الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الأشباح تقتل في الظلام (قصة قصيرة)
احمد الباسوسي
2016 / 2 / 26الادب والفن
كان الوقت بعد الظهر، وكنا نجلس القرفصاء في ساحة الطابور الفسيحة شاخصين الأبصار في اتجاه المكان حيث يظهر الشاويش ليخبرنا عن أسماء الأماكن التي تقرر ترحيلنا إليهابعد أن انتهينا قبل يومين من برنامج التدريبات الأساسية وإنجاز العرض العسكري الكبير، كانوا قد أبلغونا بحضور شخصيات عسكرية مرموقة للعرض لكن أحدا لم يحضر. سحابة غائمة من دخان القلق والترقب حامت في سماء ساحة المركز الرملية النظيفة إكتنفت تحتها عشرات الشبان الصغار المتحلقين في شكل دائري غير منتظم حول سارية العلم يحاولون تبديدها بالمداعبات والتراشق بالكلمات والنكات والسخرية من الشاويش المفترض ظهوره بعد قليل. جميعهم تخرج في كليات مرموقة وتعلقت مصائرهم بأداء فريضة العلم. تزامن خفقان القلب بقوة مع مرور الدقائق الثقيلة قبل ظهور الشاويش الذي تأخر لأسباب غير معلومة. أصبحت غير قادر على الصمود من شدة الترقب، انتثرت الهمهمات في أرجاء المكان ودارت موجات التوتر والترقب حول الدائرة غير المكتملة أمام سارية العلم، هكذا بدا المشهد مدهشا، ثقيلا، لم ينقذ الشبان من وطئته سوى تعليقاتهم الساخرة على الشاويش المنتظر وصوله تصف جسده البدين، وكرشه الناتئ المتمرد بقوة على سترته التي ضاقت وتئن بشدة من الأجناب والأمام، وكذلك حركاته، وصوته ذي النكهة الريفية ولزماته المميزة، وطريقته الفريدة في الحديث. كان من المستحيل أن يستمر هذا الأمر الى الأبد ومن دون ظهور شخص ما يخبر اولئك الشبان بالذي يجري داخل الغرف الخشبية المسقوفة بمادة الاستبستوس والتي تظهر معالمها من بعيد، لكن الذي حدث أن سرت موجة عريضة من الضحك بين المجندين دارت بفعل العدوى على جميع المتحلقين المنتظرين للأخبار، لم يهتم أحد من المشاركين فيها بتقصى أسبابها أو حتى منعها، كانوا في حالة عميقة من القلق والترقب، وفي حاجة عميقة للضحك للتخفف من تلك الحالة غير المحتملة والمرهقة لأعصابهم، اتسعت موجة الضحك بشدة، ارتفعت الأصوات كأنها تحتج على اولئك الجالسين في الغرف الخشبية البعيدة المتباطئين عن إخبارهم عن وجهتهم النهائية في خدمتهم العسكرية. والمثير للدهشة إن تلك الموجة من الضحك أخذت شكلا منفلتا وطفقت تتزايد بقوة حتى بلغ صداها غرف قادة المعسكر. ظهر من بعيد شبح الشاويش الموعود بترهله ومشيته العرجاء يحمل في يده ورقة وبدا شديد الغضب والصرامة، لكن المجندين استمروا في الضحك بهيستيريا غير معهودة، ضاع صوت الشاويش وغضبه في زحام قلق الشبان وترقبهم وضحكهم، جاء خلفه ثلاثة أشخاص كان من بينهم قائد المعسكر ومساعده، إستمر وقوفهم في تجهم وصمت أمام الشبان دقيقتان قبل أن تخفت موجة الضحك ويسود الهدوء المكان. أشار الضابط الكبير للشاويش الذي يحمل الورقة في يده وقد تسمرت يده الأخرى فوق جبهته في وضع التحية العسكرية. فرد الشاويش الورقة وبدأ في تلاوة اسماء المجندين والوحدات المتجهين اليها، كان صوته قويا، مسموعا بشدة للجميع، تطايرت الكلمات من فمه مثل طلقات الرصاص الموجعة للقلوب التي لم تتوقف عن الخفقان والتوجس، كانت تخرج من بين فكي أسنانه متوجهة نحو هدفها الذي هو اولئك الشبان الجالسون في وضع القرفصاء في انتظار وضع حد لهذا الموقف المثير، كانوا يصيخون السمع بقوة ويحاولون اصطياد رصاصة الرحمة التي يلقيها الشاويش البدين المتعرق، فإما ان تقذف الفرد منهم نحو سيناء وجبالها القاسية، واولئك الأشباح المتربصين داخل ثناياها، يظهرون في الليل يقتلون العساكر الذين لا يعرفونهم، يعتبرونهم حرٌاس الطواغيت والكُفٌار، أو يزرعون القنابل على الطريق، ويملئون سياراتهم بالمتفجرات والاندفاع بها نحو بوابات معسكرات شباب الجيش طلبا للشهادة، ورغبة في معانقة حور الجنة!. أو أن تقذف رصاصة الرحمة بالفرد منهم الى ركن من أركان إحدى الوحدات العسكرية بالمنطقة المركزية في القاهرة وضواحيها ومن ثم يرفع عن كاهله ثقل الدفاع عن حياته المهددة كل دقيقة بسبب أشباح الظلام الذين يشهرون المصاحف مع القنابل بحكم المعتاد. توقفت كلمات الشاويش، لم يعد في الورقة شيء آخر، ساد الوجوم التام منطقة العلم، لم يلحظ احد انسحاب قائد المعسكر ومساعده، ولا اختفاء الشاويش البدين تماما دون أن ينبس. لم يعد بوسع أحد من الشبان أن ينطق، كأنهم استسلموا لحالة من الشجن أفقتدهم النطق لحظات قبل أن يظهر الشاويش مرة أخرى ليعلن للعساكر الذين وقع عليهم الاختيار للذهاب الى منطقة سيناء أن يتوجهوا فورا نحو السيارات التي سوف تحملهم الى وحداتهم العسكرية حيث إنها منتظرة منذ الصباح الباكر أمام بوابة مركز التدريب. أخيرا نجحنا في التخلص من تلك الحالة من الوجوم والكآبة والترقب والخوف، استدرت جانبي، الفيته واقف أمامي والابتسامة تغرق وجهه الأسمر الطويل المزين بعدة بثور من طفح الجلد كانت تزعجه كثيرا، تعانقنا طويلا، كانت الفترة التي قضيناها سويا في مركز التدريب كفيلة بأن توحد مشاعرنا بدرجة مدهشة، همس في أذني بينما كان يحتضنني بقوة " أعلم أني سوف استشهد هناك، وداعا ياصاحبي"، لم أكن متأكدا من إن تلك الدموع التي ذرفت من عيني ساعتها كانت توحدا مع تلك اللحظة الفريدة المؤلمة التي لم احتملها، أم أنني بكيت على حالي حيث لم أذهب معه وأشاركه تلك المشاعر الغريبة. كان الاضطراب سيد الموقف في تلك اللحظة القاسية على هؤلاء الشبان الصغار الذين تخرجوا في جامعاتهم منذ شهور قليلة، انشغل الجميع بمجموعة سيناء، كانت القلوب مخلوعة، والجزع واضح، والقلق والخوف يسودان المكان، وعلى غير توقع أو اتفاق توجهت جميع الأقدام نحو اتوبيسات سيناء التي كانت تنتظر امام البوابة خارج المعسكر، لم يكترث أحد بالمسموح والممنوع، ولا بصوت الشاويش البدين الواهن وهو يحث العساكر على الانضباط واللجوء الى هناجرهم حتى يتم ترحيلهم الى اماكنهم حيث تم الإعلان عنها منذ قليل، توحدت المشاعر كلها، جزعت القلوب كلها، احتشد جميع الشبان أمام السيارات بقلوبهم الصغيرة البضة، وبالاحضان، والقلق، ومشاعر جارفة من الافتقاد بين الشبان الصغار وزملائهم المتوجهين الى سيناء في مهمة حمايتها من هؤلاء الأشباح الملثمين الذين اعتادوا على القتل في الظلام. كان الوداع عنيفا للغاية، وكانت عيونهم وهم يركبون الاتوبيسات مملؤة بالحزن والإصرار ولقاء الله، جميعهم على غير اتفاق ردد نفس الكلام الذي أخبرني به صديقي منذ لحظات، إنهم ذاهبون للاستشهاد، ضبطتني أبكي بحرقة والسيارات تغادر المكان، كنت امشي وحيدا الى داخل المعسكر، والغريب أن الجميع كانوا كذلك، لا كلام، لا همس، ولا حتى إشارة.
د. احمد الباسوسي
فبراير 2016
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فودكاست الميادين| مع الممثل والكاتب والمخرج اللبناني رودني ح
.. كسرة أدهم الشاعر بعد ما فقد أعز أصحابه?? #مليحة
.. أدهم الشاعر يودع زمايله الشهداء في حادث هجوم معبر السلوم الب
.. بعد إيقافه قرر يتفرغ للتمثيل كزبرة يدخل عالم التمثيل بفيلم
.. حديث السوشال | الفنانة -نجوى كرم- تثير الجدل برؤيتها المسيح