الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اللاعنف، الإرهاب، المقاومة والعنف الثوري - حوار مع جورج لابيكا 

حسان خالد شاتيلا

2016 / 2 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


                                              الــفــصــــل الـســـادس  ‏
‏            فـي الـلاعــنف، الإرهــاب، الـمــقـاومــة والعــنف الـثــوري - حوار مع جورج لابيكا    ‏
‏                                  حسان خالد شاتيلا
 
                       في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
 
 
 
‎              ‎‏      ‏‎              ‎‏  ‏‎             ‎‏                أولا - العــنف والـلاعــنف
‏ ‏
‏1/  يرى الفيلسوف الماركسي إتيين باليبار في كل من لينين وغاندى أكبر وجهين اثنين لنظرية ممارسة ‏الثورة في النصف ‏الأول من القرن العشرين. وكان كل من الاثنين أول من بدأ أثناء حياته نقاشا ما يزال ‏يتردَّد ‏حتى اليوم في عالم يجد فيه العنف لنفسه "حيزا بنيويا". والقاسم المشترك بين "هذين ‏النمطين" ‏أن كل منهما يدعو الجماهير إلى انتهاك الشرعية السياسية المجسَّدة بالدولة، لينين ‏عن طريق ‏‏"ديكتاتورية البروليتاريا"، وغاندي عبر "العصيان المدني"، في سياقين تاريخيين ‏غير متشابهين إلى ‏حد بعيد. ما رأيك بمثل هذه المقاربة؟ هل هي تشق الطريق أمام حل مسألة ‏العنف واللاعنف؟
‏***  إن الأول كالثاني يعجز عن الإفلات من الأجوبة المُحرِجَة التي تواجه ما ينادي به من فعل. ‏فالغاية ‏التي تبرِّر الواسطة تُقحم لينين من حيث العجز عن الالتفاف على العنف أو الحؤول ‏دونه. والمعادلة ‏المستحيلة ما بين الغاية والواسطة تَفشَل لدى غاندي في احتواء العنف. وفي ‏الحالتين، فإننا نبقى شبه ‏مُعدَمين من الأجوبة أمام الحركات الجماهيرية وما تتضمنه من ‏‏"مسالة سياسية معقَّدة".‏
‏2/   أنتَ ترى أن من أوجه التبسيط المفرط  أن نرجع بمشكلة العنف واللاعنف إلى لينين ‏وغاندي من ‏حيث أن كل منهما يُمثِّل نمطاً أو نموذجاً لهذا المذهب وذاك، وأن نقصر المسألة ‏على هذين الزوجين.‏
‏***  إن إشكالية العنف/اللاعنف هي الشغل الشاغل لعصرنا الراهن. ومن الأمثلة على ذلك ما ‏نشب من ‏جدل شديد في إيطاليا على إثر كراس تحت عنوان "الحرب والرعب" ‏La guerra è ‎orrore‏ (صدر ‏بتاريخ 13.12.2003)، بقلم أمين عام حزب "إعادة البناء ‏الشيوعي"(ريفوندازيونه) ‏Rifondazione‏ ‏فاوستو بيرتينوتي ‏Fausto Bertinoti ‎‏ حول ما مارسته المقاومة ضد الفاشية الإيطالية – حسب ‏الشكوك السائدة - من أعمال عنف ‏وتعذيب. وفي هذا الكراس، فإن بيرتينوتي يدين غضب الجماهير ‏المسعورة في انتقامها من ‏الفاشيين، كما يدين كل لجوء إلى العنف. إن أعداءنا – كما يكتب بيرتينوتي – ‏هما الحرب ‏والإرهاب كونهما نِتاج العولمة. "إن العنف بجميع أشكاله غير فعَّال لأن الحرب أو ‏الإرهاب ‏يعيدان امتصاص العنف الذي يُبْطِل السياسة ويلغيها (...) وليس من الصحيح أن الإرهاب ‏يتحدث ‏باسم الشعوب المُضطَهَدَة". والرد الوحيد هو "السلام من شعب السلام"، و"الخيار" ‏الوحيد هو ‏‏"اللاعنف". وفي حديث لبيرتينوتي إلى صحيفة الحزب الشيوعي الإيطالي (لونيتا) ‏L’Unita، بتاريخ ‏‏28.09.2004، تراه يؤكِّد "إن أعداء بوش ليسوا أَصدقاءنا". ويَذهب ‏مدير مجلة (ألتيرناتيف)‏‎ ‎Alternative‏ البروفيسور دومينيغو جيرفولينو ‏Domenico ‎Jervolino‏ في المنحى نفسه عندما ‏يؤكد في محاضرة له ألقاها في المؤتمر الرابع ‏ل"ماركس الراهن"، قائلا: "إن الجواب إذا ما اقتصر على ‏الرد الانتقامي الذي يأخذ بمقولة ‏العنف مقابل العنف، ليس برأينا جوابا فعالا (...) يجب قطع العنف من ‏جذوره بفضل ممارسة ‏أنشطة تنشر اللاعنف". ‏
وهذه الأطروحة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ترفض الاستيلاء على السلطة من أجل بناء ‏مجتمع جديد، ‏حسب ما يذهب إليه جون هولويي‎  John Holloway ‎في كتابه‏‎ ‎‏"تغيير ‏العالم بدون الاستيلاء على ‏السلطة". ولا يختلف كثيرا عن هذه الأطروحة دانييل بنسعيد  ‏Daniel Bensaïd ‎‏ الذي يدعو في عمل ‏له بعنوان "نفاذ صبر بطىء السرعة" ‏Une lente ‎Impatience‏ إلى "عنف داجن" إذا ما تعذّر إلغاء ‏العنف من جذوره على المدى المنظور، ‏وذلك بفضل "تطوير ثقافة العنف المسيْطَر عليه".  وغير خاف ‏أن الغاندية ماثلة على أرضيةٍ ‏من هذه الأفكار.‏
إن أنصار اللاعنف اليوم يتَّفقون مع بيرتينوتيو ويدافعون مثله عن نظريتهم المعادية للعنف، من ‏حيث هي ‏نتيجة للَّوحة السوداء للعولمة  وما يرافقها من عنف وخراب، آخذين بعين الاعتبار ‏مجموعة من العوامل، ‏ومنها الطبيعة الطبقية للعولمة، وانعدام التعايش بين الرأسمالية ‏والديمقراطية أو التعايش غير الممكن ‏بينهما، والاشتراكية كبديل عن البربرية، ودور الولايات ‏المتحدة في حالة الحرب والسيطرة الإمبريالية، ‏وضرورة فتح آفاق ثورية. وكانت اللجنة ‏السياسية للحزب الشيوعي الإيطالي (روفوندازيوني) ألَّحت على ‏العلاقة ما بين العولمة ‏والحرب، مندِّدَة ب"أُصولية السوق والأصولية الدينية" على حد سواء، داعية ‏إلى تعبئة ‏معادية للإمبريالية‎ ‎‏‎(‎‏Liberazione,15.12.2001,p01‎‏‎.‎‏
  ونحن لا يسعنا، من جهة أخرى، إلا أن نقاسم هؤلاء مشاعر النقمة والغضب حيال تكاثر ‏الجرائم ‏الإمبريالية التي أصبحت منهجية، وحرب بوش "إلى ما لانهاية"، وسياسة العقوبات ‏والحظر والتطويق، ‏وغوانتانمو وأبو غريب. إن هذه الأعمال "الإرهابية" تثير كراهية ‏مشروعة. فعلى الصعيد التاريخي، ‏تؤكِّد السنوات الأولى من الألفية الثالثة إلى أي مدى تختلط ‏قمة الحضارة الإنسانية وانفجار حالات من ‏العنف لا مثيل لها في القرون الماضية. يضاف إلى ‏ذلك هذا الضمير المتألِّم للشيوعيين جراء ما ارتكبته ‏الحركة الشيوعية من تجاوزات باسم ‏‏"الغد الأفضل". إن النفور من العنف ليس سوى الدرس المُستقى ‏من تراكم هذه التجارب. ‏
هذا هو السبب الأول وراء معاداة العنف اليوم. أما السبب الثاني فإنه نظرية لا أكف عن ‏تردادها، وهي: ‏إن العنف ليس مفهوما واضح التعريف. فالعنف، من حيث هو اصطلاح أو حد، ‏يحيلنا إلى كثرة من ‏الأشكال، من أكثرها دموية، إلى أكثرها وداعة، من القنبلة إلى نظام ‏الانضباط في المصنع، من جريمة ‏قاتل مجنون إلى النظام والعلاقات الرأسمالية للإنتاج. والواقع ‏أن العنف لا وجود له إلا عبر وضع معيَّن. ‏ويتمخَّض عن ذلك بالنتيجة مقاربتين اثنتين للعنف.‏
المقاربة الأولى تذهب إلى القول إن معارضة العنف باللاعنف يقود إما إلى السباحة في عالم ‏الميتافيزيقا، ‏أو إلى إثبات الطهارة.. إما إلى إخفاء العجز، أو إلى الاستسلام للنظام القائم. ‏فالعنف لا يَستغني أبداً عن ‏الصفة المضافة إليه أيا كان هذا العنف. وتعريف العنف بأنه ‏‏"القوة" لا يعدو كونه إزاحة للمشكلة من ‏مكان إلى آخر مع الإبقاء عليها بعيدا عن التعريف. ‏وإن القواميس التي تُعَرِّف العنف تكتفي بتعداد حالاته ‏كلً منها حسب مجالها الخاص بها، ‏وتَسْتَبْعد منه بنيته ونظامه، وذلك عملا بالقول المأثور: إن الروح ‏الجميلة معدومة اليدين. ‏
وليس من المستغرب أن المثقفين في أمريكا اللاتينية، وهم يشاركون في أغلب الأحيان ‏شعوبهم عذابها، ‏لم يَسْتقبلوا كتاب هولواي "تغيير العالم بدون السيطرة على السلطة" ‏بحفاوة. إنهم يعرفون حق المعرفة ‏أن كل قيادة بما في ذلك السلطة، وبوجه خاص سلطة الدولة، ‏ليست موضعا لإدانتها بصورة مطلقة. ‏فهنود الشياباس  في المكسيك- على سبيل المثال -  ‏لم يخرجوا من ملاجئهم حيث كان الجيش المكسيكي ‏يحاصرهم فيها بصورة لا مثيل لها ما أن ‏تبدَّد حماس اليسار الغربي لقضيتهم. بل، وحتى أصحاب نظرية ‏اللاعنف أنفسهم  لا يفوتهم أن ‏يقيسوا حدود نظريتهم تاركين بعض المجال لتسرب العنف إليها. إن دافيد ‏تورو‎ David ‎Thoreau ‎‏ (1817- 1862‏‎ ‎الملقَّب ب"آدم الجديد" و"روبنسن المعاصر"، ‏صاحب ‏فكرة "العصيان المدني"، وهو ملهِم غاندي، قد ساند الفوضوي جون براون ‏‎ John ‎Brow‏ ‏على إثر مهاجمته لمعسكر باسم "حق الثورة". ولم يخش من تبرير الدماء إذا ما كانت ‏الأحداث ‏تمليها. وكان الكومت ليون تولستوي (1828- 1910) الذي تراسل مع غاندي، قد ‏شارك من حيث هو ‏ضابط في العمليات ضد متمرِّدي شاميل، ودافع عن سيباستوبول. ألم يمجِّد ‏في "الحرب والسلام" الحرب ‏الوطنية ضد نابليون؟ وكان المهاتما في الهند- حسب ما يلاحظ ‏إتيين باليبار- قد مني بالفشل رغم الانتشار ‏بصورة عظيمة لعقيدته التي تنادي ب"عناق ‏الحقيقة‎" ‎ساتياغراها‎ Satyagraha) ‎با"لامتناع عن إلحاق ‏الإذى"‏‎ ‎‏آشيما‏‎ AShima. ‎‏ بل، وإن المهاتما غاندي نفسه لم يَستبعد العنف وقد برَّره أحيانا. "إني ‏أُجازف – على حد قوله-  ‏ألف مرة بارتكاب العنف على تهجين عرق بكامله"‏‎ Hind Svarag, ‎‎040820) ‎‏. و"إذا لم ‏يبق من خيار – حسب ما هو يقول- سوى العنف أم الجبن، فإني أنصح حينئذ ‏بالعنف"‏‎ ‎‎(Young India, 190820)‎‏. ‏
إن منطق اللاعنف قاد زعيما مثل غاندي الذي لم يحدِّد لنفسه موقفا بين الطرفين المتنازعين ‏أثناء الحرب ‏العالمية الثانية إلى كتابة ما يلي: " لقد قَتَل هتلر خمسة ملايين يهودي. إلا أن ‏اليهود كان حري بهم أن ‏يَهِبُوا أنفسهم جماعات جماعات إلى سكين الجزَّار. وكان حري بهم أن ‏يلقوا بأنفسهم من تلقاء أنفسهم إلى ‏البحر من أعلى الصخور (...) كان من شأن ذلك أن ‏يستنهض العالم أجمع والشعب الألماني(...) والواقع ‏أنهم سقطوا بالملايين كيفما ‏اتفق"(‏Fisher L., Life of Mahatma‏  ‏‎ (Ghandi, 1951  trad. ‎Française ‎‎1951‎‏. إن عقيدة تولستوي على غرار عقيدة غاندي دينية. إنها الإيمان المسيحي ‏لدى ‏تولستوي، ومحبة الآخر والبشرية، وهي تُدين الشر والعنف الثوري والفن المعاصر ‏والجنس. ‏ووراء اللاعنف لدى غاندي عقائد هندية تقول بالتقمص وتحرِّم كل اعتداء على حياة ‏الآخر. ‏وبالرغم من أن موضوعة اللاعنف قديمة من حيث صلتها الوثيقة بالعالم الآخر، فإن لائحة ‏طويلة ‏من العنف تتراءى أمام ناظرينا في الكتاب المقدَّس، حيث يدعو موسى من منفاه إلى أخذ ‏السلاح، و"أن ‏يقتل كلٌ أخاه وقريبه". وهو الأمر الذي يحمل بول ريكور ‏Paul Ricoeur‏ ‏على التساؤل "ما إذا كان ‏صاحب اللاعنف ليس سوى رجل شديد الصفاء يعيش على هامش ‏التاريخ" (‏Histoire et véirté, ‎Paris, Seuil, 1955,p. 23‎‏).‏
والمقاربة الثانية تقول إن العنف ليس خياراً. فالدعاوى الكريمة والفاضلة التي تَنهى عن العنف ‏حسب ‏الموروث عن غاندي، سواء تلك التي جاءت عن "نداء الحائزين عن جائزة نوبل من أجل ‏ثقافة اللاعنف ‏لحماية الأطفال"، أو قرار منظمة الأمم المتحدة بشأن قرن لثقافة السلام ‏واللاعنف من أجل أطفال العالم، ‏أو "بيان 2000" الذي يدعو إلى تحويل ثقافة الحرب والعنف ‏إلى ثقافة اللاعنف والسلام"، إن هذه ‏الدعاوى عاجزة عن تجاوز عتبة النوايا الحميدة. إذ إن ‏المغلوبين والمُتَسَلّط عليهم ليسوا أبدا أمام خيار ‏العنف أم اللاعنف. فالعنف المُنَظَم والبنيوي ‏سواء أكان عسكريا أم سلميا يحكمهم ويسيطر عليهم. و"إن ‏الفقر هو أقصى حالات العنف" ‏حسب ما يقول لاهوتي التحرر غوستافو غوتييريز ميرينو ‏‎ Gustavo ‎Gutierez Merino ‎‏  ‏‎ ‎في حديث له لصحيفة لاناسيون دي بوينوس آيريز ‏La Nacion de ‎Buenos Aires, ‎‎110104‎‏.‏‎  ‎وكان أبونا سقراط يقول قبل ما يزيد عن عشرين قرن "إننا لسنا ‏شريرون ‏طواعيةً". ولا يشكوا معذبو الأرض من أي مرض نفساني، فمرضهم سلاسلهم ‏وسيتخلَّصون ‏منها، ومعها عبوديتهم. وفيما كان لينين يكتشف في العام 1917 الثورة عن طريق العنف، ‏كان ‏غاندي بأسلوب فريد من نوعه ولا يقارَن بغيره يكتشف الثورة بدون عنف. لكنه فرَّغ – حسب ‏ما ‏يلاحظ ر. حبشي‎ R. Habachi ‎‏اللاعنف من أي معنى، طالما هو لم يأت على ذكر ‏للثورة بكلمة واحدة.  ‏والمصيب في نهاية الأمر هو جون لوكاريه ‏John Le Carré ‎‏‎ ‎‏عندما يقول : "أنا لو كنت فلسطينيا ‏يسكن الضفة الغربية أو غزة لأطلقت الرصاص من ‏أسلحتي النارية عن قرب شديد على كل جنود الاحتلال ‏الإسرائيلي (...) إن العنف الممارس عن ‏سابق إصرار بحق مدنيين عزَّل من السلاح ليس مقبولا مهما ‏كان السبب. وإذا كنتم أنتم يا ‏جنود الاحتلال الإسرائيلي وأسيادكم الأمريكيين تمطرون القنابل المفخَّخة ‏المحظورة دوليا ‏وغيرها من الأسلحة النجسة على سكان عراقيين  بالمائة، منهم أطفال وهم بدون دفاع، ‏فإن ‏هذه الأعمال هذه تخبرني بأني على حق‎" (‎صداقة مطلقة ‏Une amitié ‎absolue, ‎Paris,Seui.2003,p 329‎‏"‏‎.‎
 
‏3/    أنت إذن في مقاربة أُولى للمسألة تعقد صلة وثيقة ما بين العنف وسياقه التاريخي وترفض ‏بالتالي ‏المساواة ما بين العنف الإمبريالي وعنف المضطّهَدين. فما هو سياق الإرهاب؟
‏***  لقد لحق بمصطلح الإرهاب شبهات تشبه تلك التي تزن بثقلها على العنف. ولا مفر هنا من ‏التسجيل ‏لحالة الكسر التي تفصل العنف عن الإرهاب.  إن بيرتونوتي لا يخالف الحقيقة عندما ‏يقول إن الموالي ‏لبوش والإسلامي وجهان لعملة واحدة، إلا أن هذه الملاحظة لا تبرِّر ما لحق ‏بكلمة الإرهاب من عار. إذ ‏كما أن التمييز بين العنف المُتَسَلِّط والعنف المتسَلَّط عليه يفرض ‏نفسه، فإن إرهاب الدولة ليس هو نفسه ‏الإرهاب المقاتِل والذي يُطلَق عليه تسمية إرهاب. ‏إن الانتفاضة الفلسطينية بجميع أشكالها هي، من حيث ‏الجوهر، رد انتقامي ضد الاحتلال، وهي ‏التي تسمح للشعب الفلسطيني أن يبقى واقفا على قدميه. وإن ‏المقاومة العراقية تضع ‏الإمبريالية في موقع الفشل. هذه هي المراكز المتقدِّمة للعنف الوحيد المشروع. ‏ولتقل الأخلاق ‏من بعد ذلك ما يحلو لها أن تقوله. ‏
والأمر لا يقف عند هذا الحد. إن نضال الجماهير في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط  يتطور ‏بموجب ‏دياليكتيك يتنقل ما بين العنف واللاعنف، مع تفضيل للاعنف من أجل توفير عدد  ‏الضحايا الأبرياء. وكان ‏كورنيي يقول: "إن العنف عادل حيث النعومة لا طائل منها" حسب ما ‏جاء في مؤلَّفه ‏هيراقليط ‏Héraclitus‏ . أي إن علاقات القوى هي التي تقرِّر طبيعة حالات ‏الصراع، سياسية أحيانا، ‏اقتصادية أو اجتماعية أحيانا أخرى، إن لم تكن عسكرية. وعَيْنا ‏الاستراتيجي موجَّهة دوما صوب ‏الظروف، أو كما يقول لينين: "التحليل الملموس للحالة ‏الملموسة".  وليس له أي خيار بين "العنف، ‏قانون البهيمة، واللاعنف قانون الإنسان" حسب ‏مفاهيم غاندي. ومن ذا الذي يختار البهيمة ويتخلى عن ‏الإنسان؟ إن الهدف من خيار ما هو نزع ‏أسلحة الجماهير. وثمة مسارات ثورية لم تلجأ أبدا للعنف ‏المفتوح، وهي لم تكن بحاجة إليه ‏أبدا. ونحن نرى أمام ناظرينا شعار الجماهير في الأرجنتين:" فليذهبوا ‏جميعهم" ‏Que se ‎vayan todos، حيث البيكيتيروس ‏Piqueteros‏ والطبقات الوسطي تختلط في ‏ما ‏بينها، والتي أصبحت مثالا يحتذى به لدى الثورة البوليفارية في فنزويلا التي رغم المؤامرات ‏والتلاعب ‏نجحت في تحويل الاقتراع العام إلى أداة للتحرر الشعبي. أي إن النزعة السلمية التي ‏كثيرا ما تلقى رواجا ‏لدى يسار ما، هي ليست كذلك بأنظار النظام المسيطِر الذي يحلم باستسلام ‏الكرة الأرضية له. وإن هذا ‏العنف الثوري بجميع أشكاله يقترح إلغاء هذا النظام المسيطر.‏
‏ ‏
ثانياً - العنف: تعريف العنف بالتمييز بين أنماط من العنف لكل        سياقه:‏ الظروف والبنى هي التي تميِّز بين المقاومة والإرهاب  والعنف الثوري
 
‏1/  ثمة علاقة وثيقة ما بين العنف السائد في عالمنا اليوم على الصعد كلها، والعولمة. ‏
‏***  إن الرأسمالية، وقد بَلَغَت مرحلة العولمة تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، قد جعلت ‏من ‏العالم حقلا من الدمار. وإن الوقت الذي كنا نستطيع فيه أن نُمَيِّز بعض الملامح الإيجابية ‏في هذه ‏العولمة الرأسمالية قد ولَّى. إذ إن مسارات التدمير لم تعد لتوفِّر أي مجال، من مفهوم ‏البضاعة الذي يعمَّم ‏على كل الأنشطة الإنسانية، إلى الخدمات وبوجه خاص العامة منها التي ‏أصبحت نهبا لمصالح القطاع ‏الخاص، إلى الأنظمة السياسية التي تسمِّي نفسها ديمقراطية، ‏وهي نفسها التي تفرِّغ الديمقراطية من ‏مضمونها وتنهب من المواطنين حقوقهم. إن تعميم ‏مفهوم البضاعة على كل أنشطة الإنسان، غريب عن ‏الحاجات الحقيقية للإنسان وفائضة عنها. ‏وما هذه البضاعة المعولمة سوى رؤوس أموال تَغلَّبت فيها ‏المضاربة والأوهام المختَلَقَة.. ‏تَغَلَّبَت على الإنتاج نفسه بعدما حلَّت المضاربة وأوهامها محل الحاجات.‏
لقد أصبحت أوضاع النساء والرجال أصعب مما كانت عليه في الماضي، طالما أن الاستغلال ‏والأحكام ‏التعسفية بأشكالها كلها هي التي تسود اليوم. وإن البحث بدون أي رادع عن الربح ‏يُفَرِّغ العمل من أية ‏قيمة له ويتركه نهبا للصدف.  فالأفراد، ومعهم أمم كثرٌ، أصبحوا تحت تأثير ‏الاعتداءات العسكرية ‏للإمبريالية كميات زائدة عن اللزوم. هذا هو حال العاطلين عن العمل، ‏والمهاجرين، والشعب الفلسطيني. ‏إن البؤس والفقر بعدما جاء وقت الجوع   ما انفك يتَّسع على  الصعيد  العالمي،  بما  في ذلك في البلدان ‏التي يسمُّونها "متطورة". ‏
ومع ذلك، فإن الأمل بالمقابل ما انفك يتعاظم. إنه محمول على حالات من الغضب والصراع ‏والانتفاضات ‏التي تنفجر في كل أنحاء العالم، في الشمال كما في الجنوب، في الشرق والغرب، ‏لدى الأمم موفورة الحال ‏كما الأمم المحرومة. ففي كل مكان ثمة وعي بما تمارسه الليبرالية ‏الاقتصادية والحربية من إيذاء، وذلك ‏فيما يزداد العداء حيال الولايات المتحدة الأمريكية. وحيث ‏يوجد شبان اليوم، يوجد ملح الأرض، وهم ‏الأمل. إن أيدلوجية مكافحة الإرهاب لا تستطيع أن ‏تخفي حقيقتها بوصفها أيديولوجية السيطرة. ويَعرِف ‏الشبان اليوم أن ثورة 1968 في فرنسا قد حافظت ‏على كل عنفوانها وشعارها: "الحل واحدٌ، إنه ‏الثورة". ‏
‏2/  ما هو العنف؟ كيف تُعَرِّفُه؟ ‏
‏***  أود بداية أن ألاحظ عددا من المفارقات التي تملَّكَت علي أفكاري، وهي:‏
‏آ- إن للعنف امتدادات لا متناهية ولكنه يفتقد لأي تعريف.‏
‏ب- العنف ليس واقعة طبيعية، وإنما هو واقعة ثقافية.‏
‏ج- إن العنف باق ومستمر رغم كل المتغيِّرات.‏
‏د- إن الإجماع على إدانة العنف لم تقلِّص منه. ‏
‏ه- إن التشخيص النقدي للعولمة هو نفسه تشخيص للعنف.‏
‏ ولا بد لنا عندما نتحدَّث عن العنف أن ننطلق من معاينة ما هو بديهي. إن العنف والأصح ‏حالات أو أشكال ‏العنف لم تكتسب حيزا من الأهمية مثل تلك التي تحوز عليها اليوم. ويبدو ‏العنف اليوم - وأعود لأقول إن ‏الصحيح هو حالات وأشكال العنف - هو الشاغل الرئيس ‏للإنسانية. وهو يعاش اليوم وكأنه قدر لا بد منه، ‏ويقود إلى الاستسلام للنظام السائد، إن لم ‏يكن، وفي الوقت نفسه، إلى حالة من البصبصة ‏الجماهيرية. ‏‎ ‎والعنف من حيث هو عنف، أو ‏‎ ‎من ‏‎ ‎حيث ‏‎ ‎هو ‏‎ ‎مفهوم ‏‎ ‎عام، ‏‎ ‎يشمل ‏‎ ‎حالات ‏‎ ‎متعدِّدَة، لم ‏‎ ‎‎ ‎يصبح‎  ‎موضوعا أو‎ ‎قضية إلا قبل عقود ‏قليلة، على نحو ما كانت تلاحظه أيضا حنا أريندتHanna ‎Arenedt‏. ‏
لكن ما هو العنف من حيث هو عنف؟ بالرغم من حضوره الدائم في كل مكان وزمان في الوقت ‏الراهن، ‏فإنه يفتقد للتعريف. إنه متَّسع بصورة خطيرة حتى أنه يتحدَّى كل حصر أو إحصاء. من ‏اللاإجتماعي ‏وغير المدني، إلى المجازر والمذابح وحمامات الدم، ومن الشتائم الغليظة إلى ‏الإرهاب، ومن الجريمة ‏العاطفية إلى التعذيب، ومن الاعتداء الجنسي على الأطفال إلى الثورة، ‏ناهيكم ما يسمُّونه "العنف ‏الناعم"، إلخ..إلخ. إن العنف يفتقد إلى التعريف افتقاد الحالات ‏المتعدِّدة للعنف بجميع أشكاله وألوانه إلى ‏قاسم مشترك واحد يجمع بينها. والنتيجة التي ‏يَخْلُص إليها الفيلسوف قاسية. ذلك أن العنف متَّسِع إلى حد ‏شبه لانهائي، فيما استيعاب الفهم ‏له شبه معدوم. وكان أفلاطون يقول إن الشعرة يقابلها فكرة، وكان ‏ماركس  يقول  إن  ‏للفاكهة  مفهوم. أما العنف فإنه غير حائز على مثل هذا الحظ.‏
ويَتبَع مثل هذه المعاينة عدد من النتائج.‏
أول هذه النتائج يتساءل عما تعنيه معالجة العنف إذا كانت كل أشكاله محشوة في كيس واحدة؟ ‏وهل ‏نعرِّف العنف المتِّسِع اليوم بالرجوع إلى تعبيراته، ومجالاته، وأنظمته، وأساطيره، ‏ودياناته، وفلسفاته، ‏وتشريعاته القانونية، وتعبيراته الأدبية والفنية والسينمائية، والتي تحاول ‏كلها استنتاج معنى للعنف ‏بترجيح أحد أشكال العنف على الآخر، وبوجه خاص ما كان منها ‏مكشوفا أو إجراميا بوصفه مرئي ‏ومكشوف أكثر من غيره؟ إن من الصعوبة بمكان أن نمنح ‏العنف، أو هذا الشكل وتلك الحالة منه، تعريفا ‏شموليا. ويبدو وكأن موضوع العنف مفقود أو لم ‏يُعثَر عليه. ‏
والنتيجة الثانية هي أن المزاعم التي تَحْكُمُ أنها تملك تعريفا شموليا عاما للعنف، ولكل عنف، ‏تراها تأمر ‏برفض العنف باسم مسلَّمة بديهية تقول إن كل عنف هو بصورة جوهرية مدان، ‏سواء أكان الأمر يتعلق ‏بالطفل الذي يشتم معلمته في المدرسة، أو سارق التفاح، أو الانتحاري ‏الفلسطيني. ‏
‏ والنتيجة الثالثة وليدة العولمة: إن الحيز المركزي للإرهاب في عهد العولمة، من حيث هو – ‏حسب ‏العولمة - تهديد متطرف يخلو من أي تمييز بين حالاته، ومن حيث هو يُوَجِّه ضرباته  في ‏كل مكان، يبدو ‏وكأنه يمحو كل تمييز قديم بين عنف مشروع وآخر غير مشروع، بين حرب ‏عادلة وأخرى ظالمة، ‏ويشوَّهَ مفهوم المقاومة. وبهذا المعنى، فقد وَحَّد سقوط جدار برلين ‏الأُسَرة الدولية كلها حول تنديدها ‏بالعنف. حتى في حالة الاعتراف بشرعية عمل سياسي عنيف، ‏فإنهم لا يتوانون، تحت تأثير هذا المفهوم ‏للعنف في عهد العولمة، عن استنكار أثاره ودروبه، ‏وذلك على غرار بعض المسؤولين الشيوعيين الذين ‏قبل أن يحتجوا على النظام القائم، فإنهم ‏يسارعون إلى التأكيد بأنهم لا يعتزمون الاستيلاء على "قصر ‏الصيف"، علما أن ‏الاستيلاء عليه لم تُرافَقه أية أعمال عنف. وبموجب هذا المفهوم، فإن الحيلولة دون ‏وقوع ‏صدامات بين طرفين متنازعين يحمل الدبلوماسية - على سبيل المثال - على رفض التمييز ‏باسم ‏السلام بين الطرفين المتنازعين، وهي على هذا النحو تَحكم على الضحايا والجلادين بالمصير ‏نفسه. ‏أو إنهم يمنحون جائزة نوبل للسلام مناصفة بين دوكليرك ومانديلا، بيريز وعرفات. وإلى ‏ذلك، فإن كل ‏أنماط العنف بدون أي تمييز محرَّمة، كل أنماط العنف لأسباب شخصية بدون أي ‏تمييز، وجميع أنماط ‏العنف السياسي في كل واحد بدون تمييز. وإلى ذلك مرة ثانية، فإن ‏الحدود ما بين العنف الفردي والعنف ‏العام أو السياسي، تضيع عن أنظارنا بالرغم من أنها ‏أمامنا طالما يُحكم على هذين النمطين من العنف ‏بالحظر والتحريم. ‏
والدرس المُستَنتَج، الرابع والأخير، يقول إن العنف أصبح أكثر من أي وقت مضى اختصاصاً ‏تنفرد به ‏الدولة وحدها، كل حالات وأنماط العنف، بموجب المزاعم التي تدعي بأن التمييز بين ‏كل هذه الحالات من ‏العنف منعدم، وبأن الدولة تملك تعريفا واحدا له. إن الدولة هي التي تكتب ‏القانون، بما في ذلك ما كان ‏يتعلق بالإرهاب الذي يتبخر تارة، أو يصبح تارة أخرى منعدم ‏التعريف، وذلك حسب الحالات والأفراد ذي ‏الصلة. ‏
 
‏3/  هل العنف  واحد ويَتبَع لنظام واحد، سياسي، ديني، ثقافي؟
‏***  مما لا شك فيه أن الإنسان في المطلق يرفض العنف، وأن المثال الأعلى الفلسفي ينادي ‏باللاعنف، ‏حسب ما يُلاحظ مع عودة النظريات الكلاسيكية. حتى أن أصحاب النوايا الحميدة في ‏أيامنا هذه يؤكِّدون أن ‏الخيار – كما قلنا قبل قليل - هو الخيار بين غاندي داعية اللاعنف، وبين ‏لينين المُنَظِّر للعنف، أو حتى بين ‏غاندي وبين ابن لادن، وكأننا نستطيع أن نوازن بالمطلق وفي ‏جميع الحالات بين العداء الدائم وضده، ‏وكأننا في حالٍ واحدة من الديمومة. وكأننا نستطيع أن ‏نعرف متى نعادي إلى ما لانهاية ومتى نسالم دوما ‏وأبداً، ما بين العنف كخيار مطلق دائم، وبين ‏اللاعنف خارج كل سياق وزمان؛ هذا، إذا كان لدينا الخيار ‏بين الأمرين. ‏
إننا نتساءل عما يختفي من معاني وراء هذا الضباب الذي يحيط بأشكال وأنماط العنف؟ ثمة ‏مُمَيِّزين اثنين. ‏الأول يقول إن العنف نِتاج سياق وظروف. والثاني يقول إن العنف والألم ‏مترابطان بصورة وثيقة. إن ‏وضعا ما عنيفا هو وضع مؤلم. ويلحق بهذه المُمَيِّزين أن العنف ‏معادلة تجمع بين العنف/ الألم / العنف ‏المضاد. وهذه المعادلة موجودة بصورة عامة في كل ‏الحالات التي يُنظر إليها من حيث هي حالات عنيفة. ‏
‏ ويستند العنف إذا ما نُظر إليه خارج سياقه والظروف المحيطة به إلى نظريتين. الأولى تدافع ‏عن ‏العنف "الأصيل"، وهي ترفض التمييز بين حالاته وتخلط بين كل حالات العنف من حيث ‏هي أصيلة في ‏الإنسان منذ أيام قابيل وهابيل. وذلك على غرار ما نراه مع المبدأ الأساسي ‏القائل: "إن الإنسان ذئب ‏لأخيه الإنسان". ثم عَرِفَ هذا المبدأ عبر "العقد الاجتماعي" ‏لروسو، و"الملكية" لدى برودون، تحوُّلا ‏بفضل نشأة الدولة التي توسَّطت ما بين هذين ‏المبدأين. الدولة من حيث هي ضرورية لتوفير الانسجام ‏داخل المجتمع، ومن أجل الحضارة. ‏ويذهب علماء النفس في منحى مماثل عندما يؤكد بعضهم أن العنف ‏ملازم للطبيعة ‏البشرية، وإن كان تعريف الطبيعة البشرية من الصعوبة بمكان. ويذهب آخرون إلى القول ‏بأن ‏للعنف جنية موروثة لدى الإنسان، حتى أن بعض رجال السياسة المعنيين بالقمع أكثر من ‏عنايتهم ‏بالعلوم، ومنهم نيكولا ساركوزي، يعتقدون أن للعنف جنية، وهم يريدون تشخيص هذه ‏الجنية لدى ‏الجانحين المراهقين.‏
والنظرية الثانية تقول بالعنف النسبي. فالقضاء يَعترف بصورة مبتذلة بنسبية العنف عندما ‏يأخذ في ‏أحكامه القضائية بعين الاعتبار بما يسمِّيه "الأسباب المخفِّفَة". فهو ينظر إلى الجنحة ‏نظرة نسبية، ‏فيُخَفِّف العقوبة إلى حد إلغائها، وبوجه خاص في حالات "الجريمة العاطفية". ‏والواقع إن كل حالات ‏العنف تستحق مثل هذه المعاينة، باستثناء الجنون وحالات الحرب التي ‏تجعل من القتل بطولة شجاعة في ‏أوج مجدها. ‏
وما هو نسبي في ما يتعلق بالعنف لا ينحصر بنظام المكان أو المجتمع، وإنما يتعداه إلى الزمان ‏على نحو ‏ما يبيِّنه ميشيل فوكو بصورة جلية للغاية في عمله "المراقبة والعقاب"، حيث ‏بوضِّح إلى أي حد تُنتِج ‏العدالة نقيضها أو الظلم، ومنها ظلم السجن، وهو عقاب ل"طبقة ‏البرابرة" أو "لانعدام أي شرعية ‏عمالية وفلاحية"، واللتين إذا ما هما تضافرتا فإنهما ‏يستعدان لمواجهة في آن واحد "القانون والطبقة ‏التي فَرَضَت ظلم السجن". ‏
وُقَدِّم لنا هيجل هنا قاعدة: "إن الضرورة الراهنة هي وحدها التي تستطيع أن تبرِّر عملا منافيا ‏للقانون، ‏ذلك أن الامتناع عن ممارسة هذا العمل المنافي للقانون سيكون بمثابة ارتكاب ظلم ‏أعظم، وهو النفي ‏الكامل للوجود التجريبي للحرية"(هيجل، مبادئ فلسفة القانون).‏
إننا على هذا النحو إذن نفنِّد إدراج كل حالات العنف في "نظام"، سواء أكان نظام الآلهة، أو ‏نمط ‏الوجود، أو العلاقات السياسية، أو النظام السياسي. ‏
 
‏                                               ثالثا - نمطــان مــن العــنف
‏1/   العنف إذن حالات وأنماط متعدِّدة.‏
‏***  للعنف خاصية اشتقاقية وثانوية كما بيَّن ذلك ماركس بقوة وجلاء في موضعين اثنين:‏
آ/   في الفصلين 24 و25 اللذين يَختَتِمان الكتاب الأول من "رأس المال"، حيث يظهر أمامنا ‏عمل هو ‏أقرب ما يكون إلى "مطوَّل في العنف". إن ماركس في اللوحة التي يرسمها انطلاقا ‏من تجربة بريطانيا ‏من حيث هي أول بلد بدأ الانتقال من نمط للإنتاج إلى آخر، يستعير مفردات ‏كثيرة للغاية: الانقياد، ‏الجريمة، النهب، الحريق، السرقة، الخيانة، الفساد العمل ‏الشائن أو العار، كي يبيِّن أن العنف هو معلِّم ‏الصنعة في التراكم الرأسمالي، وعنه ينشأ الصِدام ‏المستديم بين العمال المأجورين، "الأحرار"، وبين ‏‏"الذئاب المضاربين في البورصة"، أو ‏أصحاب "الفائض". ويَكتُب ماركس: "لقد كُتِبَ هذا التملُّك في ‏حوليات الإنسانية بحروف من ‏دم ونار".  وفي هذه الأثناء، فإن هذا العنف ليس أصيلا وإن كانت مظاهره ‏تدل على ذلك. وليس ‏للعنف أيضا دورا مؤسِّسا. فالتاريخ هو الحيِّز لظهوره وممارسته. والعنف ينتمي ‏إلى الظروف ‏والسياق. ففي الإنتاج الرأسمالي الذي يميِّز التراكم البدائي، يحوز العنف على ‏مظهرين ‏ووظيفتين. إن التعبير الدموي للعنف، حسب ما يتكشَّف بصورة واضحة عبر ‏العدوان ‏الاستعماري يمارس الدور الجزئي والمؤقَّت لوحشية الغازي، في ما يبدو الشكل ‏‏"المركَّز ‏والمنظَّم" للعنف، وهو الدولة، مستديما، طالما هي مكلَّفة بضمان حفظ النظام الذي كانت ‏الطبقة ‏السائدة شيَّدَته. وعندما يقال إن العنف هو الذي "أَنجب كل مجتمع في حالة العمل"، ‏فإنه يوصف في ‏الوقت نفسه بأنه "مقدرة اقتصادية". إن الملكية الخاصة والفقر زوجان: إن ‏التملُّك بوصفه نِتاج لنزع ‏الملكية أو للتملُّك بالقوة يَمنح نفسه شرعية قضائية تنظِّم بدورها ‏إجراءات العمل في إطار الاستغلال، ‏وذلك من حيث هي تضع هذه الإجراءات،  هذه الشرعية، العمَّال ‏في حالة منافسة في ما بينهم بفضل ‏تأسيس "جيش احتياطي" أو اكتظاظ سكاني هو بمثابة ‏أناس زائدين عن اللزوم على حد قول ماركس. ‏والعنف ماثل في كل مرحلة من هذه السيرورة.‏
‏ب/   نظرية العنف لدى إنجلز (الفصل الثاني والثالث والرابع من القسم الثاني) لمؤلَّفه "انتي -‏‏ ‏دوهرينغ"، هي المرجع الثاني. فقد كان السيد أوجين دوهرينغ في السبعينات من القرن التاسع ‏عشر في ‏ألمانيا بمثابة بابا الفاتيكان بالنسبة للاشتراكية الميتافيزيقية، والذي كان يرى في ما ‏يسمِّيه "العنف ‏المباشَر" "قوة اقتصادية مباشَرة"، و"عنصراً تاريخياً مؤسِّساً". وكان إنجلز ‏يرجع إلى مثال الرق في ‏الإمبراطورية اليونانية من أجل تبيان أن العامل المحدِّد الأول للعنف هو ‏الظروف الاقتصادية في اليونان، ‏والمهن اليدوية والتجارة في الولايات المتحدة الأمريكية في ‏عهدها الفتي، وصناعة القطن في بريطانيا. ‏
وكان إنجلز يلاحظ أن الثروة التي تتيح تملُّك الرق قد تأتي، حسب الحالات والاحتمالات، من ‏العمل، ‏والسرقة، والتجارة، والنَصْب، أي إنها ليست نِتاج العنف دوما. وكان يؤكِّد أن الملكية ‏الخاصة ليست  ‏وليدة السرقة والعنف.  ذلك أن تدمير الاقتصاد المنزلي متأتٍ من المنافسة التي ‏تُمارس من قِبَل الصناعة ‏الكبرى. إذ إن الإنتاج الاقتصادي هو الذي يمد بالأسلحة الضرورية ‏للجوء إلى العنف الذي "يَعجز عن ‏كسب المال"، ولا يستطيع أن ينشل ما هو موجود. وكان ‏إنجلز يختتم بقوله: "باختصار، إن الشروط ‏والوسائل المتوفِّرة للقوة الاقتصادية هي التي ‏تساعد في كل مكان ودوما العنف على إحراز النصر الذي ‏لولا القوة الاقتصادية لما كان مرادفا ‏للعنف". إن "العنف مجنَّد بالقوة في خدمة الوضع الاقتصادي". إن ‏العنف بأنظار ماركس ‏وإنجلز لا يمارس دور العامل المقرِّر، وذلك على نقيض ما كان يذهب إليه برودون ‏وبلانكي ‏وباكونين والفوضويين. إن العامل الاقتصادي من حيث هو العامل المقرِّر هو الذي يشد  ‏خيوط ‏العنف. ‏
نحن هنا أمام نمطين من العنف يظهران، من جهة، عبر الجمع بين الإنتاج الاقتصادي وقوة ‏الدولة ‏‏(السلاح على سبيل المثال)، ومن جهة ثانية، في الحرب (استخدام السلاح). إلا أن إنجلز ‏يقصر العنف ‏على العنف الدامي ، وهو بذلك يُقْدِم على تنازل أمام الوعي الشائع. إنه يميِّز من ‏جهة بين العنف الدامي/ ‏المرئي، والعنف الأخرس / الضمني. ويميِّز من جهة ثانية بين العنف ‏‏"الموظَّف" الذي يساعد على ‏الحفاظ على الشروط الاقتصادية، والعنف "المُعَلِّم" الذي يعمل ‏في خدمة التطوير الاقتصادي ويزيد بالتالي ‏من سرعته. ‏
فلنتساءل إذن من أين يأتي نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن أين تأتي الملكية؟ أليست الملكية ‏سرقة، وهي ‏نفسها "المولِّدة" التي يتحدث عنها "البيان الشيوعي" عندما يوصي الشيوعيين ‏في صفحاته الأخيرة ‏بقلب النظام المجتمعي السابق برمته انقلابا عنيفا، أم أن الملكية أداة ‏لتصحيح الاقتصاد؟ وهل التغيير ‏المجتمعي، وبالأحرى الثورات، وليدةٌ لحالة اقتصادية بلغت ‏مرحلة من النضج تفرض على الحالة ‏الاقتصادية تحوُّلها. وفي مثل هذه الحالة، فإن العنف ‏المرئي ليس أكثر من فعل لتيسير النجاح في اللحظة ‏الأخيرة، بحيث ينقلب الكل‎ ‎رأسا على عقب، ‏أم أن المتغيِّرات المجتمعية متأتية بصورة كاملة عن عنف ‏جذري؟ إن ما أحرزته الاشتراكية ‏الديمقراطية في ألمانيا من نجاح في الانتخابات التشريعية حَمَلَت أنجلز ‏في نهاية حياته على ‏الحديث عن إمكانية الانتقال السلمي. وهو الأمر الذي يؤكِّد بالتالي على الوظيفة ‏الاشتقاقية ‏التابعة التي تَعزا للعنف.  وفي أيامنا هذه، فإن مثال فنزويلا و "الثورة البوليفارية" فيها ‏، ‏يبدو وكأنه نموذج تحتذي به أمم أمريكا اللاتينية، ويوضِّح  كما يزعم بعضهم أن ديكتاتورية ‏البروليتاريا ‏ليست ضرورية، وإنها على نقيض من مرحلة الرعب في الثورة الفرنسية تستغني ‏عن الدعوة إلى العنف. ‏فهل يقودنا هذا كله إلى القول إن أنجلز انتهى  به  الأمر  إلى  ‏التخفيف  من  أهمية  الدور  المُؤَسِّس ‏للعنف  الثوري؟
نعم، وذلك لسببين اثنين. الأول يعود إلى الثقة التي مُنِحَت للخاصيَّات التقدمية للتطور ‏الاقتصادي، والتي ‏ثُبِّتَت منذ "البيان الشيوعي" الذي يشير إلى البرجوازية التي قلبت بصورة ‏ثورية العلاقات الإقطاعية. ‏وكان ماركس في وقت متأخِّر من عمله أقرَّ بأن اقتطاع الولايات ‏المتحدة الأمريكية لأراض من المكسيك ‏يسير في منحى الخاصيات التقدُّمية للتطور الاقتصادي، ‏وأن مرحلة أعلى من التطور تبرِّر الغزو ‏الاستعماري. والسبب الثاني يُعزا إلى الخوف المبرَّر ‏من أن تدفع البروليتاريا، هي، من جراء ضعفها أمام ‏الترسانة الحربية للدولة والبورجوازية، وأكثر من البورجوازية، الثمن الباهظ للعنف. ومن ذا ‏الذي ‏يعترض في نهاية المطاف على الانتخابات العامة إذا كانت صناديق الاقتراع تستطيع أن تحل ‏محل ‏حواجز القتال في الشوارع؟ ‏
وفي جميع الأحول، فإن المفكِّرين المتنورين شغفون بالتقدُّم، وقد منحوا العامل الاقتصادي قيمة ‏مبالغ ‏فيها.
 
‏                     رابعاً: - لــينين: التفاحة الرأســمالية الناضــجة ‏
‏                                لـن تســقط من تلــقاء نفســها

‏1/   هل يذوب السكر تلقائيا؟ أو هل من ثورة بدون عنف؟
‏***  لقد بلغ بنا الحديث عن العنف إلى السؤال التالي، وهو يلخِّص كل ما سبق: ألا تحمل ‏علاقات ‏الإنتاج، وبوجه خاص الرأسمالية منها، العنف معها؟ لقد اشتقَّت الحركة العمالية ما ‏بعد ماركس وإنجلز ‏درسين اثنين متناقضين ومتسابقين، أحد هما يبرّرِ نفسه بنمط العنف ‏المرئي، والثاني بنمط العنف ‏الأخرس المخفي، وإن كان التداخل ما بين هذين النمطين ليس ‏موضعا للشك في الجوابين على حد سواء. ‏الجواب الأول مضى بالعنف المفتوح والمرئي إلى ‏حد التقديس، حسب ما نراه لدى القائد العمالي سوريل ‏الذي جعل من الإضراب فعلا ‏حربيا، أو لدى فرانس فانون قارئ إنجلز في مسعاه نحو التخلُّص من  ‏فظاعة ‏الاستعمار، أو لدى ماو تسي تونغ الذي دعا إلى حمل السلاح ضد حكم البندقية. وبالمقابل، ‏فإن ‏النزعة الاقتصادية الغالبة منذ كاوتسكي في حركة الاشتراكية الدولية، وهي بمثابة أرضية ‏للجواب من ‏النمط الثاني، تعبِّر عن الرفض البليد لكل عنف. ثم جاء انهيار البلدان الاشتراكية ‏ليعزِّز النزعة الاقتصادية. ‏أما لينين فإن موقفه متميِّز عن كل ما سواه في ما يتعلق بالعنف ‏والثورة. ‏
إن لينين يرفض على حد سواء إغراءات العقلية المغامرة التي تريد أن تدفع بالحركة الثورية ‏إلى الأمام ‏بالقوة أو بالرغم منها، والقَدَرِية التي تنتظر ذوبان السكر من تلقاء نفسه. إن ‏السيرورة الثورية تتوقف ‏على علاقات القوى السياسية بين "أهل الأسفل" وبين "أهل ‏الأعلى". فالتاريخ لم يُسَجِّل أبدا ثورة ‏سقطت كالفاكهة ما إن توفَّرَت الشروط الموضوعية ‏‏(الأوضاع والحالات) والذاتية (الوعي) لإنجازها. ولا ‏يقل عن ذلك ثقل السيطرة غير القابل ‏للتحمُّل، والذي لم يَنجَح أبدا بالرغم من وزنه إثارة انتفاضةٍ ‏للمضطَهَدين بصورة آلية. فإذا لم ‏يرافق الشعور بالظلم إرادة أو رغبة بالعصيان، وما يحتاج إليه العصيان ‏من أدوات للتعبير عن ‏نفسه، فإن الشعور بالظلم يبقى عاجزا عن الخروج من حالة الخضوع والتبعية؛ ‏سواء أكان ‏الشعور بالظلم مسكوتا عليه عن إكراه أم مصدرا للعذاب. وفي مثل هذه الحالة، فإن العلاقة ‏ما ‏بين العنف/العذاب لن تنجح في تخطي نفسها بالعنف المضاد الذي يقضي على العذاب. ‏
أنا أخلص إلى نتيجة مؤداها أن أصل العنف أو الدافع إليه، وهذا الدافع غير أصيل وليس واحدا ‏وأحاديا، ‏يستدعي العودة بالعنف، كل عنف، إلى الوضع الذي يُنتِجه، ويحيلنا بالضرورة إلى ‏نظام من الأحداث ‏والوقائع والشروط هي سياق يأخذ فيه العنف شكلا. هذا السياق هو اليوم نمط ‏الإنتاج الرأسمالي الذي ‏وصل إلى مرحلة العولمة. ويحمل هذا النظام عددا من السمات قوية ‏الظهور وذات الخصوصية. منها أن ‏العنف "الدامي‎ ‎‏"يتبع "العنف الأخرس". إذ إن المعادلة ‏عنف/إخضاع/ عنف تَبْلُغ تحت تأثير نمط الإنتاج ‏الرأسمالي أكثر حالاتها وضوحا عبر تجلِّياتها ‏، وهي: ‏
آ/  على الصعيد الاقتصادي، فإن الاستغلال وقد أصبح عالميا لا يوفر جهدا كي يحتوي في ‏شبكة واحدة ‏سائر الأمم. إن التحالف الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية شيَّد حكومة ‏عالمية جعلت من منظمة ‏الأمم المتحدة مجرد شريط للنقل كان مرصوداً لنشر أيديولوجية ‏العلاقات الدولية. ثم فَقَدَت هذه ‏الأيديولوجية مع العولمة كل مصداقية لها، سواء أكانت الدفاع ‏عن حقوق الإنسان أم السلام، أم ‏المؤسسات التي تمخَّضت عن الحرب العالمية الثانية، ‏واتفاقيات بريتون وودز ‏Bretton Woods‏ والتي ‏تُسمَّى: البنك الدولي، وصندوق النقد ‏الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة. إن البورصة هي الروح التي ‏تفرض تحويل كل شيء إلى ‏بضاعة ومال. وهي، لما كانت لا تعرف زمانا غير اللحظة الحالية، فإنها تَرمي ‏بكل العمليات إلى ‏الفوضى، وتَحكم على كل مشروع أيا كانت طبيعته بأن يبقى مجهول المصير. ومن هنا ‏خرجت ‏علينا نظرية "نهاية التاريخ"، و"نهاية الإيديولوجية" و"المعاصرة"، ومعها نهاية.. المشمش. ‏
ب/  على صعيد المجتمع والممارسة، فإن الإرادة الإمبريالية وهي في خدمة الأقلِّيات السياسية ‏تبرهن كل ‏يوم عن ممارسات تسير في الاتجاهين. فمن جهة العنف العادي، "المستمر" كما ‏يقول ماركس، ومن ‏جهة ثانية العنف "الأخرس" و "السلمي" في جميع أشكاله، العنف ‏الاقتصادي وعنف الدولة- كما قلنا ‏قبل قليل. وفي الاتجاه الأول يلجأ العنف "الثرثار" أو ‏‏"الدامي" إلى الحرب التي أصبحت بدورها دائمة. ‏ذلك أن العولمة قلبت رأسا على عقب ‏الصيغة ذائعة الصيت لكلاوسفيتس ‏Clausewitz‏ ، إذ هي وَضَعَت ‏السياسة كاستمرار ‏للحرب بعدما كانت الحرب استمرارا للسياسة. والأهداف قيد الإنجاز في أحداث الساعة ‏اليوم لا ‏تَخْفى على أحد.  إنها السيطرة على ثروات ومصادر الطاقة بما في ذلك طرق مرورها، ‏والحيلولة ‏دون أن يُنجِز أي بلد تطوره بصورة مستقلة ذاتيا، أو حتى أن يزعم ذلك. لذا، فإني ‏أقول إن العنف انتقل ‏من الصالات الخلفية للمقهى إلى مجالس الإدارة، إلى قيادات الأركان ‏ومكاتب الوزارات. إن صندوق النقد ‏الدولي برئاسة اشتراكي فرنسي ليس شيئا آخر سوى ‏جمعية للحرامية تعتدي على ملايين الضحايا. ‏
ج/  العنف الجماعي ليس هو النمط الوحيد للعنف، ذلك أن العنف المعولَم يحتوي أيضا العنف ‏الفردي. ‏فالسياسات الليبرالية وما فوق الليبرالية تعتدي على الهيئة المجتمعية وتفسخها. انظر ‏إلى الحالة الصحية ‏المتردية للمدرسة، وانتحار الشبان، وتحرُّش الرئيس في العمل ‏بمرؤوسه، والمخدِّرات.‏
د/  لتبرير ممارسات العنف في كل أنماطها، تؤدِّي إيديولوجية "مكافحة الإرهاب" التي تسير ‏جنبا إلى ‏جنب مع الخطاب الأمني، هذه الوظيفة. إن هذه الأيديولوجية التي تسجِّل لأزمة النظام، ‏وتؤكِّد على ‏سياسة الحرب، قد وَضَعت برنامجا جديدا يُسمِّى "صراع الحضارات" محل جدار من ‏الدخان كان يُسمَّى ‏بأيديولوجية حقوق الإنسان ودولة القانون. وهو نفسه مزيَّن بالفكرة ‏المعتوهة التي تقول بالصراع بين ‏النور والظلام (المانوية)، بين الخير والشر. وكانت ‏اعتداءات 11 سبتمبر2001، بالإضافة إلى صواريخ ‏الدمار الشامل العراقية المزعومة، حجة ‏عسكرية للاعتداء على العراق من جهة، ولتشييد ائتلاف دولي ‏من أجل هذا الهدف مدعوما ‏بالحجة القانونية للصواريخ إياها، من جهة ثانية.  فإذا كان الائتلاف الدولي ‏لقي الفشل، فإن ‏الجانب القانوني قد أحرز النجاح، طالما أنه أحدث اعوجاجا في سائر التشريعات ‏‏"الغربية"، ‏واستُخدم ككفالة بين أيدي السلطات التي تُسمَّى "ديمقراطية". فالقوانين التي شُرِّعت ‏لمكافحة ‏الإرهاب جاهزة دوما لتبرير كل الأفعال التعسفية والتشريع لها، من التوقيف بدون محاكمة، ‏إلى ‏التعذيب والقمع وإلغاء الحريات، والتجسس على الجماهير، والأنظمة الاستثنائية، وذلك كله ‏يُمهر ‏بعبارة سري، أو من قِبَل الأجهزة السرية. أي إن القانون يُعَلِّق القانون. وعلى هذا النحو، ‏فإن جرائم ‏الطبقة السائدة، والتي تبقى بدون عقاب، تشمل كل جرائم الطبقات المسَيْطِرَة. لكن أقل ‏مقاومة مسلَّحة أو ‏مجتمعية للمسيطَر عليهم، فإنها تجرَّم وتَلْقى إجراءات بوليسية. وإن ما ‏يزعمون أنه "مكافحة للإرهاب" ‏هو في الحقيقة عودة إلى ممارسات همجية.‏
 
‏2-  كيف تميِّز ما بين العنف والإرهاب؟
‏***  إن السؤال القائل ما هو الإرهاب أشبه ما يكون بالخوض في عالم البحار والمحيطات. ‏ونحن أمام ‏هذا السؤال أشبه ما نكون بالسبَّاح المهدَّد بالغرق. ولتوخي الحذر من مجازفات كهذه ‏فإن أفضل وسيلة ‏للتقدم في الإجابة هي الاقتصار على مظهر من خطاب الإرهاب، وهو ما كان ‏منه متعلقاً بأحداث الساعة. ‏والملاحظ هنا أن الإرهاب الذي يَأخذ في متن هذا الخطاب السائد ‏شكلا من العنف المتطرف لا يرتفع إلى ‏مستوى المفهوم واضح التعريف والحدّ. ذلك أن حالاته ‏المتعدِّدة والمتنوعة لا تندرج في تعريف واحد ‏شامل يجمع بينها. إن أشكاله من التنوع بمكان، ‏حتى أن الجمع بينها في قاسم مشترك واحد هو ضرب ‏من الخيار التعسفي. وأعود هنا إلى ‏التذكير بأن أنماط العنف ليست كلها دموية أو جسدية، وأن أشد أنواع ‏العنف ما كان منه متعلقا ‏بالاستغلال في العمل. لذا، فإن جوهر العنف أو ماهيته يشذُّ عن أي مفهوم ‏للتعريف به. وإن ‏مصطلح الإرهاب يواجه الصعوبات نفسها. ‏
والحال إن خطاب العنف الإرهابي بمنطق الأيديولوجية السائدة يَلقى قبولا بدون مناقشة. كما ‏يحظى ‏الإرهاب تحت تأثير هذه الأيديولوجية بتنديد لا تراجع عنه. والمفارقة هنا هي أن ‏الانتقادات الأكثر تشدُّدا ‏حيال أمريكا تُدين بحسم - في كل مرة كانت هي بحاجة إلى التعليق على ‏حدث من أحداث العنف - كل ‏أشكال الإرهاب. هذه المفارقة تحتاج إلى وقفة تأمل لأنها تسير ‏جنبا إلى جنب مع تعريف للإرهاب ذي ‏أهمية سياسية كبرى في أحداث الساعة.  إن الإرهاب – ‏حسب هذا التعريف – جريمة عمياء تنال من ‏المدنيين الأبرياء. وهذا التعريف يُعْتَبَر برأي ‏الخطاب السائد مسلما به، وإن كانت كل عبارة فيه موضع ‏للدحض. ‏
إن مصطلح الإرهاب ابتكار فرنسي. ويعود تاريخه إلى العام 1794، شأنه شان الإرهابي. وكان ‏نُويل ‏بابوف ‏Noël Babeuf‏‎ ‎أول من استخدمه في تلك السنة. إن العبارة تشير إلى ‏المرحلة التي تُوْصَف بأنها ‏مرحلة الرعب في الثورة الفرنسية، حيث يقترن العمل السياسي ‏بالرعب، وذلك بموجب توجيه من ممثلي ‏الأمة في المؤتمر الوطني ‏la Convention‏، ‏وبتنفيذ من قِبَل الحكومة: لجنة الإنقاذ العام ‏le Comité du Salut Public ‎‏  ‏ ‏.  إن ‏الرعب كما يقول روبسبيير، وهو لم يكن من أنصاره أو من أشد مستخدميه ‏قسوة، يأتي في ‏خدمة الفضيلة من أجل إنقاذ الثورة التي انتهت بأيدي الرعب المضاد في السنة الأخيرة ‏من ‏عمر جمهورية الثورة ‏Thermidor ‎‏ . أما مصطلح "الرعب الأحمر" في زمن الثورة ‏البلشفية، فإنه ‏يَستمد معناه بمقابل "الرعب الأبيض"، وذلك في سياق من الحرب الأهلية بين ‏الثوريين في السلطة ‏ومعادي الثورة. وفي الوقت الراهن، فإن الحركات غير المتكافئة من حيث ‏أهميتها، والتي يُطلَق عليها ‏تسمية الحركات "الإرهابية"، يُقصد بها مجموعات قليلة العدد، ‏وتُعَرِّف نفسها بأنها "طليعية"، وتمارس ‏أشكالا من النضال المسلَّح ضد السلطات الحاكمة. ‏وعلى الصعيد العملي، فإن الحكم على أعمالها لتثمينها ‏يتوقف على حظ هذه الحركات من ‏النجاح أو الفشل. ومنها على سبيل المثال النضال المعادي للاستعمار، ‏كالفييتكونغ في جنوب ‏شرقي آسيا سابقاً، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، والمؤتمر الوطني الأفريقي ‏في أفريقيا ‏الجنوبية. وفي وقت متأخر يأتي ذكر الفدائيين الفلسطينيين في الستينات، و في ‏العواصم ‏الأوروبية الكبرى حيث يظهر النضال المناهض للبورجوازية عبر فصائل الجيش الثوري  ‏Rote ‎Arme Fraktion‏  في ألمانيا، والخلايا الشيوعية المقاتلة في بلجيكا‎ Cellules ‎Communistes ‎Comabattantes، والعمل المباشر في فرنسا ‏Action Directe، و17 ‏نوفمبر في اليونان‎17 ‎novembre ‎، وغرابو في أسبانيا‎  ‎‏ ‏Grupo de Resistencia ‎Antifascista Primero de ‎Octubre، أو فصائل الجيش الثوري اللبناني. فهل يصح ‏إطلاق مصطلح الإرهاب على كل هذه ‏التعبيرات؟ ‏
الحال، إن الإرهاب اليوم يُقصد به شكل من أشكال العنف ذي طموح شمولي محمول على خطاب ‏ذي ‏خصوصية. وإنهم بدون أي حرج يؤكِّدون "أن الحدود ما بين الإرهاب والمقاومة المسلَّحة ‏للمُضطَهِدين ‏لم تعد في أغلب الأحيان واضحة"(انظر على سبيل المثال: دومينيك فيننيه، تاريخ ‏الإرهاب، منشورات ‏بيغماليون، باريس 2002). والحقيقة هي أن أنظارنا كلها يجب ان ‏تنصب على هذه الحدود لمعرفة ما ذا ‏يحدث ومَن الذي يفعل؟ ومَن هم الإرهابيون؟ ومن هم ‏ضحايا الإرهاب؟ وباسم أية أيديولوجية تراهم ‏يتحرَّكون؟ وما هي دوافعهم؟
منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، يخوض الخطاب المسيطِر الذي شُيِّد منذ ذلك ‏التاريخ معركةً ‏بدعمٍ من تعبئة دولية تزعم أنها لا تريد سوى اجتثاث الإرهاب من جذوره. ‏ويَزعم هذا الخطاب أنه ‏شمولي. وهو يُوَحِّد من حيث التعريف بين الإرهاب والقاعدة، وبين هذا ‏وذاك و الإسلام الجذري الذي ‏يُطلّق عليه تسمية "الإسلام السياسي" الذي يُعْتَبَرُ رديفاً للشر. ‏وهو خطاب مانوي، طالما هو يَعْتَبِر هذه ‏الحضارة "شيطانية" (لاحظ استخدام المصطلح ‏الديني)، ويحيط كل من يحيط بهذه الحضارة بالشكوك. ‏بالمقابل، فإن هذه الأيديولوجية ‏المسيطِرة هي التي تعمل من أجل الخير، وهي حامية القيم الإنسانية ‏والديمقراطية. واعتبارا ‏من ذلك، فإننا نجد أنفسنا أمام حرب صليبية، والمقولة القائلة: إنك إما أن تكون ‏معنا أو ضدنا. ‏وقد فضح إدوارد سعيد هذه المفارقة عندما كتب: "إن أيديولوجية الإرهاب قد اكتَسَبَت ‏حياةَ ‏ذات استقلال ذاتي، فهي تنال شرعيتها من نفسها، ثم تعود مجدَّدا لتنال شرعيتها بدون أي برهان ‏أو ‏توثيق منطقي وعقلاني... إن الإرهاب والحرب المهووسة ضده أصبح نوعا من الدائرة ‏محكمة الإغلاق، ‏والتي تَحتكر القتل الذي يَستمد مبرراته من ذاته، وتُنْزِل الموت البطيء بأعداء ‏معدومي الخيار ‏ومحرومين من حق إبداء الرأي". ولنلاحظ أن الولايات المتحدة استغلَّت ‏واستَثمَرت أحداث 11 ‏أيلول/سبتمبر إلى أبعد مدى، وأنها جمعت رصيدا من التعاطف قوى ‏الصدى. فلماذا لم تحظَ الجزائر، وهي ‏ضحية لاعتداءات فتَّاكة منذ عقد من الزمان، بشيء ولو ‏ضئيل من هذا الرصيد؟ إن ما يمس بالقوة ‏العظمى يُحاط سلفا  بالتقدير والاحترام والإجلال، حتى ‏أنه يصبح عاطفيا واقتصاديا وعسكريا هو المحتكِر ‏الوحيد لمثل هذا التعاطف. وكانت الولايات ‏المتحدة استفادت من هذا الرصيد لتفرض هيمنتها العالمية على ‏حلفائها الإمبرياليين وغيرهم ‏في أوروبا وروسيا والصين والعالم العربي. واستثمرته أيضا للحؤول دون ‏أن ينجح أي شعب ‏في إنجاز أي تطوير قومي بصورة ذاتية، على نحو ما يتبيَّن لنا من حرب الخليج ‏واعتداء ‏الحلف الأطلسي على يوغسلافيا. إن حق الاختلاف والتباين محظور في عهد النيوليبرالية ‏التي ‏تُفرَض على كل الشعوب كنمط واحد من قِبَل أسياد العالم، وذلك من أجل السيطرة على ‏مصادر ‏الطاقة، ولتخطي الصعوبات السياسية والاقتصادية لأنظمة الحكم، والتي تشمل البورصة ‏والسوق ‏العقارية وفضائح البنوك والديون وشتى أنواع التمييز من عنصرية وغيرها.‏
وبالمحصِّلة، فإن خطاب الإرهاب هو نفسه الذي يُرهِب أو ينتهي إلى إرهاب العالم من أجل ‏فرض الانقياد ‏على المُسْتَبَد بهم، وذلك لمصالح القوة العظمى وحدها. إنه يعمل عن طريق ‏التلاعب بالدلالة اللغوية التي ‏تُمَوِّه إرهاب الدولة بفضل صفة الإرهاب التي يُلحقها هذا الخطاب ‏بكل مقاومة لإرهاب الدولة ". الأمر ‏الذي لم يفت على جان جونيه ‏Jean Genêt ‎‏ التنبيه إليه ‏عندما ميِّز بين العنف التحرُّري الذي يجد أفضل ‏مثال له – حسب ما كان يقوله قبل نحو ثلاثين ‏سنة – في الشعب الفلسطيني، والقسوة القمعية التي ‏تمارسها السلطة الإسرائيلية المُحتَلَّة. ‏والواقع، إن إرهاب الدولة الذي يَعفي نفسه من أي دفاع عن النفس، ‏ينتمي إلى ممارسة كل ‏دولة أيا كانت طبيعتها، وهي تزعم لنفسها حق احتكار العنف الشرعي وارتكاب كل ‏أنوع ‏الانتهاكات. إن الإمبريالية الأمريكية مصدرٌ ومركز للرعب المعولم. وإن الخطاب الذي تنشره ‏ليس ‏أمرا آخر سوى خطاب القهر. ‏
والنتائج المترتبة عن هذا الخطاب من نوعين اثنين. إنها على الصعيد المرئي سياسية. إن هذا ‏الخطاب ‏يعمل بدون هوادة على نشر جو من الرعب على الصعيد الدولي، جو من الريبة ‏والشبهات، جو حربي، ‏ويعَتمد على وسائط الإعلام لتغذية حالة من الذهان. والحال، أن الحرب ‏جوابٌ غير متكافئ أبدا مع ما ‏يزعم محاربته من خطر، وأن ما يلجأ إليه من أدوات ليس من ‏شأنها إلا أن تزيد من مقت  وكراهية وانتقام ‏البلدان التي تُعتبر بأعين هذا الخطاب مُدانة، أو ‏‏"الدول المارقة" حسب ما يُطِلق عليها من تسمية. وعلى ‏الصعيد القومي للبلدان الحليفة، فإن ‏ميزانيات الدفاع حسب تقرير لمنظمة أمم المتحدة قد ارتفعت، في ما ‏أُقرَّت إجراءات مشدَّدة في ‏مجالات الشرطة وحرية التعبير والقضاء والمنظَّمات، وأُطلقت يد الدولة في ما ‏يتعلق بالعمليات ‏العسكرية، وحلَّ الحلف الأطلسي محل منظمة  الأمم ا لمتحدة.  بل، وإن هذه  ‏الأخيرة  ‏أَخذَت  بمفهوم  "الحرب  الوقائية"  لتبرير  أي  هجوم. ‏
وإن النوع الثاني من النتائج أيديولوجي. واللائحة هنا طويلة. وإني اقتصر هنا على الخطاب ‏الذي يُزَيِّف ‏الحقائق من أجل الإقناع بالحرب الصليبية، أسسها وأهدافها الشمولية. فالخطاب ‏يصف أشكال المقاومة ‏‏(العنف) ب"الإرهاب" الذي يستهدف في المقام الأول الضحايا المدنيين ‏والأبرياء. وهذان التعبيران هما ‏هنا في الحقيقة موضع لتلاعب مكشوف بالرأي العام. فمن هي ‏الحرب التي لم تُخَلِّف بين المدنيين ‏والأبرياء عددا أكبر مما خلَّفته بين العسكر؟ والعسكريون ‏من هم في أغلب الأحيان؟ أليسوا مدنيين عبئوا ‏في الجيش الاحتياطي. والأمثلة على ذلك كثيرة ‏ولا تحصى. وكيف لنا أن تغط الطرف عن استطلاعات ‏الرأي التي تبيِّن أن شعوب الولايات ‏المتحدة الأمريكية وإسرائيل تؤيِّد حكوماتهما، فلنحجم بالتالي عن ‏التساؤل عن معنى براءة ‏المدنيين؟ وماذا أيضا عن "صِدام الحضارات" الذي لا يوفِّر أحدا، بما في ذلك ‏العلمانيين في بلاد ‏الإسلام. هذا كله في ما يعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بكامل طاقته ليدر ‏أرباحا ‏طائلة...‏
 إن حق الدفاع عن النفس على لسان الولايات المتحدة ضد "الإرهاب الدولي"، و ما تسميه ‏إسرائيل ‏ب"الردود الانتقامية"، ما هو سوى قلب للأدوار. ومن الأمثلة الحية على ذلك تجده في ‏قنا بجنوب لبنان، ‏حيث يزعم الجلاد أنه الضحية. وهذا الرئيس فاكلاف هافيل يصف ضربات ‏الحلف الأطلسي المُوَجَّهَة ‏ليوغسلافيا أنها ضربات "إنسانية بامتياز".  وماذا عن سجناء ‏غوانتنمو الذين يُعَرَّفون  ب"أسرى من ‏ميدان القتال".  وهذا المثال وحده كافٍ لتوضيح مدى ‏ما بلغ إليه احتقار حقوق الإنسان. أما في ما يتعلق ‏بالكشف عن هوية الخصم، فإن "القاعدة" ‏هي العدو المُبْتَكَر. وكما قلت قبل قليل فإن الإسلامي يُخْلُف ‏الشيوعي، وراعي البقر لا وجود له ‏بدون الهندي الميِّت إذا أمكن ذلك. وابن لادن إذا ما كان موجودا من ‏دم ولحم فإنه زراعة ‏أمريكية من صنع ال/سي.أي.إيه، أو كما يقول آرونداتي روا ‏Arundhati Roy‏‎  ‎‎"‎سر ‏من أسرار الأسرة في أمريكا"(لوموند، 14-15 تشرين الأول/أكتوبر 2001). إن طالبان ‏شأنهم ‏شأن نورييغا هم بمثابة ارتكاس للضربة التي عادت من حيث كانت انطلقت لتخبط وجها لوجه ‏من ‏كان أطلقها. وأعود لأقول إن الإسلام السياسي الذي يُستخدم كرديف للأصولية أو الإسلامية ‏هو نتاج ‏للسياسات الإمبريالية التي مورست منذ باندونغ وما رافقها من اغتيالات لقادة ‏مناهضة الاستعمار ‏والإمبريالية، من المهدى بنبركة، إلى هنري كورييلHenri Curiel ‎‏ ‏‎ ‎وشي غيفارا مرورا بلومومبا ‏ومُصَدِّق، فضلاً عن تصفية حركات المعارضة الوطنية ‏والتقدُّمية، وما قدَّمه الاستعمار والإمبريالية من ‏دعم مالي ومعنوي واقتصادي ودبلوماسي ‏لأعداء الثورة وللثورة المضادة في سائر أنحاء العالم العربي ‏والإسلامي. ‏
‏ وإذن، في مواجهة إرهاب الدولة العظمى أو إرهاب ما فوق الدولة، والذي يَشغْل حيِّزا مركزيا ‏في عالمنا ‏‏- وما "القاعدة" في مركز الإرهاب إلا انعكاس لهذه الدولة في المرآة - تنتصب بأعظم ‏قوة أشكال من ‏المقاومة، وإن كانت ضعيفة، فإنها تتحدى هذا المركز وتبدأ بتفكيكه. وعندما ‏تصبح القدس عاصمة للدولة ‏الفلسطينية، فإن نصبا تذكاريا سيرتفع في مركز المدينة إحياءً ‏لشهداء الاستقلال، وفي مقدمة هؤلاء يطل ‏الانتحاريون. وسيكون ذلك محض عدالة تجاههم.
 
خامساً: العــنف الحـربي مـهما اشــتد
          فإنه ليـس أكثر عنفا
          ‏من عنف المجموعات الرأسمالية الطبقية الكبرى                                     ‏
‏1- عولمة العنف: أنت تردد دوما مع جوزيه مارتي "إن الواقعي في السياسة ليس هو ما ‏نراه". كيف ‏أنت تقرأ وترى مظاهر العنف التي تنجح العولمة ذات البريق الكاذب وعبر الثورة ‏المعلوماتية في ‏إخفائها. ‏
‏***  أنا أنطلق من ثلاثة اعتبارات.‏
أولا: إن ما يسمى العولمة ليس أمرا آخر غير ما وصلت إليه الرأسمالية في أعلى مراحلها. ‏مرحلة مطابقة ‏لطبيعتها حسب ما يُبيِّنه ماركس وإنجلز في مطلع البيان الشيوعي. ‏
ثانيا: لقد تبخَّرت الآمال التي كانت وُلِدَت غداة انهيار حائط برلين، والتي كانت تحلم بعالم من ‏نمط آخر ‏بديل لانهيار البلدان التي كان يطلق عليها تسمية "اشتراكية"، إلى عودة الوفاق، ‏إلى عالم تنتصر فيه ‏الديمقراطية بفضل حرية تنقُّل الأفراد والبضائع والأفكار. ‏
ثالثا: ومن هذه المعطيات أستخلص أطروحة مؤدَّاها أن العالم بدل أن يرى بديلا يحل محل ‏أسطورة ‏‏"العولمة السعيدة" الموعودة من قِبَل الأيديولوجية السائدة، فإن ما نواجه مقابل العولمة النيوليبرالية، ‏هو ‏‏"عنف معولم" تعجز أية إجراءات وتدابير للإنقاذ، أن تنجو بنا منه، بما في ذلك تلك التي ‏تنادي بها ‏‏"العولمة الأخرى". ‏
وأورد هنا بعض الملاحظات. وأعتذر سلفا للتبسيط في العرض:‏
أولا - من الناحية العملية:‏
‏آ/   إن اللجوء إلى النزاعات المسلحة واستخدام القوة العسكرية اليوم لا مثيل له في الماضي. ‏وهو نوع ‏من "العنف الدامي"، ومن نتاج إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية التي فَرَضَت ‏سيطرتها على شركائها ‏في الأمبريالية، وهما اليابان وأوروبا، والتي تتميَّز بأن أداءها هو- من ‏حيث التعريف - عدواني منذ ‏ولادتها. إنها حكما وأبدا عدوانية. ولن تكون غير ذلك. إنها بحاجة ‏دوما إلى عفريت، هندي، مكسيكي، ‏بولشفيكي، وإسلامي. وقد لمَّت وراءها ائتلافا واسعا من ‏الدول.. حتى أن الكوكب اليوم يقع بكامله تحت ‏رقابة البينتاغون الذي يجنِّد مئات ألوف ‏العسكر، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المرتزقة. وتسير نفقات ‏التسلح في عالمنا اليوم نحو ‏الزيادة بصورة مستمرة. إنها تُمَثِّل 2.5 بالمائة من الدخل القومي الخام ‏للعالم، وهي تزيد191 ‏ضعفا عن المساعدات الممنوحة للأزمة الغذائية. والولايات المتحدة وحدها تبيع ‏‏45 بالمائة من ‏مبيعات السلاح في العالم. ‏
‏ب/ الشكل الثاني للعنف اقتصادي وهو "العنف الأخرس"، فالنظام الاقتصادي يُتْبَعَ النظام ‏السياسي ‏لسيطرة رأس المال المالي. وهو الأمر الذي يعبِّر عن نفسه بتعميق الاستغلال، وحالة ‏من انعدام المساواة ‏أفظع وأشد مما كان عليه الظلم في الماضي، وديمقراطيات مريضة، ‏وحالات من التمييز في كل المجالات. ‏نحن اليوم أمام تعديل خطير لقانون العمل، وفقدان العمل ‏الآمن من البطالة في المستقبل، وقد حلَّت ‏الأثنيات بجميع أشكالها وألوانها محل بنى ومنظمات ‏الطبقة والأمة. واتَّسع تعميم البضاعة وامتد ليطال ‏كل مناحي الحياة بصورة لا مثيل لها، فشمل ‏السلاح والمخدرات والدعارة، حتى أن المظلومين المعدمين ‏باتوا يتاجرون بأجسامهم وهم ‏أحياء. وهذه البضاعة في حالة التعميم تَنهب اليوم أفريقيا، حتى أن القارة ‏السوداء باتت في ‏حالة النزاع الأخير، وهي تلفظ أنفاسها. ناهيكم وما تلحقه من أضرار بالبيئة. ‏
‏ج/   يصعب التمييز بين هذين الشكلين السابقين من العنف، العولمة العسكرية، والعولمة ‏الاقتصادية، وما ‏يرافق الأولي والثانية من حالات عنف. فالعنف "الأخرس" يتمخَّض عن نتائج ‏مجتمعية ثرثارة إن صح ‏التعبير، حيث التمرد والعصيان في "الضواحي" كما يحلو لهم أن ‏يقولوا، أو في "الأراضي" للإشارة إلى ‏انتفاضات الشعب الفلسطيني، ناهيكم وارتفاع نسبة ‏الانتحار بين الشبان وسلك الشرطة وقادة المؤسسات ‏وفي المعامل، واغتصاب النساء، وانتشار ‏عصابات الجريمة المنظَّمة، والموت بسبب التبغ والكحول، ‏والتنكيد الأخلاقي، وذلك كله في ما ‏تمَّحي الحدود ما بين المافيات ورجال السياسة والمضاربين في ‏البورصة. ‏
والخلاصة مما تقدَّم هي أن العنف "السلمي" لا يقل ضررا، أذىً وتدميرا، عن العنف الحربي. ‏إن أي ‏تدمير عسكري تحت أي علم كان لن يصل إلى أقدام الجرائم الواسعة التي تُرتِكب بحق ‏الجماهير من قِبَل ‏عصابات المجرمين وجمعياتهم، من أمثال المجموعة متعددة الجنسيات للمواد ‏الغذائية "مونسانتو"، أو ‏صاحبة الاحترام العظيم المؤسسة التي تحكم العالم والتي يسمُّونها ‏صندوق النقد الدولي. ‏
ثانيا- من الناحية الأيديولوجية:‏
‏آ/  بسبب من الانتهاكات كثيرة الأشكال وغير المخفية والتي تقع تحت إشراف الولايات ‏المتحدة، لم تعد ‏شرعية النظام القائم وحقوق الإنسان وحق الشعوب بتقرير مصيرها والقانون ‏الدولي ودولة القانون، تجد ‏رواجاً.  فها هي التعبئة العامة تحت شعار مكافحة الإرهاب قد ‏أَعلَنت عن نفسها بعدما استُخدِمت اعتداءات ‏‏11 سبتمبر 2001 ذريعة لتشييد نظام من الأدلة ‏يؤَسِّس لتوسيع أجهزة الأمن بصورة لا مثيل لها في ‏الماضي، وما يرافق ذلك من ارتفاع في ‏النفقات العسكرية بنسبة 50 بالمائة، وازدهار غير مسبوق ‏للصناعات الأمنية ومنتجاتها. فيما ‏وَحَّدث كثرٌ من البلدان تشريعاتها القضائية، وإجراءاتها، لحيازة مزيد ‏من الأدوات لسياستها ما ‏فوق الليبرالية، من الاعتقال الاحترازي، إلى التصنت على الهواتف، إلى شبكات ‏التصوير ‏والكاميرات المنتشرة في كل مكان. إن انعدام أي تعريف لمفهوم "الإرهاب" - عن ‏قصد ‏وبصورة مستمرة - يُخفي الابتزاز الأمني و"خطاب الأمن"، ويفتح المجال أيضا أمام ‏إجراءات ‏معادية للمجتمع و ُيجَرِّم في الوقت نفسه  كل حركة معارضة أو حركة مقاومة. ‏
‏ب/   إن هذه الإيديولوجية تُخفي نفسها عبر مزاعم ديمقراطية تزعم أنها تؤيِّد العدوان المسلح أو ‏ما ‏يسمُّونه "حق التدخل". إن تكاثر "الثورات" التي يسمُّونها "برتقالية" – بين أدوات ‏غيرها لحيازة ‏سيطرة أشد للسياسة ما فوق الليبرالية – ضروري، حسب منطق هذه ‏الأيديولوجية، من أجل تشييد نظام ‏عالمي جديد، يؤدي إلى إطلاق يد السلطات في ارتكابها لكل ‏الانتهاكات والاغتصابات. وإن مبدأ "فَرِّق ‏تسد"، هو عصب السياسة الإمبريالية التي تشجع ‏انفجار الأمة الواحدة إلى أمم. والأمثلة أمامنا كثيرة: ‏يوغوسلافيا، الاتحاد السوفياتي، العراق، ‏بوليفيا، والصين. ‏
والانحسار السياسي يمتد ويتَّسع إلى مجالات غيرها، في الإعلام، والثقافة، والعادات، حيث ‏يُعاد قولبتها ‏وترقيمها بحيث تستجيب لنواهي وملزمات السياسة الأمريكية. وبمثل هذا الخطاب ‏الأيديولوجي تصبح ‏الولايات المتحدة الأمريكية هي "الأمة الوحيدة الضرورية" كما يقول ‏بوقاحة وكبرياء الديمقراطي ‏الأمريكي وليم كلينتون.‏
 
‏2/  كيف تُفَنِّد أيديولوجية رفض العنف؟
‏***  يُشَكِّل رفض العنف نقطة التلاقي في أيديولوجية مكافحة الإرهاب التي تكرِّس احتكار ‏الدولة ‏لممارسة العنف، وتمنحها كما يقول ماكس فيبر ‏‎ Max Weber‏ قيمة مطلقة. إن رفض ‏العنف وإدانة كل ‏حالة عنف، من المواطن غير المتقيد بما هو مواطن، إلى الشغب ‏والاضطرابات، مِن هذا الذي يدَفع بالآخر ‏بيده أو قدمه لرميه أرضا، إلى التعذيب، إن كل هذه ‏الأشكال من العنف تحظى بإجماع توافقي كامل ضمن ‏الأسر السياسية على اختلافها. ثم جاءت ‏اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتقدِّس إدانة العنف. إن ‏مراسم المآتم على أرضية من ‏الشعور بالذنب، تصبُّ في محرمَّات الطبقة القائدة وتعزِّز شعارها القائل إن ‏المجتمع يقوم على ‏الوفاق وليس النزاع. ‏
إن رفض العنف هذا يؤدي وظيفتين اثنتين. إنه يجسِّد صوتا داخليا يأمر بالانحراف بالمطالب ‏الاجتماعية ‏أو تحجيمها من أية فئة عمالية جاءت. ويُسجِّد أيضا صوتا خارجيا يوجِّه النزاعات ‏الراهنة بإطلاق تسمية ‏الدول "المارقة" والمجموعات "الإرهابية" التي يُحكم عليها بأنها ‏تستحق العنف الإمبريالي. والحال، أن ‏‏"إرهاب الدولة" يمارس حالة من العدوى الحقيقية، إذ ‏إنه يُحَرِّض بصورة مستديمة على أعمال ‏‏"إرهابية"، ويَخلق "الإرهابيين" حيث هو يريد ‏مقاتلتهم، وذلك على غرار ما تفعل الولايات المتحدة ‏وإسرائيل. ‏
ثمة أيضا مفارقات بعيدة المدى بين التحليل النقدي للعولمة وبين الخطاب الرسمي الذي يدافع ‏عن أسسها. ‏إن نقد العولمة لا يجد طريقه بصورة كافية إلى الرأي العام، ليس بسبب الخطابات ‏التي تبرِّر الممارسات ‏المخاتلة للطبقات القائدة، وهي نادرة في زماننا طالما أن هذه الممارسات  ‏مرفوضة، وإنما بسبب ستائر ‏من الشرعيات الكاذبة التي تروج وتدافع، من جهة، عن ‏مجادلات فارغة لاهوتية وإثنية، ك/"الحملة ‏الصليبية من أجل الخير وضد الشر"، و"الحضارة ضد ‏البربرية"، والتي تروِّج وتدافع، من جهة ثانية، ‏عن جدل فارغ سياسي ومجتمعي يٌطِلق العنان ‏أمام الإعلانات المستقبلية حول المستقبل الأفضل. وعلى ‏هذا النحو فإن حالة من الخلط تشوب ‏برنامج دافوس من جهة، ومشروع القس بيير‎ Abbé Pierre‏من ‏جهة ثانية وتخلط ‏بينهما. وكان ناعومي كلاين ‏Naomi Klein‏ شَخَّصَ قبل فترة وجيزة ‏‏"كارثة ‏رأسمالية"، قوامها الصلة الجوهرية بين العنف والرأسمالية. أما جورجو آغامبين ‏Giorgio ‎Agamben ‎‏ فقد أوضح أن الخطابات الأمنية لا علاقة لها بالوقاية من ‏العمليات الإرهابية، وأن الوضع ‏الحالي هو أشد وأقسى مما كان عليه الحال إبَّان الفاشية. فيما ‏يرى كزافييه فيرسشافي ‏Xavier ‎Verschave‏‎ ‎في الفردوس الضريبي الذي يدر نصف ‏التحويلات المالية العالمية "عولمة للجريمة ‏المالية". ويذهب محمد يونس الحائز على جائزة ‏نوبل للاقتصاد إلى أن 94 بالمائة من الدخل العالمي ‏مُحتَكَر من قِبَل 40 بالمائة من السكان، وأن ‏‏6 بالمائة مما تبقى يتوازعه 60 بالمائة من السكان، وأن ‏نصف عدد سكان العالم محكوم عليهم ‏بدخل يومي يساوي 2 دولار، وأن مليارا من سكان الأرض يكتفي ‏بدولار واحد.‏
 
‏                                                        ســـادســـاُ:  فــي العــنف الثـوري
 
‏1/   كيف أنت تِنزع عن العنف الأقنعة الإيديولوجية التي تغطيه؟
‏***  أولا: إن حالات الإكراه المفروضة من النظام الحالي هي التي تُفَسِّر ما يرافق العنف من ‏خلط بغيره ‏من الموضوعات بصورة مقصودة، وهذا الخلط يتجدَّد عن سابق تصميم كل يوم. إن ‏رد الفعل الهجومي ‏ضد العنف، وهو في غاية البلادة، يُترجِم عن عدد من الظواهر. فالإجماع ‏على إدانة اللجوء إلى العنف لا ‏يقتصر على الديمقراطيين "المتطورين"، ويتمخض عنه ليس ‏فقط الدفاع عن الإجماع الذي يرُجِّح الحوار ‏والنقاش والوفاق، وإنما هو مُوَجَّه ومسيَّر من قِبَل ‏شكل حديث من العبودية الطوعية. وإن هذا الانقياد ‏الطوعي إذ هو يقبل بكل ما ترمي به ‏السلطات من تشنيع بحق أي خيار ثوري، من اتهامات تزعم بأن ‏الثورة مفهوم قديم، متخلِّف، ‏وانتهي زمانه، يَنتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى الامتناع عن المساس ‏بالنظام. وإن الرقابة ‏والحظر يمسَّان كل الظواهر بما في ذلك الكلمة: إن الإمبريالية كلمة صائغة أما ‏الاستغلال فلا. ‏والعولمة تخفي الرأسمالية وقد حلَّت محلها، والظلم حل محل الاستلاب، والمواطنون ‏محل ‏الشعب، والجماعات محل الطبقات...‏
ثانيا: لقد أصبحت النزعة السلمية وحسن الجوار معياراً للاحتجاج والرفض، وهما يسهران ‏على تجزئة كل ‏ما يمت إلى الاحتجاج والرفض من تعبيرات بصلة، من الإضرابات إلى ‏الاعتصام إلى مظاهرات الشوارع. ‏وحل تعبير الجمعيات محل لجان التعاضد والتعاون والنقابة ‏والمجالس. وإن اللازمة التي تردد كالمزمار ‏نهاية الطبقة العاملة وفقدانها كل مركزية، تريد أن ‏تمحو في الوقت نفسه مصطلح الإضراب العام. نحن ‏اليوم أمام تعبيرات من أمثال المنظمات ‏غير الحكومية، والتدخل الإنساني، والمساعدة، والتصدُّق، في ما ‏غاب مصطلح السلطات ‏المضادة ليفسح المجال أمام الأدوات المساعدة للدولة البورجوازية. وتَمنَح ‏العولمة لأول مرة ‏للمُسَيطِرين القدرة على التمكن من آلة كلية، كونية، وفي نظام شمولي واحد يمتد ‏ويتَّسع ليطال ‏السيطرة الاقتصادية والأيديولوجية والمالية والعسكرية والدبلوماسية والمعلوماتية، فضلا ‏عن ‏ثقافة القمع، في ما المُسَيطَر عليهم يُخْتَصَرون إلى اختصاص جزئي في القطاع الضيق ‏لحدوهم. ‏والأدوار هنا موزَّعة بعناية. فهاهنا كل ما هو نظيف أو بالأحرى طاهر، و هناك كل ما هو ‏قذر ‏ومثير للاشمئزاز.‏
وفي جميع الأحوال، فإن للسيطرة قاعدتين اثنتين. أولاهما تقول بتحطيم كل ما هو جماعي، أيا ‏كانت ‏طبيعته، عاما أم خاصا، لصالح ما هو فردي. وثانيهما قوامها إلحاق ما هو سياسي بما ‏هو اقتصادي، ‏وبالأحرى بما هو مالي. ‏
ثالثا: والأرضية المأساوية لثالوث العبودية/ الانقياد/التبعية، ليس أمرا آخر سوى العنف ‏‏"الأخرس" الذي ‏يَبقى غير مرئي رغم أنه ذو حضور فوري. وإنهم بعد ذلك يزعمون أن هذا ‏النوع من العنف نسبي طالما ‏أن الرأي العام يَعْرِف بصورة مستمرة كل ما يجري في ‏المؤسسات الاقتصادية. وعليه، فإن الفقراء ليسوا ‏البضاعة الكاسدة لعالم التطور، وإنما ‏هم النتاج الضروري لرقيِّه، وضحايا الظلم المجتمعي، والصحي،  ‏والبيئي، والجوي. ‏وإن أولئك الذين يبيعون أعضائهم هم أنفسهم الذين يصابوا بوباء فقدان المناعة  ‏المكتسبة  على  حد  قول  مانديلا.، أو  هم  أنفسهم  المتضررين  من  إعصار، زوبعة  وعاصفة.‏
والحال، إن العنف الحقيقي بهذا المعنى ليس بصورة حصرية رديفاً للأفريقي  الذي يرى العالم ‏بصورة ‏مغايرة لغيره، أو العجوز الفقير الذي يموت حرقا في مأواه المتهالك، أو المُشَوّه في ‏حادث عمل وراء آلة ‏المصنع، أو المرأة المغتصبة، أو الفلسطيني الذي يعاني من كل أشكال ‏الإهانات، أو العراقي المعذَّب بأيدي ‏جلاديه. وبتعبير آخر إن العنف ليس رديفا فقط للائحة ‏كاملة بأنواع الآلام الإنسانية. إن العنف الحقيقي ‏يمتد ويتِّسع ليدخل إلى المعمل المتقدِّم ‏تكنولوجيا، أو إلى ما سجلَّته الحداثة في عهدنا من آلاف التعبيرات ‏عن الانتصارات التي ‏اكتُسِبَت عبر زماننا. إن العنف يسود في الحكومة العالمية، في قيادة الحلف ‏الأطلسي، في ‏قيادات الأركان، في الشركات متعددة الجنسيات الغذائية، في طعامنا، في الأدوية وعالم ‏الأزياء ‏الفاخرة. إنه أرض يمشي عليها انتقام الدولة التي تحتفظ للسجناء السياسيين بمصير أشد ‏قسوة ‏مما يناله سجين الحق العام، وفي القرارات المتعلقة بخصم الراتب. العنف مرسوم فوق ‏وجوه نجوم ‏الشاشة التلفزيونية  ومخرجي  الاستعراضات الذين يبيعون ويروِّجون لثقافة ‏ديزني لاند وكأنها حلم، فوق ‏وجه مذيع نشرات الأخبار الذي يشوِّه الحقائق ويُفسِد العقول. ولا ‏ننسى أيضا ما يسمُّونه بحالات العنف ‏العفوي التي لا دافع لها سوى الغضب. وإن ردود الفعل ‏هذه كلها، ومنها ما يشبهها أيضا ألا وهو حالات ‏كثر من تمرد الفلاحين عبر القرون الوسطى، ‏يجب إدراجها في أنماط وأشكال العنف. إن تمردهم يجعل من ‏الضرورة بمكان التخلُّص بسرعة ‏فائقة من الخضوع الأعمى والاستسلام، سواء كان عن تواطئ أم عن ‏يأس، أو بتعبير آخر: إن ‏من الضرورة بمكان أن نعي الأضرار المعولَمة، وأن نعيد لمفهوم الثورة ‏مصداقيته. فهل هذا ‏يعني أن الدعوة إلى العنف هي ترياق التحرُّر؟ ثمة بعض العناصر للبدء بالإجابة على ‏السؤال. ‏
 
‏2- أنت إذن تدافع عن العنف الثوري.‏                                                                             
‏*** ‏‎كي نفهم ما هو المقصود بالعنف الثوري في ختام هذا الحديث المطوَّل عن العنف لا بد من ‏أن نعرِّي ‏إدانة العنف. إن رفض العنف، كل عنف أيا كان وبدون أية صفة تصفه، إن هذا ‏العنف غير الموصوف ‏يحتل حيِّزا مركزيا في الأيديولوجية السائدة. وكان هذا الحيِّز محتلا ما ‏قبل العنف من قِبَل الخطاب ‏الحقوقي، حقوق الإنسان، والحقوق الدولية، ودولة القانون. ثم جاء ‏العنف ليحتل المركز الأول محمولا ‏من الخطاب الأمني الذي يقوم على مرتكزين اثنين: مكافحة ‏الإرهاب، والدفاع عن الديمقراطية إن لم يكن ‏تمجيدها.‏
 ويأتي رفض العنف كما يقولون لأسباب أخلاقية، لأن العنف شنيع وشرِّير ومدان بصورة ‏شمولية. ‏ولأسباب المعاصرة، إذ أن رفضه يأتي باسم درجة الرقي العليا للحضارة. ويَمْثُل هذا ‏الرفض للعنف من ‏حيث هو واقعة تقرِّها كل الخيارات السياسية، اليمينية باسم القيم، ومنها ‏الدينية في المقام الأول، ‏والاشتراكية الديمقراطية باسم الوفاق والإجماع الجمهوري، إن لم يكن ‏العلماني، واليسارية بما في ذلك ‏الشيوعية باسم النقد الذاتي إن لم يكن الشعور بالذنب. إن ‏الأيديولوجية السائدة تُلزم الحكومات والهيئات ‏الدولية بأن تضع نهاية للعنف، علما أنه منتشر ‏اليوم في كل مكان، من المدرسة إلى الأسرة، ومن الشبَّان ‏إلى الأحياء، وفي السجون، وفي ‏المعمل والإدارة، وفي الطرق، ومن فقدان الوعي المدني للمواطن، إلى ‏النزاعات المسلِّحة بين ‏الجماعات المجتمعية والأمم.‏
وإلى ذلك فإن هذا الموقف الأيديولوجي هو من خواص الإمبريالية في مرحلتها الراهنة، والتي ‏تُسَمِّى ‏عولمة، ومعناها عولمة العنف.‏
إن أول خواص العولمة يظهر عبر التحوُّل الحربي للسياسة، أو - كما أسلفنا قبل قليل – ‏بأسبقية الحرب ‏على السياسة بعدما كانت الحرب امتدادا مسلّحا للسياسة. ونحن نشاهد اليوم ‏كيف أن الولايات المتحدة ‏التي تقود الإمبرياليات قد أَعلَنَت "الحرب إلى ما لا نهاية". وإن هذه ‏الحرب، وهي ذات مستوى ‏تكنولوجي بلغ أعلى مراحله، قد ضَرَبَت أفغانستان والعراق ‏وفلسطين بتوسط إسرائيل ولبنان، وذلك ‏بانتظار امتدادها حسب ما تشير الاحتمالات إلى إيران ‏وسورية وكوريا الشمالية. وهذا العنف قيد التنفيذ ‏يكشف عن نفسه عبر مراكز الاعتقال ‏الخارجة عن القانون، وبالتشريع للتعذيب. لكنه ينفي عن نفسه ‏حقيقته من حيث هو عنف ‏إمبريالي بحجة مؤداها أن الهدف من التعذيب والاعتقالات احترازي، وقائي، ‏ويَستَمد شرعيته ‏من محاربته ل/"محور الشر"، ومن هدف يرمي إلى توفير السعادة للشعوب المعنية، ‏وذلك ‏بفضل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" (الديمقراطي). إن أيديولوجية العولمة تَعْتَبر هذا ‏العنف ‏إحسانا أو عملا باراً، ويقتصر عل ردود انتقامية. أما العنف الحقيقي، فإن أيديولوجية ‏العولمة تصفه بأنه ‏مجرم و"أعمى"، وهو من عمل   الآخر الذي كان يُسَمِّى في ‏الماضي "الشيوعي الأحمر"، والذي ‏يُسَمَّى اليوم  "المسلم  الأخضر". ‏
ويختفي ما وراء مثل هذا البناء الأيديولوجي -  كما أسلفنا قبل -  أن العولمة  تنجح بحظر كل ‏تطوير ‏وطني مستقل ذاتيا، وإرغامه  في الوقت نفسه على السير وفق النمط الغربي الرأسمالي ‏واللحاق به، ‏بالإضافة إلى وضع يد الإمبريالية على مصادر الطاقة، بما يحرم الصين والبلدان ‏العظمى الناشئة منها، ‏فضلا عن الحفاظ على النظام السائد وطبقته. وذلك في ما يتميَّز ‏الوضع الاقتصادي السائد في عهد ‏العولمة - وأعود لأذكّر بأن العولمة ما هي سوى تسمية ‏أُطلقت كقناع أيديولوجي لإخفاء الرأسمالية ‏وخاصياتها الراهنة -   بسيطرة المؤسَّسات المالية ‏الدولية التي فَرضت نفسها كحاكم للاقتصاد العالمي، ‏وبتمركُّز الاقتصاد، واتساع مستمر للعدالة ‏المفقودة بجميع أشكالها وأنماطها، ووزن الديون، إلخ..إلخ. ‏وقد اشتدت هذه الخاصِّيات خطورة  تحت تأثير نظام من الإجراءات الأمنية أُقِرَّت في كل البلدان "الغنية" ‏على غرار وعلى نمط ‏مثيلاتها في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا النمط الأمني الأمريكي الذي فتح الباب ‏واسعا أمام ‏التجسُّس على المواطنين، والتراجع عن المكتسبات الاجتماعية، وقانون العمل، حسب ما ‏يحدث ‏في فرنسا حاليا، والضغط على الأجور، والانقياد للمؤسَّسات ما فوق الوطنية، كالحلف ‏الأطلسي، ‏والاتحاد الأوروبي، ومنطقة التجارة الحرة في القارة الأمريكية‎ ALCA‏. وبتعبير ‏آخر – وكما قلت سابقا ‏‏- فإن التدابير الأمنية التي ترافق خاصيات الرأسمالية أو العولمة قد ‏فَرَضَت انتصار الليبرالية. حتى أن كل ‏ما يخالف هذا النظام الرأسمالي الأمني المعولم، ويأتي ‏من الآخر الذي يرفض الانسياق أو الاندماج فيه، ‏يُعْتَبَر إرهابا صريحا أو من حيث الممكن، من ‏ابن لادن، إلى حزب الله، إلى حماس، حتى "ابن الزقاق" في ‏ضواحي المدن الصناعية الكبرى، ‏والطالب المحتج. ‏
من أعماق هذه المعطيات انبثق تمرُّد الضواحي الفرنسية في العام 2005. فإذا باليسار يلتزم ‏الصمت، ‏موقف الصمت، وإذا هو عَبَّر َعن قلقه حيال هذا التمرد فليكتفي بالدعوة إلى تدابير ‏اجتماعية، وأخرى ‏قمعية بوليسية، معا وعلى حد سواء. إنه عاجز عن فهم الأحداث واستيعاب ‏مضمونها في سياق من ‏عولمة حطَّمت الطبقة العاملة، ودَجَّنَت الأحزاب وجعلتها جزءا لا يتجزأ ‏من النظام السياسي والاقتصادي ‏للرأسمالية، وأشاعت فرص للعمل غير مضمونة عبر الزمان، ‏وَوَضعت الطبقات العاملة على الصعيد ‏العالمي في حالة التنافس. فسادت أجواء الخوف من ‏البطالة، والجنح، والإرهاب. وفاض الاستهلاك عن ‏الحاجات الأساسية كما الكمالية، ونُبِذَت ‏صناديق الاقتراع، فكان ما كان اليوم من انزلاق سائد نحو اليمين، ‏وانتشار كراهية الأجانب. فإذ ‏بالجماهير التي كانت تمسك أيديها بأيدي بعضها الآخر تتبعثر، وإذا بهذه ‏الجماهير منقادة ‏طوعيا للنظام السائد. ‏
وكان ظَهَر حَدَثٌ  ذو معنى – من هنا كانت البداية - مع مجىء وجه رمزي يُسمَّى خالد قلقال. ‏إنه ‏المسؤول عن العمليات التي وَقَعَت في العام 1995 في قطار الأنفاق بباريس في محطتي ‏سان ميشيل ‏وأورسي. وهو أبن لأسرة جزائرية متواضعة أقامت في حي فينيسيو بمدينة ليون ‏‏(وسط فرنسا) التي تعد ‏‏40 بالمائة من العاطلين عن العمل. وَوُصِفَ قلقال بأنه العدو رقم واحد ‏للوطن والشعب. وفي تطور لاحق ‏قَتَلَته الشرطة في الشارع. خالد قلقال أصبح اعتبارا من هذه ‏التداعيات نموذجا أو قدوة للبطولة. ويلي ذلك ‏أن الضاحية تُعْتَبَر حسب الأيديولوجية السائدة ‏مكانا منبوذا وبعيدا. وتَحمِل أزقتها أسماء من أمثال لينين ‏وكومونة باريس والليندي، وأكثر ‏سكانها من الشبان. ويبلغ عدد سكان ضواحي باريس عشرة ملايين ‏نسمة في ما تعدُّ باريس ‏مليونين ونصف المليون نسمة. ‏
وكانت التجمُّعات الصناعية اختفت في الثمانينات من القرن العشرين، ومعها فرص العمل. ‏وأعقب ذلك أن ‏محيط أكثرية المدن الكبرى أصبحت بلدا بدون سكان. وحُكِم على أطفال الطبقة ‏العاملة القديمة التي ‏أصبحت عاطلة عن العمل بالفشل. وفضلا عن ذلك، فإن ظاهرة الهجرة من ‏حيث التعداد لم تتغيِّر منذ العام ‏‏1912. ما حدث بالمقابل أن عمال المستعمرات القديمة، وبوجه ‏خاص عمال أفريقيا الشمالية، وأفريقيا ‏السوداء، حلُّوا محل البولنديين والإيطاليين والأسبان ‏والبرتغاليين. وخضع المهاجرون الجدد إلى أنظمة ‏العمل التي كانت مفروضة على السكان ‏الأصليين في المستعمرات، والتي كانت تحرمهم من كل الحقوق. ‏وكان تعداد الطبقة العاملة في ‏فرنسا يبلغ في السبعينات عشرة ملايين عامل، منهم ثلاثة ملايين عامل ‏مهاجر. وكان ‏الجزائريون من غير حملة الجنسية الفرنسية يشكِّلون أكثرية منهم. وفي العام 68 ناضل ‏هؤلاء ‏العمال للحصول على التساوي، وذلك بالرغم من أن السلطة واليمين كانا يحاولان تمزيق ‏وحدة ‏الطبقة العاملة في نضالها. فابتكروا، من أجل بلوغ هذا التمزيق، "مشكلة الهجرة" التي ‏تَذّرَّعوا ‏بها لممارسة تدابير قمعية.‏
واستمرت الأمور على هذه الحال حتى كان العام 1978، حيث أُقِرِّ قانون يَسمح للمهاجرين ‏ب/"لم شمل ‏الأسرة"، وذلك إيذانا بنهاية التمييز العنصري. إلا أن هذا القانون لم يُرفق بأية ‏تشريعات تسمح باندماجهم ‏السياسي والعائلي والثقافي، حتى انتهى بهم الأمر بأن يعيشوا على ‏الهامش كمية مُهْمَلَة. وعلى هذا ‏النحو، فإن "مشكلة الهجرة" مُوَظَّفَة بدقة في خدمة الإعلاء من ‏فرنسا رسمية ومشروعة، وأخرى ‏مَخْفيَّة، غير معترف بها وهامشية. لذا، فإن هذه "الأحياء" ‏و"الضواحي" "الصعبة" كما يقولون، ‏شَهِدَت ولادة تعبيرات ثقافية مثل تاغ، راب ‏وكليبسtag, rap, clips ‎، ولغة جديدة تنطق الكلمة ‏الفرنسية بالمقلوب، فيقولون ميف بدل ‏فام‎ meuf/ fem ‎، ويخترعون كلمات جديدة كأن يقولواkifer ‎‏ ‏بمعنى أَحَبَّ، وtafer‏ بمعنى ‏العمل وهي بالفرنسية ترافاي‎ Travail، ويُسَمُّون الشرطي كوف‎ keuf ‎‏ ‏بدل فليك ‏flic، ‏إلخ..إلخ. ‏
إن انفجار العام 2005 لم يكن له من هدف آخر سوى أن تُسْمِع الضاحية صوتها. فلقد أُحرقت ‏أربعين ألف ‏سيارة بدون أية خطة مرسومة مسبقا، فيما كانت اُحرقت 35 ألفا غيرها في العام ‏السابق. وفي العام ‏‏2005، وفي آخر ليلة لشهر رمضان توفي طفلان بالصدمة الكهربائية إثر ‏احتكاك بمحوِّل كهربائي حيث ‏كانا التجأ إليه خوفا من قوى الأمن التي كانت تتعقبهما. وأمام ‏هذا الحادث، فإن وزير الداخلية، نيكولا ‏ساركوزي، حينذاك، أعلن أنه سيزيح هؤلاء "الرعاع"، وأنه ‏‏"لن يبكي لموت مجرمين اثنين". وأمام ‏هذا التمرُّد الذي امتد من ضواحي باريس إلى فرنسا ‏بالكامل، دون أن يُخَلِّف موتى وضحايا، وحتى دون ‏أن يُوْقِع معارك، فإن إجراءات غير متكافئة ‏مع الوقائع اُقِرَّت من قِبَل الحكومة: منع التجول، تفتيش بدون ‏أمر قضائي في الليل والنهار، ‏تهديد الصحافة والمراسلات بالمراقبة، إلزام المحاكم بالإسراع في محاكمة ‏المتمردين، ‏وفُرِضت حالة الطوارئ في عدد من الأحياء والضواحي، وذلك بصورة مماثلة لتلك التي ‏كانت ‏فُرضَت في الجزائر في العام 1955، ولم تُفرَض أبدا في فرنسا. وإن مثيل هذه التدابير ‏لم يُعرف قط في ‏فرنسا، سواء في العام 1968 أو أثناء الإضراب العام للعام 1987. وأصدرت ‏المحاكم سبعمائة حكم ‏بالسجن بدون استئناف. وكان عمر 80 بالمائة من المحكومين يتراوح ‏ما بين 14 و18سنة، ويحملون ‏الجنسية الفرنسية، وليس لهم سوابق قضائية. وفي أثناء ذلك، ‏فإن وسائط الإعلام حرَّضت الرأي العام ‏ضد المسلمين، المسلمون الإرهابيون حكما ‏وبالضرورة، في ما كان الأيديولوجيُّون المناوبون في الخدمة ‏يُطلِقون العنان للدناءة المتمكِّنة ‏منهم، فقد كال  فينكيلكراوت ‏Alain ‎‏    ‏Finkielkrant‏‎ ‎التهم للسود، ‏في ما صَبَّت عضو ‏الأكاديمية الفرنسية للعلوم والفنون والآداب هيلين كارير دانكوز ‏Carrère ‎d’Encausse ‎‏ ‏Hélène ‎‏ غضبها على تعدد الزوجات... ‏
فماذا فعل اليسار؟ لقد التزم الصمت كما قلت قبل قليل، وإذا ما هو عَبَّر َعن قلقه فليكتفي بالدعوة ‏إلى ‏تدابير اجتماعية وأخرى قمعية بوليسية معا وعلى حد سواء. وكان عجزه عن فهم الحدث ‏يختلط مع ‏عجزه عن استيعاب انه مندمج عبر عشرات السنوات الماضية بالنظام القائم. لذا ‏تراه استرسل في ‏استخدام لازمة العنف. ووجَّه الانتقادات القاسية ل"الأطفال التائهين" الذين ‏دمَّروا وأحرقوا السيارات ‏والصالة الرياضية. ولما كان اليسار تخلَّى عن مسؤوليته السياسية، ‏وبوجه خاص في ما يتعلق بمهمته ‏التربوية ونشر الوعي بحالات الصراع وأنماطها، فإنه ترك ‏الساحة خاوية للأئمة المسلمين. فلنلاحظ أن ‏هذا الموقف له تاريخ، وهو ليس وليد اليوم. ‏فبالأمس كان اليسار متردِّدا أمام الحرب في الجزائر، وتبنى ‏مصطلح ‏‏"فَلاَّقَة" ‏‎ fellaghasلوصف المقاومين من أعضاء جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ‏وهذا ‏اليسار يلتزم اليوم موقفا مشابها لموقفه من تمرد الضواحي في ما يتعلق بالفلسطينيين ‏والانتحاريين ‏والمقاتلين المناهضين للإمبريالية في العراق. ‏
هذا على الصعيد الفرنسي. أما على الصعيد الدولي،‎ ‎‏ فإن "أزمة الضواحي" تكشف عن الوضع ‏الفرنسي ‏الذي أصبح بدوره عالميا، بما في ذلك مشكلة الهجرة التي لم تعد خصوصية فرنسية. ‏ويكفي أن ننظر إلى ‏الحركات المتعدِّدة التي تناهض الهيمنة الأمريكية، أو التي تدحض ‏الرأسمالية وما بلغت إليه من تطور في ‏مرحلة العولمة. هذه الحركات متنوعة وأحيانا متناقضة، ‏في ما المقاومة تظهر في كل مكان. هنا حكومة ‏تقدمية في أمريكا اللاتينية، وهناك دور الأمم ‏الناهضة، بالإضافة إلى المنافسة ما بين القوى الإمبريالية ‏نفسها، فضلا عن الحركات ‏المناهضة للأسلحة النووية، وحركات العولمة الأخرى والدفاع عن البيئة وضد ‏استخدام الطاقة ‏النووية، ومن أجل ترجيح الطاقات البديلة، ناهيك والمنتديات الاجتماعية بدءاً ببورتو ‏أليغري. ‏وهذا كله يحملني على القول إن الإصابة التي لحقت بالعولمة والإمبريالية مزدوجة ‏وبجرحين ‏اثنين. أحدهما فوق الأراضي الأمريكية نفسها حسب ما يتبيَّن من كارثة نيو أورليانس ‏التي ‏تكشف عن عنصرية السلطة وتقصيرها، وثانيهما فوق أراضي الغير حسب ما يتكشف عن ‏الفشل  ‏الذي  منيت  به  الولايات  المتحدة  في  كل  من أفغانستان  والعراق. ‏
‏3/   وإلى ذلك، فإنك تبرر العنف التحرري والثورة.‏
‏*** على الصعيد النظري، فإن نظرية العنف عند إنجلز تصطدم بحدودها الضيقة طالما تحظى ‏الظاهرة ‏الاقتصادية بأولوية ذات طبيعة ميكانيكية من جهة، وتنفي غيرها من الأولويات من ‏جهة ثانية. وعلى ‏الصعيد النظري، فإن موضوعات الماركسية ما تزال هي البوصلة التي ترسم ‏الطريق إلى مناهضة كل ‏أشكال الاستغلال، وتكشف عن شروط الثورة وانهيار الأنظمة ‏المنحرفة، وامتداد حالات من صراع العمال ‏واتساعها باتجاه يشمل كل المسيطَر عليهم، وتبيِّن ‏أيضا حيوية علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تنجح في ‏تخطِّي الأزمات وتحكم على مناهضيها ‏بالعجز أو بالاستسلام لها. إن موضوعات الماركسية ترشدنا إلى ‏وعي ظاهرة التبعية الطوعية ‏التي تسود في بلداننا. ‏
وعلى صعيد الممارسة السياسية، فإن من الضروري تفكيك الخطاب الأمني ومعه خطاب ‏الإرهاب الذي يمد ‏الخطاب الأمني بالمبرِّرات. وإن منظمة الأمم المتحدة، على غرار الولايات ‏المتحدة الأمريكية، لا تعرِّفان ‏عن قصد وتصميم ما يسمونه الإرهاب. وهو الأمر الذي ينطوي ‏على معانٍ ومدلولات. ‏
إن رفض "اليسار" للعنف يعني أنه يوافق على إسدال قناع على عنف الدول والقوى ‏الاقتصادية، وهو ‏يمحوه ويتجاهل بذلك وفي الوقت نفسه أشد أنواع العنف قسوة، ألا وهو ‏علاقات الإنتاج الرأسمالية التي ‏تحرِّض على أنماط من العنف الثائر وتنتجه. وهذه العلاقات ‏الإنتاجية العنيفة للرأسمالية هي التي تبرِّر  ‏العنف الثائر، أيا  كان  ومن  أي مصدر  أتى.‏
وعلى هذا الصعيد، فإنه لا بد من تشييد أممية جديدة هي الآن في حال من الكمون تحت حالات ‏من ‏المقاومة المبعثرة، لتكون أداة في خدمة المعالم الجديدة لصراع الطبقات المعولم. وبتعبير ‏آخر، فإنه لا بد ‏من أن يُمنَحَ العنف وظيفته التحرُّرية، وأن يستعيد مفهوم الثورة بصره النفاذ  وبعيد المدى.   ‏
إن كل مَخرَج من حالة أو وضع معاش، من حيث هو حالة عنف لا تطاق ولا تُحتَمَل وتبحث ‏لنفسها عن ‏مخرج، هو المعادل الموضوعي لعلاقات قوى ماثلة في الحاضر، أو للصراع الطبقي. ‏فإذا كان التمرد لا ‏يأخذ طريقه إلى الثورة، فإنه لن يلبث أن يُتلف ويتحوَّل إلى حالات من الشغب ‏التي تشتعل هناك وهناك ‏مبعثرة وعفوية وجزئية. ولن تلبث حالات الشغب هذه أن تٌقمع، فتفقد ‏الحركة مصداقيتها. وإن المسيطَر ‏عليهم ليس بوسعهم أبدا أن يعوِّلوا الآمال على اللجوء إلى ‏العنف طالما هم لو خُيِّروا لما اختاروا إلا العمل ‏السلمي. لكن عولمة العنف المفروضة من ‏الطبقات السائدة فَرَضَت بدورها، كرد هجومي مفروض ‏وبالمقابل،‎ ‎عنف الطبقات المسحوقة. ‏
وثمة تناقض يعيشه المثقفون. إن كثرة منهم مفكِّرون في خدمة السلطة، أو فلاسفة يحملون ‏السلطة، ‏وهم محبوسون في ذواتهم، وعاجزون لأنهم يرفضون أن يَستخلصوا نتائج ما كانوا ‏توصلوا إليه من ‏نتائج بفضل التحليل. إنهم يزيِّفون ممارساتهم في خطابات مثالية أو خدّاعة. ‏إنهم يروِّجون لمثل الخير ‏والحق والسلام. وينضم إليهم نظراؤهم الإعلاميون، ليسخِّروا أنفسهم ‏أُجراء مرتشين أو معتوهين في ‏خدمة نظام للترسيخ، يجعل من اليقطين سيارات فاخرة، ومن ‏المجرمين أناس أفاضل. ومما لاشك فيه أن ‏المثقف لا يستطيع تغيير العالم، وهو لا يستطيع ‏بوجه خاص تغيره على انفراد عن غيره، إلا أنه يستطيع ‏أن يسهم في الحيلولة دون أن تنزلق ‏مجتمعاتنا من البلادة إلى الغيبوبة السياسية الكاملة. إن مهمتهم هي ‏أن يعثروا مجددا لأنفسهم ‏على الطريق إلى الوضوح والشجاعة التي كان سابقوهم الأكثر هيبة ونفوذا ‏يتحمَّلونها: أن ‏يكرِّسوا حياتهم من أجل زرع الأمل وأن يَدْعوا إلى الإرادة التحرُّرية. ‏
 
‏                       ســـابـعــا - الشــيوعـيون مدعــوون إلى دعم الحركات    ‏
‏                                   الثوريـة فـي كــل مــكـان
 
‏1/  ما الذي حملك على تكريس هذا العمل المطوَّل والمعمَّق حول العنف في مؤلفك الذي يحمل ‏عنوان ‏‏"نظرية العنف"؟‏
‏***  أسباب كثيرة إلا أني أذكر منها الآن سببين اثنين. الأول يعود إلى أنني وعيت منذ سن ‏مبكِّرة بأنني ‏ابن القرن العشرين، أي القرن الذي شهِد مَقتل ملايين الناس، وهو بلا شك أكثر ‏القرون دموية في ‏التاريخ، حيث الحروب بصورة مستديمة ومتنوعة، من عالمية ومحلية ‏وإمبريالية وكولونيالية، بالإضافة ‏إلى ما كان يرافق القرن من حروب الإبادة. إن القرن ‏العشرين انتقل بنا من حرفة العنف إلى الصناعة ‏المبرمجة للعنف. فتقدُّم العلوم والتقنيات ‏والديمقراطية عبّر عن نفسه عبر عشرات ملايين الموتى. وإني ‏ما زلت أذكر الجثث ‏المسحوقة تحت القنابل أثناء الحرب العالمية الثانية، وألوف المشوَّهين، ومعسكرات ‏الموت، ‏وذلك كله على أرضية من مدن مُدَمَّرة. هيروشيما رمز الحضارة. وحرب التحرير الجزائرية ‏حيث ‏كان المظلِّيُون يرمون بقرى بكاملها في الآبار. وتبعتها حرب فيِّتنام، وما رافقها من نابالم ‏عبقري. من هذه ‏الأحداث التاريخية تأتي التزاماتي النضالية. والسبب الثاني يعود - ولالتزاماتي ‏النضالية صلة وثيقة ‏بالموضوع – إلى تخصًّصي مهنيا بالفلسفة السياسية التي وَضَعَتني في ‏صميم التفكير بالعنف الثوري. ‏وكنت كتبتُ عددا من المقالات والدراسات والكتب حول ‏شخصيات ترمز إلى أوضاع متأزِّمة، منها ‏روبسبيير وماركس وإنجلز ولينين وفانون.‏
‏2/  هل يعود اهتمامك الشديد بنظرية العنف إلى فرانس فانون بوجه خاص؟ وهل عرفتَه شخصيا ‏أثناء ‏إقامتك لمدة طويلة في الجزائر؟ وهل أنت مدين لفانون بهذا الاهتمام؟
‏***  لقد قرأت شأني شأن أعداد ضخمة من الناس، وباهتمام بالغ "معذبو الأرض" لفانون. ‏وأنا لم ‏أتعرَّف عليه شخصيا، إلا أني كنت المبادر إلى توجيه تحية تقدير إليه في الذكرى الأولى ‏لوفاته على ‏صفحات "المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ويعود اهتمامي ‏بمسألة العنف إلى ‏مصادر أخرى، منها وعيي بالانتماء إلى القرن العشرين، قرن الدماء ‏والموت الذي حصد الملايين، ‏بحروبه الإمبريالية والكولونيالية، في الجزائر وفيتنام؛ هذا ‏الوعي الذي قادني في مقتبل شبابي إلى ‏الالتزام بالنضال. ‏
‏3/   أرجو منك أن تعود مجدَّدا وقبل أن تختتم هذه المقابلة المطولة إلى تبيان الأسباب التي من ‏أجلها ‏يفتقد العنف برأيك إلى مفهوم ذي حدود قاطعة وتعريف واضح. عساك تضيف بعض ‏التوضيح في هذا ‏الشأن.‏
‏***  إني أَستند إلى ما أُلاحظه من أشكال العنف وتعبيراته. فلائحة أعمال العنف لا تنتهي كما ‏لاحظتُ في ‏بداية الحديث. من باحة المدرسة إلى مآسي الحياة الزوجية، من حالات العصاب ‏العائلية إلى المنتجات من ‏الحبوب الزراعية التي تخَضَع لجنة العضوية المعدَّلة، من التعذيب ‏والتنكيد الأخلاقي إلى التعذيب ‏والاغتيالات التي تجد لها تسويات قانونية حسب الأصول، ومن ‏حوادث العمل أو الطرق إلى حالات ‏الانتحار والتضحيات البطولية...ثم الإنتاج الأدبي، والسينما، ‏والتلفزيون، والتحقيقات المصوَّرَة، إن ذلك ‏كله مَعْلوف بالعنف ويعلفنا به. وإن أقسى حالات ‏العنف تُمتَهَن سواء أكانت فيزيائية أم  نفسانية  أم  ‏أخلاقية  أم  مجتمعية،  وهي مصدر  ‏لأنماط  جديدة  من  العلاج  في  علم العدوان  والضحايا. ‏
إذا استعرنا من أرسطو لغته، فإننا نقول إن لظاهرة العنف مفهوما ضعيفا أو شبه معدوم، إلا أن ‏امتداداته ‏مع ذلك لا متناهية. إن الفلسفة تجد صعوبة شاقة إذا ما هي أرادت أن تضع يدها ‏لتمسك بموضوع العنف. ‏فلقد اصطدم كل الذين حاولوا إعطاء تعريف للعنف بهذه الصعوبة. ثم ‏إن العنف من حيث هو عنف لم ‏يصبح موضوعا للبحث والدراسة والتفكير إلا منذ فترة قريبة ‏نسبيا يعود تاريخها إلى الستين أو السبعين ‏سنة الماضية، وذلك على خلفية قرننا العشرين. ولم ‏ينج المؤَرِّخون من هذه الصعوبة، فتراهم اعترفوا ‏بأن "المذبحة" موضوع تاريخي حسب ما ‏جاء في عنوان لكتاب صدر حديثا يؤرِّخ لظاهرة المذبحة. ‏
 
‏4/   في مؤلَّفك "نظرية العنف" تستعرض عددا كبيرا من أشكال العنف منذ شخصية النبي أيوب ‏‏في ‏العهد القديم: "العادل المظلوم عن غير وجه حق"، إلى التراجيديا اليونانية ‏وشكسبير، وصولا إلى الوقت ‏الراهن. لماذا هذا الاستعراض لظاهرة العنف عبر التاريخ؟ ‏
‏***  أنا أيضا أبحث عن تعريف للعنف، أو تعريف مناسب إلى حد ما، أو نماذج عن العنف ‏وقواسم ‏مشتركة. والنبي أيُّوب إحداها. والنظريات التي ترفض العنف سواء أكانت دينية أم ‏فلسفية أم قانونية هي ‏بعضها الآخر. وقد حاولتُ أن أُبيِّن مرتكزات هذه النماذج وحدودها. ‏
‏5-  وقد فَنَّدت كما بيَّنت قبل قليل نظرية اللاعنف.‏
‏***  إنها بلا شك مغرية، إلا أنها فشلت ولن تكون غير ذلك. وتَحمل لاهوتية التحرر دليلا ‏يمحضها. وما ‏يثير الدهشة أن نظرية اللاعنف تجد اليوم أنصارا لها. بيد أن نظرية ماكس ويبر ‏Max Weber‏ حول ‏احتكار ممارسة العنف من قِبَل الدولة وحدها كمجال تحتفظ به لنفسها، هي ‏اليوم وأكثر من أي يوم مضى ‏تُعَبِّر ببلاغة عن حقيقة الواقع. والدولة من حيث أصلها ‏وممارساتها ومنتجاتها ومؤسَّساتها عنفٌ. فكل ‏عنف محظور إلا ما جاء من الدولة، سواء أكان ‏الأمر يتعلق بالشرطي الذي يَصفع راكب الدراجة النارية، ‏أم الانتحاري الفلسطيني. وَتَجد كل ‏هذه الحالات على اختلافها تعزيزا لها بالإسمنت المسلّح من جراء فشل ‏بلدان "الاشتراكية ‏الواقعية"، والحروب الإمبريالية الواسعة، والرقابة على الرأي العام، بفضل عملية ‏الترسيخ ‏التي يمارسها الإعلام، والحظر على الحريات، والأكاذيب، ولنتذكر العدوان على العراق.‏
‏6/  هل ثمة مجال للتمييز بين عنف دفاعي وآخر هجومي؟
‏***  نعم. إن الموقف السلمي اليوم ليس موقفا متلائما مع الواقع طالما أن العدوان الإمبريالي ‏هو واقعنا ‏الراهن، وهو عدوان عسكري واقتصادي ومجتمعي وسياسي وثقافي. فإذا كان ‏الموقف السلمي هو ‏المطلوب أخلاقيا بدون أية مساومات، إلا أن الوقائع والأحداث تبيِّن أن لا ‏مناص من رد الاعتبار للعنف في ‏مواجهة المِحدلة الإمبريالية. ‏
نعم. إننا اليوم، كما قلت سالفا، أمام انقلاب لصيغة كلاوفيتس الشهيرة والتي تقول إن الحرب ‏امتداد ‏للسياسة بوسائل أخرى، طالما أن السياسة هي التي أصبحت اليوم امتدادا للحرب. ‏فالإمبريالية الأمريكية ‏التي تسيطر على سواها من الإمبرياليات بالرغم من التناقضات في ما ‏بينها، تعيش، من الناحية الوظيفية ‏وفي أدائها، بفضل النزاعات المسلَّحة والقمع. والحال، أن ‏الحرب عسكرية، واقتصادية (الليبرالية)، ‏وسياسية (تصدير الديمقراطية). وإن العنف الأخرس ‏كما كان يقول ماركس للعلاقات المجتمعية الرأسمالية ‏أشد قسوة من العنف المرئي الدامي. ‏فصندوق النقد الدولي، بين غيره من مؤسَّسات "الحكومة ‏العالمية" أو مجموعات متعددة ‏الجنسيات، كموسانتو، وإيلف، ونستلة، هي جمعيات للصوص، ومسؤولة ‏عن ملايين الضحايا. ‏وما الفقر في أمريكا اللاتينية سوى أشد أشكال العنف. ‏
‏7/  يتساءل كثر من الناس: أي خطيئة ارتَكَبَت السيارات والمدارس ودور الحضانة كي ما ‏تُحرق في ‏فرنسا؟
‏***  لقد ساهمتُ مع أصدقاء لي في نشر كراس تحت عنوان "تصفية الاستعمار أُجهِضَت"، ‏أوضَّحنا ‏فيه أن "ثورة أبناء الأزِّقة" هي مظهر بليغ المعنى يُعَبِّر بصدق عن الوضع الراهن في ‏فرنسا، من حيث ‏علاقته بالإرث الكولونيالي. إن الشبَّان في هذه الأزقة، وهم فرنسيون من أصل ‏مغاربي، مدانون ‏ومحرومون – كما قلت قبل قليل – من التعليم والنسيج المجتمعي والتعبير ‏والعمل. والمشكلة هي أن ‏اليسار في فرنسا لم يُدرِك ما تحمله ثورة الشبَّان من أهمية. بل وإن ‏هذا اليسار اكتفى بإسداء النصائح ‏ناهيا الشبان عن إحراق السيارات والمدارس. ثم ردّت ‏السلطات كما أسلفت بتدابير قمعية وقانونية هي ‏بمثابة حالة إعلان حرب على المتمرِّدين. ‏والواقع إن هذا التدمير وهذا الإحراق يُمَثِّل الوسيلة الوحيدة ‏للاحتجاج والتظاهر ضد وضع غير ‏مُحتَمَل. وإن الدرس المُستَنتَج من هذه الأحداث يُعلِّمنا أن اليسار قد ‏اندمج في النظام السائد. ‏
‏8/   ولماذا لم يظهر عنف من النمط نفسه في بلدان أوروبية غير فرنسا بالرغم من أنها تَعرِف ‏مثل هذه ‏الأخيرة الاستغلال الرأسمالي؟
‏***  إن كل حالة في وطن ما تَحمل معها موازين قوى، وبالأحرى ما وصل إليه الصراع الطبقي  ‏من ‏صيرورة في توقيت محدَّد. هذا من جهة. وثمة، من جهة ثانية، حالة شائعة اسمها - على ‏غرار ما كان ‏يقول إتيين دولابوييسيEtienne de la Boetie ‎‏ في القرن السادس عشر-‏‎ ‎‏"الانصياع الطوعي" الذي ‏يَستند إلى مبدأين اثنين من مبادىء الإيديولوجية السائدة. الأول ‏يقول بالقدرية. فقد نَجَحَت الطبقة ‏المسَيطِرة في نشر يقين مفاده أن الأوضاع، وفي المقام الأول ‏الاقتصادية منها، هي بالضرورة على ما ‏هي عليه، وأنها غير قابلة للتغيير.  والثاني يُسمِّى ‏‏"خطاب الإرهاب"، وهو وثيق الصلة بما جرى في 11 ‏أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات ‏المتحدة. فعندما نتساءل مَن المستفيد من الجريمة، فإن الطبقات ‏المسيطرة هي المستفيدة، ‏طالما أن الحكومات الأوروبية سارعت، كما قلت أعلاه، ما بعد صدمة البرجين ‏الاثنين، إلى سن ‏تشريعات قمعية مماثلة لتلك التي تعتمدها الولايات المتحدة في ما يُعرف ب"باتريوت ‏أكت"‏‎ ‎Patriot Act، والتي تتشدَّد قانونيا في مكافحة الإرهاب. إلا أن "مكافحة الإرهاب" ليس ‏معناها ‏أن التشدد يأتي ضد إرهاب "الإرهابيين"، وإنما تراه يأتي ضد الاحتجاجات كلها على ‏النظام القائم، ومنها ‏المطالب الاجتماعية، والرقابة على حرية التعبير، والمراقبة بأجهزة ‏التصوير والوسائل الإلكترونية، فضلا ‏عن الشرطة، إلخ.. ‏
ولا بد من الإشارة من جهة أخرى إلى أن المنظمات اليسارية، من نقابات وأحزاب، قد تخلَّت ‏بصورة كاملة ‏عن الموقف الطبقي حيال السلطة والبورجوازية. لذا، فإن الحالة السائدة اليوم ‏تُسَمَّى "الخضوع ‏الطوعي". ‏
‏9/  أنت إذن تبرِّر أعمال الانتحاريين الفلسطينيين.‏
‏***  أنا بخلاف اليسار الذي يدين حتى من حيث المبدأ الانتحاريين الفلسطينيين أعتقد من ‏جهتي أن ‏الانتحار هو الإمكانية الوحيدة للاحتجاج على الاحتلال الإسرائيلي. ففي مواجهة ‏تقنيات سلطات الاحتلال، ‏من سيارات مصفَّحة ومدرَّعات، وطائرات هجومية، وحصار، وجدار ‏العار، ومصادرة الأراضي، وحظر ‏التجول والتنقل، وبناء المستعمرات، وتهجير السكان، ‏والاغتيالات المُختارة، والاعتقالات التعسفية بما في ‏ذلك اعتقال الأطفال، ناهيكم والتقنيات ‏المتطورة للحرب الإلكترونية، فضلا عن التواطؤ النشط للأسرة ‏الدولية كلها تقريبا.. في مواجهة ‏ذلك كله لا يملك الفلسطينيون تقنية أخرى غير أجسادهم. ‏
 
‏10/  هل تحوز المقاومة العراقية في ممارستها للعنف على مبرِّرات أقوى أم أضعف من عنف ‏الشبان ‏الذي يلقون بالحجارة في صدامهم مع قوى القمع، أو من تحطيم أنصار البيئة لمطاعم ‏ماكدونال؟ ‏
‏***  إن الظاهرة واحدة وإن كانت تأخذ أشكالا تقل أو تزيد عنفا. ففي العراق تتميِّز مقاومة ‏الاحتلال ‏الأمريكي بأنها ردود هجومية ضد العدوان، وهي في غاية التنوُّع. إذ ثمة حركات ‏للمقاومة العضوية، ‏وهي متأتية من القوى السياسية التاريخية في العراق، من الحزب الحاكم ‏سابقا، والشيوعيين، ‏والاشتراكيين، وبعض القطاعات المسلمة. إلا أن هذه الأخيرة عرضة ‏للتشويش والاضطراب تحت تأثير ‏أنماط يصح فيها اسم إرهابية بكل معنى الكلمة لأنها لعبة بيد ‏السلطة والغزاة. وهذه الأخيرة ترتكب ‏اعتداءات كثيرة، ثم تُحَمَل المقاومة العضوية المسؤولية ‏عن اعتداءاتها. ومن الصعوبة بمكان أن نَفهم ‏الوضع الخطير للغاية وفائق التعقيد وذي ‏التناقضات الكثيرة للعراق اليوم. ‏
وهل اليسار الأوروبي يدافع عن المقاومة العراقية، لكنه ينتقد الشبان الأسبان والفرنسيين الذين ‏يلقون ‏بالحجارة على قوات القمع أو يحطمون مطاعم مكدونال؟ إن قلة قليلة من اليسار ‏الأوروبي هي التي تدافع ‏عن المقاومة العراقية. وإن التضامن الحقيقي معها مفقود تقريبا. ‏وعندما تظهر مواقف متعاطفة معها، ‏فإنها لفظية ومختصرة طالما أنها تتجنَّب الإخلال ‏ب"خطاب الإرهاب" الذي فَرَضَ عليها ورَوَّضَ أفكارها. ‏
‏//  وفضلا عن ذلك، فإن هذا اليسار الذي يدين الشبَّان الذين يلقون بالحجارة تراه يدين أيضا أنصار ‏البيئة ‏الذين يهاجمون مطاعم مكدونال، بالرغم من أن هذه المبادرات ضد رموز نموذجية ‏لليانكي محبَّبة إلى ‏النفس ولطيفة. إن موقف اليسار الفرنسي من المقاومة العراقية هو نفسه ‏موقفه من الأزقة الفرنسية. لأن ‏هذا اليسار يهرب من النضال في هاتين الحالتين، ولا يريد ‏التورط لأنه خائف، وهو شديد الخوف. ‏
‏11/  يسود اعتقاد اليوم تحت تأثير أيديولوجية الطبقة المسيطرة ما بعد 11 سبتمبر مؤداه أن ‏أسلوب ‏عمل القوات المسلَّحة الثورية الكولومبية ومنظمة إيتا الباسكية غير مقبول. ما رأيك؟ ‏
‏***  ثمة اختلاف كبير بين منظمة "إيتا" وبين "القوات المسلحة الثورية الكولومبية". ‏ولما كنتُ لا ‏أعرف عن كثب وبصورة كافية التاريخ الحديث لمنظمة إيتا، فإني أكتفي هنا ‏بالحديث عن انطباعاتي. وإذا ‏كنت أمتنع عن توجيه أية إدانة لشرعية نضال الباسكيين من أجل ‏القطيعة مع الدولة الأسبانية وتشكيل ‏حكومة مستقلة، فإنه يبدو لي أن أعمال العنف تجد نفسها ‏معزولة إلى حد كبير عن الجماهير، وإني ‏أتساءل ما إذا كان الاستقلال الذاتي المنتزع بالقوة لن ‏ينطفئ بالطريقة نفسها. وإني أُقول ذلك كله بتحفظ.‏
‏وأما في ما يتعلق  ب/"القوات المسلحة الثورية الكولومبية"،  فإني على يقين كامل بأن اللجوء ‏إلى ‏السلاح في هذه الحالة، وبتعبير أصح اللجوء إلى العنف الثوري، يستجيب للضرورة، وهذه ‏الضرورة ‏نتيجة من نتائج علاقات القوى. فا/"لقوات المسلحة الثورية الكولومبية" لا تواجه ‏الحكومة القمعية ‏الكولومبية فقط، وإنما الإمبريالية الأمريكية التي تريد السيطرة على كولومبيا ‏لنهب ثرواتها، وحيازة ‏موقع متحكم بأعلى درجة بهذه المنطقة من أمريكا اللاتينية. إن أعضاء "‏القوات الثورية المسلحة ‏الكولومبية" يناضلون في ظروف صعبة للغاية ومشابهة لتلك التي ‏كانت حركة المقاومة السرية ضد ‏النازية عرفتها. ولنلاحظ مرة أخرى إلى أي مدى من التحفظ ‏يمضي اليسار الفرنسي والأوروبي في ‏تضامنه مع "القوات الثورية المسلحة الكولومبية". إن هذا ‏اليسار يؤثر البكاء مع بورجوازيته من أجل ‏‏"الرهائن" البورجوازيين مثلهم وبامتياز. ‏
‏12/  وهل ثمة ما يبرِّر العنف الهجومي في بلدان ليست موضعا للغزو الأجنبي المباشر ‏ككولومبيا ‏والمكسيك والفليبين؟ أم أن العنف في مثل هذه الحالة يجب أن يكون دفاعيا فقط؟ ‏
‏***  إن العنف ضرورة لا مفر منها، وإن كان التحليل في مثل هذه الحالات دقيق للغاية. ثمة ‏عدوان ‏إمبريالي على الصعيد العالمي، وفي كل بلد.. عدوان في منتهى الوحشية والفظاظة، ولا ‏مثيل له في ‏التاريخ. لذا، فإن الرد الهجومي لا بد أن يكون بدوره فظاً ووحشياً مقابل العنف ‏السائد في بلدان تزعم أنها ‏ديمقراطية، كالمكسيك، وكولومبيا، إلخ.  ‏
‏13/   العنف يكون ثوريا عندما تتوفر إمكانية للاستيلاء على السلطة، كما هو الحال في ‏كولومبيا. أليس ‏كذلك؟
‏***  كلا. بالرغم من أن الإمبريالية وحشية وفظة في جميع أنحاء العالم، وهي تهدِّد كوكبنا ‏بالدمار، ‏وتَقمع كل حركة احتجاج، عمَّالية كانت أم شبابية، فإن مسألة العنف الثوري قد سَقَطَت ‏من الاهتمامات ‏وبرامج أحزاب اليسار تحت تأثير شعور بالذنب نتيجةً لسقوط حائط برلين. إلا ‏أن مسألة العنف تعود ‏مجدَّدا لتحتل حيزا مركزيا في أحداث الساعة، لأن الإمبريالية تَفرض علينا ‏اللجوء إلى العنف للنضال ضد ‏عدوانها وتهديدها. والأمر في غاية الخطورة لأن الشعوب ‏والمضطَهَدين ومن يسمُّون في أمريكا اللاتينية  ‏‏" الصامتين"، عندما يلجأ هؤلاء إلى العنف ‏فإنهم لا يفعلون ذلك عن خيار. فالمُضطَهَدون لا يختارون ‏العنف أبدا. إنهم يَعرفون حق المعرفة ‏كما أَسلفتُ قبل قليل، ومن التجربة عبر التاريخ، أنهم هم الذين ‏يَدفعون الثمن غاليا في كل نزاع ‏عنيف. وبالرغم من ذلك، فإن اللجوء إلى العنف حالة مفروضة مِن قِبَل ‏الطبقة المُسَيطِرَة على ‏المُسَيطَر عليهم من جراء عنفها هي، بما في ذلك ما كان يبدو من عنفها بأنه ‏سلمي بدون دماء، ‏كما هو الحال في المصانع حيث أشكال متنوعة من استغلال العمل. ‏
‏14/ سأجازف وأقول إن اليسار اليوم يعتقد أن فرص الحياة أمام النضال المسلح غير متوفِّرة، ‏وأن ‏الانتخابات حلَّت محل النضال المسلَّح. وفيدل كاسترو يذهب في هذا المنحى في مقابلة ‏صحفية له مع ‏رئيس تحرير الصحيفة الشهرية لوموند دييلوماتيك إغناسيو رامونه. ‏
‏***  مع احترامي لكويا ولفيدل أنا أختلف مع هذا الرأي. فالتخلي عن النضال المسلَّح لا ‏يستجيب بصورة ‏ملائمة للوضع الراهن. وثمة حالات في الواقع الراهن هي من الخطورة ‏بمكان، كما هو حال نيجيريا على ‏سبيل المثال، حتى أن الرد الهجومي بدون عنف لا معنى له. ‏إن العنف حالة مفروضة في العالم أجمع، لأن ‏التهديد في الوقت الراهن مُوَجَّه للشعوب، ‏وللمُضطَهَدين بصورة عامة، وللطبيعة. فإذا كنا لا نستطيع أن ‏نتحرِّك في مواجهة هذا التهديد، ‏فإن ذلك يكشف عن انقسام كامل بين القوى المُنتِجَة وقوى اليسار. ‏وبدون استلام السلطة يمتنع ‏التغيير المجتمعي والانتقال إلى البديل امتناعا تاما. وهذا التغيير لا خلط فيه ‏مع المسارات ‏الانتخابية، تلك المسارات التي تقع تحت تزييف البورجوازية ولصالحها. والسلطة لا تسقط ‏أبدا ‏كالإجاصة الناضجة. والوضع اليوم أكثر خطورة مما كان عليه بالأمس، وباتيستا في كوبا لم ‏يسقط ‏بالطرق السلمية.  ‏
 
‏15/  لذا، فإنك ترد الاعتبار للعنف الثوري.‏
‏***  نعم، إن الكبت أو السكوت المفروض على حظر كل عنف باستثناء عنف السلطة، والذي ‏يزيد من ‏وطأته أن "أحزاب اليسار" لا تعتزم أية ثورة، يَفرض بدوره على مجتمعاتنا حالة من ‏الانصياع الطوعي. ‏وإن التدابير الأمريكية التي أعقبت عمليات 11 سبتمبر 2001 وَجَدت ‏أنصارا لها في جميع تشريعات ‏العالم، بما في ذلك أقلَّها ديمقراطية، وذلك باسم "مكافحة ‏الإرهاب" التي نُصِّبَت بوصفها الإيديولوجية ‏السائدة. واستنادا إلى ذلك تُعطي الحكومات لنفسها ‏الحق بقمع أقل أشكال التظاهر الاحتجاجي وسلب ‏الحقوق المجتمعية المُكتَسَبة.‏
إن التضامن مع حالات من النضال المناهض للأنظمة، ومنها في المقام الأول نضال الشعوب في ‏المواقع ‏المتقدِّمة من المعركة، الفلسطينيون والعراقيون، والتضامن مع أولئك الذين يريدون ‏بقوة التحرًّر من ‏النفوذ الأمريكي، والحركات الاجتماعية المعبأة في كل البلدان لمناهضة ‏الاستغلال، إن هذا التضامن شرط ‏ضروري للعثور مجدَّدا على طريق الأمل بتشييد عالم من نمط ‏آخر مختلف عن عالمنا بصورة جذرية. ‏وهو الأمر الذي يَفترض، ليس اللجوء إلى الدفاع عن ‏النفس، وإنما الاعتماد على العنف التحرُّري. وإننا ‏نعرف ما الذي يُلْزِم باللجوء إلى العنف، وإن ‏كنا نجهل دوما ما إذا كنا نختار حقا. فأمام العنف في حالة ‏العولمة يجد المُسَيطَر عليهم أنفسهم ‏مُلْزَمين بأن يردُّوا بالعنف الذي يحمل إليهم الحرية. وكانت الثورة في ‏شهر مايو 1968 مجرد ‏نوايا، وقد آن الأوان كي تصبح اليوم برنامجا.‏
ويسود شعور عام بأن العنف مرفوض بأي ثمن. ومع ذلك فإن تعبير العنف، كما قلت سالفا، ‏يفتقد إلى ‏معنىً. ذلك لأن للعنف أنماط لا حد لها. وكل عنف يندرج في سياقه، أو إن لكل عنف ‏وضعه، وهو يقاس ‏بمقياس هذا الوضع. والعنف المرفوض في عالمنا اليوم لأسباب إيديولوجية ‏هو بوجه التحديد العنف ‏الثوري. هذا النمط من العنف يشكِّل جواب المسيطَر عليهم والمَسُوْدِين ‏على ما يمارَس عليهم من عنف. ‏لقد أشبعونا خطابات عن الإرهاب، والأمن، حتى بات فعل ‏التدخين جريمة. والإجراءات التي تُعتَمَد لقمع ‏العنف لا نهاية لها. والحال أن هذه وتلك من ‏أنماط العنف هي – كما ردَّدت هنا مرات عديدة - نتاج لعلاقات ‏الإنتاج الرأسمالية، كلها على ‏اختلافها وبدون استثناء. والطبقة السائدة لا توفِّر جهدا في ممارستها للعنف ‏من أجل إخفاء ‏العنف غير المرئي، العنف بدون لكمات، العنف غير الدامي، هذا العنف المسجَّل في ‏علاقات ‏الإنتاج الرأسمالية. إن متوسط عمر المواطن في اليابان يصل إلى سبعين سنة، وفي أوروبا ‏ثمانين ‏سنة، ويتقلص في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ليهبط إلى ما بين 35 إلى 45 سنة. هذا هو ‏العنف على ‏حقيقته. إن الأهالي في أفريقيا مضطرة إلى بيع أعضاء حية من أجسامها إلى مخابر ‏أمريكية من أجل ‏إطعام عائلاتها.  هذا هو العنف كما يتجلَّى على حقيقته. وعندما ترفض منظمة ‏الأمم المتحدة أن تَنقُلَ إلى ‏حيز التنفيذ العقوبات التي كانت أقرَّتها ضد إسرائيل التي تُعْتَبَر دولة ‏فوق القانون، وهي تبيد الفلسطينيين ‏تحت أنظار العالم أجمع، والذي يقف متفرجا، هذا هو ‏العنف بعينه، وبدون تزيين. ‏
وتروج الإيديولوجية السائدة أن العنف مكروه بالقوة إلا ما كان منه مرتبطا بعلاقات الإنتاج ‏الرأسمالية. ‏لذا، فإن هذه الإيديولوجية تضع في مصاف واحد المُعْتَدي والمُعْتَدى عليه، وتراها ‏تتحدَّث عن لولب ‏العنف، والعنف الذي يَسْتَدرِج العنف. وما ذلك كله إلا من أجل إخفاء وتمويه ‏العنف الثوري. هذا العنف هو ‏الملاذ الوحيد الذي يتبقى في نهاية المطاف للمستَغَلِّين في العالم ‏أجمع. وليس لهم من ملجأ غيره. ‏والإيديولوجية السائدة لا توفِّر جهدا من أجل سحب هذه الأداة ‏من أيدي المستَغَلِّين المَسُودِيْن. ‏
 
‏16/   متى ينقلب العنف الشعبي إلى إرهاب، بافتراض أن مثل هذا الانقلاب ممكن الوقوع؟ ‏
‏***  إن المقاومة الشعبية لا تنقلب إلى إرهاب إلا عبر الدعاية الإمبريالية، دعاية المغتَصِبين ‏الذين ‏يصفون بالضرورة المقاومة الشعبية بالإرهاب كي ما يقمعونها. وما يَحْدُثُ أن بعض ‏أعمال المقاومة تبدو ‏وكأنها كما يقولون "إرهابا"، من جراء ما يرافقها من شعور ‏ب"الرعب" الذي يُسْنَد إلى روبسبيير ‏ورفاقه الذين أَعدموا خصومهم وحَملوا القنابل. إلا ‏أن هذه الأفعال إذا كانت "إرهابية"، كما يزعمون، إلا ‏أنها تنتمي للمقاومة، وهي تعبيرات سليمة. إذ ها هنا، ‏كما في غيرها من الحالات، إن الذين يُسْدُون ‏النصائح ليس هم أنفسهم الذين يسدِّدون الثمن. ‏وإن الوصية التي يسديها "البيان الشيوعي" ما تزال ‏سارية المفعول: "إن الشيوعيين ‏يَدعمون في كل البلدان الحركات الثورية ضد النظام المجتمعي ‏والسياسي القائم". ‏

‏                       ‏‎         ‎
 
 
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل