الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالم يتجه إلى الدمار تحت راية الأصولية الدينية

عماد يوسف

2005 / 11 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم يكن مجيء جورج بوش الإبن إلى الرئاسة في أمريكا في العام 2000 بمحض الصدفة، ولم ’يعاد انتخابه مرة ثانية في عام 2004 أيضاً بمحض الصدفة، ولم يأت ِ شارون إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل و هو صاحب التاريخ المديد في القتل وسفك الدماء أيضاً بمحض الصدفة، و يتكرر النموذج، هنا وهناك ولو اختلفت الأوجه والتطلعات، ولكن يبقى القاسم المشترك هو المرجعيةو الأصولية الدينية، وتوظيفها سياسياً، لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وأحلام امبراطورية، ’يلاحظ ذلك في أوروبا، هذه القارة التي دفعت ما يقارب الثلاثمئة عام من تاريخها لبناء مجتمعات مدنية علمانية حرّة، نجدها اليوم تتجه شيئاً فشيئاً بإتجاه الدين واستدعاءه للتوظيف السياسي، ونفاجأ بأنه يلقى رواجاً غير معهود في مرحلة ما قبل الربع الأخير من القرن العشرين، الانتخابات الألمانية الأخيرة تؤكد ذلك، عندما تغلب التيار المسيحي الرؤيا والتطلع على تيار المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر، كما كدنا نلامسه مع الانتخابات الفرنسية الرئاسية الأخيرة، حين خاض لوبان المرشح الرئاسي الفرنسي معركته الضروس مع جاك شيراك، وكاد يفوز لولا الوعي المسؤول لبعض التيارات السياسية والمدنية الفرنسية، وفي الشرق، كان مجيء الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في إيران بأغلبية شعبية كبيرة خير دليل على الردّة الأصولية الدينية عند الشعوب بإتجاه التقوقع نحو مكوناتها اللاهوتية التي انتصرت على المشتركات الوطنية والمدنية بين الناس في الوطن الواحد، وتالياً في علاقتها بينها وبين الشعوب الأخرى . النموذج العراقي_ الايراني في التقارب المبني على وحدة المذهب الشيعي بين شيعة العراق والشيعة الفرس في ايران، كان أقوى بكثير من المشتركات الوطنية والقومية التي جمعت بين سنة العراق وشيعته من جهة، وبين العراقيين العرب وشركائهم في العروبة في الدول العربية الأخرى من جهة ثانية . يحضرنا مثال آخر يلقى تأييداً شعبياً كبيراً في مصر، حيث نرى في الفترات الأخيرة أن تيار الإخوان المسلمين يرتع في بيدر أخضر ويانع في أرض مصر، ويمكن أن يكون له مستقبل في السلطة السياسية وقرارها في المستقبل القريب، والأمثلة تكثر في معرض الخوض في هذا الصدد، حيث نقرأ دوماً أن العالم اليوم وأنظمته المدنية العلمانية تتجه شيئاً فشيئاً نحو الانحسار ليشغل مكانها أنظمة ودول تقوم على العامل الديني المشترك بين الشعوب.
لم يكن انتاج أشخاص من مثل بن لادن، والظواهري، والزرقاوي، تبنت مشروع الصراع الديني وشرّعت القتل والتدمير طريقاً إلى الانتصار على الكفّار ( بحسب توصيفهم ) ، إلاّ ردّاً على تجذر التناقضات التي أنتجها غياب المشروع الإنساني العالمي في تحقيق بعض العدالة في ادارة شؤون هذا العالم ومقدراته الاقتصادية، مضافاً إلى ذلك سيطرة النزعة التفوقية الحضارية والاستعمارية بأشكالها الجديدة من الدول العظمى على دول العالم وخاصة الضعيفة والنامية منها، والتي جسدتها " العولمة المعاصرة بكل تجلياتها" في الربع الأخير من القرن العشرين، بعد أن سيطرت القوى الرأسمالية الكبرى عرّاب النظام العولمي الجديد على موازين القوى، سياسياً، عسكرياً، واقتصادياً، في غياب كلّي للأنظمة الاشتراكية التقدمية، والتيارات التي لحقت بها في كل بقاع العالم والتي أعطت على رغم ضعفها قدراً من التوازن السياسي والاجتماعي في الصراع العالمي على مدى ما يقارب القرن والنصف بعد إطلاق البيان الشيوعي في منتصف القرن التاسع عشر، وبداية المدّ الاشتراكي والماركسي والشيوعي . يقودنا هذا إلى التساؤل المشروع في الآلية التي ’يحكم فيها هذا العالم، والنمط الذي تنشده الشعوب في حكامها، فلو لم يكن بوش وشارون ونجاد والجعفري وغيرهم يتمتعون بحوامل اجتماعية شعبية واسعة، لما وصلوا إلى كونهم رؤساء دول، وأصحاب قرار ينبثق من الفكر الأصولي الذي يحملونه، ويستميتون لجعله يتمتع بأولوية مقد سة في أدائهم السياسي والفكري، يأتي ذلك بالتأكيد من جنوح البشرية بإتجاه مكوناتها الأساسية التي كانت إلى زمن قصير موقع إدانة لا يمكن المساومة فيها عند الكثير من المجتمعات والدول .
تتحمل العولمة الفكرية والسياسية جزءاً كبيراً من مسؤولية جنوح الشعوب بإتجاه الإحتماء من خطر الآخر، ولا يجد سبيلاً في التوحد مع مناصرين له إلاّ في العامل الديني، بل والمذهبي والطائفي في غالبية الحالات، هذا الآخر الذي تماهى اليوم بأشكال كثيرة وغير واضحة المعالم، فرؤية عالم غير متوازن، يحتوي الكثير من المفارقات والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، يساهم في إلغاء الروح الإنسانية في التضامن والتكاتف والتعاطف البشري، هذه المفاهيم التي وجدت تربة صالحة لها مع بدايات القرن التاسع عشر والعشرين من عمر البشرية لم تعد تذكر اليوم، فجنون المصالح التي أرست قواعدها العولمة المعاصرة، لم تكن موجودة في مرحلة التوازن السياسي والعسكري والاقتصادي الذي كان قائماً قبل انهيار جدار برلين، وتداعياته من انهيار للإتحاد السوفييتي، ومنظومة الدول الاشتراكية مع وبعد هذا الانهيار . فمنطق الأمس بالوقوف مع الدول في سبيل التحرر وتقرير المصير، لم يعد ذو قيمة في عالم اليوم الذي تحكمه قيم المصالح العليا التي تلغي كل الاعتبارت التي لا تتقاطع معها، من هنا نجد " مثلاً " ؛ المهادنة والتساهل في إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة إسرائيل ، من قبل دول كثيرة كانت سابقاً تؤكد على ضرورة منح الشعب الفلسطيني حقوقه أولاً، وتحرير أرضه، وتقرير مصيره ، ولكن منطق المصالح السياسية والاقتصادية، هو الذي جعل الباكستان، تلك الدولة الإسلامية الكبرى تقفز فوق هذه الاعتبارت لتفتح حواراً مع إسرائيل بوساطة تركيا، وهذه المصالح هي نفسها التي جعلت الكثير من البلدان يتغاضى عما حصل في العراق، من قتل ودمار تجاوز كل المعايير الإنسانية، وتجاوز حتى ذكريات التاريخ البشري من حروب ومجازر، كل هذا على مرأى من العالم أجمع الذي كان يقبض ثمن الصمت القاتل !! وينتظر كارثة مشابهة ليقبض أثمان أخرى على حروب ومجازر في منطقة أخرى من هذا العالم . يدعونا هذا إلى التأمل العميق في مصير العقل البشري، وإلى أين يتجه بجنونه المعاصر، مع غياب عنصر التوازن الأساسي في عملية الصراع على الثروات ومقدرات العالم، فقيم الرأسمالية المعولمة تنتج إنساناً لا يعرف من عالمه سوى صراع البقاء الذي يتجلى في أبسط مقومات الحياة الأساسية ، وهو قوته اليومي، مع حفاظه على علاقته وإنتماءه الديني بحسب مورثاته التي تشرّبها في بيئته، وقد لعب ليبراليو اليوم دوراً بائساً في تحويل الطاقة البشرية والإنسانية للشعوب بإتجاه تحقيق الذات إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وإلاّ كان الفناء، أو البؤس مصيره المحتم، ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول والمجتمعات ومنظوماتها السياسية والاقتصادية، من هنا تسمو المصالح الذاتية لمجتمعات بذاتها على المصالح والمصائر المشتركة بين شعوب الأرض وشعوب القومية الواحدة والتاريخ المشترك " كمجتمعات منظومة الدول العربية "، أو شعوب المنطقة الواحدة " كالهند والباكستان "، أو حتى المجتمع الواحد " كالتجربة العراقية ..
ليس المشروع الديني المتطرف سوى وسيلة للإستقواء بمن تختلج صدورهم بنفس الروحانيات التي تتوحد لإنتاج كائن يلتقي مع الآخر في علاقته اللاهوتية الواحدة فقط، ويحضرنا هنا مثالاً حياً ومعاصراً عن الرئيس الأمريكي بوش الإبن عندما قام بتعيين هاريات مايرز رئيسة للمحكمة الامريكية العليا، حيث خاطب الجمهوريين قائلاً : إن من ضمن الاسباب التي تحتم عليهم تأييد تعيين هاريات مايرز رئيسة للمحكمة العليا الاميركية هو «دينها».. ومعروف عن هاريات انها مسيحية متدينة؟ أما المحقق الاميركي السابق كينيث ستار، الذي يعمل الآن عميدا لواحدة من كليات القانون بأميركا، فقد قال في برنامج اذاعي للمحافظ المعروف جيمس دوبسون ، عن ان هاريات مايرز تستحق التأييد لتعيينها قاضية للمحكمة العليا لأنها «مسيحية متمسكة بالدين بقوة ، وستكون مصدرا لارتياح ومساعدة الناس في الجانب الديني في مختلف انحاء البلاد( عن نيويرك تايمز، توماس فريدمان)،" هذا المكون كان قد ألغي بعد فصل الدين عن الدولة في أوروبا، التي أنتجت مشروعها التاريخي الكبير في العلمانية، ليأتِ مجموعة من المحافظين الدينيين مع هؤلاء الذين انتخبوهم ليدمروا هذا النتاج البشري والحضاري الإنساني العظيم ."
ليست النظرية الماركسية منهجاً علمياً واجتماعياً تحليلياً مهماً في هذا الصدد وحسب، بل يمكن أن تكون مرجعية كبيرة ومهمة في تحديد فواصل علاقات البشر والمجتمعات ببعضها من خلال تحديد الأسس التي يمكن أن تبنى عليها العلاقات المتناقضة بين الناس، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأشكال أو أنماط إنتاج الطبقات والفئات التي تتصارع فيما بينها، تتجه البشرية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى خطر الوقوع في حرب كونية شاملة، أو دينية إلغائية وتكفيرية لشعوب على أخرى، دون أن يستطيع هؤلاء تحديد الأهداف و الأسباب التي يتصارعون من أجلها، أو دون إدراك لتصور مسبق حول ماهية الوجود البشري وغريزة البقاء عند كل فئة على حدة، فالعقل الإنساني فقد الكثير من الوعي، ويحتاج إلى إعادة تأهيل فكري وفلسفي عميق، أكثر مما كان بحاجة إليه في زمن هيغل وماركس وروسو ومونتسكيو وفولتير وغرامشي ونيتشة وغيرهم الكثير من فلافسفة عصر التنوير الأوروبي، وقبلهم إبن خلدون وابن رشد وغيرهم في العالم العربي والاسلامي ، إن مزيجاً من نظرية ليبرالية علمانية مبنية على منهج تحليلي ماركسي ، مع إعادة لقراءة التاريخ من فوكوياما قبل أن يعلن نهايته، قد تكون مفيدة للنظام العالمي الجديد في ثورة المعرفة الاستهلاكية الخالية من كل مقومات الفكر الإنساني لإنسان اليوم . وقد يكون ما زال هناك فرصة أمام البشرية لإنقاذ ماء وجهها بأن تتحرر من ترسبات عولمة العقل الاستهلاكي الذي بناه رأسماليو العالم الجديد، وأن تنطلق ثانية لقراءة ما تيسر من تراث الفكر الإنساني الذي يمكن أن يسير بالبشرية بإتجاه مشروع يبقي على بعض المنظومات الأخلاقية الإنسانية التي كافحت البشرية آلاف السنين حتى أنتجتها، ومن غير الحق، أو العدل أن يقدم بعض الذين يعتقدون بأنهم يخدمون الله على إلغاء هذه المكتسبات الإنسانية في سبيل مصالح فردية وفئوية لقلة من مشايخ الدين، وأباطرة المال والحرب .

عماد يوسف / كاتب سوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح