الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه وحكمة الإغريق الأولى.. 3

محمود العكري

2016 / 2 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


و هكذا ينتج مع هذا التفسير فكرتان أساسيتان لا تنفصلان، حيث تفيد الفكرة الأولى أن كل شيء صيرورة، و الثانية أن الوجود هو وجود الصيرورة، و لا أثر للوجود خارج دائرتها، أو لا وجود للشيء فيما وراء المتعدد. و هذا ما يعبر عنه قول هيراقليطس حين يذهب إلى أن إعتبار الأشياء بأسماء ثابتة كما لو كان لها زمن ثابت، هو من قبيل الفهم الخاطئ، و حتى النهر الذي هو محط نزول للمرة الثانية، ليس نفسه كما كان لأول مرة، إذن كل شيء موجود في تغير مستمر، و لا شيء باق على حال ثابتة.
و إذا كان بارميندس يفهم الوجود على أنه وحدة ثابتة، فإن الفهم الهيراقليطي يذهب إلى اعتبار الوجود دائم السيلان، و الشيء الواحد لا يتحول إلى شيء آخر فقط، بل إن الشيء الواحد لا يستقر لحظة واحدة على حال واحدة، و إنما ينقلب باستمرار من حالة إلى أخرى، فالشيء يكون حارا و يتحول إلى بارد، ثم يتحول من جديد إلى حار و هكذا دواليك، و عليه فإن كل شيء يشمل ضده و يحتويه، فالشيء في تحوله إنما يتغير من ضد إلى ضده.
و هذا يعني أن كل صيرورة تولد من صراع الأضداد، و الصفات المحددة التي قد تبدو دائمة تعبر فقط عن تفوق مؤقت لأحد عناصر الصراع، و لكن تفوق عنصر على آخر لا يوقف الصراع و إنما يستمر في أبديته، و ذلك التقابل أو التضاد هو الذي ينشأ عنه الوجود، و عليه فإن الوجود هو مبدأ الصراع أو النزاع بين الموجودات.
و في تفسيره للوجود، يتجاوز هيراقليطس كل الحدود المنغلقة، ليفهم العالم بشكل فني، من خلال رؤية جمالية، و بفضل استعارة رائعة هي استعارة اللعب، فالعالم هو لعبة الفنان و الطفل، التي تعرف الصيرورة و الموت، تبني و تهدم دون أي اتهام أخلاقي و داخل براءة دائمة العافية، فالطفل يرمي لعبته للحظة ثم ما يلبث أن يلتقطها منساقا وراء نزوة بريئة و الفنان يعيش لحظة شبع ثم تنتابه الرغبة نحو الإبداع، و هكذا تلعب النار لعبتها الأبدية تبني و تهدم بكل براءة و هي من وقت لآخر تكرر لعبتها مرة أخرى .
و إذا كان أنكسيماندريس قد قال بثنائية عالمين مختلفين، فإن التفسير الهيراقليطي قد نفى ازدواجية العالمين، فعالم المتعدد و الصيرورة هما حقيقة واحدة، و لا يمكن اعتبارهما وهما أو ظاهرا، و في المقابل لا وجود لحقيقة خالدة تكون جوهر ما وراء الظاهر .
و إذا كان بارميندس أيضا، قد فسر الوجود و أدخله سجن المفهوم المجرد بطريقة مريضة كليا، فإن هيراقليطس أدرك حقيقته بحدس و نشوة بدلا من الملاحظة و الاستنتاج و الصعود عبر درج المقولات المنطقية، لقد أثنى نيتشه كثيرا على هذا التفسير، مبينا أنه تفسير صائب إلى حد بعيد لأنه يعلن إثبات الحياة و تأكيد قيمتها من حيث اعتباره العالم الظاهر هو العالم الأوحد و الحقيقة الوحيدة، أما العالم الحقيقي فهو مجرد أكذوبة .
فالعودة إلى الإغريق انطلاقا من الحاضر، تعني أولا، أن ثمة صلة ما لهذا الحاضر بذلك الماضي، أو بعبارة أكثر دقة، أن ثمة حاضرا بكيفية عقلانية ما رأى نيتشه، أن ذلك الماضي البعيد هو المسئول عن تشكيلها، و لما كان ذلك الماضي الإغريقي يضم عددا من الفلاسفة يحمل كل منهم نظرته الخاصة إلى الوجود، رأى نيتشه أن تلك النظرات كلها يمكن إيجازها بنظرتي هيراقليطس وبارميندس، إذ تمثل فلسفة كل منهما، اللحظة و الفهم النقيض للآخر إنها لحظة صراع الصيرورة الهيراقليطية مع الوجود البارميندي لحظة وحدة العالم و النظر إليه بوصفه حقيقة غير مقسمة، و لحظة وجود عالمين منقسمين أحدهما حقيقي و الآخر مجرد ظاهر زائف، و إذ يفسر كل صراع بين قوتين أرضيتين ماديتين أو مفهومتين عن انتصار إحدى القوتين على الأخرى، انتهى الصراع بانتصار بارميندس على هيراقليطس " فأصبح الكون كله يعد موجودا ثابتا، أما صورة هيراقليطس فقد اندثرت، و لم يحاول أحد من الفلاسفة أن يبعثها و يدعو لقبولها بنفس الحماسة التي دعا إليها مبدعها " .
و هكذا فرق أفلاطون من بعده بين عالمين، عالم المثل الحقيقي، و عالم الظاهر الزائف، ثم نمت و ترعرعت هذه الفكرة في عقول الفلاسفة على مر التاريخ فأصبح كل فكر ميتافيزيقي منذ بارميندس مرورا بالمسيحية إلى كانط، قد قبل نظرية ثنائية العالم و طورها، فهناك إلى جانب عالمنا الوهمي المتغير المتناهي و الزائل، عالم حقيقي، خالد، لا نهاية له، و بلغة الدين هناك إله. يقول نيتشه " إن تقسيم العالم إلى عالم حقيقي و عالم ظاهر... ليس سوى فكرة من وحي الإنحطاط" ، و في حقيقة الأمر، فإن رذائل الفلسفة تعود إلى مبالغة مجنونة في تقدير العقل.
أما مسألة قبول الفكر الفلسفي لنظرة بارميندس دون خصمه هيراقليطس، فيبدو أن الأمر يرجع في أصله إلى مسألة تتعلق بالخوف و الشجاعة العقليين، إذ أن " هذا التجاهل لفلسفة هيراقليطس، ينم عن شعور بالخوف من التحول و الصيرورة، ذلك لأن الكون منقسما إلى جواهر و أشياء يضفي عليه ثباتا يريح العقل والحواس و يجعل إدراكه و التعامل معه أمرا هينا، أما لو تصورنا أن التغير الدائم هو الذي يسود فعندئذ يفر كل شيء من أمامنا و ينجرف في تيار الصيرورة، فلا تستطيع أن تثبت منه جزءا تتعامل معه أو تسيطر عليه" .
العالم إذن يعيش الآن تحت عقلانية ما ورائية متعالية، تصادر العالم الأرضي و تستحوذ على كل قيمه انطلاقا من كونه وهميا، ظاهرا، يستمد قيمته كلها من ذلك العالم الماورائي الحقيقي الذي يؤلف الأصل بالنسبة له، و لما كانت هذه النظرة إلى العالم هي الموضع الكامل للرؤية النتشوية، الرؤية المضادة لرؤية بارميندس و أفلاطون، فإن قلبا للقيم لابد أن يحدث على يديه، و هكذا ستكون الحاجة ماسة إلى ثلاثة و عشرين قرنا، لكي يتوصل نيتشه، أفلاطون المضاد إلى قلب المقاييس، و إلى أن يقول بالطابع الوهمي للمثل، و إلى أن يعتبر أن الفن يمثل الواقع الوحيد و أنه الحياة.
و في حقيقة الأمر، لقد كان لنيتشه مبرراته المقنعة، لا في نقد عقلانية عصر الحداثة فحسب، بل و في الرجوع إلى الإغريق لإصلاح مفاهيم و أخطاء الحداثة إنطلاقا من المبادئ النوعية الخاصة للفكر الإغريقي، إذ أن الجمالية في فكر نيتشه، و هي إحدى أهم الوسائل الفعالة في إصلاح العقلانية الحديثة المتطرفة نشأت من صعوبة ترجمة مبادئ الفهم العقلاني و العلمي و التنويري إلى مبادئ أخلاقية و سياسية ملائمة عمليا، و من هذه الثغرة بالذات ينجح نيتشه لاحقا في إيصال رسالته الضخمة بكل تداعياتها، و مؤداها ببساطة، أن للفن و المشاعر الجمالية القدرة على تجاوز الخير و الشر معا فالجمالية إذن هي المخرج و الخلاص، و هي الرد " على طابع الفوضى العميق في الحياة الحديثة و على عجز الفكر العقلاني عن التقاط ذلك " .
يقول نيتشه " هل تعلمنا شيئا مما كان الإغريق يتعلمون في فنونهم ؟ هل تعلمنا أن نتكلم مثلهم ؟ و أن نكتب مثلهم ؟ هل تمرسنا بفنون المبارزة في المحادثة، في الجدل ؟ هل تعلمنا التأثر بجمال اعتزاز مثلهم ؟ " . فالعودة إلى الإغريق إذن تحمل غايات مركبة، في مقدمتها " استعادة صورة الفيلسوف، الصورة الأقدم والأبعد عهدا، إنها صورة المفكر ما قبل السقراطي " ، لأن هذا الأخير كان يحكم على الحياة و يدينها باسم القيم العليا، و لما كانت العقلانية السقراطية والأفلاطونية و التي سنأتي على ذكرها في البابين الثاني و الثالث تنتصر منذ ذلك الحين و تشيد قيمها في الحياة الأوروبية حتى عصر نيتشه سعى نيتشه وصفه مطلبا أعلى له " إلى إعادة الاعتبار لقيمة هذا العالم و استعادة مكانته الضائعة بالتناغم مع تأسيس الثقافة الأوروبية على أسس بديلة قوامها تأويل جديد يمجد الألم و الأرض و الأشكال الجميلة " .
خلاصة القول، أن العودة النتشوية إلى الإغريق لإصلاح الفلسفة، هي عودة بالأساس إلى هيراقليطس و ذلك من أجل قلب قيم العقلانية الأوروبية من خلال مبادئه الفلسفية الكبرى و أسلوبه الشعري الحدسي في طريقة التعبير عن الوجود و رؤيته الجمالية إلى الكون و الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف