratique  التي كنا أسَّسناها مع سمير أمين وبن بلا وآخرين من قادة العالم الثالث وأفريقيا. ويأتي في هذا السياق نفسه ما يقوم به فرنسوا هوتار François Houtart عبر منتداه "البدائل"   (18) Alternatives . وثمة أيضا الحركة التي كانت تأسَّست في فنزويلا والتي تُدعى "في الدفاع عن الإنسانية" En defensa de la      humanidad  (19). وهذه الأخيرة تَجَمُّع للعقول النقدية في العالم، وهي تُمثِّل منذ البدء وحتى غاية اليوم تجمُّعا لعقول ثورية أقل ما يقال عنه إنه ثقافي. وإن ما تفتقد إليه القوى الثورية هو أمر ذو طبيعة سياسية وثيقة الصلة بمشكلة العلاقة مع الجماهير، علاقة شبه معدومة.
أما ان نشيِّد في ما بيننا أممية فإن الأمر لا معنى له، لأن الأممية لن تَصدر إلا بعد امتحان دقيق لحالات متعدّدة من النضال كما هي في أرض الواقع وليس كما نتخيَّلها. امتحان يَستَنتج الدروس، ويَجمَع بين حالات من التوافق. أي أن ما يحدث في مثل هذه الحال هو بمثابة شريطين للتيار الكهربائي يولدان الشرارة عندما يلتقيان. وإني أرى أن العوامل التي تبعَث على التفاؤل متوفِّرة.  فأين هي؟ إن البوادر تعبِّر عن نفسها في هزيمة الولايات المتحدة حيث هي تخوض حربا. الأمر الذي يجب أن يبقى ماثلا أمام أنظارنا. والغرب الرأسمالي لا يَنشر هذه المعلومات بصورة كافية. ويجب ألاَّ يغيب عنا ذلك. نعم، كانت الولايات المتحدة تَعتقد أنها ستجد حلا لمسألة العراق خلال شهرين اثنين، ولأفغانستان خلال خمسة عشر يوما. وكان من المفترض حسب اعتقادهم في البينتاغون أن تنتهي إسرائيل من الفلسطينيين، إلا أنهم يتراجعون اليوم على مختلف الجبهات. ولم يكن ليتبادر لإسرائيل أنها ستُهزم لحظة واحدة في لبنان، فقد كانت تَعتقد أنها ستنتهي من اللبنانيين خلال أربع وعشرين ساعة.
 
2/ ألا تعتقد أن الوضع الدولي غير مؤاتٍ حاليا للجمع بين القوى التي تَعتَبر الماركسية مرجعا لها؟
* * كلا، إن مثل هذا اللقاء جارٍ في واقع الحال، وثمة مبادرات في هذا السياق. انظر مثلا إلى عددٍ من الحركات السياسية الهامة التي تلتقي في ما بينها حتى وإن كانت لا تتبنى الماركسية بصورة صريحة، ومنها على سبيل المثال حزب العمل في المكسيك، وحزب العمل في تركيا. وثمة لقاءات تجري أيضا في كل البلدان، في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل، وحتى في الصين. وإن الأحزاب الشيوعية، من حيث هي شيوعية، أو من حيث ما تبقى منها، فإنها لا تزال على قيد الحياة في عدد من البلدان، وهي تسعى إلى التجديد. وثمة أيضا تجديد للشيوعية في عددٍ من بلدان أوروبا الشرقية.
إن الأحزاب الشيوعية تتداعى إلى الالتقاء، كما حدث مؤخرا (2007 ) في أثنيا. وثمة مجلة تَنشر الأنباء عن هذه الحركات وتصدر في العديد من اللغات هي "المراسلات الدولية: Correspondance        Internationale.    لكن هذه المجلة تفتقر إلى الانتظام من حيث صدورها بالنظر إلى قلة مواردها المالية وإمكانياتها المتواضعة. وكان نحو عشرين حزبا شيوعيا من مختلف بلدان حوض المتوسط التقوا في أثينا (20). وكان الحزب الشيوعي الفرنسي غائبا عن لقاء أثنيا. الأمر الذي كان له أثر الصدمة في نفسي. فكأن الشيوعية اختفت من فرنسا. إن الحزب الشيوعي يفتقد للجرأة على تفجير نفسه من أجل بناء حزب شيوعي جديد. وعلى صعيد قوى الثورة في أوروبا، فإن المعطيات هنا تبعث بدورها على التفاؤل. إن رفض الفرنسيين في استفتاء عام (2005) مشروع الدستور الأوروبي كان يُشكِّل قاعدة سياسية للجمع ما بين كل قوى التقدُّم من شيوعيين وخضر واشتراكيين ونقابات عمالية. وكان يمكن على أسس من هذه القاعدة السياسية للاستفتاء الأوروبي أن تَكسب قوى التقدُّم الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة في فرنسا (أيار/مايو- حزيران/يوليو 2007). لكن التناقضات الداخلية حالت أيضا دون تشييد هذه القاعدة السياسية ما بعد الاستفتاء على الدستور الأوروبي. وقد حالت الدعاية النيوليبرالية بدورها دون تشكيلها.
 
3/  أنتَ تقول إن الصراع الطبقي إذا هو لم يندرج في السياق الأممي المناهض للإمبريالية، فإن الرأسمالية ستقضي علينا الواحد تلو الآخر وذلك على غرار ما فعلت الرأسمالية الأمريكية بالبروليتاريا في الولايات المتحدة
** نعم، إن صراع الطبقات في إطار العولمة النيوليبرالية، إذا ما حَصَرَ نفسه في السياق القومي، فإن ما سيحل بنا هو نفسه ما كانت آلت إليه الطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد قضت الرأسمالية عليها بشتى الوسائل، ولم توفِّر على نفسها من أجل بلوغ هذا الهدف أيَّة وسيلة. لذا فإن تنمية الوعي الطبقي الأممي في أيامنا هذه، بما في ذلك في المجال القومي، أمر ضروري. وهو يمتد ويتَّسع ليشمل التضامن مع النضال في فنزويلا والقوات المسلَّحة الثورية الكولومبية FARC، والمقاومة العراقية، إلخ. ولابد من عقد صلة وثيقة ما بين الصراع الطبقي في هذا البلد أو ذاك، والصراع الطبقي على الصعيد العالمي. ذلك أن الفصل بين هذين المجالين يقود إلى خلل في ميزان القوى على حساب العمال، وينتهي إلى القضاء على الطبقة العاملة، وذلك على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. إنها موجودة، إلا أنها مسحوقة ومكبَّلة تحت ضغط النظام السائد وهيمنته. انظر كيف أن حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة حكر على حزبين اثنين، الجمهوري والديمقراطي، ويغرق المرشَّحون في بحر من المال. حيث أن قيمة الحملة الانتخابية لكل من المرشَّحين تبلغ مليار دولار. وليس ثمة أمل أمام أي مرشَّح لا ينتمي لنظام الحزبين أن يخترق هذا النظام الذي يُعْتَبَرُ فخا. وهذا هو ما تريد البورجوازية في فرنسا الوصول إليه. فنظام الحزبين هو السائد هنا أيضا، اليمين ممثلا بالحزب الرئاسي، واليسار ممثلا بالحزب الاشتراكي. وكلاهما ليبرالي. وفي مثل هذه الحال، فإن الصراع الطبقي يَختَنق، ولا يجد لنفسه منفذا للخروج من هذا الفخ.
 
4/ كيف تُعَرِّف اليوم العامل البروليتاري؟ ألم يَخضع هذا التعريف لتحوُّل واسع منذ القرن التاسع عشر؟
* * البروليتاري هو كل عامل لا يملك سوى قوة عمله، وأسرته وحدها، ولا يملك سواهما. إنه لا يملك أدوات الإنتاج والعمل. وكل ما يملكه هو قوة العمل التي تتسع لتغطية الاحتياجات المعيشية الراهنة والقادمة في المستقبل لأسرته، زوجته وأولاده. أما العامل، فإنه مفهوم واسع يشمل أشكالا من الملكيات الفردية. والبروليتاري اليوم ليس هو بالضرورة من كان يعمل وراء الآلة. فالأستاذ الذي لايملك سوى قوة عمله، وهو محروم من أي شكل من أشكال الملكية، بروليتاري تعريفا.
 
5/ أنتَ تحدَّثت عن الماركسية بصفتها النظرية الوحيدة القادرة على فهم العالم الحالي وانتقاد النظام الرأسمالي. هل لك أن توضِّح هذا الرأي؟ وما الذي آلت إليه الماركسية اليوم في الممارسة الثورية؟ وبصورة أعم أين هي الماركسية اليوم؟
* * الجواب ليس سهل المنال. وسأرد عليه بأجوبة تتحدث بلغة الفرضيات، وأقول: إن لمقاربة الماركسية  اليوم  ثلاثة  أجوبة،  كل منها  مستقل  عن  الآخر  من  حيث طبيعته.
أول هذه الأجوبة لا يرد على سؤالك، طالما هو يقول إن الماركسية أيديولوجية مضى عليها الزمان وسقطت. إن الذين يُعلنون أن الماركسية مُعَوّقة وعاجزة إنما يفكرون بطريقة أيديولوجية ما داموا يريدون أن يَلحَق بها الخزي. ما بين هؤلاء من كانوا يستخدمون الماركسية، وهم يعرفونها خير المعرفة. وليس الأمر هنا يتعلق بالكتَّاب على نحو ما يفعل جاك آتالي الذي نشر للتو كتابا عن ماركس، كما سينشر بعد فترة كتابا عن غاندي، طالما أصبح هذا الأخير تقليعة في أيامنا (21). وعلى هذا النحو فإن آتالي يكون قد كتب عن لينين وماركس وغاندي. وهو ليس حالة فريدة. أقصد هنا أن ماركس حاضر في كل مكان، في الحيز الثقافي، كما في أوساط العمال وأرباب العمل. إن المنتسبين إلى نقابة أرباب العمل يعرفون الماركسية عن كثب، ولاسيما أن عددا كبيرا منهم خريجو المدرسة العليا للإدارة التي تؤهِّل كبار قادة فرنسا، وهم يعرفون الماركسية أفضل مما يعرفها القادة النقابيون، وبوجه خاص قادة فورس أُوفريير  FO(القوة العمالية) و سي. إف. دي. تي. CFDT) (الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل). إنهم درسوا ماركس عن كثب. أعني أنهم يعرفون أن الصراع الطبقي حقيقة واقعة. فإذا كانت الأحزاب السياسية والنقابات نسيت الصراع الطبقي، فإن بعض قادة نقابة أرباب العمل لم ينسوها. ولدى هؤلاء بغضاء للطبقة العاملة. وهذا يشير إلى أن أصداء الماركسية ما تزال تتردَّد في كل مكان (22).   
والفرضية الثانية تتعلَّق بما أُطلق عليه تسمية الماركسية المدجَّنة، وأعني بها تلك الماركسية التي حطَّموا لها أسنانها. ماركسية لا تعضُّ، وهذه الماركسية هي الماركسية الأكاديمية. إذ أن ثمة حلقات فكرية، حتى في الجامعات، تأخذ فيها الماركسية حيِّزا من التفكير والتأمل.  وهذا النمط من الماركسية يُعرف باسم  الماركسية  التحليلية  (23).
وأتباع الماركسية التحليلة كثرٌ، منهم من لم يُمهر بالختم الستاليني، ويَلتَحق بهم أو يتقاطع معهم كل من فالتير بنيامين  WBenjamin(24) وتيودور آدورنو (25)، وماكس هوركهايمر (26)، وهبرماس (27) وحنا آردنت، وغير هؤلاء ممن يُطلق عليهم تسمية النظرية النقدية، ومدرسة فرانكفورت (28). ويَشغل هؤلاء حيزا من الدراسات والمناظرات الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. حتى أن الكثير من الجامعات هناك تَفتَح أبوابها أمام تدريس الماركسية التحليلية، وهؤلاء وأولئك من أتباعها. بيد أن هذه الماركسية مدرسية، وإذا كنت أقول إنها بدون أسنان فلأنها عديمة الصلة بالثورة. إنها ماركسية فلسفية لا صلة لها بالأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ. بل إنها تقلب هذه الأطروحة رأسا على عقب. وهي علاوة على ذلك معدومة الصلة بحركات الاحتجاج المجتمعي. ذلك أن إلقاء سلسلة محاضرات حول فكر آدورنو أو حنا أرندت لا يصل بالمستمع إلى أي شيء. فالطلاب الذي يتابعون هذه المحاضرات لا ينزلون إلى الشارع أبدا للتظاهر مع العمال المسرَّحين من العمل.
والفرضية الثالثة هي ماركسية القوى السياسية والمجتمعية. وهنا ثمة صنفان من الماركسية. فمن جهة أولى، ما تبقى من الماركسية في مظهر متواضع للغاية ما يزال حتى الآن مرجعا لبعض الأحزاب الشيوعية. وإني أتساءل ما إذا كان تبقى من هذه الماركسية شيء. فالحزب الشيوعي الفرنسي على سبيل المثال تخلَّى عن ديكتاتورية البروليتاريا، أو أحد أشكال سلطة العمال، وقوَّض الأممية البروليتارية، ناهيكم أنه تخلَّى أيضا في نظامه الداخلي عن أية مرجعية ماركسية، ما عدا بعض الأفكار هنا وهناك,
والحزب الشيوعي الإيطالي مثال للصنف الآخر من الماركسية. هذا الحزب انفجر إلى شظايا. قسم ثوري، وآخر التحق برومانو برودي(29)، فيما أصبح رئيس "إعادة التأسيس" (روفانداسيونه) Refandacion   رئيسا للبرلمان. بيد أن إيطاليا وحدها هي التي ما تزال تحتفظ بخصوصيتها الثورية. إنها تَنشر حتى الآن كتبا عن غرامشي بغزارة. وضمن حزب إعادة التأسيس ثمة تيار انفصل عن التيار المتحالف مع برودي، وقرَّر الاستقلال عن التيار الآخر، وقد أَطلَق في منتصف العام الحالي 2007 مجلة أسبوعية جديدة تريد أن تحل مكان المجلة الأسبوعية الصادرة عن روفونداسيونه باسم إرنستو Ernesto. وقد أُطلِق على المجلة الجديدة اسم "أن تكون شيوعيا" (إيسيري كومينيسته)  Esere commnuste  .
إن صدور هذه المجلة يعبِّر عن غرامشي من حيث كونه حالة راهنة معاصرة في العالم وفي                 إيطاليا. وغرامشي راهن بقوة في البرازيل بوجه خاص. وثمة اليوم مرجعية غرامشية وأخرى غيفارية.
الأهم من كل ما تقدَّم من أشكال للماركسية هو ماركسية الممارسة، أو الماركسية التي تُتَرجِم عن نفسها في ممارسات واقعية. وثمة هنا أيضا محورين اثنين. أحدهما يضم كل المنظِّرين الذين يعملون في مجال التحليل الاقتصادي النظري للأزمة، وقيمة العمل، والربح، ومعدَّل الفائدة، والعلاقات الدولية في المجال الاقتصادي. وهذا كله يُكمل ما بدأه ماركس أو ما تركه مفتوحاً ولم يُغلقه في عمله "رأس المال". في الواقع لقد انتهى العهد الذي كانت فيه قراءة رأس المال تتم بالنيابة فقط، على نحو ما يفعل القس نيابة عن المؤمن عندما يقرأ الإنجيل. لذا فإن التوسير كتب "اقرأ رأس المال". وهي مقاربة جيدة طالما تُشَجِّع على قراءة رأس المال لماركس.
والمحور الثاني يضم المثقفين الاقتصاديين والاجتماعيين الذين يتابعون ويعالجون  معطيات بعينها، وطنية وعالمية. ومن هؤلاء ليلي ماركو، وإدوارد سابير، اللذين يدرسان التطورات التي تلاحقت في البلدان الاشتراكية لمعرفة ما الذي جرى ويجري الآن في روسيا بوتين التي تحاول بقيادة هذا الأخير إرساء بعض أسس النظام في هذا الماخور الذي هو بقايا يلتسين وغورباتشيف. وفي مختلف البلدان، كما في فرنسا، ثمة علماء اجتماع يحاولون رؤية ما يجري في فرنسا من زاوية صراع الطبقات.
والمحور الثالث سياسي منخرطٌ في الفعل، أو في ما يمكن أن نسمِّيه بتطبيق البرنامج الشيوعي. وهذا هو أضعف المحاور. لأن الحركات التي يمكن أن نُطلق عليها اليوم اسم الحركات الطلائعية، وإن كان ما تحمله من برامج يُعتَبَر مُرضيا من الناحية النفسانية، طالما هي تتصدى للولايات المتحدة والإمبريالية بمختلف فروعها، الفرنسية والألمانية والبريطانية واليابانية، وتدين أيضا الاشتراكية الديمقراطية. و"للعصبة الشيوعية الثورية" وصحيفة "لومانيتيه" ومجلة "رُوْج" دور هام في توعية النقابات وتحريك الإضرابات، إلا أن ذلك كله غير كافٍ. ذلك إن المحور السياسي المنخرط في الفعل لا يلح بصورة كافية على المرحلة الراهنة للعولمة من حيث هي تتويج لعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وهو في ذلك بعيد عما كان فعله ماركس عندما سلَّط الأضواء على علاقات الإنتاج الرأسمالية منذ الصفحة الأولى ل"البيان الشيوعي". 
العودة بصورة مستديمة إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية ضرورة لا مفر منها إذا ما أردنا أن نفهم عالمنا على خير وجه ممكن. وميشيل كولون، على سبيل المثال، يسير في هذا المنحى عندما يتابع في احدى دراساته امتدادات أو خط مرور أنابيب النفط عبر العالم، انطلاقا من أوروبا الشرقية بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، وحتى يوغوسلافيا، حيث تتكشَّف أمام أنظارنا ثورات برتقالية متراصفة جنبا إلى جنب، وأشكال من التحركات الإسلامية التي تَظهر في الجمهوريات المسلمة لما كان يسمَّى الاتحاد السوفياتي، وإلى جانبهما النزاع في البلقان، حيث كان من المحظور أن تصبَّ أنابيب النفط في يوغسلافيا قادمة من الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفياتي، ملتفة حول تركيا. إن هذا التحليل يطابق ما يقوله البيان  الشيوعي  في  ما  يتعلق  بأسباب  الحرب،  والكتلة  المالية، ومصادر  تمويل  رأس  المال.  وهذا كله  ضروري  للماركسيين  ولا غني  عنه  في  كل ممارسة  سياسية.
إن ما نَفتقر إليه اليوم نحن الماركسيون هو – من جهة -  دراسات للعلاقات الرأسمالية للإنتاج، وطبيعتها، ومن جهة ثانية، الصراع الطيقي، وهو الأهم. وإن لم نتابع الصراع الطبقي بصورة مستديمة، فإن ما يجري اليوم في عالمنا يبقى خارج مداركنا. ومن الممكن حينئذ أن نسقط تحت تأثير شتى أنواع المؤثِّرات التي تريد أن تصنِّفنا بين اليائسين ومبتوري الأيدي والقدريين. إن متابعة الانتخابات الرئاسية في فرنسا في ضوء الصراع الطبقي هو مفتاح لفهم السياسة (30). فالمسألة في الانتخابات الرئاسية ليست ذات صلة بجمال سيغولين روايَّال أو قبحها، بيد أن الحملة دارت مع ذلك حول صورة المرشَّحين. هذه سيغولين روايَّال ترتدي الأسود والأبيض، أو الأسود والزهر، إلخ.. . كما تأخذ الحملات الانتخابية مظاهر الاستعراضات الموسيقية أو الغنائية لكبار الفنانين. والسؤال هو أين هي مصلحة العمال في هذا التهريج كله؟ وكيف تقود النقابات صراع الطبقات في قلب المعركة السياسية والانتخابية؟ إن كبرى النقابات العمالية في فرنسا "الكونفدرالية العامة للعمال" (سي. جي. تي.) الموالية للحزب الشيوعي، إذ تدعو إلى التصويت بالموافقة على الاستفتاء على مشروع الدستور الأوروبي في أيار/مايو 2005، فإنها ترمي بنفسها على هذا النحو بين أيدي أوروبا رأس المال. لكن تقاليد الصراع الطبقي حسب النمط الفرنسي قادت إلى تنديد العمال بموافقة قيادة نقابتهم على مشروع الدستور. كما عارضت شرائح واسعة من الحزب الاشتراكي على نقيض قيادة الحزب مشروع الدستور هذا. وكنت كتبت: إن كل الذين دعوا إلى تأييد مشروع الدستور الأوروبي لم يستقيلوا من مراكزهم القيادية، من نقابة العمال الاشتراكية و"الكونفدرالية الفرنسية للعمال" (سي. إف. دي. تي.) إلى قيادة الحزب الاشتراكي، بعدما سقط هذا المشروع في الاستفتاء العام. وإن الحكومة التي فَقَدَت شرعيتها في ضوء نتائج الاستفتاء لم تستقل لتدعو إلى انتخابات تشريعية جديدة. واستمرت الأمور على حالها بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن.
 
6/ لعل ما تَفتقر إليه الماركسية كي تحيي الثورة بقوة وتجدِّدها هو ظهور رجل ما عن طريق الصدفة، كما يحدث دوما في مثل هذه الحالات، يستطيع أن يجدِّد العلاقة ما بين النظرية والممارسة؛ قائد من أمثال روزا لوكسمبرغ أو لينين؟
* * إن طبيعة القوى في عالمنا الراهن لم تعد لتحتمل مثل هذا الحل. ذلك أن ظهور رجل يتمتع بمثل هذه المواهب والمزايا لن يجد من حوله في الظروف الراهنة لعالمنا إجماعا وأذنا صاغية مثل تلك التي وجدها لينين وروزا لوكسمبرغ. فهؤلاء لم يظهروا إلا لأن الجماهير هي التي حَمَلَتهم. فحين تتوفر الشروط المجتمعية تنعدم المعجزة.
 وفي مقالي "حالة طوارىء" إني أُشدِّد القول بأن 19 مليون فرنسي صوتوا مؤيِّدين ساركوزي في الانتخابات الرئاسية. ولن يتأتى قلب موازين القوى لصالح الثورة ما لم يَفهم هؤلاء من خلال الصراع أن التصويت لساركوزي خطأ جسيم بحق مصالحهم. فساركوزي هذا يريد أن يَفرض قانون الحد الأدنى من ساعات العمل في أيام الإضراب. وهذا القانون يَنتهك حق الإضراب. والأسوأ من ذلك أن 65 بالمائة من الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي يؤيِّدون اليوم مثل هذا القانون. وفي بلد عريق للصراع الطبقي مثل فرنسا يأتيك اليوم مغامر لينتهك حق الإَضراب، فإذا بأكثرية الفرنسيين مؤيِّدة له. ولا يخلو هذا القانون من خبث ما. لآن الحد الأدنى من ساعات العمل أيام الإضراب كان متوفرا بصورة مستديمة. ولاسيما أن القانون يفرض الإعلان عن الإضراب قبل يومين من تاريخ بدئه. وهذا ضروري طالما أن العمال مدعوون إلى التصويت على الإضراب، معه أو ضده. الأمر الذي يَفتح بدوره الباب أمام كل أشكال التلاعب والمضاربات والزج بعملاء أرباب العمل بين صفوف العمال، ناهيكم والضغوط والتهديدات البوليسية والتلويح بالتسريح من العمل. وثمة خطة لتوسيع قانون الحد من الإضراب بحيث يشمل أيضا الهيئة التعليمية.
 
7/ إن النسبة المرتفعة لمؤيِّدي هذا القانون يسير جنبا إلى جنب مع ضعف الانتساب إلى النقابات العمالية، والذي يقتصر اليوم على 10 بالمائة من العمال؟ والمعروف أن عدد النقابيين في فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية كان يبلغ خمسة ملايين عامل نقابي، في ما هو يقتصر اليوم على خمسمائة ألف نقابي فقط !
* *  هذا يأتي لصالح رأس المال، وبفضل الهجوم المضاد الذي يشنُّه، وما تحقِّقه البورجوازية من انتصارات ذكية. وكان الزعيم الاشتراكي الفرنسي غيّْ موليه يردِّد قائلاً إن البورجوازية الفرنسية أبله البورجوازيات في العالم. فكيف له أن يقول ذلك! إنها بالأحرى أذكى البورجوازيات في العالم، فقد نَجَحت في نيل تأييد الأكثرية الانتخابية.
صحيح أن أية انتخابات كانت لا تخلو من تلاعب، بيد أن تبني الفرنسيين للبورجوازية له ما يعادله موضوعيا، وهو موافقة هؤلاء على السياسة البورجوازية كلها، من انتهاك حق الإضراب إلى الإجراءات الأمنية التي تحدُّ من الحرية الفردية والجماعية، بما في ذلك الإجراءات الأمنية التي تفرضها الولايات المتحدة ذات الصلة بتأشيرات الدخول إلى أراضيها. والأفظع من ذلك أن الإجراءات الأمريكية نفسها ما تلبث أن تصبح رويدا رويدا سارية المفعول في مطارات العالم كلها.
 
8/ ماذا عن حزب معادٍ للرأسمالية يحل محل العصبة الشيوعية الثورية ويضم الأحزاب الشيوعية كلها؟ كان الناطق الرسمي باسم العصبة مرشح الرئاسة، أُوليفيه بيزانسون، دعا في قلب حملة انتخابات الرئاسة إلى تأسيس هذا الحزب الجديد بعدما فشلت الأحزاب المعادية للرأسمالية والعولمة النيوليبرالية عن الاتفاق على مرشح واحد لخوض حملة الانتخابات الرئاسية. فما هو برأيك حظ هذا المشروع من النجاح؟
* *  ليس الماركسيون هم الذين يبشِّرون بنهاية الأحزاب، بل العكس هو الصحيح، طالما يَفرض الصراع الطبقي بناء الحزب العمالي. واليوم إن الأزمة صريحة واضحة للعيان، وهي تمس الجميع، من الحزب الاشتراكي إلى الخضر إلى الشيوعيين، بما في ذلك الفدرالية الفلاحية لجوزي بوفيه .  ولحل أزمة اليسار ذات الصلة بتشرذمه وافتقاره إلى جبهة موحَّدة معادية للرأسمالية والإمبريالية على أسس ثورية ضاربة بجذورها في المجتمع، بما يتيح ظهور حركة تبني نفسها حول العصبة الشيوعية الثورية التي بادرت إلى اقتراح الحزب المعادي للرأسمالية. ولاسيما أنها أحرزت أفضل النتائج وكان مرشَّحُها إلى الانتخابات الرئاسية أُوليفيه بيزانسونو أكثر مرشحي اليسار جدية من حيث معاداته للنظام الرأسمالي. ولا يوجد اليوم سواه بمثل هذه المزايا والخصائص. ولابد إذن من حركة تَستَقطِب الحزب الشيوعي وبعض عناصر من الخضر اليساريين الجذريين والمناضلين اليساريين الذين امتنعوا عن التصويت، والذين يشكلون كتلة هامة. ولمثل هذه الحركة إذا ما ظَهَرَت أن تستقطب هؤلاء لتخرج بالتالي بهم من حال الامتناع عن التصويت إلى الفعل والتأثير. ويُضاف إلى هؤلاء وأولئك شرائح من الحزب الاشتراكي التي كانت دعت إلى رفض الدستور الأوروبي؛ علما أن الحزب الاشتراكي زاخر بالخونة. فاليساريون منهم من أمثال فابيوس وإيمانويللي وميلانشون ، بعدما كانوا صوتوا ضد مشروع الدستور الأوروبي، لم يلبثوا أن أيَّدوا البرنامج الانتخابي للحزب الاشتراكي إلى الانتخابات الرئاسية بحجة أن هذا البرنامج يشكل تركيبا جدليا يَحمَع تيارات الحزب المتصارعة ويوفَّق ما بينها. هم أيدوا برنامج كهذا، يضع الحزب في خدمة رأس المال بدل أن ينسحبوا من الحزب، مثلما فعل الشيوعيون الإيطاليون أو الشيوعيون الأسبان الذين أسَسوا "حزب اليسار الموحَّد" (إيسكيِّردا أُونيدا). وهؤلاء الاشتراكيون الديمقراطيون، وعلى رأسهم لوران فابيوس، يتقلَّبون من اليسار حسب ما كانوا عليه عندما رفضوا مشروع الدستور الأوروبي باعتباره يمثل مصالح رأس المال، إلى اليسار الاجتماعي، والاجتماعية الليبرالية. ولما كان الحزب الاشتراكي التحق، كما هو واضح من برنامجه إلى الانتخابات الرئاسية، بالنيوليبرالية، وبسياسة تسيير النظام الليبرالي، وكانت قيادته أكثر يمينية، فإن ما تبقى في هذا الحزب من جناح يساري إنما هو ملزم اليوم بالانفكاك عن الحزب للالتحاق بحركة تعمل من أجل تأسيس بديل يتَّسع لكل من يقبل ببرنامج حد أدنى معادٍ للرأسمالية. وإن مثل هذا البرنامج يرسم خط مسار يتيح لفرنسا أن ترى الحياة بنمط مغاير لما هو سائد، لأن مثل هذه الحركة من شأنها أن تمنحنا جهازا للتواصل الجماهيري من إذاعات وتلفزيون، وتشييد شبكة اتصالات دولية.
لقد بات الانتهاء من تسلط أجهزة الإعلام وهيمنتها أمراً في غاية الأهمية طالما أنها تنجح في تشويه العالم. انظر إلى ما تردِّده عن كاسترو وتشافيز. إن هذه الاتصالات ترسِّخ السياسة البورجوازية بصورة خطيرة.  فهي تزعم أن تشافيز عسكري شعبوي. كلا، إن الوضع في فنزويلا مثير للاهتمام بوجه خاص من وجهة نظر ثورية
 
                                                  ثامنا: في نظرية العنف   
 
1/ هل من وسيلة لمحاربة الإمبريالية بدون اللجوء إلى العنف؟ إن المقاومة العسكرية دموية دوما، ولن يقتصر النضال ضدها بالوسائل السياسية وحدها دون غيرها.
** نعم، عندما أنت تتساءل ما إذا كان العنف مبررا ومشروعا بنظر الماركسي، فإن الجواب بصورة بديهية يقول نعم (يعود الحوار مجدَّدا إلى مسألة العنف بمزيد من التفصيل في الفصل الخامس). والتأكيد على ذلك اليوم ضروري طالما أن المجتمع السياسي في الغرب، من اليسار إلى اليمين، بما في ذلك اليسار الجذري، يرفض العنف. والسؤال المطروح ما الذي نرفضه عندما نرفض العنف؟ إن العنف اليوم ينتشر في كل مكان، في المدرسة، النزعة الذكورية ضد الزوجات، اللص الذي يسرق المرأة العجوز في قطار الأنفاق، في الحرب.. ماذا ترانا نرفض في العنف؟ إنه العنف الذي يحل محل العنف الأصلي أو الأول. إنه العنف الحقيقي، وهو ليس رديف الدم أو الضرب، إنما عنف القمع المتأتي عن تراكم رأس المال، والذي يثقِل كاهل الجماهير، ويقود إلى البؤس، أو ينتهي بالموت. عنف الاستغلال، والأرباح التي تُجنى من المعمل. هذا العنف الذي يَفرُض نفسه على ما كنا نسميه حتى وقت قريب العالم الثالث، حيث حُكِم على عدد كبير ومتنوع من السكان بالمجاعة والتخلُّف. الأمر الذي يقودنا إلى القول إن الحيز الذي يُعتبر بامتياز عملا مناهضا للعنف هو العمل المنظَّم ضد صندوق النقد الدولي، لأن هذه المؤسَّسة هي جمعية لصوص عالمية قتلت حتى اليوم ملايين البشر.
ثمة تمرد ضد هذا الوضع. ويبدو العنف في مجتمعنا ضئيلاً إزاء عنف صندوق النقد الدولي. ففي العالم الثالث، في أمريكا اللاتينية، والعالم العربي، وأفريقيا عما قريب، يَعرف سكان هذا العالم أن الوسيلة الوحيدة للخروج مما هم فيه من بؤس وتخلف وموات هو اللجوء إلى العنف حتى وإن كانوا يدركون سلفا أنهم هالكون، أو سيُقتلون.
أما في الغرب فإن الحديث عن العنف محرَّم، بل وإن حركات الاحتجاج نفسها تمتنع عن الحديث في العنف. وبالرغم من ذلك فقد بدأت بعض الظواهر تتكشَّف علانية، كحالات الانتحار بين قادة المؤسسات الاقتصادية والإدارية، والعمال في المصانع جراء الضغط النفساني والاستغلال. بل ثمة حالات جديدة وغير مسبوقة من الانتحار ما بين رجال الدرك. فإذا كان رجال الدرك، وهم المكلفون بتوفير الأمن، ينتحرون لأنهم يعانون من الضغوط الاجتماعية التي تُمارس عليهم، فإن مثل هذه الحالة تحمل دلالات هامةّ !
 
2/ هل نستطيع تغيير المجتمع البورجوازي بدون اللجوء إلى العنف؟ أنت في "الديمقراطية والثورة" تبيِّن أن العلاقة جدلية ما بين هذه وتلك، إذ أن الديمقراطية تصبو إلى الثورة، كما تمتنع الثورة إذا ما نُزعت منها الديمقراطية، فهل البورجوازية ستترك لنا أن نصل بالديمقراطية إلى صبوتها، ألا وهي تغيير العالم بالطرق السلمية والسياسية دون أن تكون هي أول من يدوس على الديمقراطية عندما تكف هذه الأخيرة عن الاضطلاع بدور الأداة المفيدة لها في تكريس ثروتها وسلطتها كما حدث ذلك إبان الفاشية والنازية وفرانكو وسالازرت وبينوشه، إلخ..إلخ.
* *   نعم، هذا صحيح. والسؤال كما تطرحه أنت من الأهمية بمكان لأن فكرة تحويل الدولة والمجتمع بدون عنف، وبالوسائل السياسية وحدها، إنما هي فكرة من نِتاج الأيديولوجيا السائدة التي ترى أن الحفاظ على مصالحها يَقضي بأن يُحظَر على القوى المعارضة اللجوء إلى العنف. وكانت الحركات والقيادات العمالية بإيعاز من الأممية الثالثة تحدَّثت عن طرق سلمية هي نفسها صالحة لكل البلدان، وذلك نتيجة أوهامها في ما يتعلق بعلاقات القوى على الصعيد الدولي. علاوة على ذلك كان ذلك تنازلا تقدِّمه الأممية الثالثة للأيديولوجية البورجوازية السائدة. فيا له من تنازل، وما ذلك إلا للأسباب التالية:
لأن نيل الديمقراطية، أولا، لا سبيل إليه إلا بالتصويت العام. وهو الأمر الذي يَفترض أن الديمقراطية هي نظام سياسي ديمقراطي بكل معنى الكلمة، وليست الديمقراطية مغشوشة أو متلاعب فيها. الواقع إن العالم يفتقد إلى مجتمع يدَّعي لنفسه أنه ديمقراطي دون أن تكون ديمقراطيته مزيَّفَة أو أن تكون خدعة. فالخدعة ماثلة على الصعد الانتخابية والتمثيل. إن الانتخابات الرئاسية في فرنسا تفتقر إلى المقومات الديمقراطية، وهي نوع من الاستفتاء الرئاسي. والبرلمان الفرنسي لا يمثِّل الرأي العام الفرنسي، إذ أن ملايين الناس في فرنسا لا يمثِّلهم أحد في البرلمان. إن البورجوازية تًستخدم ديمقراطية هي نفسها التي تزيِّفها لمصالحها الخاصة. وعندما تكف هذه الديمقراطية عن تلبية مصالحها، فإنها لا تتردَّد أبدا عن التخلي عنها، أي أنها تلتحق بالفاشية كما حدث في إيطاليا، أو النازية كما حدث في ألمانيا، ناهيك بالديكتاتوريات من تلك التي كانت سائدة في البرتغال وأسبانيا وتشيلي، ثم سالازار، وفرانكو، وبينوشيه،  إلخ.
 
3/ ماهو الحل إذن؟ أي برنامج سياسي؟ هل نحن نبني استراتيجية تغيير للمجتمع البورجوازي بناءً على برنامج سلمي فقط حتى لو قاد الأمر إلى تزييف المجتمع؟
* *   كلا، إن موازين القوى هي التي تَفرض على القوة المعارِضة والثورية أن تقبل باللعبة السياسية للنظام الديمقراطي السائد بالرغم من كل عيوبه وعلله. ذلك أن دور النقابات في فرنسا على سبيل المثال ضمن موازين القوى هذه آيل إلى التقلُّص من حيث عدد العمال المنتسبين للنقابات، ليس لأسباب ذاتية فقط وإنما لأن التمثيل النقابي اضمحل بسبب تغيير في مجرى العمل. فالمرونة والحركة وغيرها من الأسباب جعلت من التزام العمال بنقاباتها أكثر خطورة. وهي شبه مستحيلة في المؤسسات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة. ففي المؤسسات الإنتاجية الكبرى أصبح من المستحيل أن يجتمع العمال لأن العمل أصبح مرنا.
ما هو الحل في مثل هذه الأوضاع؟ لا بد من استخدام كل الوسائل في المجتمع البورجوازي المزيَّف من أجل تغييره. الأمر الذي يستدعي بالتالي إحراز مكاسب مجتمعية والدفاع عنها، كحق الإضراب، أو مزايا ناجمة عن بعض حالات التأميم في مجال الخدمات العامة. وهذه كلها انتصارات عمالية يجب الدفاع عنها من أجل بث الثورة في المجتمع.
إذا كنا نستطيع إنجاز الثورة، أي أن نتخلص من البورجوازية بالأساليب السلمية، فإن هذا أفضل وأحسن. أما إذا ما كان ذلك متعذرا، فإن النفور من العنف ليس حلا، بل إن اللجوء إليه ضرورة لا مناص منها. ولابد في مثل هذه الحالة من الدفع بالديمقراطية حتى غاية المسار الثوري. هذا هو ما يعلِّمنا إياه الاتحاد السوفياتي والديمقراطيات الشعبية. فإن الثورة ما أن تُنجَز حتى تظهر الديمقراطية كمطلب وهدف لا بد من إحرازهما ضد سلطة الدولة، وضد السلطة البوليسية، ضد الدوغمائية وتكريس السلطة. ومن أجل سلطة فعليه للعمال. ذلك أن إنجاز ديمقراطية حقيقية أعلى من سابقتها البورجوازية المزيَّفة هو مآل الثورة الحقيقية. فإذا كان الهدف من الثورة هو العودة إلى الديمقراطية البورجوازية على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية أو أشكال متأتية من هذه الأخيرة، فإن الثورة تَفقد حينئذ مبرراتها. وهذا هو السؤال الذي يواجه الثوريين عندما نرى ما كانت عليه حالة الاتحاد السوفياتي مقارنة بما آلت إليه روسيا في عهد المافيات اليوم، في ما تعتقد أعدادٌ من المواطنين في روسيا أن الأمس كان أفضل من الحاضر. وثمة اليوم لدى هؤلاء حنين إلى الماضي.
 
4/ إنك تدافع اليوم عن جورج إبراهيم عبد الله وأكسيون ديريكت (العمل المباشر)، فيما يمتنع اليسار عن الدفاع عن هؤلاء. الأمر الذي يحملني على توجيه سؤال إليك لمعرفة ما رأيك باليسار الجذري عندما يحمل السلاح لمناهضة المجتمع البورجوازي؟ ما رأيك بالألوية الحمراء في إيطاليا، ونظيرتها في ألمانيا "فصائل الجيش الأحمر؟
* *   الأمر واحد في جميع الحالات وإن كان السياق هو الذي يميِّز أحدهما عن الآخر. فجورج إبراهيم عبد الله لبناني، والتدابير التي وَضِعَت لمواجهة التقدميين اللبنانيين أكثر مأساوية من تلك التي وُضعت لمواجهة اليسار الجذري في إيطاليا وألمانيا. أما في ما يتعلق بما يتراءى لنا من حركات، كفصائل الجيش الأحمر في ألمانيا، والخلايا الشيوعية في بلجيكا، ومثيلتها في اليونان، وأكسيون ديريكت في فرنسا، والألوية الحمراء في إيطاليا، فإنهم وصفوا هذه الحركات بأنها مغامرة، هذا إن لم يتّهموها بأنها ألعوبة بيد هذا أو ذاك من أجهزة السلطة. وقالوا أيضا إنها حركات مغامرة مقطوعة الصلة بالجماهير، وأن مصيرها آيل إلى الفشل. إن أصحاب السلطات الفكرية من شيوعيين واشتراكيين، اليسار برمته، أدانوا هذه الحركات. بيد أنهم، إذ أدانوها، لم يفكِّروا ما إذا كان هؤلاء الشبان الذين انخرطوا في هذه "المغامرة" يخوضون غمار معركة معادية للرأسمالية بتصميم جريء؛ وإن ما كتبوه من نصوص وبيانات تؤكد مدى تصميمهم على إلحاق الهزيمة بالنظام الرأسمالي. إنهم شيوعيون. أما أن يدانوا لأن أفعالهم لم تؤد إلى نتائج مثالية، فإن في مثل هذه الإدانة ظلم لهم، لأن هؤلاء الشبان كانوا يَعتقدون أن الجماهير ستسير من ورائهم. غير أن ذلك لم يحدث. ومَن عاد منهم إلى ماضيه بنظرة نقدية فإنه أعلن أنه لن يعود إلى المسار نفسه لأنه أدرك مدى فشله في تحريك الجماهير من ورائه. وكان بوسعهم في السبعينات والثمانينات أن يفكروا بأن مثل هذا التحرك الجماهيري ممكن. أما الإدانة التي يوجهها إليهم اليسار الرسمي الدستوري فإنها تُطلَق بيسر دون أن يبذل أي جهد طالما أن هذا اليسار لم يفعل نحو هؤلاء الشبان سوى أنه كان بذلك منفِّذاً للسياسة البورجوازية.
إن إدراك الدوافع والأرضية وراء تمرد هؤلاء الشبان متيسرة للفكر. وأنا بنفسي من صغت العريضة التي كانت كُتِبَت من أجل الدفاع عن أكسيون ديركت. وأعرف أعضاء هذه الحركة حق المعرفة. في قيادة الحزب الشيوعي تأسَّست لجنة قانونية للدفاع عنهم أمام المحاكم. أما سياسيا، فإن الحزب كان يدينهم. وأنا عندما أُشارك مع هؤلاء الشبان في مهرجان، فإن لكل منا لغته وخطابه. وما أردِّده دوما في هذه المهرجانات التي تضم بين المشاركين فيها فصائل الجيش الأحمر أو الشيوعيين المقاتلين في بلجيكا: إن هذه المجموعات سواء أكانت أخطأت أم لا، فإن ممارساتها تدعونا إلى إرساء مسألة العنف على أُسس واقعية وصحيحة. الحقيقة إن إدانتهم يراد من ورائها إدانة العنف، كل عنفٍ، إدانة مطلقة غير مشروطة. أي أن إدانة كهذه يراد من ورائها أن يُحظر على الحركات الثورية أن تلجأ إلى العنف، الأمر الذي يستدعي منا أن دحضه. فإذا كان هؤلاء الشبان قد ضلُّوا الطريق وأخطأوا، نعم، ليكن، إلا أن ذلك غير كافٍ كي تحملنا فرضية كهذه، مهما بلغت من الصحة أو الخطأ، على التخلي عن العنف الثوري (إنظر الفصل الخامس، العنف الثوري).
كان عدد من قادة الحزب الاشتراكي قد رفضوا التوقيع على العريضة التي حرِّرَت من أجل إطلاق سراح الأعضاء في أكسيون ديريكت، بما في ذلك أمينهم العام فرانسوا هولاند. أما إتيين باليبارفقد انتهى به الأمر إلى التوقيع عليها بالرغم من أنه يرفض وصف هؤلاء الشبان ب"الرفاق". وباليبار يرفض الأعمال الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون، ويصفها بأنها سيئة، وإن شرعيتها في رأيه ليست موضعا للنقاش والمفاوضات. وهو قال لي ذات مرة: إنني لن أتفاوض حول العمليات الانتحارية، فأجبته إن العمليات الانتحارية ليست موضعا للنقاش. إنها تخص الفلسطينيين وحدهم دون غيرهم. ولسنا نحن من نقول لهم كيف يجب عليهم أن يديروا معركتهم. الواقع إن اليسار الفرنسي يتهرب بصورة مستديمة، وهو لا يكف عن تلقين الدروس.
هذا اليسار ينظر إلى مسألة الضواحي على نحو مماثل. كان اليسار يَطلب من المغاربيين والسود أن يمتنعوا عن إحراق السيارات بدعوة أن السيارة التي أنت تحطِّمها ملك لعمِّك، وأن النادي الرياضي ملكك كي تتدرب فيه. إن هذا اليسار عاجز عن إدراك مدى ما وصل إليه هؤلاء الشبان من تمرد، حتى أنهم باتوا يحطِّمون كل شيء. وهذا برأيي أمر طبيعي. في مقال لي كنتُ نقلت عن امرأة تساؤلها عما يَحُول دون أن يذهب شبان الضواحي إلى الأحياء الراقية، حيث الرفاهية في الدائرة السادسة عشرة وضاحية نويي الباريسية للتحطيم هناك. أجبتها: إنهم لا يستطيعون الذهاب إلى هذه الأحياء لأنهم معدومو الإمكانيات المالية للانتقال عبر قطار الأنفاق إلى هذه الأحياء الراقية. وأنا لا يضرني في شيء أن يحطموا ما يريدون تحطيمه في نويي أو المصيف المتوسطي سان تروبيز، لأن ما يفعلونه جزءٌ من معركة طبيعية.
 
تاسعا: إســرائيل صــنيعـة الإمبريالية                                                                                                                      الفـلســطـينيُّون ضــحـية لـنظــام الإبــادة
 
1/ أنتَ منذ عهد الشباب تابعت في كتاباتك ومواقفك القضية الفلسطينية عبر تطوراتها، وترأست جمعية فرنسية للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ما هي الوقفات التي تريد أن تسجِّلها اليوم في ما يتعلَّق بتاريخ القضية الفلسطينية وتطورها؟ (31)
* *  الملاحظة الأولى: لقد أصبح من المؤكَّد أن الدولة الإسرائيلية من حيث وجودها هي حدث من صنع الإمبريالية. إنها صنيعتها. فلماذا هي لم تُشيَّد في مجاهل الأرجنتين، حيث أرض بلا شعب، وحيث تنتشر الخرفان والأبقار ليس غير؟! فلا أثر هنا لإنسان، وثمة متِّسع من المكان. لماذا هم اختاروا فلسطين لتشييد دولة إسرائيل؟ لقد تذرَّعوا بحجة مؤدَّاها أن الشعب اليهودي يعود إلى موطنه التاريخي والأصلي. وهذه ذريعة خدّاعة. فهي الأرض التاريخية للفلسطينيين بقدر ما هي أرض اليهود. بل إنها فلسطينية قبل أن تكون يهودية طالما كانت أرض الآراميين والفينيقيين. إن كل الشريط الساحلي لهذه المنطقة من آسيا ذو حضارة يعود تاريخها إلى ما قبل اليونانيين. وقد أثَّرت اللغة الآرامية في كل من اليونانية والعربية والعبرية على حد سواء. وفي هذه المنطقة من حوض المتوسط كان لا بد من محطة، أو جسر أو رأس حربة، أو حارس عسكري مكلَّف بمراقبة ليس المتوسط وحده، وإنما كل المحيط العربي لإسرائيل، بما يمكّن الإمبريالية من أن ترمي بثقلها، وتنفِّذ سياستها من أجل حماية مصالحها. وعندما ننظر إلى تاريخ إسرائيل، أي تطورها الاقتصادي والعسكري، وواقعة أن الإمبريالية تؤكِّد باستمرار أن إسرائيل يجب أن تبقى الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، إذا نظرنا إلى كلِّ  ذلك فإننا نَستخلص أن تاريخ دولة إسرائيل مكرَّس لتقسيم العالم العربي.
الملاحظة الثانية: إن القوة الرئيسة التي تدعم إسرائيل هي الولايات المتحدة كونها أقوى الدول الإمبريالية. وتتقاسم أوروبا مع الإمبريالية الأمريكية المصالح نفسها. لذا فإن أوروبا، بالرغم من انفتاحها بين الوقت والآخر على الفلسطينيين عبر المساعدات الاقتصادية والمالية وفي مجال تخطيط المدن والبناء، فإن الانفتاح ما يلبث أن يُعلَّق ما أن يرتفع صوت يطالب بالحفاظ على مصالح إسرائيل والدفاع عنها. وسياسة فرنسا، كما هو معروف، ثابتة، وهي لن تُقْدِم على أي عمل من شأنه أن يتناقض مع مصالح إسرائيل. ويجب أيضا ألا ننسى أبدا أن إسرائيل شُيِّدت لتوفير وطن لكل الشتات دياسبورا Diaspora) ) اليهودي في العالم. وللتدليل على ذلك يكفي أن نلاحظ أن يهود الشتات هم أضعاف أضعاف سكان إسرائيل. بل وإن عدد سكان إسرئيل مضخَّم بصورة اصطناعية. فنصف تعداد الروس الذين جاؤوا إلى إسرائيل للإقامة فيها ليسوا يهودا شأنهم شأن فلاشة أثيوبيا. والسلطات الإسرائيلية تعرف ذلك حق اليقين. كما أن يهود إسرائيل يخشونهم، ويعهدون إليهم بالخدمات المنزلية التافهة. وغالبا ما يحلُّون محل الفلسطينيين في أداء الخدمات. ولابد من أن نلاحظ هنا أن يهود الشتات في العالم لا يشبهون سواهم من المنفيين عن أوطانهم في العالم. ووجه الخلاف ما بين يهودي الشتات واللبناني المنفي، على سيبل المثال، هو أن الشتات اليهودي، خلافا للمنفيين في العالم الذي يُعِدُّون العدة في منفاهم للعودة إلى أوطانهم لدى بلوغ سن التقاعد، يصح أن نطلق عليهم تسمية منفيو الدولة. أي أن الغاية من الشتات هو خدمة دولة إسرائيل ومصالحها في الدولة المقيم فيها. استمع على سبيل المثال إلى دومينيك ستراوس كاهن، وهو يؤكِّد في العام 2004 :"إني أعتبر أن كل يهودي في العالم وفرنسا ملزَم بأن يقدِّم دعمه لإسرائيل. لذا فإن من الأهمية بمكان أن يتحمَّل اليهود مسؤوليات سياسية. وبالمحصِّلة فإني في حياتي اليومية، وفي الوظائف التي أشغلها، وعبر مختلف الأعمال التي أؤديها، فإني أحاول أن اُسهم بحجم متواضع في بناء إسرائيل". هذا الكلام يصح في كل يهود العالم. وهذا التضامن يحمل معه عقدة الذنب. وها هو هذا الأخير يترأس اليوم (جرى الحوار في نهاية العام 2007 ومطلع 2008) صندوق النقد الدولي. وقد أَعلَن أنه سيرشِّح نفسه إلى رئاسة انتخابات الجمهورية في العام 2012. طبعا ثمة أمثلة كثيرة من اليهود تشذُّ عن هذا المخطط العام. بالمحصِّلة فإنهم إذا كانوا يزعمون باسم الضرورة أن وجود إسرائيل  ضرورة  لا  بد  منها،  فلماذا  لا  يكون  إذن  للغجر  دولة ! ولأهالي  الباسك في فرنسا وإسبانيا  دولة !
الملاحظة الثالثة: إن الحروب التي اندلعت فوق أرض فلسطين ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين تَستند إلى افتراضية ضمنية، وهي التي تفسِّر السياسة الإسرائيلية كلها. كما تُفَسِّر السياسة الإمبريالية التي تستقطب الأنظمة العربية ما دامت هذه الأنظمة متواطئة معها. فلو أنها كانت ترفض أن يعيش الفلسطينيون هذا المصير لحالت هي دون ذلك، ولَمَا عَرف الفلسطينيون هذا المصير. فما هي الفرضية الضمنية؟ إنها بكل تبسيط تقول إن الفلسطينيين كمية زائدة عن اللزوم. أي أنهم سكان لا حاجة لنا بهم. فالإسرائيليون يَعْتَبرون الفلسطينيين على هذا النحو لأنهم يريدون احتلال أراضيهم. والإمبريالية تريد أن تتخلَّص من هؤلاء "المخرِّبين". فماذا عن العرب؟ لنذكر رد فعل الأنظمة العربية عندما نِشَرَت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها الذي يؤكِّد على الديمقراطية وتحرير المرأة. حتى الأنظمة العربية تَعْتَبر أن الفلسطينيين كمية زائدة لا لزوم لهم. كنت قد كتبت مقالا تحت عنوان "الفلسطينيون ليسوا كمية زائدة عن اللزوم". إن هؤلاء جميعاً لا يعرفون ماذا يفعلون بالفلسطينيين، كما لو أن المطلوب إبادتهم!!!
الملاحظة الخامسة: وهي ذات صلة وثيقة بالأوضاع في هذه المنطقة من العالم. انظر إلى أوضاع الفلسطينيين كلما جاء الحديث عنهم، اليوم كما بالأمس وقبل عشرين سنة، تلقاه أكثر تدهورا بصورة مطَّردة، إنها تسير من سيء إلى أسوأ. وهي حالة وحيدة فريدة في العالم. فإذا ما نحن قارناها بما كانت عليه الثورة الجزائرية المناهضة للاستعمار فإننا نجد – على سبيل المثال – أن جبهة التحرير الوطني الجزائرية كانت في حالٍ من التقدُّم المستمر. أما في الحالة الفلسطينية فإن التقدم معدوم، بل إنه يسير من تدهور إلى آخر أسوأ من سابقه. فبعد مرور ثمانية أيام على قمة أنابوليس، التي كانت محط آمال السلام، هاهي إسرائيل حسب أجهزة الإعلام تسمح ببناء مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية، والحبل على الجرار، من أجل استيعاب مئات وألوف العائلات اليهودية.
الملاحظة السادسة: لم يعان أي شعب في العالم من التنكيل ما عانى منه الشعب الفلسطيني. فالاستيطان استولى على أفضل الأراضي ودمِّر قرى فلسطينية عن بكرة أبيها. لقد أُرغم السكان الفلسطينيين بصورة منظَّمة ومستمرة على النزوح، فما المنفى الفلسطيني إلا نتيجة لممارسات الإسرائيليين. قصفوا بالطائرات والمدافع السكان العزِّل من السلاح ووسائل الدفاع، وسجنوا النساء والأطفال دون محاكمة، وكذلك منتَخبي الشعب من نواب وعُمَد ووزراء حتى رئيس الدولة الفلسطينية نفسه قد أُرغم على ملازمة مقر إقامته محاصرا بالدبابات الإسرائيلية. وكان يعيش تحت القصف، وكان مضطرا للتنقل على الدوام من حجرة إلى حجرة. هذا هو حال ياسر عرفات في المُقطَّع. ولم يكن في حينه ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية والرئيس المقبل للدولة الفلسطينية في المستقبل فحسب، بل كان علاوة على ذلك حائزا على جائزة نوبل للسلام!! أيُّ حائزٍ على جائزة نوبل للسلام حظي بمثل هذه المعاملة في العالم ؟! إن إسرائيل تنعم بكل الحقوق المزعومة، وهي لا تَحظر على نفسها أياً منها. أضف إلى ذلك أن الاعتداءات بأسلوب إصابة الهدف في قلبه بصورة مباشرة أو بالقنص الصاروخي من الطائرات المروحية هي ابتكار من صنع الجيش الإسرائيلي. ويراد من هذه العمليات قتل أشخاص بعينهم دون أية مراعاة لكل من يحيط بالهدف المطلوب، من أطفال وغيرهم. علاوة على ذلك فإن الإسرائيليين يُرغمون الفلسطينيين في القدس على بيع منازلهم بالتهديد تارة وبالترغيب تارة أخرى. فإذا كان البيع في مثل هذه الحالة خيانة، فإن من يبيع لا حول له ولا قوة. وأيا كان الأمر فإن حرمان الفلسطينيين من الملكية العقارية، وتهويد القدس خلال السنوات العشرين القادمة، يأتي في سياق توسيع المستعمرات. ثم إن أسلوب سلطات الاحتلال في مقاربتها للأراضي والأهالي، لا يتوانى عن اقتلاع أشجار الزيتون واستغلال اليد العاملة الفلسطينية. ثم إنها حرمت الفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية من العمل في إسرائيل، واستعاضت عنهم بعمال آسيويين. ناهيكم بأن الإسرائيليين هم الذين يستثمرون أرباح المنتجات الفلسطينية، وفي مقدِّمتها الزراعية. وفوق هذا وذاك إن إسرائيل تستولي على مياه الفلسطينيين، فهي تَعتَمد على 80 بالمائة من مصادر المياه الفلسطينية. أما تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق، منفصلة ومعزولة بعضها عن الآخر، بل إغلاقها وحظَر التنقل في ما بينها بحرية، فهي تقع تحت الرقابة المستمرة. إن هذا كله نظام فريد من نوعه في العالم. فالأراضي مسجونة محاصرة ومُغلَقة، حتى أن الخليل، التي تقع على مبعدة خطوات من نابلس، بحاجة إلى جامعة مستقلة. ومن المبتكرات الإسرائيلية في عالم الإيذاء، تأتي شبكة المواصلات البرية، حيث يُحظر طرف منها على بعض السكان في ما هي مفتوحة للبعض الآخر، والأنفاق محظورة إلا على الإسرائيليين، وثمة سياسة حظر على الجسور أيضا.
إنه، بالمحصِّلة، نظام للاستغلال والاغتصاب وحيد من نوعه في العالم، ولا شبيه له في أي بلد آخر. أما الجدار! صحيح أن العالم عرف ظواهر من هذا النوع في برلين وكوريا، إلا أن هذه الجدران كانت موضع اتفاق بين طرفين وحازت على موافقة دولية. لكن جدار العار الإسرائيلي الذي كان موضع إدانة في الأمم المتحدة، فإنه يتميَّز عن غيره بأنه يسير على حسب مخطَّط لخارطة يلبِّي المصالح التكتيكية لإسرائيل، أو الاقتصادية، أو توزيع المستعمرات، ناهيكم بالاستيلاء على الأراضي التي لم تغتصب حتى الآن. وقد رأينا في تحقيقات مصوَّرَة كيف يجتاز الجدار أرضا مملوكة لفلاح فلسطيني، فيفصل ما بينه وبينه أرضه المزروعة !! إنها أشكال من التعذيب والتنكيل المنظَّم. وقطار (تراموي) القدس يسير على خطا مسار كولونيالي، علما أن مشروع هذه الحافلة الكهربائية للركاب ممول جزئيا من مجموعة بوبليسيس Publicis الفرنسية. وتترأس هذه المجموعة السيدة إيليزابيت بادانتير (32). وهم يلقون علينا بعد ذلك خطابات أخلاقية في ما هم يفلسفون في واقع الحال نظام التنكيل والتعذيب الاستعماري. وثمة أيضا نظام التهجير المنظَّم، ولا ننسى أن الملايين من سكان فلسطين ما زالوا منذ عقود مشرَّدين يعيشون في المخيَّمات. وهذه حالة فريدة من نوعها في التاريخ. إن عمر المخيَّمات الفلسطينية يناهز الخمسين والستين سنة، علما أن 65 بالمائة من الفلسطينيين يعيشون اليوم دون مستوى الفقر حسب معايير الأمم المتحدة. ناهيكم والتدمير المنظَّم للمنشآت والبنى التحتية الفلسطينية من وزارات ومبان حكومية ومطارات. وإسرائيل لا تعوِّض أبدا عما خرَّبته بالرغم من أن الأسرة الدولية تطالبها بالتعويض. أما فلسطينيو المنفى فإنهم محرومون من العودة. ولا أحد يريد الحديث بجدِّية عن حق العودة. صحيح أن المجتمع الإسرائيلي لا يخلو من مبادرات شجاعة. إلا أن الحياة السياسية في إسرائيل تفتقد إلى الصراع ما بين اليمين واليسار. فالليكود وحزب العمال مسيطران على الحياة السياسة. وبيريز لا يقل رجعية وكولونيالية عن شارون وأولمرت أو سواهما. والفضيحة هي أن بيريز حائز على جائزة نوبل للسلام مع ياسر عرفات. لقد منحوا الجائزة للجلاد والضحية معا !! وكانت جنوب أفريقيا عَرِفت حالة مماثلة.
إن هذه اللائحة الطويلة، التي لم تنته، تُسَجِّل لسلسلة طويلة من الاغتصاب والتنكيل لا مثيل لها في التاريخ. وكان آخرها تقسيم فلسطين إلى غزة من جهة، والضفة الغربية من جهة ثانية.
 
2/ إن الحالة الفلسطينية تتخطى نظام التمييز العنصري إلى نظام الإبادة،
     * * إن هذه اللائحة إن هي دلَّت على شيء فإنها تدل على نظام الإبادة.
 
3/ إني أوُجِّه إليك سؤالا يستدعى منك ثلاثة أجوبة: لمَّا كانت إسرائيل صنيعة الإمبريالية كما أنت تقول، وهي تمارس دور الأداة بيد الإمبريالية، فهل السلام ممكن في مثل هذه الحال؟ وهل الدولتان مرشحتان للحياة والتعايش؟ وفي مثل هذه الظروف أليس حل الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية هو الحل الوحيد الممكن؟
**    نعم هذا هو رأيي. فأنا أعتقد أن تعرية أسطورة الدولتين أمر لازم أكثر من أي وقت مضى. لكن الأمور سارت في منحى آخر مخالف. فالجميع ينادي بحل الدولتين. وأنا أرى أن الأرض صغيرة إلى حد أنها لا تتسع لدولتين. فمساحتها تساوي أقل من إقليمين من الأقاليم الفرنسية. وبمنطق التجريد البحت فإن مثال إمارتي لوكسمبورغ وآندور غير صالح لفلسطين. وإن العامل المقرِّر والمحتِّم هنا بصورة رئيسة، والذي يَحُولُ دون نشوء دولتين، يأتي مما تنصبه إسرائيل من عراقيل ومعوقات أمام تشييد الدولة الفلسطينية. لذا فإن إسرائيل من حيث وجودها كان بصورة مُلْزِمَة، وبدون وَجَل، موضعا للمراجعة. ونحن لا نريد أن نمحو إسرائيل من الكرة الأرضية، إلا أننا نقول إن دولة إسرائيل كما هي عليه اليوم غير مقبولة لأن التعايش معها ضربٌ من المستحيل، ذلك أنها مبنية على مثال ونموذج القلعة. إنها دولة كولونيالية، إثنية، عرقية، لاهوتية وعسكرية. دولة لليهود مجهِّزة بقوة عسكرية تفوق بكثير قدراتها الذاتية من حيث عدد سكانها. إن عدد المجنَّدين فيها يفوق نسبيا تعداد الجيش الأمريكي. وهذا الجيش بالوعة مالية. فإذا كانت إسرائيل صنيعة الأمم المتحدة، فإن هذه الأخيرة هي التي سوف تلغيها. لذا فإن المطلوب تعبئة الرأي العام العالمي للمطالبة بدولة واحدة ثنائية القومية، ديمقراطية وعلمانية. وهذا هو المخرج الوحيد الممكن للنزاع مع إسرائيل. وإن من يتحدَّث اليوم عن حل الدولتين فإنما يروِّج للأساطير أو يكشِف عن نفاق مفضوح.
انظر مثلا إلى الحالة الراهنة في أيامنا هذه (نهاية العام 2007) في كل من غزة والضفة الغربية. لقد نجح الإسرائيليون الإمبرياليون في إنجاز عمل خارق للعادة ما كان لإنسان أن يتصوَّر مثيلا له قبل سنوات مضت. إنهم قسَّموا إلى قسمين ما لا يمكن اعتباره حتى اليوم دولة. وها هو القسم الواقع تحت رئاسة السيد أبو مازن يوافق على سحق القسم الثاني، غزة. إنه عمل خارق للعادة. فأبو مازن يطلب من إسرائيل تزويده بما يلزم من قوة لسحق غزة؛ وغزة، التي لا تتلقى المساعدة من أحد، تعرِفُ نظاما ديمقراطيا لا مثيل له في المنطقة من العالم، طالما انتَخَبَ الشعب الفلسطيني قادته. وحماس، مع أنها مُنتَخَبَة، تلقى اليوم معاملة العصابة التي اختَلَسَت السلطة!!
من أوجه التنكيل والاغتصاب التي لاقاها الفلسطينيون، أشير إلى أن الضغوط العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية التي مورست على الفلسطينيين كانت من القوة بحيث أن العقلية خَضَعَت للتراجع، ولحق النكوص بالأيديولوجيا. فإذا كان انتخاب حماس موضعا للانتقادات، فإن الحري بنا أن نتساءل ما هي أسباب نشوء حماس، وكيف تشكَّلت، والأسئلة نفسها تطال حزب الله في لبنان. إن كلا من حماس وحزب الله يُمثِّل مصالح شعبه – من جهة – لأن لا منافس له، وكانت الجماعات التي مارست السلطة من حول عرفات – من جهة ثانية – فاسدة، واستولت على ثروات الشعب الفلسطيني.
                      
                              
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                               هوامش الفصل الأول
 
1/ في مداخلته أمام مؤتمر اسطنبول بعنوان: "العراق من حيث هو البرهان" La Preuve par l’Irak، 18 تموز/يوليو 2004، http://lahaine.org/labica:  يبين جورج لابيكا أن الأبعاد الحقيقية والواسعة  لنتائج العدوان الإمبريالي على العراق غير مرئية، سواء من حيث مدى الفشل الذي مُني به العدوان الأمريكي أم من حيث نجاح المقاومة في إلحاق الخسائر به، لأن الواقع في علم السياسة - على حد قول جوزي مارتي José Marti - هو ما لا يُرى بالعين المجرَّدة.
2/ جاء في البيان الشيوعي لماركس وإنجلز(1848): إن البورجوازية محمولة بدافع البحث بصورة مستديمة عن مخارج لحاجاتها المتجدِّدَة، تجتاح العالم بأسره. إنها ملزمة بأن تجد لنفسها موطئا راسخا في كل مكان، وأن تستغل كل شيء، وأن تعقد صلات في كل الاتجاهات. إن البورجوازية تعطي الإنتاج والاستهلاك في جميع البلدان عبر استغلالها للسوق العالمية ميزة كونية. وبالرغم من القنوط الذي يعتري الرجعيين، فإنها جَرَّدَت الصناعة من قاعدتها القومية.
3/ الإنسانية حسب ما يرى لويس ألتوسير مفهوم غير ضروري. وكان الحزب الشيوعي في فرنسا طَرَق منذ نهاية الخمسينات من القرن العشرين موضوعات جديدة ما كان للحركة الشيوعية أن تتطرق إليها ما قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي (شباط/فبراير 1956)، منها العلاقة ما بين الحزب في فرنسا والكنسية الكاثوليكية، والصلة ما بين الماركسية والإنسانية، وذلك من أجل البحث عن تسويات سياسية مع اليسار بصورة عامة. وفي منتصف الستينات احتل موضوع المذهب الإنساني حيزا هاما في الحوار ما بين الحزب والمثقفين الشيوعيين، وتبنَّت اللجنة المركزية قرارا في هذا الموضوع.  وفي هذا السياق من الانفتاح نحو الدين والقيم يأتي جواب ألتوسير الذي يعرض لثلاث أخطاء في التحليل. الأول منها خطأ يتعلق بحذف الانتقادات الموجَّهة في أعمال ماركس وإنجلز لمفهوم الإنسانية الإيديولوجي الذي يلغي الصراع الطيقي. ويرافق هذا الحذف توكيد حاسم يُسقط ما عداه عندما تؤكد اللجنة المركزية على وجود ما تسميه ب"الإنسانية الماركسية".  ويرد ألتوسير بأننا نستطيع كي ما ننفض يدنا من كل همجيات العالم  أن نعلن مستعيرين لغة إيديولوجية بحتة أننا إنسانيون. بيد أن المسألة برأيه غير ذلك. "إن مصطلح المذهب الإنساني (أو الإنسانوية) قد لجأت إليه الإيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة بصورة مستدمية، بما في ذلك تفسيرات الماركسية من منظور البورجوازية الصغيرة، كي تقاتل بكل ما لديها من قوة وحتى الموت ضد مصطلح آخر، وهو حيوي للغاية لدى الثوريين، الأ وهو صراع الطبقات". إن الماركسية تفند الإنسانوية النظرية، وتتضمن مفاهيم علمية لا صلة لها بالمفاهيم الإيديولوجية للإنسانوية.
"الإنسان") ليس شيئا آخر سوى تصور إيديولوجي، استلهام فلسفي: "فالأفراد الذين لم يعودوا خاضعين لتقسيم العمل (بمفهوم الإيديولوجيا)، صوَّرهم الفلاسفة، كمثل أعلى، تحت عبارة "الإنسان" وفهموا كامل المسار الذي عرضناه لتوِّنا "الإنسان" ليس شيئا آخر سوى تصور إيديولوجي، استلهام فلسفي: "فالأفراد الذين لم يعودوا خاضعين لتقسيم العمل (بمفهوم الإيديولوجية)، صوَّرهم الفلاسفة، كمثل أعلى، تحت عبارة "الإنسان"، وفهموا كامل المسار الذي عرضناه لتوِّنا  على أنه تطور "للإنسان"، بحيث إنهم في كل مرحلة من مراحل التاريخ السابق أحلُوا "الإنسان" محل الأفراد الأحياء، وقدَّموه على أنه القوة المحركة للتاريخ. إلى حد أن "فويرباخ يخطىء...حيث يصف نفسه ب"الإنسان الجماعي"، ليعلن نفسه شيوعيا ويحوِّل هذا الاسم إلى محمول "لل"إنسان...وهو يتحدَّث عن "ال"إنسان بدلا من أن يحدَّث عن "البشر التاريخيين الفعليين"(إنظر معجم الماركسية النقدي، جيرار بن سوسان، جورج لابيكا، بيروت، صفاقس، دار الفارابي، دار محمد علي للنشر، 2003، ص 190، مدخل الإنسان.
4/ معاهدة بريانت  كيللوغ أو معاهدة باريس:  وقِّع عليها في باريس بتاريخ  27  آب/ أغسطس  1928 من قِبَل 15 دولة قبل أن تصادق عليها 63 دولة. وهي تدين استخدام الحرب كحل للخلافات الدولية، وتتخلى عنها في مجال العلاقات المتبادلة ما بين الدول من حيث هي أداة سياسية قومية. وتحمل المعاهدة اسم وزيري خارجية فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية اللذين كانا أول من وقعا عليها بمناسبة مرور عشر سنوات على دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى. ثم انضم إليهما كلا من بريطانيا وإيطاليا والاتحاد السوفياتي واليابان وبلجيكا وبولندا، إلخ. واستُخدِمت كقاعدة في محاكمات نونينمبورغ أو الجرائم ضد السلام. وفرنسا التي كانت تدافع بقوة عن عصبة الأمم عوَّلَّت في حينه (1925) الآمال على التقارب مع ألمانيا. وهذه المعاهدة التي تأتي ما بعد اتفاقية لوكارنو (أكتوبر 1926)، كان يراد منها جر الولايات المتحدة التي لم تكن بعد عضوا في عصبة الأمم إلى المشاركة في سياسة السلام في أوروبا. لكن المعاهدة بقيت حبرا على ورق، فقد انتهكتها اليابان وإيطاليا وألمانيا. ثم اندثرت تحت ركام الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من ذلك، فإنها تُعْتَبَر على صعيد القانون الدولي نقطة بداية لتحريم الحروب، ولتدخل الأسرة الدولية من أجل فض النزاعات المسلحة ما بين الدول.
5/جورج لابيكا، في قبو الأعمى    Dans la cave de l’aveugle، كانون الثاني/ يناير 2007، وهو  مقال له نُشِر في عدد من المصادر في العالم منها فرنسا، مجلة أوتوبي كريتيكUtopie critique ، كانون الثاني/يناير 2007- والحوار المتمدن، ترجمة حسان خالد، 18/4/2007- والبديل،25/4/2007.  يُبَيِّن الكاتب كيف تحوَّلت الديمقراطية الفرنسية في ضوء حملتي الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ربيع العام 2007 إلى هوة شاسعة تفصل بين الشعب والنُخَب المنتَخَبة بعدما سيطر حزبان على المجتمع والسلطات الدستورية، الحزب الاشتراكي المنبثق عن الأممية الثانية، وحزب "الاتحاد من أجل الحركة الشعبية" الذي ينحو منحى الليبرالية الجديدة وقد تخلَّص من أثار الديغولية الاجتماعية. حتى أن التناوب على السلطة أصبح مجرد لعبة سياسية يتقاسم أدوارها هذان الحزبان بقيادة سيغولين روايال ونيكولا ساركوزي اللذين يتشابهان من حيث الخطاب السياسي. ويرافق هذا التقاسم بالتناوب اختفاء الحدود المُمَيِّزة بين الأبيض والأسود، اليمين واليسار، لأن ما كان يُسَمَّى بيسار الحزب الاشتراكي  قد تخلَّى عن أمرين اثنين: أولهما مقاومة نمط النظام السائد والذوبان فيه، وثانيهما تخريب كل محاولة لتشييد جبهة يسارية معادية للنيوليبرالية تؤَهِّل اليسار لخوض الانتخابات ضد سيغولين روايال التي تقود حزبها عبر عملية الانتقال الليبرالي نحو نهاية كل مرجعية اشتراكية لديه. لكن المجتمع الفرنسي، "مجتمع الصراع الطبقي بامتياز"، يخوض في هذه الأثناء بصورة ضمنية حربه ضد هذه الهوة التي تجعل من رئيس الجمهورية ملكاً ووزارته ونوابه حكاماً بدون سلطات، وبين المواطن الذي يعيش حالة من الاستراحة السياسية الطويلة بين فصلين انتخابين مرةً كل خمس سنوات. فإذا ما نظرنا إلى نمط الانتخابات ووقائعها وقوانينها بعين نقدية لوجدنا أن المعطيات، ومنها النسبة العالية لمقاطعة الانتخابات التي تصل أحياناً إلى حوالي 30 بالمائة، والنسبة الملموسة من التصويت الأبيض الذي يُعتبر لاغيا دستوريا، تشير إلى أن المجتمع الفرنسي يحمل في أحشائه طموحات التغيير الراديكالي الذي يُعبر عن نفسه بين الفينة والأخرى بقوة في الشارع، كرفضه لمشروع الدستور الأوروبي في أيار/مايو 2005، ورفضه أيضا لقانون يُبيح لأرباب العمل استغلال العمال الشبان في بدء حياتهم المهنية، وغير ذلك من الدلالات التي تؤكد أن الثورة في فرنسا ما تزال حية في الأوساط الشعبية ولدى شرائح من المثقفين.
6/ جورج لابيكا، مابعد الانتخابات الفرنسية: حالة الطوارىء Après les élections françaises : l’Etat d’urgence، لو ساركوفاج، تموز/يوليو 2007  Le Sarkophage 
7/ العراق من حيث هو البرهان La Preuve par l’Irak  ، م.س.
8/ صدر لجورج لابيكا في العام 2007 كتاب تحت عنوان نظرية العنف Théorie de la                  violence. انظر الفصل الخامس، والملحق حيث عرضٌ للعمل المذكور. Georges Labica, Théorie de la violence, Jean Vrin, Paris, La Città del sole, Naples, 2007, 264 pages
9/ عقيدة مونرو Doctrine Monroe : رَسَمَ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الجمهوري جيمس مونرو في 2 كانون الأول/ديسمبر 1823 في خطابه السنوي السابع أمام الكونغرس، وكان يخاطب أيضا فيه الأوروبيين، الخيوط العريضة لدبلوماسية بلاده، والتي استمرت توجِّهها طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وأخذت هذه الخيوط العريضة اعتبارا من العام 1854 اسم عقيدة مونرو. وهي ثلاثة مبادىء: القارة الأمريكية مُغلَقَة أمام كل محاولة لاحقة لاستعمارها من قبل القوى الأوروبية، وكل تدخل عن طريق القوة من قِبَل قوة أوروبية فوق القارة الأمريكية يُعتبر عملا لا ينم عن الصداقة حيال الولايات المتحدة، وبالمقابل، فإن الولايات المتحدة لن تتدخُّل أبدا في الشؤون الأوروبية. وكان مونرو بذلك يستعيد ما قال به سابقوه من الرؤساء الأمريكيين، ولم تَأخذ هذه المبادئ صفة العقيدة إلا في منتصف القرن التاسع عشر عندما اشتعلت نزاعات مسلِّحة ما بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية فوق القارة الأمريكية. 
10/ حركة العمال الزراعيين المحرومين من الأرض، منظمة شعبية برازيلية تناضل كي يوضع بحوزة الفلاحين البرازيليين  المحرومين من الأرض مساحة لزراعتها. ويعود تاريخ هذه الحركة إلى الرق في البرازيل في القرن السابع عشر، حيث كان العبيد الفارين من الرق يتجمّعون في مناطق يُطلٌق عليها كيلومبوس quilombos، ليمارسوا الزراعة الأسرية على أسس من التعاون المتضامن. وقد ٌقمعت حركات الفلاحين العبيد الذين شيدوا مجتمعا موازيا ومستقلا في العام 1897. ومنذ العام 1955 تشكَّلت روابط فلاحية للتعاضد مع فقراء الفلاحين. وفي العام 1979 احتل الفلاحون المحرومون من الأرض بعدما هجِّروا من أراضيهم في ريو غراندي دو سول Rio Grande do Sul أراضٍ في مكالي بمساندة حركة تنتمي للاهوتية التحرر. وسرعان ما امتزجت هذه الحركة بالتعبئة الشعبية التي كانت تريد أن تنتزع الديمقراطية من الحكم العسكري الذي استمر ما بين 1964-1984. وفي العام 1984 شكَّل بصورة رسمية العمال الزراعيين في أول ملتقى لهم حركة العمال الزراعيين المحرومين من الأرض التي رسمت لنفسها مهاما، منها: محو الأمية، والتأهيل السياسي والنضالي للشبان والراشدين المحرومين من الأرض، وتنظيمهم في حركة تمارس حالات متنوعة من النضال السياسي في مجالات بناء المعسكرات، واحتلال الأراضي، وتأسيس المنظمات الشعبية، اقتلاع المزروعات التي تَعتَمد أسلوب الجنة العضوية المعدّلة، إلخ... . وهذه الحركة مستقلة عن الأحزاب السياسية والدولة والكنيسة. وتطالب بالإصلاح الزراعي. وهي حركة وطنية تمتد على كافة أراضي الاتحاد البرازيلي، وأممية تناضل إلى جنب كونفدرالية المنظمات الفلاحية اللاتينية CLOC، وفيا كامبيسينا Via Campesina . الإيطالية، وتمارس هذه الحركة الديمقراطية المركزية، وديمقراطية المشاركة. وتعارض المنظمة العالمية للتجارة وصندوق النقد الدولي، لأن الأولى تنهب الثروات الزراعية للبرازيل، فيما شارك الثاني في دعم الديكتاتورية العسكرية وفَرَضَت على البرازيل برنامجا اقتصاديا هو المسؤول الرئيس عن الأزمة المجتمعية التي تسيطر على البلاد. وتضم 1.5 مليون فلاح، منهم 300 ألف أسرة في الأراضي المستولى عليها أو المكتسبة،  و150 ألا في الأراضي المحتلة.
11/ جورج لابيكا، لبنان، ترجمة حسان خالد، الأخبار البيروتية، 6 تشرين الأول/أكتوبر 2006، وأُوتوبي كريتيك.Utopie Critique
12/ فولتير    Voltaire، فرانسوا ماري أرويِه الملقب بفولتير Fançois Marie Arouet ، 1694-1778، وُلِد وتوفي في باريس، هو أحد رموز عصر التنوير، ورئيس الحزب الفلسفي، ويبقى اسمه مرتبطا بمعركته لمناهضة ما هو دنيء، وصاحب الشعار القائل "لنسحق ما هو دنيء"، وذلك في إشارة إلى التعصُّب الديني. وكان يرى أن التسامح ضرورة لا مفر منها كي ما تُحرز الإنسانية والحضارة تقدما. وكان مناهضا للدين المسيحي والكنيسة الكاثوليكية في السياق التاريخي المعاصر له. وكان خصومة يرون فيه عدوا للدين والنظام الملكي وداعية للإفساد الأخلاقي. نُفي من باريس وهو في السبعين من عمره لدفاعه عن ضحايا التعصب الديني، ونشره لأفكار التنوير، ومنها علمانية الدولة والمدرسة العامة. واستقبله شعب باريس لدى عودته من المنفى في عام 1778 بالتصفيق. وكان على هذا النحو من أوائل المثقَّفين الملتزمين بالعمل من أجل نشر الحقيقة والعدالة وحرية التفكير. واعتبرته الثورة الفرنسية من روادها.
13/ بيير أوغوستان كارون دو بومارشيه Pierre Augustin Caron de Beaumarchais  ، 1732-1799،  وُلِد وتوفي في باريس، أحد رموز عصر التنوير، كاتب، ومسرحي، مؤلف تراجيديا وملهاة، وناشر، وعمل في مهنة الساعة، موسيقي، وسياسي، وجاسوس، وبائع أسلحة، وثوري. يرى فيه أحد قادة الثورة الفرنسية الأكثر تطرفا سانت بوف Sainte-Beuve  في مؤلَّف له بعنوان في الأدب الصناعي De la littérature industrielle منعطفا حاسما في تاريخ الأدب، لأن الكاتب يتحوَّل من متسوِّل يعيش على حساب البلاط والأغنياء المحسنين إلى صناعي ومدير للأعمال، وذلك في إشارة إلى امتهان بومارشيه لمهنة النشر. 
14/            جورج لابيكا، ما بعد الانتخابات الفرنسية: حالة الطوارئ، ساركوفاج، أيلول/سبتمبر 2007 Après les élections françaises :l’Etat d’urgence, Sarkophage, n° 2, 15 septembre 2007
15/ سمير أمين، من أجل الأممية الخامسة، ويليه نداء باماكو، لوتان دي سوريز، 2006، Samir Amin, Pour une cinquième internationale, Suivi de l’appel de Bamako, Le Temps Des Cerises, 2006
16/ المنتدى العالمي للبدائل: شبكة دولية لمراكز الأبحاث ومثقّفي الجنوب والشمال. تأسَّس في العام 1997، ويهدف إلى مساندة المشاريع التي تنبثق عن التلاقي الدولي ما بين الحركات الاجتماعية الدولية وغيرها من الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني على صعيد القاعدة. ويشكِّل حيزا لتبادل الأفكار والتنسيق واضعا تحت تصرف الحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية أدوات الاستعلام والتحليل في ما يتعلق بعولمة حالات متعدِّدة من المقاومة، ويسهم في نشر المعارف حول الصراعات الدولية قيد الإنجاز.
ويدعَم المنتدى العالمي للبدائل المسيرات التي تنحو في منحى من تلاقي الحركات الاجتماعية، ويشجعها، ويعمل أيضا من أجل توفير الفرص أمام انبثاق حالات متعدِّدَة من التطور الديمقراطي المستديم من حيث هو بديل للعولمة النيوليبرالية ولمختلف أشكال التمييز والسيطرة. ويرى المنتدى العالمي للبدائل في الحركات المشترَكَة للمواطنين، وفي مطالبها وتجاربها الاجتماعية والاقتصادية وما تطلقه من سياسات بديلة، جبهة قوية لديمقراطية عميقة في النظام العالمي، ونواة لمجتمع عادل ودائم. ويَندَرِج عمل المنتدى العالمي للبدائل في مسيرات المنتديات الاجتماعية وما يتمخض عنها من ديناميكية مجتمعية وسياسية. ويساهم المنتدى في الصراعات التي تناضل من أجل عالم من نمط آخر، وذلك بفضل الإعداد بصورة جماعية لأدوات المعرفة والإعلام والتواصل ذات الصلة بهذه النضالات، وبفضل توفير حيز دولي للنقاش حول الاستراتيجيات السياسية  للقوى المناضلة، ومبتكرات التجارب الشعبية. وإن هذه الأدوات النضالية وهذا الحيز يتوجِّه في المقام الأول نحو الحركات الاجتماعية وشبكات المواطنين المقتنعة بأن أممية النضالات – والعولمة من القاعدة – هي الطريقة الوحيدة لإسقاط موازين القوى التي تَرفع نظاما عالميا هو ظالم ومرفوض في آن واحد.
17/ المنتدى الاجتماعي العالمي: عُقِدَ في العديد من المرات في بورتو أليغري بالبرازيل في كل من العام 2001، و2002، و2003، و2005، وفي بومباي بالهند في العام 2004، وفي عدد من القارات بصورة متعدِّدَة المراكز في العام 2006، وفي نيروبي بكينيا في العام 2007. والمنتدى الاجتماعي العالمي هو بديل ( نقيض) مجتمعي للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُعقّد سنويا في شهر كانون الثاني/يناير في دافوس بسويسرا. ويهدف إلى التلاقي ما بين منظمات المواطنين من جميع أنحاء العالم من أجل الإعداد لتغيير مجتمعي للعالم. ويرفع المنتدى شعارا يقول: "عالم من نمط آخر ممكن". وتبنى المنتدى الاجتماعي العالمي ميثاقا في ختام أول منتدى له في العام 2001، ينطلق من مبدأ مؤدَّاه أن المنتدى حيز أو فضاء مفتوح وليس حركة أو حزبا، وهو ليس تنظيما هرميا، وليس قائدا، حسب ما يتبين من ميثاقه.
18/ البدائل Alternatives، أسَّسَها فرانسوا هوتار François Houtart في العام 1994، وهي منظمة غير حكومية من أجل التضامن والتطوير الدولي، ترفع بدورها شعار عالم من نمط آخر ممكن، وتعمل من أجل التضامن والعدل والحق في العالم. وفرانسوا هوتار المولود في بروكسيل في العام 1925 قس كاثوليكي، وعالم اجتماع ماركسي، ومؤسِّس مجلة ألتيرناتيف سود Alternatives Sud  (بدائل الجنوب)، ومركز القارات الثلاثة centre tricontinental، ويُعتبر من مؤسسي المنتدى الاجتماعي العالمي ، وعضو في محكمة برتراند رسل  للدفاع عن فلسطين.
19/ شبكة المثقَّفين والفنانين للدفاع عن الإنسانية Red de Intelectuales y Artistas en Defensa de la Humanidad : جاء في تعريف الشبكة بنفسها ما يلي: هي حركة فكر وممارسة ضد كل أشكال السيطرة. وجاءت تلبية للمهمة التي كانت الجمعية العامة للملتقى العالمي للمثقَّفين والفنانين للدفاع عن الإنسانية المنعقد في كاراكاس في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2004 رسمتها. وقد ضم هذا الملتقى ممثلين عن اثنتي وخمسين بلداً من مختلف الثقافات. وارتأت الجمعية العامة أن من الضروري بناء حاجز للمقاومة في مجابهة السيطرة الدولية التي تزعم اليوم أنها َتفرض نفسها، وأن تخطو خطوة على مسار من هجوم يتحرك عبر ممارسات من النضال ملموسة، وتشييد شبكة من شبكات لنشر المعلومات والأخبار والأعمال الفنية الثقافية والتنسيق والتعبئة، شبكات يسيُّرها المثقَّفون والفنانون مع القوى الاجتماعي والنضال الشعبي بما يكفل استمرار هذه الجهود والتنسيق ما بينها في حركة دولية:    " للدفاع عن الإنسانية".
وكانت هذه الشبكة انبثقت بمبادرة من مثقفين لامعين من المكسيك، كانوا دعوا إلى لقاء يَجمَع بين المثقفين والفنانين للدفاع عن الإنسانية يومي 24 و25 تشرين الأول/أكتوبر 2003 في العاصمة المكسيكية، وذلك في وقت سابق على العدوان على العراق، وما كان سبق ذلك من غزو لأفغانستان، وما قبل التهديدات الحربية الموجَّهَة لإيران وغيرها من البلدان، وفيما كان العداء لكوبا وفنزويلا في حالة من التصعيد، وفيما تمارس حكومة الولايات المتحدة حربا إعلامية واقتصادية ومالية لبسط ومد خططها الرامية إلى السيطرة على العالم. وتلا هذا اللقاء اجتماع في عاصمة فنزويلا كاراكاس ما بين 26 و28 كانون الثاني/يناير 2004 ضمَّ كتابا من فنزويلا وكوبا لإحياء أفكار رواد الثورة في هذين البلدين وفي أمريكا اللاتينية قاطبة، بوليفار   Bolivar ومارتي Marti، وانتهى هذا الملتقى إلى استخلاص نتيجة مؤدَّاها أن توسيع الإمبريالية لحربها "الوقائية" من أجل السيطرة على الطاقة في كوكبنا يُملي لزوما تعبئة مثقفي أمريكا اللاتينية ومعهم كل القوى المعنية تعبئة حازمة، وتوسيع جبهات التضامن. وعلى إثر ذلك، التقى، ما بين 26 و 30 نيسان/أبريل 2004 المدافعون عن الديمقراطية والحقوق الإنسانية والعدل الاجتماعي من مختلف الجامعات والمعاهد ووسائط الإعلام  والمؤسسات الثقافية والحركات الاجتماعية القادمين من أوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، في كل من مدينة أُوفيِيِّدو Oviedo وخيخون Gijon وآفيليس Avilés، في أول حلقة دراسية دولية من أجل تقدُّم العالم، وذلك تحت عنوان:"الإنسانية في مواجهة الإمبريالية"،  وتبنُّى هذا الاجتماع  النداء الصادر عن الملتقى الدولي للدفاع عن الإنسانية الذي كان انعقد في العاصمة المكسيكية في أكتوبر 2003.
وبالإضافة إلى دفاع الشبكة في ملتقاها المنعقد في كاراكاس (كانون الثاني/يناير 2004) عن حقوق الشعوب بالحرية والعدالة والمستوى اللازم من الغذاء والعناية الطبية والطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب والتعليم والاستغلال العقلاني للثروات الطبيعية، فإن ملتقى كاراكاس أَعرب عن تضامنه مع نضال الشعوب في العراق وفلسطين وأفغانستان وغير هذه من البلدان التي تقاوم الاحتلال والعدوان الإمبريالي، كما أدان الإرهاب وفَضَحَ تهمة الإرهاب الملصقة بمقاومة الشعوب ونضالها.
والشبكة تناهض الإمبريالية، وسياساتها النيوليبرالية، والحرب، والإرهاب، والمشاريع الثقافية الاجتماعية من النمط الأحادي، واحتكار المعرفة. وتدعم الحركة نضال شعوب العالم، وتتضامن مع مسارات التغيير المجتمعي، وتساند التنوع الثقافي والحقوق الثقافية، وتشجِّع حملات التضامن، وتَنشر بين أعضائها النداءات والبيانات والبلاغات، وتَمٍنَح هذه القضايا أوسع الضمانات.
إن الأزمنة التي يعيشها العالم لا تكتفي بالبيانات والتنديد بالظلم. إنها أزمنة القرارات والالتزامات والأفعال الملموسة التي تملي – حسب ما تراه الشبكة في وثيقتها - الانخراط بصورة فعالة في اللجان والمنظَّمات على مستوى القواعد المنتشرة في جميع أنحاء العالم، بدون زعامات فردية. والشبكة مستعدة للتعلُّم، ومرافقة نضال الشعوب ضد المُحتَلِّين، ومع العمال والفلاحين، من أجل التحرر من الاحتلال والاستغلال، والنبذ الاجتماعي، مع النساء والرجال وشعوب من السكان الأصليين والمحلِّيين، وسلالات من أصل إفريقي وعربي، والمهاجرين والمرحِّلين، والأقليات الجنسية، والأطفال بدون حماية، والذين يطالبون بالخبز والكرامة، والطاعنين في السن، والمصابين بالعجز، وضحايا التجارة بالجنس، وهؤلاء كلهم هم الأبطال الرئيسين للنضال المجتمعي لشبكة الدفاع عن الإنسانية.
ويُعهد إلى فرع الشبكة في فنزويلا مهمة تشييد وتعزيز وتدعيم نظام وطني وأممي لنشر الأخبار والاتصالات المتداخلة ما بين المثقَّفين والفنانين والعمال والحركات الاجتماعية والجماعات المنظَّمَة، والمؤسسات العامة والخاصة، والمنظمات المدنية وغيرها من أنماط العمل، أو الجمعيات التي تُعنى بالدفاع الواعي الفعال والشامل عن الحياة، والتنوع الثقافي، والسلام، والحرية، والعدالة، وسيادة الشعوب. والشبكة على هذا النحو تَعمَل من أجل بناء جماعي لعالم من نمط آخر ممكن. عالم من نمط آخر ضروري من أجل إنجاز الإنسانية بصورة كاملة. وَيدعم ويُشَجِّع الفرع في فنزويلا كل الإيديولوجيات والحركات الاجتماعية أو الممارسات التي تعمل في العالم من أجل الدفاع عن الإنسانية. وتشارك الشبكة في كل أشكال النضال ضد السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية للإمبريالية. وكانت أعمال الشبكة في اجتماعها المنعقد في عاصمة فنزويلا كاراكاس في شهر ديسمبر من العام 2004 تعَّهدت بالعمل من أجل الدفاع عن كوكبنا، واندماج الشعوب، واقتصاد تحرري وللتحرر، والسيادة والعدالة الدولية، الوحدة في التنوُّع، والثقافة، المشاركة الشعبية، تعدُّد مصادر الأخبار ومعيار الصدق فيها، المعرفة، السلام، والذاكرة (http://humanidadenred.org/).
20/ اجتمع ممثلو الأحزاب الشيوعية والعمالية لبلدان جنوب وشرق المتوسط ومنطقة الخليح والبحر الأحمر في العاصمة اليونانية أثنيا يومي 26 و27 كانون الثاني/يناير 2002 حيث تبنوا قرارا بالتضامن مع الشعب الفلسطيني.
21/  يشير هنا جورج لابيكا إلى كتاب جاك أتالي، كارل ماركس أو فكر العالم، الصادر في العام 2005،  Attali jacques, Karl Marx ou l’esprit de monde, Paris,Fayard . ويشير لابيكا هنا أيضا إلى المحاضرة الي ألقاها إتيين باليبار تحت عنوان:"لينين وغاندي، لقاء لم يَحدُث" في المؤتمر الرابع لماركس الدولي المنعقد في جامعة نانتير في العام 2004Etienne Balibar, Lénine et Gandhi, une rencontre manquée,Congrès Marx International IV,2004 .
22/    FO و CFDT: الأولى "القوة العمالية" Force ouvrière (FO)  تأسَّست في العام 1947، ثالث النقابات العمالية الفرنسية من حيث أهميتها العددية، وهي، من حيث أصولها التاريخية، فرع إصلاحي ضمن النقابة العامة للعمال سين.جي,تيه CGT  منذ تأسيس هذه الأخيرة في العام 1895. ويعود السبب الرئيس وراء انشقاقها في العام 1947 إلى اعتبارات تتعلق بالاستقلال عن الحركة الشيوعية التي كانت دخلت للتو في معركة مجابهة مع الرأسمالية وخطة مارشال، بعد مرحلة وجيزة من الوفاق الوطني في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.  والكونفدرالية الفرنسية للعمل  Confédération française démocratique du travail (CFDT)  ، هي أول النقابات العمالية الفرنسية من حيث تعداد منتسبيها، تأسَّست في أعقاب الحرب العالمية الثانية إثر انشقاق عن الكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين التي كانت تأسست في العام 1919 لمناهضة النقابة الشيوعية. ويأتي تأسيسها تلبية لتيار كان يطالب بانفصال الحركة العمالية عن الكنسية وتبني العلمانية.
23/ انظر الملحق تحت عنوان  الماركسية التحليلية marxisme analytique.
24/  والتر بينديكس شونفليز بينيامين WBendix Schö-;-nflies Benjamin، انظر الملحق.
25/  تيودو  آدورنو. انظر الملحق.
26/  ماكس هوركهايم
27/  هبرماس
28/ مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية:
29/            روفانداسيونه  Partito della Rifondazione Comunista ، والمعني هنا هو  Fausto Bertinotti45
30/  جورج لابيكا، الديمقراطية والثورة Démocratie et révolution  : انظر الملحق
31/ جورج لابيكا يترأس جمعية Comité de vigilance pour une paix réelle au Moyen-Orient
32/ السيدة إيليزابيت بدانتير، هي رئيسة مجلس إدارة الشركة الإعلامية بوبليسيسPublicis  منذ العام 1996، وثاني المساهمين في المجموعة، حيث إنها تملك 10 بالمائة من أسهمها. وتُعتَبَر واحدة أكبر أثرياء فرنسا (واحدة من خمسمائة أكبر الثروات في فرنسا). 
33/  جورج لابيكا، الديمقراطية والثورة، باريس، لوتان دي سوريز (زمن الكرز)، 2003
Georges Labica, Démocratie et Révolution, Paris, Le Temps des cerises,  2003 ، انظر الملحق حيث عرض للكتاب المذكور.
34/ جورج لابيكا، مقدمة ل/امبريالية أعلى مراحل الرأسمالي ( دراسة في متناول كافة الناس) تأليف لينين
V. Lénine, L’impérialisme stade suprême du capitalisme(Essai de vulgarisation),  introduction Georges Labica, Le Temps des cerises, 2001
 
 
 
 

---

---

---

التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي

---

التعليقات

---

1 - السيد حسان شاتيلا
فؤاد النمري ( 2016 / 1 / 26 - 16:36 )
طالما تحدث الماركسيون عن النضال ضد الإمبريالية فإن حديثهم لن يصب بغير طاحون الرجعية والقوى الظلامبة متمثلة بحزب الله وملالي إيران
إن أي ماركسي يلم فقط بأبجديات الماركسية يدرك تماماً أن الامبريالية قضت نحبها في سبعينيات القرن الماضي بل كان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي برئاسة ستالين قد قرر في تقريره للمؤتمر العام للحزب الشيوعي التاسع عشر في أكتوبر 1952 أن تنهار الامبريالية في وقت قريب أبكر من السبعينيات .

الوصول إلى الاشتراكية والشيوعية لن يكون بغير طريق -المانيفيستو الشيوعي اليوم- الذي أعلنته في صحيفة الحوار المتدن بتاريخ 25 أغسطس 2015 تحت الرابط

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=481978

تحياتي

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا