الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرحيل الافتراضي !

سليمان جبران

2016 / 2 / 23
الادب والفن


سليمان جبران: الرحيل الافتراضي !

قبل سنوات كتب إليّ باحث شابّ، من البلاد العربيّة، يعدّ رسالة للماجستير بعنوان: "شعر المقاومة في فلسطين المحتلّة". قال الطالب المذكور في رسالته الإلكترونيّة ما معناه أنّ أهل البقيعة جميعهم لم يغادروا بيوتهم، كما وجد في المراجع. فما معنى قصيدة "1948" لأخي سالم ؟ هل القصيدة متخيّلة، أم كان الرحيل فعلا ؟
كتبت للباحث الشابّ الكثير، معظم ما أذكر، وأنا أكبر من أخي سالم بثلاث سنوات. بل إنّ بعض ما أورده أخي سالم في القصيدة المذكورة كان "تسجيليّا" إلى حدّ بعيد. ربينا في بيت عربي تقليدي، لا يرى في الدمع إلا الضعف، صفة المرأة، لا صفة الرجل الرجل. لذا فإنّ أكثر ما أذكره غيبا من القصيدة تلك: " دمعت عين أبي، أوّل مرّة/ كان كالفولاذ، طول العمر/ والدمع بعين الحرّ جمرة !" إي والله، تلك الدمعة لا ننساها. وكيف لنا ذلك ولم نرها في حياتنا في عين الوالد، لا قبل ولا بعد ؟!
أسمح لنفسي أيضا بذكر "وقعة الرمّان" المبكّرة يومها. كانت الوالدة تخزن لنا بعض أكواز الرمّان من الحاكورة في الموسم، وتعلّقها في السقف، نتسلّى بها حول الموقد في ليالي الشتاء الطويلة. وإذ وصلنا خبر الأوامر بالرحيل، كانت سلّة الرمّان المعلّقة في السقف ضحيّتنا الطبيعيّة. لمن نترك الرمّان معلّقا في السقف؟ قلنا للوالدة. نأكله نحن اليوم ولا نتركه لليهود. نحن أصحابه أولى به. كان ردّ الوالدة الصمت المذعن طبعا. نحن أصحاب الرمّان أولى بالرمّان من غيرنا. هكذا مرّة واحدة اختلفت المعايير كلّها إذ بلغتنا الأوامر بالرحيل عن قريتنا وبيتنا.
أذكر أيضا، وكيف لي أن أنسى: كنّا جالسين في البيت ذات مساء، بعد أشهر من الاحتلال، والرحيل الافتراضي، وإذا بصديقين من "الحارة الشرقيّة" يدخلان علينا فجأة. لم يكد الصديقان يجلسان حتّى أخرج كلّ منهما ورقة من جيبه، وقال أكبرهما، إذ رأى السؤال على وجه الوالد ووجوهنا جميعا: الحجّة ما عاد لها لزوم أبو داود، انقضت على خير. أقسم والدي لصديقيه الأقربين من الحارة الشرقيّة أنّ المسألة غابت عن فكره. نسيت المسألة والله، أجابهما الوالد، النسيان في هذي الحالة أحسن. ألله لا يعيد هذيك الأيّام ! على كلّ حال، داري أمان. لا أهتمّ حتى لو ظلّت الحجّة على طول، بأرضي وأرض موسى، مع الناس الأوادم !
إذا كان والدي نسي مسألة "الحجّة" في ذلك اليوم الأسود، فنحن لم نعرف، ولم نسمع من قبل حتّى، عن"الحجّة" تشهد ببيع أرضنا وأرض عمّي، للصديقين الأقربين من الحارة الشرقيّة. أخذ الوالد الورقتين، مزّقهما معا، ألقى بهما في النار، وأخذ يشرح لنا حكاية "الحجّة" تلك: لمّا وصلنا خبر الأوامر بترحيل المسيحيّين عن قريتهم وبيوتهم إلى لبنان، كما حدث للمسيحيّين في الرامة المجاورة، كانت الأرض أوّل ما خطر في بالي. طيّب، نرحل بحسب أوامر الجيش، لكن الأرض ؟ فشروا ! كتبت، وكتّبت موسى حجّة بيع مشترى بأرضنا الاثنين، أحسن ما تروح الأرض لليهود. أنا نسيت القصّة، والله، وراحت من بالي تماما ! لكن لا أبو محمّد نسي ولا أبو سلمان !
نسي أبي "الحجّة"، لكن الأيّام السوداء تلك، كيف ننساها ؟! أنا أيضا ما زالت محفورة في رأسي. مثل الكتابات القديمة على الفخّار في طبقات الأرض العميقة. وهل يمكن لطفل، أو لكبير طبعا، نسيان الرحيل الداهم عن القرية والبيت والعين والحواكير، وكلّ ما عرفناه في أيّام الطفولة الحلوة ؟
رحيلنا ذاك كان في الواقع رحيلا افتراضيّا. ذقنا الرحيل في مخيّلتنا فقط. كان مؤلما، لكنّه في ظنّي لا يمكن أن يداني الرحيل الفعلي، عن البيت والحارة والقرية، حسرة وإيلاما. فرق كبير بين مغادرة القرية، وكلّ ما لك فيها بجسدك، ورحيلك عنها في الخيال فحسب.
على كلّ حال، لم يكن صعبا علينا، نحن في البقيعة، تخيّل الرحيل بمعانيه الماديّة والعاطفيّة. كانت قريتنا، في تلك الأيّام السوداء، أشبه بممرّ للّاجئين من لوبية وصفورية، وقرى أخرى كثيرة ضربت أسماؤها أسماعننا أوّل مرّة في حياتنا. بعضهم كان يمرّ مواصلا طريقه إلى الشمال، وكثيرون كانوا يحطّون ليقضوا ليلتهم تحت الزيتون، ثمّ يواصلون طريق الخروج مع طلوع النهار. كلّ المعايير والأعراف تتغيّر، وقد فارقت بلدك وبيتك: "علول" مثل العروس يعرضونه لمقايضته بطعام وأرغفة للعائلة الجوعى تحت الزيتون !
إذا كان رحيلنا نحن رحيلا افتراضيّا، فرحيل نصارى الرامة المجاورة كان رحيلا واقعيّا، أو نصف واقعي على الأقلّ ! في الرامة المجاورة كان للوالد بيتان، أكثر من أقارب. البيت الأول صداقة "تليدة"، موغلة في القدم، قبل أن نولد، وقبل أن يتزوّج الوالد حتى. قد أعرض لها ذات يوم. أمّا الصداقة الأخرى فهي صداقة "مطرفة"، وليدة أحداث ال 48 بالذات !
المسيحيّون في الرامة تلقّوا مثلنا الأوامر بالرحيل. الفرق أنّنا نحن لم نفارق بيوتنا. وصل خبر إلغاء الأوامر قبل مغادرتنا قريتنا وبيوتنا. أمّا أهل الرامة من المسيحيّين ففارقوا بيوتهم، تاركينها كما هي، ليصل بعضهم إلى بيت جن، وآخرون إلى قريتننا البقيعة . بل إنّ بعضهم واصل طريق الخروج إلى لبنان ليبقى هناك على طول، بعيدا عن قريته ووطنه.
عاد أهل الرامة إلى قريتهم، إلى بيوتهم، بعد إلغاء أوامر الترحيل فوجدوا البيوت وقد نهبت تماما. إلا من كان جارهم شهما، مثل أصدقاء الوالد القدامى . حكى لنا الأصدقاء هؤلاء أنّ جارهم شهر بندقيّته مقْسما أنّه سيفرّغها في كلّ من يتخطى عتبة الجيران. عاد أصدقاؤنا أولئك إلى بيتهم فوجوده في انتظارهم، كما تركوه تنفيذا للأوامر قبل أسابيع؛ بابه مقفل وداخله لم يمسّ بسوء !
هذا هو الرحيل الذي ذقناه. رحيل افتراضي. أمّا جيراننا في الرامة فما كان رحيلهم افتراضيّا، ولا رحيلا "كاملا" أيضا !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي