الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أعمال جورج لابيكا - مدخل الماركسية في الإنسيكلوبيديا أُونيفيرساليس

حسان خالد شاتيلا

2016 / 3 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



‏                                   المــلـــحـق  الأوِّل :‏  
مـن أعــــمـال جــورج لابيكــا                                                                                   مدخل الماركسية في الإنسيكلوبيديا أُونيفيرساليس
 
تتساءل أحزاب شيوعية علانية ما إذا كان اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية اشتراكياً ‏فعلا. كما يَستنكر مناضلون شيوعيون على الملأ أن يروا أحزابهم تحتفظ ببنى ومناهج "ستالينية". ‏ومن غير الشيوعيين مَن يَرجِع منهم إلى الماركسية-اللينينية، وذلك فيما تخلَّت فروعٌ، كانت سابقا تنتمي ‏للأممية الثالثة، ثم أصبحت شيوعية أوروبية (أوروكومنيست)، تخلَّت عن الماركسية-اللينينية. إن المادية ‏الجدلية تُعْتَبَر بأنظار جهات متباينة الانتماءات مريضة...‏
فهل أصبحت الماركسية حالة تجاوزها التاريخ بعد مرور مائة عام على وفاة كارل ماركس، ‏وستين عاماً على قيام ثورة أكتوبر، وخمس وعشرين سنة على انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي ‏في الاتحاد السوفياتي؟ أم أنها انفجرت، وأصبحت ماركسيات غير متجانسة؛ هذا إن لم تكن أحيانا ‏متصارعة في ما بينها؟ وكيف لنا أن نحصد التقلُّبات قريبة العهد للعالم الشيوعي، وبصورة أعم للفكر ‏الماركسي، عندما تتلاحق هذه التقلُّبات تباعا، لتتحول على نحو سريع، وحسب الظروف الموضوعية، إلى حالات عدة من رد الاعتبار، والتصحيح، والتحديث، ‏والتخلي عن العقائديات؟ أترانا أمام "أزمة"؟ وما هي طبيعتها؟ وإلى ما ستنتهي إليه؟ باختصار، ما معنى ‏أن يكون المرء ماركسيا اليوم؟ ‏
 
‏1/   المــؤتمـر العشــرون يَكـتشــف الغــولاك (الغولاك: نظام معتقلات النفي والعزل لأعداء ‏الثورة، تأسس في العام 1918 مع بدء الحرب الأهلية):‏
***  يُسَجِّل تقرير خروتشيف المقدَّم للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي في شهر فبراير من ‏العام 1956 بداية مرحلة جديدة في تاريخ الحركة العمالية الأممية والماركسية، ويؤرِّخ التقرير أيضا للآثار التي ‏كان تركها، والتي لم تنتهِ حتى الآن تداعياتُها. ‏
عُرِفَت الستالينية في مطلع الأمر تحت اسم "مرحلة عبادة الشخصية"، ونُزِعَت منها بوجه ‏السرعة أسلحتها لإبطال مفعولها باعتبارها ظاهرة من ظواهر الماضي "انقضت وانتهت". وأصبحت ‏تصفية الستالينية مرادفة، إن صح التعبير، للتطَّهر عندما أصبحت هذه التصفية قاعدة تَأَخذ بها الأحزاب ‏الشيوعية كلها. فما الذي كان يخفيه كل ذلك؟ أهو مرض عرضي؟ أم آفة مستوطنة؟ أهو احتقان محلي أم ‏شامل؟ أتراه عيب وراثي؟ أم هو تفسُّخ للماركسية؟ أم تراه يَكْشف عن أن الماركسية نفسها مخلوقٌ بشع ‏ومشوَّه التكوين؟ في جميع الأحوال، لقد كان الموت المعنوي لستالين، والذي أُعلن عنه بعد مرور ثلاث ‏سنوات من وفاته، بادرة تنم عن أزمة راحت في ما بعد، ولمدة مديدة، تتعمَّق. وكان القانون الذي يَحكم ‏تطور أزمة من هذا القبيل معروفا منذ البدء. إنه انفجار العالم الشيوعي، ويَلحق به، وبالنتيجة، العالم ‏الماركسي. وكما يقول س. غراس "فإن الشيوعية، بعدما كان الخط السياسي يُرْسَم في موسكو منذ العام ‏‏1917، وبعدما كانت موسكو هي التي تَنفرد منذ العام 1924 برسمه، قد دَخلت في مرحلة المراكز ‏المتعدِّدة والطرق المتباعدة" (س.غراس، الدول الماركسية اللينينية من العام 1917 إلى اليوم، ‏المنشورات الجامعية الفرنسية، 1978. ‏C. Gras, Les Etats marxistes-léninistes de 1917 ‎à nos jours, P.U.F,1978‎‏). ولم يُوَجَّه فقط الاتهام إلى ممارسات الدول الاشتراكية، بل وإنه امتد ليشمل ‏كافة الأحزاب الشيوعية، بالإضافة إلى مختلف فروع الحركة الثورية. ولم تَقتَصِر الاتهامات الموجَّهَة إليها ‏على التكتيكات فقط، وإنما طالت أيضا الاستراتيجيات، والمساعي النظرية في مختلف مجالات عملها، بما ‏في ذلك أُسُسَها التي لم تَنج بدورها من هذه الاتهامات. ‏
وحُلَّ الكومنفورم (مكتب استعلامات الأحزاب الشيوعية والعمالية، تأسَّس في العام 1947 بمبادرة ‏من ستالين) في العام نفسه لانعقاد المؤتمر العشرين. وتحت تأثير تصفية الستالينية رُدَّ الاعتبار في العام ‏نفسه في بولندا إلى غومولكاGomulka ‎‏ (فلاديسلاف غومولكا 1905-1982، عامل وقائد شيوعي في ‏بلاده، انتُخِب في العام 1945 نائبا لرئيس مجلس الوزراء، حيث يرسم طريقا بولنديا إلى الاشتراكية، ‏ويرفض المزارع الجماعية. وانتُخِبَ في العام 1947 أمينا عاما لحزب العمال البولندي الموحَّد من قِبَل ‏اللجنة المركزية للحزب، إلا أنه طُرد من الحزب في العام 1948 بتهمة التحريف والقومية، وسُجِن في ‏العام 1951، وردَّ إليه الاعتبار في العام 1954). وفي العام نفسه عَرِفَت بولندا اضطرابات بوزنان ‏Poznan ‎‏ (حزيران/يونيو 1956، العمال يتظاهرون في بوزنان للمطالبة برفع أجورهم، إلا أن السلطة  ‏البولندية تَقمع المتظاهرين بعنف وتُوْقِع بينهم 54 قتيلا و300 جريح، وعلى إثر ذلك يُنتخب غومولكا ‏أمينا عاما للحزب).‏‎  ‎‏ وفي هنغاريا قَضَت الدبابات الروسية بصورة قاسية على عملية التحرر التي كانت ‏لحقت بتنحية قدامي القادة، راكوزي ‏Rakosi‏ (ماتياس راكوزي1892-1971، قائد شيوعي في ‏هنغاريا، كان يَصف نفسه بأنه أفضل تلميذ هنغاري لستالين، وهو صاحب نظرية تكتيك السلامي (السلامي ‏نوع من السجق) لتنحية الأعداء السياسيين شريحة وراء شريحة، وفرَّ إلى موسكو في العام 1956)  و ‏جيرو ‏Gero‏ (إرنو جيرو 1898-1980، عضو في الحزب الشيوعي الهنغاري منذ العام 1918، ويَشْغَل ‏منذ العام 1945 مراكز قيادية كوزير للمالية وعضو في المكتب السياسي، ويَخْلُف راكوزي على رأس ‏الحزب في تموز/يوليو  1956 حيث يَستنجد بالسوفييت لقمع الشارع، إلا أن موسكو تتخلى عنه ما بعد ‏ذلك وترغمه على أخذ طريق المنفى إليها). وقادت هذه الأحداث إلى هزَّات مستمرة، حيث مُورِس القمع ‏في الشرق بوجه خاص، والعقوبات في الغرب، بحق المثقَّفين المعاندين. وتميَّزت بداية الستينات بتغييرات ‏بارزة.  حيث بدا العهد الخروتشيفي مليئا بالوعود. فعلى الصعيد الدولي، وَفَّرَت سياسة التعايش السلمي ‏الضمانات للانفراج. وجرى التوقيع على اتفاقيات الحدّ من التجارب النووية ما بين اتحاد الجمهوريات ‏السوفييتية الاشتراكية والولايات المتحدة الأمريكية. ووَصَل التلفون الأحمر في العام 1963 ما بين البيت ‏الأبيض والكرملين. وفي الاتحاد السوفييتي، حيث يُعلن في المؤتمر الثاني والعشرين عن "دولة الشعب ‏بكامله"، فإن تصفية الستالينية تستمر، وَيُطرد ستالين من ضريح الساحة الحمراء، ويُؤْذَن بنشر يوم في ‏حياة إيفان دينيسوفيتش (رواية من تأليف أكسندر سولجينستين نُشرت لأول مرة في العام 1962، تصف ‏بأعين إيفان..، نموذج الفلاح الروسي، شروط المعيشة في معسكر للأشغال الشاقة في مطلع الخمسينات). ‏واكتسب الكاميكون (مجلس التعاون الاقتصادي بين بلدان أوروبا الشرقية باستثناء يوغوسلافيا، تأسس ‏بمبادرة من الاتحاد السوفياتي في العام 1947 ) نظاما وقواعد داخلية. في ما طُرد راكوزي من الحزب ‏الشيوعي الهنغاري، ورُدَّ الاعتبار رسميا لكل من سلانسكي (رودولف سلانسكي 1901- 1952 انتُخِب ‏أمينا عاما للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي في العام1945، اعتُقِل في العام 1951 بتهمة الانتماء إلى ‏أفكار تيتو والخيانة العظمى والتجسس والتخريب، ونُفِّذ فيه حكم الإعدام في العام 1952، ثم بريِّء في ‏العام 1963 من هذه التهم، ورُدَّ إليه الاعتبار أثناء ربيع براغ في العام 1968)، وكليمنتيس (فلاديمير ‏كليمنتيس 1902-1952، مثقف شيوعي سلوفاكي، نفي إلى فرنسا وبريطانيا ما بين 1939-1945، ‏وزير للخارجية ما بين 1948-1950، نفِّذ فيه حكم الإعدام في العام 1952 صحبة سلانسكي، وردَّ إليه ‏الاعتبار في العام 1963). واكتسبت كوبا، في الوقت نفسه، حظوة ونفوذا بعد انتصار ثورتها في العام ‏‏1959، وعلى إثر تطورها نحو الماركسية، وبَلَغَت هيبتها ذروة عالية أثناء اجتماع  هافانا في العام ‏‏1964. كان كل من كاسترو و"تشيه" غيفارا الوجهان البارزان لتيار ثوري ما لبث أن أَيقظ العالم الثالث. ‏وقد استفادت الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية من هذا الوضع الذي يعزَّز من خياراتها ‏الاستراتيجية، ويكسر طوق العزلة المضروب حولها. هذا الوضع إذ هو كان يدفعها إلى الانفتاح بصورة ‏واسعة نحو النقاش، فإنه وضع الماركسية في إيطاليا، فضلا عن فرنسا، في حالة سَمحَت للماركسية أن ‏تَطمح إلى الهيمنة الإيديولوجية التي أصبحت بحوزتها؛ الهيمنة بالمعنى الغرامشي للمصطلح. ‏
وما كان ذلك سوى فسحة من الوقت عابرة. إذ إن الميدان كان ما يزال مزروعا بالألغام. ففي كل ‏مكان هاجت التناقضات بصورة لا شفاء منها. ويُؤرِّخ العام 1960 للنزاع الصيني السوفييتي الذي كان بدأ ‏في العام 1958 مع القفزة الواسعة إلى الأمام للكومونات الشعبية الصينية، قبل أن يصبح فيما بعد ‏سياسيا. وانسحب الألباني إنفير هوكسا (1908-1985، قاوم النفوذ اليوغسلافي في بلاده، وتنقلت ‏العاصمة تيرانا في عهده ما بين التحالف مع موسكو تارة وبكين تارة أخرى، تحدوه الغيرة على استقلال ‏بلاده وتطورها)، بضجيج ملحوظ، من مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية الواحدة والثمانين المنعقدة في موسكو. ‏وكانت رومانيا بدأت في هذه الأثناء تبتعد عن اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في ما يتعلق ‏بالمسألة الصينية. وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام 1962 نشبت في كويا أزمة الصواريخ التي تؤرِّخ ‏لتراجع سوفييتي. هذه الأزمة التي كانت أيضا تسير في الاتجاه المعاكس لإمكانية التطور الاشتراكي لكويا ‏حسب النمط الكوبي. وفي ما كانت يوغسلافيا تنضم إلى الكاميكون (1965)، ويُعلَن في الوقت نفسه ‏بصورة رسمية عن تعدّدية طرق الانتقال إلى الاشتراكية، أُبْعِد خروتشيف عن السلطة (أكتوبر 1964)، ‏ليحل محله بريجنيف. وفي العام 1966 يُعطي المؤتمر الثالث والعشرين الإشارة التي تُعلِن عن وقف ‏تصفية الستالينية. وظَهَرَت هنا وهناك محاولات لإعادة تثمين دور ستالين بصورة إيجابية. وتحت تأثير ‏الإجراءات القمعية التي اشتدت ولم يُقضى عليها، ظهرت ساميزدات (نظام سري لتنقُّل كتابات المنشَّقين في ‏الاتحاد السوفييتي والبلدان الحليفة له، والتعبير ساميزدات يعنى بالروسية الطباعة والنشر الذاتي). وبعد ‏مرور سنة واحدة، وفي ما كان مؤتمر كارلوفي فاري منعقدا، وكان ما يزال المؤتمر يحتفظ بسمته ‏الأممية (باستثناء ألبانيا المتغيِّبة) استَنكَرت الصين بصورة رسميا "النشأة الجديدة للرأسمالية" بأيدي ‏‏"العصابة القائدة الرجعية" في اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية. ورَدَّ البلغاريون على ذلك ‏بقولهم "إن مجموعة ماو أسوأ من مجموعة تشاينغ كاي شيك". وكرَّس أيضا اغتيال "تشيه" ‏غيفارا في العام 1967 في بوليفيا فشل السياسة الداعية إلى "التكثير من حالة فيِّتنام" عبر الريف في ‏أمريكا اللاتينية؛ هذه السياسة التي ارتَبَط اسمها باسم تشي غيفارا.   ‏
‏1968: قوات حلف وارسو بقيادة سوفييتية تَسحَق ربيع براغ. ما يؤدِّي في حينه إلى ظهور انقسامات ‏جديدة وأكثر عمقا مما كانت عليه في الماضي في الحركة الشيوعية. وتؤيِّد كل من كوبا والصين هذا ‏التدخُّل. في ما يدينه كل من الحزبين الشيوعيين الفرنسي والإيطالي. إلا أن الانقسامات ضمن هذين ‏الحزبين وَجَدَت لنفسها مستقرا مستديما لها، وذلك في ما كان هذان الحزبان يواجهان حركات أيار/مايو ‏وانتفاشها الثوري الذي يتميَّز بحيوية اليسار المتطرف. وتَعْرِف تشيكوسلوفاكيا في العام 1969 حالة ‏التطبيع. وفي بولونيا يَقْمَع غومولكا في العام 1970 بعنف اضطرابات البلطيق. ويتخلَّص اتحاد ‏الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية من الليبرالية تجاه الكتاب، في ما يتِّسع "الحجز في مصحَّات الأمراض ‏النفسانية".  ويؤسِّس زخاروف (أندريه ديميترييفيتش زخاروف، موسكو 1921- 1989، عالم روسي ‏في الفيزياء النووية، مدافع عن حقوق الإنسان، ونال جائزة نوبل للسلام في العام 1975) لجنة الدفاع ‏عن حقوق الإنسان. وفي العام 1971 يأخذ كوسيغين (1904-1980، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي ما ‏بين 1964-1980، دعا إلى خطة اقتصادية تمنح الأولوية لاحتياجات الشعب على أسس من تنشيط ‏الصناعات الصغيرة والمتوسطة على حساب الصناعات الثقيلة والإنتاج العسكري. إلا أن الحزب بقيادة ‏أمينه العام ليونيد بريجنيف لم يتبن هذه السياسة) في المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي ‏السوفييتي ببعض علاقات السوق ضمن الاقتصاديات الاشتراكية. وفي الصين، حيث لين بياو   (1907-‏‏1971، توفي في ظروف غامضة بعدما اتُّهم بالتآمر على ماوتسي تونغ) يَختفي من الوجود في ما تَأخذ ‏البلاد منعطفات داخلية جديدة، فإن نظام الجار السوفييتي يُوصف بأنه"ديكتاتورية فاشية". وبعد سنوات ‏قليلة يَكتَشف الغرب الغولاك. وتأخذ المراجعات منحى جذريا. وفي ما كانت الأحزاب "الشيوعية ‏الأوروبية" ترى أمامها السلطة وقد أُفلِتت من يدها من جديد، فإن من الضروري الاعتراف  بأن الأزمة ‏الاقتصادية التي كانت تضرب البلدان الرأسمالية كانت في هذه الأثناء تَلحق أكثر فأكثر ببلدان الاشتراكية ‏الواقعية.  ‏
 
‏2/   رفـض النـمـاذج، رد الاعــتبار، والقـراءات الجــديدة:‏
تصحيحٌ، وردُّ اعتبار، وإعادة تثمين، ومراجعات سياسية ونظرية على حد سواء، هذه الأشكال ‏المترابطة في ما بينها تُميِّز سياقاً من الانشقاقات التي ما انفكت تتكرِّر. إنها قِسْمَة الماركسية المعاصرة. ‏
في ما يتعلق بالتصحيح، فإن الفكرة القائلة بالتخلي عن فكرة النموذج تحتل المرتبة الأولى. حيث أن ثورة ‏أكتوبر وما تمخَّض عنها من نظام كَفَّت عن أن تَشَكِّل القالب الصالح بصورة شاملة في كل أنحاء العالم. ‏فقد فَقَدَ الحزب الشيوعي السوفييتي دور القائد المطاع للحركة الشيوعية الأممية. كما فَقَدَ اتحاد ‏الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية دوره كمركز للثورة العالمية. ولم يَعُد للعقيدة المقدَّسة التي لا تُمسُّ، ‏وجودٌ. وأصبحت المبادئ الأساسية موضعا لتقدير متفاوت إلى حد كبير. وفي ما يتعلق بالبلدان ‏الاشتراكية، باستثناء الصين وألبانيا، فإن قيادية الاتحاد السوفييتي لم تكن موضعاً للمنازعات، وإن كان ‏ذلك يأخذ شكل ميول متعارضة. ولم تأخذ كويا وفيتنام بهذا المنحى. واحتفظت "الكتل" بصلابتها بالرغم من أن بعض الترتيبات ‏الجديدة أُدخِلَت عليها. ولم تقوَ نظرية تعدُّد الطرق إلى الاشتراكية على مقاومة "نظرية السيادة ‏المحدودة" التي كان السوفييت يتحدَّثون عنها لتبرير تدخُّلهم العسكري في أطار حلف وارسو. حتى بعدما ‏أصبحت الأممية البرولتارية تَعني التضامن الأممي، وبالرغم من حالات الاحتجاج الداخلية في اجتماعات ‏الأحزاب الشيوعية، فإنها احتفظت إلى حد كبير بملامحها التقليدية من حيث هي دعم للسياسة الخارجية ‏للدولة السوفييتية. ونحن نعرف، من جهة أخرى، مدى تردُّد الحزب الشيوعي السوفييتي إزاء مبادرات ‏الأحزاب الشيوعية الأوروبية. وعلى صعيد السياسات الداخلية، فإن ما كان يُنتَظَر من تقدُّم على مسار ‏الديمقراطية واللامركزية بين أمور غيرها، لم يُنْجَز، وذلك فيما بقيت الجروح القديمة مفتوحة، باستثناء ‏هنغاريا إن صح القول. إن الطوباوية الخروتشيفية التي تنادي ب"دولة الشعب بأسره" لم تصمد أمام ثقل ‏ممارسات مكرَّس لها. فالديمقراطية التي لم تمس، وكانت الممارسات القديمة ساهرة بحذر، قد استمرت، ‏وهي المكرَّسة، في استبدال الحلول السياسية للمشكلات بتدابير وإجراءات إدارية. وبقيت المواطنية ‏السوفييتية موضعا للابتزاز: لم تجد الإدارة السوفييتية حرجا في مبادلة بوكوفسكي بكورفالان (كان لويس ‏كورفالان أمينا عاما للحزب الشيوعي التشيلي عندما نفَّذ الجنرال بينوشه في العام 1973 انقلابه ضد ‏حكومة الوحدة الشعبية والرئيس سلفادور الليندي. وأَطلق الجنرال المذكور سراحَه في العام  1976 ‏وأُبعد إلى الاتحاد السوفييتي مقابل إطلاق السلطات السوفييتية سراح المنشق الروسي فلاديمير ‏بوكوفسكي)...‏
وللبحث عن المتغيِّرات العميقة لا بد من تغيير الحيِّز السياسي وتقصِّيها عبر ما هو أبعد من ‏الممارسات السياسية التي تبقى دوما تابعة بصورة وثيقة لعلاقات القوى الدولية. ولابد أيضا من البحث ‏عنها في حيِّز بعيد بدوره عن منطقة النفوذ المباشر لاتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية. إن اتساع ‏وأهمية حالات كثر من رد الاعتبار، إنما تقاس بمقياس المسافة التي تفصلها عن الاتحاد السوفييتي. وإن ‏السياسات التي راجعت المحاكمات الجاهزة مسبقا، هي الأغنى بالمعاني. إنها ليست وليدة الشرق وحده، ‏وإنما الغرب أيضا، حيث كانت المحرَّمات القديمة رُفِعَت. بل وإن مسارات رد الاعتبار لم تنته بعد، حسب ما ‏يتضح من الحملات حديثة العهد على الصعيد الدولي، من أجل رد الاعتبار لبوخارين، وتييون ومارتي في ‏فرنسا (أندريه مارتي، 1886-1956، نائب عن الحزب الشيوعي الفرنسي ما بين 1924-1955، ‏وسكرتير الأممية الشيوعية ما بين 1935-1943، وطُرد من الحزب في العام 1952 رفقة شارل ‏تيِيُّون1897-1993 بتهمة التجسس لحساب الشرطة الفرنسية. وتندرج هذه القضية في سياق ‏المحاكمات التي تلاحقت في بلدان الديمقراطية الشعبية لقيادات شيوعية من أمثال لندن وسلانسكي ‏وراجيك. وكان شارل تييون عضوا في المكتب السياسي للحزب، وقائد المقاومة للنازية في فرنسا). ولم ‏تكف حالات كثرٍ من رد الاعتبار في المجالات النظرية تتزايد، وإن كانت أحيانا تسترعي الانتباه أقل من تلك ‏السياسية، وهي لا تعبأ بالموافقة الرسمية عليها. لقد خَرَج من النسيان كل من روزا لوكسمبورغ، وكارل ‏كورش، ونيكولاي بوخارين، وكارل كاوتسكي، وماكس أدلر، وبيير لافارغ، وألكسندرا كولونتاي، ‏وأنطونيو لابريولا، وفرانتس ميهرينغ، ودافيد ريازانوف، وأوجين بريوبراجينسكي، وآخرون غيرهم، ‏واكتُشِفوا أو أُعيد اكتشافهم وأصبحوا معاصرين للأجيال الشابة، وذلك في ما كانت كتاباتهم تلقى على ‏صعيد النشر والتوزيع رواجا. إن انهيار الأرثوذكسية الستالينية أعاد الحياة إلى كل أولئك الذين حُجِبوا ‏من قبلها بحكم وظيفتها عندما وضعتهم جانبا أو حرمتهم من النشر. وكانت نهاية نظام التدخل في كل ‏شيء، وتقويض العلم الكامل الشامل، بمثابة إيذان بتحرير  التفكير الماركسي، أو الخروج به على الأقل من ‏الهامش. وكانت هذه النهاية ذات معنى يستحق الاهتمام، طالما أنها تؤسِّس قبل كل شيء لإمكانية ‏القراءات الجديدة، قراءة لينين وإنجلز وماركس قراءة جديدة. كما طَرحت هذه النهاية السؤال عما إذا ‏كانوا - أقل ما يقال- قُرِئوا، ما دامت معرفتُهم كانت اختُصِرت في أغلب الأحيان إلى مجرد حفظ عن ظهر ‏قلب للكتب المقدسة، وتردادٌ للأقوال المأثورة، على حد قول ألتوسير، يَتنوَّع حسب ما تستدعيه ‏الاحتياجات التكتيكية والاستراتيجية. وتُسِجِّل هذه النهاية خروج الماركسية من الهامش، ودخولها إلى ‏صلب الحيِّز العام. ولم تعد حكرا على شارحين ذي امتيازات، على غرار ما كان عليه وضع ستالين، ‏وجدانوف، والأممية الشيوعية، والمكتب السياسي. وفي ما كان احتكار التفسير يـَدخل في حالة الأفول، ‏كانت الحدود التي كان الاحتكار يتحكَّم بخطوطها على هواه آيلة إلى التبدُّد: هذا فكر يميني، وذاك تحريف، ‏وهنا باسم البرنامج السياسي، ثم العقوبات، وهناك الانتهازية اليمينية أو التعصب للجماعة الموروثة. ‏وكانت هذه الحدود محظورة على الجميع ما عدا أصحاب الامتيازات. ورُفِعت المحرَّمات التي كانت تُثْقِل ‏بوزنها العلوم الإنسانية، وبوجه خاص علم الاجتماع، والتحليل النفساني، والألسنية... وإلى ذلك ينقضي ‏عهد المانوية التي كانت تميِّز ما بين العلم البورجوازي، والعلم البروليتاري. وانتهى علم الجمال ‏الماركسي. وأخيرا، وبوجه خاص، فإن نظرية التاريخ تخلَّصت من المفارقة التي كانت تلازمها. حيث أن ‏الفكر الماركسي عاد ليتوافق مع التاريخ، وليجد مجدَّدا مسار تاريخيته. هذه التاريخية المحفورة هي ‏الأخرى بالتناقضات وحالات كثيرة من الانقطاع، والأخطاء. وكان العقل اليقيني الوثوقي خرافة، أو هو ‏الماضي الذي يُكسى به الحاضر على قد العقائديات اليقينية، وذلك بصورة ما تنفك تتجدَّد بصورة نهائية. ‏وكان هذا العقل الدوغمائي تكريساً مستديماً لما هو راهن. أما وقد عادت الذاكرة، فإن إنجلز القديم هو الذي يعود. أو لينين وهو يُحَيِّي معلِّمه كاوتسكي، أو ‏الصدامات بين اللجان المركزية البلشفية،‎ ‎‏ أو اللجان الثقافية العمالية، وبوليانوف، وباختين، وهاهو ‏برخت... ذلك كله هو الذي يعود. ‏
أما في ما يتعلق بالمادية الدياليكتيكية، هذا القدُّوس، فقد انتَشَرت منذ العام 1937 عبر خطاب كان ‏يَحمَل  طيَّه فكرة مُسَيطِرَة فرضت نفسها أو فُرِضَت على مجمل الحركة الشيوعية وإلى ما هو أبعد منها. ‏وهذا الخطاب مُوْدَع بصورة نهائية في الكراس الذي يَحمل توقيع ستالين، وهو بعنوان المادية ‏الدياليكتيكية والمادية التاريخية. وكانت الفلسفة توقَّفت منذ ذلك التاريخ. حيث أن كل ما سبقها أُلغي. وكان ‏قوام كل ما سبقها من الأبحاث والشكوك والانتقادات والمناظرات والاقتراحات والاقتراحات المعاكسة: ‏بليخانوف، ولابريولا، وكورش، أو بانِّكويك ولينين وغرامشي وبوخارين وهوركهيمر، ريخ ولوكاش... ‏وما تلا ذلك، إن هو لم يَقتَصِر على الاستظهار، أو توضيح وتمحيص ("قوانين" الدياليكتيك بالأخص)، ‏فإنه كان معدوما لا وجود له. ومن هذا الفراغ يَظهَر، بين آخرين غيرهم، كورنو، غولدمان، فروم، ديللا ‏فولبي، بلوخ، لوفيفر، سارتر، غيمونا، مانهايم ومدرسة فرانكفورت. فلا غرابة اليوم، أن تَرى ما هو كان ‏مكبوتاً، يعاود الظهور في أجواء من الضجر والصخب والخلط: الأفكار، والمؤلَّفات، والطرق التي يجب أن ‏نسلكها، والأعمال النقدية، هذا، إن لم نتحدَّث عن كتابة تاريخ لتضليل إيديولوجي لم يُكتَب حتى الآن. ‏
‏3/   حـالات كــثيرة من التـحــديث:   ‏
يَبرز بوضوح أن إعادة التثمين والتحديث في هذا السياق قد أصبح رويدا رويدا بديهيا، وأن عهد ‏الأفكار المسبقة والمحظورة، إلا على أصحاب الامتيازات، قد انتهى. واعتبارا من ذلك يمكن أن نَحصد ‏بصورة تقريبية ما كان بدأ يتحرك. هذا التحرك الذي لا يخصُّ الأحزاب الشيوعية وحدها، وإنما يشمل ‏أيضا الجماعات والأفراد الذين يُعلنون عن انتمائهم للماركسية، ويَعقدُون في ما بينهم علاقات متبادلة. ‏ويتضمن هذا الحصاد حالات كثيرة من العودة إلى التاريخ، والعودة أيضا إلى الحيازة النقدية للماضي ‏‏(القريب منه والبعيد). وكانت الرهانات المترتبة على إعادة التثمين هذه، سواء في ما يتعلق بالحركة ‏العمالية بصورة كلية، أم بهذا الحزب أو ذاك، وبهذه التشكيلة المجتمعية أو تلك، ذات طبيعة سياسية ‏ونظرية بصورة لا تنفصم. ولم يعد تاريخ اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية يستطيع أن يمر على ‏دور تروتسكي قبل وما بعد الثورة مرور الكرام. وتقود مسألة الستالينية إلى التساؤل حول السنوات ‏الأخيرة للينين، بالإضافة إلى العلاقة ما بين الدولة والحزب، والاشتراكية " في بلد واحد"، وحول الإنتاج ‏الجماعي، والطرق المؤدِّية إليه ووسائله، أو حول قمع الجماهير. ‏
وكان بالميرو توغلياتي، بفضل عقيدة تعدُّدية المراكز، أوَّل من عبَّر من بين الأحزاب ‏الشيوعية (انظر "وصيَّته" في العام 1964) عن ضرورة التخلص من الدوران في فلك الاتحاد ‏السوفييتي والحزب الشيوعي السوفييتي. لقد تَرجمت هذه العقيدة عن نهاية مؤسسات الزعامة والقيادة ‏من أية جهة جاءت أكثر مما هي عبَّرت عن إمكانية التعدُّدية بين مراكز الحركة العمالية. وحَمَلَت معها ‏هذه الانطلاقة الشروط الخصوصية التي كان من الجدير بكل "فرع عمالي" (حزب شيوعي) أن يفكِّر ‏ويعمل بموجبها. واحتلت فكرة الظروف القومية مقدمة الساحة، وتَركت لكل حزب شيوعي أن يقدِّر ‏بأفضل طريقة علاقات القوى المندرج فيها (الصراعات الطبقية، والهيئات السياسية، والتقاليد التاريخية ‏والثقافية، والعقليات). وهو الأمر الذي يعني أن كل حزب مُلْزَم بأن يَستَخلِص حصاده التاريخي، وأن يحدِّد ‏حلفاءه الطبقيين والشرائح الاجتماعية والأحزاب والتشكيلات السياسية الحليفة له، والتي يَرى فيها أنها ‏تسمح له بفتح طريقه الخاص إلى الاشتراكية.  وقد وُلِدَت من هذا الشاغل حالات كثر من التحاليل لمختلف ‏أشكال من اللقاءات (ويقال أحيانا "تطعيم") ما بين الماركسية وهذا وذاك من سياق قومي (وهو ما كان ‏لينين يسمِّيه ب "الانصهار"). وكان عدد من الأحزاب الشيوعية إيطاليا، فرنسا وإسبانيا) اختاروا ‏مصطلح الأوروشيوعية من أجل تسجيل المعنى الواسع لهذا التحديث. وأصبحت بالنتيجة إشكالية ‏‏"الانتقال" بأنظار الأحزاب الشيوعية غير الحاكمة موضعا للابتكارات الأكثر جرأة.  وظهرت مفاهيم ‏جديدة في ساحات كانت في الماضي تعمل في ضوء أُطروحات الجبهة المعادية للفاشية لجورج ديميتروف ‏‏(1882-1949، ماركسي بلغاري) ، كما أُطروحات الجبهة الشعبية لموريس توريز(1900-1964، أمين ‏عام الحزب الشيوعي الفرنسي ما بين 1930-1964).‏‎ ‎وكان  الاتحاد المعادي للاحتكار مرجعا في فرنسا ‏ما بين 1972-1978  يُرْجَع إليه في ما يتعلق بالأسس التي تؤسِّس لبناء تحليل الرأسمالية الاحتكارية ‏للدولة، ولاتحاد اليسار  مع الاشتراكيين والراديكاليين، وللتوقيع على البرنامج المشترك للحكومة، ‏بالإضافة إلى تحديد استراتيجية الحزب الشيوعي الفرنسي تحت اسم "وحدة شعب فرنسا". وفي الوقت ‏نفسه، فإن التسوية التاريخية في إيطاليا التي صاغت بمنطق التحالف نمطا جديدا من العلاقات ما بين ‏الحزب الشيوعي الإيطالي والديمقراطية المسيحية، قد فرضَت نفسها باعتبارها وريث "الكتلة التاريخية" ‏لغرامشي. وأيَّد الشيوعيون الإسبان بالمنطق نفسه غداة سقوط ديكتاتورية فرانكو معاهدة مانكلوا ‏‏(معاهدة وَقَّعت عليها كافة الأحزاب البرلمانية في العام 1977، والمعاهدة تكرِّس للديمقراطية ‏وتعترف بحرية تنظيم الأحزاب والنقابات، إلخ) التي كانت أبرمت بين قوى سياسية كثيرة التنوُّع. وشكَّلت ‏هذه التدابير الاستراتيجية المتنوعة – وهي لا تَقتصر على الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية فقط، ما ‏دام الحزبان في اليابان والمكسيك يستلهمانها – منطقا خاصا بكل حزب.  ولم توفِّر هذه الأحزاب جهدا كي ‏ما تتحمُّل نتائج هذه التدابير الاستراتيجية. وعُرِّفَت الطرق الجديدة إلى الاشتراكية يأنها سلمية، وتدريجية، ‏وتحترم الاقتراع العام والتعدُّدية الحزبية. وهذا التعريف لا رجوع عنه. وعلى هذا النحو، فإن الديمقراطية ‏أصبحت حسب ما يردِّد كل قادة الأوروشيوعية حيزاً لصراع الطبقات بامتياز. وأعيد النظر بصورة جديدة ‏من حيث راديكاليتها ب/الحريات كلها، بما في ذلك الحريات "البورجوازية" التي كانت في الماضي موضع ‏تنديد من حيث هي محض "شكلية"، وأصبحت موضع دفاع عنها في البيانات. وظهرت ممارسات جديدة ‏على أرض الواقع الفعلي. أو بدأت بوادرها تعلِن عن نفسها ضمن الفروع القديمة للأممية الشيوعية، ‏حيال سواها من التشكيلات السياسية، سواء ما كان منها مجموعات مجتمعية محترفة، أو إيديولوجية ‏وثقافية (حركات الشباب والنساء والبيئة، ومستأجري دور السكن، وصغار الملاكين...)، حيث أن هذه ‏التشكيلات حَظيت من الممارسات الجديدة على استراتيجية قوامها قبول هذه الجماعات. ومالت "اللغة ‏الخشبية" القديمة والمكررة والسلوك المسكوك في قوالب جاهزة إلى التلاشي. وكانت حالات كثر من ‏إعادة تثمين النظريات بدأت عملها أو كانت على أهبة البدء، وكانت مصحوبة أحيانا بدوٍيّ شديد. كما ‏عاودت الظهور، من جهة أخرى، المرجعية إلى تقاليد المجالس، والتسيير الذاتي الذي كان لَقي في ‏الماضي منزلة حقيرة. وعَلَتَ الانتقادات الموجَّهَة للدولة التي تتدخل في كل شيء، وللمركزية، ولنظام ‏المراتب المجتمعي، وارتفعت الأصوات التي تنادي بالدفاع عن المناطق والأقلِّيات (العمال المهاجرون، ‏والجنسية المثلية). ووُجِّهَت، من جهة أخرى، الاتهامات إلى وظائف الأداء الداخلي للأحزاب الشيوعية: ‏المطالبة ب/حرية التعبير لرأي الأقلية أو الآراء المتباينة، بالإضافة إلى نقل الآراء أفقيا داخل الحزب ‏نفسه. وتَعَّهد القادة بالامتناع عن ممارسة العقوبات. وقد أَحرزت هذه المطالب كلها تقدما في ما كانت ‏‏"المركزية الديمقراطية" تتراجع. ومن المؤتمرات "التاريخية"، إلى إصلاح الأنظمة الداخلية، فإن فحوى ‏المطالب والانتقادات الجسورة أخذت ترتفع درجة جديدة نحو الأعلى: توجيه الانتقاد ل/ديكتاتورية ‏البروليتاريا  باعتبارها عقيدة مضى عليها الزمان، وأنها مسؤولة عن كل ما لحق من "تأخير" في ‏الماضي. بل وأن الحزبين الشيوعيين الفرنسي والإسباني تخلُّوا عن المرجعية إلى "الماركسية اللينينية". ‏
وعلاوة ذلك، فإن فكرة الثورة الثقافية التي كانت انتشرت في محيط الماوية وحركات 1968 في ‏أوروبا الغربية، قد هزَّت بقوة التفكير الماركسي وعدد من "مكتسباته" الأكثر رسوخا. فقد أصبح ‏مصطلح الإيديولوجية سائدا في كل مكان إلى حد الهوس أحيانا، ويرافقه نقد المذهب الاقتصادي، كما أولوية ‏قوى الإنتاج. وتمخَّض، عن إعادة تثمين كل من علاقات الإنتاج، وال/"سياسة"، ومجموع العوامل ‏المكوِّنة للبنى العليا، وبكلمة واحدة الوعي، أثار ذلك كله  إنتاجا أدبيا غزيرا، وسَلَّط الأضواء على مشكلة ‏رئيسة، وهي المثقَّفون. ومما لا شك فيه أن الانقلابات الواسعة التي طرأت على الماركسية تُرى، منذ نهاية ‏الخمسينات بصورة شديدة الوضوح، من هذه الزاوية، أي من حيث  أطروحاتها هذه، ومحرِّكيها، ‏وتاريخها وتواريخها، ممارساتها وآفاقها. ‏
 
‏4/   المـاركســية والمـاركـســـيات:
هل يبقى للماركسية معنى عندما تصبح المراجعات دراسات وأبحاث، وتغدو الانحرافات المحدثة ‏والانشقاقات كثرة؟ وهل من الخطأ حينئذ أن نتحدَّث عن ماركسيات؟  إن هذه الأسئلة تعبِّر، ما في ذلك ‏شك، عن المظاهر شديدة الوضوح. إن الماركسية بخلاف ما انتشر من توقعات لم تمت من الإرهاق، وإنما ‏من الانفجار. فقد نشأ عالم من بطن هذا السديم البدائي الذي خلَّف كواكب لم ينته عددها عن التكاثر: ‏اللينينية، الستالينية، التروتسكية، الغرامشية، الخروتشيفية، الماوية، التيتوية، المجالسية، اليسارية ‏المتطرفة، التوسيرية، الأوروشيوعية...‏
وما معنى هذه الحالات الكثيرة من الماركسية؟ أهي عقائد، أم تجارب، أم عهود من التاريخ؟ ثم، ‏وفي المقام الأول، ما الذي انفجر؟ إن ما انفجر هو بالتوكيد الدوغمائية من نوع تلك التي تحملها الكنيسة ‏أو الجيش (وهذان التشبيهان ليسا بريئان أبدا). وكانت طلائع الحركة العمالية الأممية عَثَرَت على اليقين ‏الموثوق، وكرَّست عبره طوال عقود هويتها المجتمعية، واختبرت به وظيفتها التاريخية، دوغمائية لم ‏تعد هي نفسها ماركسية ماركس وإنجلز، والتي أصبحت في ما بعد الستالينية: إن علامات الوصل حسب ‏ما تتلاحق في صيغة الماركسية-اللينينية-الستالينية تعبِّر بإخلاص عن صيرورة واقعية. وكانت الماركسية ‏تجسَّمَت في روسيا في العام 1917: وهذه واقعة لا يمكن الالتفاف عليها. ونحن هنا لسنا بصدد علم ‏المخلوقات الغريبة، وإنما أمام التاريخ. هذا التاريخ الذي لا يُعثر فيه على الضرورة والصدفة في جُنَّات ‏المُحَرِّكين البارزين، وإنما نجدها في التناقضات الحيَّة، أي عبر الصراعات الطبقية القومية والأممية، ‏السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. علما أن اللوحة الكاملة بحيثيات هذه الصراعات لم تُعرف ‏حتى الآن بكامل مكوِّناتها (ملاحظة: لابيكا يَكتب هنا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعشر سنوات ‏‏/المُتَرجِم:ح.خ.ش). إن البنية التي كانت سائدة في الحركة الثورية حتى غاية العام 1956 قد انكسرت لأنها كانت ‏ملغومة من داخلها وخارجها على حد سواء، ولم تكن بوجه خاص على قدِّ علاقات قوى جديدة ظَهَرَت. ‏إنها انفجرت – ولنحتفظ بهذه الصورة – وهي لم تكن شاملة. ولم يعد بمقدورها أن تَكفَل إعادة إنتاج ‏نفسها (الانعكاس، النموذج، المركز). وكان الابتكار أصبح ضرورة لا مفر منها (الخصوصية، الظروف، ‏الطرق القومية). هذا هو ما تحيلنا إليه الماركسيات في صيغة الجمع. ولهذا السبب كانت هذه الصيغة ‏مهذارة. وبوسعنا، ما في ذلك شك، أن نتحجَّج ونقول إن التمييز ما بين هذه الماركسيات غير متيسر لأنها ‏غامضة، ومتنازعة، ومتنافسة – التيتوية أم الماوية؟ الأُوروشيوعية أم الستالينية؟ الطريق السلمي أم ‏الكفاح المسلَّح؟ الإصلاح أم الثورة؟ على حد قول روزا لوكسمبورغ في كراس شهير لها، وأن نزعم بعد ‏ذلك كله أن الماركسية لم تَنفجر، وإنما هي تفسَّخت. الواقع، إن مثل هذه المزاعم لا تصمد أبدا أمام  الامتحان. ‏
وإلى ذلك، فإن الزمن الذي كان فيه يقول سارتر أن الفكر الماركسي توقَّف عن الإنتاج قد ولَّى. إذ ‏إن الفكر الماركسي لم يعد في ما وصل إليه يتجاهل أيا من التقسيمات الحالية للمعرفة، بل وأن نفوذه ‏اتسع بحيث أنه يمارس تأثيره في مجالات البحث كلها. وعلاوة على ذلك، فإنه يقاس بصورة أقل من حيث ‏تنوُّعه في العديد من "المدارس" و"الاتجاهات"، مما يقاس بصورة أكثر من حيث قدرته على مراجعة ‏مساعيه نفسها. إن الفكر الماركسي قلَّص أحيانا النقد الذاتي، وتَقلَّص في الوقت نفسه إلى الفكرة الضيقة ‏التي تقول إن الأحزاب الشيوعية هي مبدأ وغاية حركتها نفسها. ويُفْهَم من ذلك في الواقع أن النظرية ‏مُلزَمة بأن تُعِدَّ ما تحتاج إليه من مفاهيم بما يُتيح لها إنجاز مهامها: الإلمام بالواقع وفهمه، أي "بكل ‏العلاقات المجتمعية" حسب ما يَكتب كارل ماركس، كي ما تغيِّره. وعلى هذا الصعيد من "حيازة ‏الملموس"، حسب ما يقول ماركس، تأتي ممارسة المنافسات، وتنشأ النزاعات، ليس ما بين آراء يمكن ‏الاختيار ما بينها، وإنما ما بين اقتراحات هي موضع للامتحان. إن حقيقةَ أطروحةٍ ما، والمفهوم أكثر من ‏الأطروحة، يتحدَّدان عبر ما يُتيحانه من عمليات في مجال أبعد من المجال الذي كانت ظهرت فيه ‏الأطروحة والمفهوم لأول مرة. إن المفهوم كالأطروحة ليس كل منهما معيارا لنفسه، وإنما هو يَكْفَل ‏مصداقيتهما. وعلى هذا النحو، فإن المقترحات موضع ‏البحث هنا هي فرضيات حقيقية للعمل. لذا، فإنها مُحَمَّلة بالمجازفات. وعلى سبيل المثال، فإن شاغل ‏الأوروشيوعية هو أن تَستجيب للأخطار، كتلك الماثلة في الحد من الديمقراطية، واستبدادية الدولة، وإن ‏كانت البيروقراطية التي تسيطر على الأوروشيوعية لا تحميها أبدا مما يترصدُّ بها، ألا وهو القومية ‏وتحولُّها إلى اشتراكية ديمقراطية. ‏
وهذا يعني أن "الماركسيات" تقوم على أسس من اللغة المشتركة، وهي نفسها تعبير عن مسعى ‏علمي، ويصح أيضا وبصورة نهائية أن نقارب ماركس كعالم ما بين علماء غيره، حسب لويس ألتوسير، ‏وأن نحذو حذوه. وكان لينين كتب: "إننا لا نَعْتَبِر أبدا عقيدة ماركس كأمر منتهٍ وغير قابل للمس، بل وإننا ‏نَعتقد،  على النقيض من ذلك، أنها أَرْسَت فقط حجر الزاوية لعلم يتوجب على الاشتراكيين من بعده أن ‏يجعلوه يتقدَّم في كافة الاتجاهات، إذا ما كانوا يرفضون أن يسبقهم الزمان. وإننا نعتقد أن الاشتراكيين ‏الروس ملزمون بصورة قاطعة بأن يطوِّروا بأنفسهم نظرية ماركس، إذا إنها تحمل مبادئ عامة مُوَجِّهَة ‏قابلة للتطبيق في كل حالة خاصة بصورة مغايرة لغيرها، في بريطانيا بصورة مغايرة لفرنسا، وفي فرنسا ‏بصورة مغايرة لألمانيا، وفي ألمانيا بصورة مغايرة لروسيا (لينين، الأعمال الكاملة، الترجمة الفرنسية، ‏المجلد الرابع). ومما لاشك فيه أن الماركسية تحت تأثير أزمتها الحالية، وهي نتاج لعودتها النقدية إلى ‏ماضي وجودها طوال قرن من الزمان، أن نراها بمظهر ماركسيات متنوعة من حيث هي مبدأ هو نفسه موضعٌ ‏للأبحاث. لكن الانتماء للماركسية اليوم يستدعي الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك. وإذا كان مما لا طائل منه ‏أن نضع قائمة ب/"الحقائق" التي تُعَرِّف الماركسية، أو قائمة ب/"مكتسباتها"، فإننا نستطيع أن نحصد ‏نقاط الارتكاز الجوهرية، أو هذه "المبادىء المُوَجِّهَة العامة"، حسب ما يقول لينين، والتي تُشَكِّل القاسم ‏المشترك للمساعي الماركسية. إن نقطة الارتكاز الأولى هي نمط الإنتاج الرأسمالي، أو "المجتمع ‏البورجوازي" من حيث هو الموضوع، والتكوينات المجتمعية التاريخية، حيث العلاقات الرأسمالية للإنتاج ‏مسَيطِرَة. وإن استعراض هذا الموضوع أتاح لماركس أن يصوغ قاعدة حقيقية تسمح بقيادة الأبحاث ‏حول أنماط غيرها من نمط الإنتاج (على سبيل المثال نمط الإنتاج الإقطاعي، أو أنماط من الإنتاج يُطلق ‏عليها تسمية "آسيوية"، أو "متعلقة بالنسَب": "إن إنتاجا محدَّدا بعينه، وما يحمله من علاقات مرتبطة ‏به، هو الذي يُعطي، لكل أشكال المجتمع وما تحمله من حالات الإنتاج الأخرى والعلاقات المرتبطة بها، ‏مستواها في مجال المراتب وأهميتها (أسس نقد الاقتصاد السياسي، المقدمة، 3). وعلى هذا النحو، فإن ‏مادية ماركس تَكشف عن نفسها، حيث العلاقة بين البنية العليا والبنية السفلى ما هي إلا التعبير المجازي ‏المألوف أكثر من غيره. (إنظر المقدمة لمساهمة في نقد الاقتصاد السياسي). ومن بين غيرها من  نقاط ‏الارتكاز، فإنه تجدر الإشارة إلى الخصائص المميِّزة الأساسية لنمط الإنتاج الرأسمالي، وخصوصيته، ألا وهي ‏سلب فائض القيمة (أو ما فوق القيمة)، والظواهر (القانون) التي تلازمها (استغلال العمل المأجور، ‏التراكم، الإنتاج، إلخ)، وما وصل إليه نمط الإنتاج الرأسمالي من مرحلة، وبتعبير آخر الإمبريالية التي ‏تُعَبِّر عن السيطرة على صعيد الكوكب، وما يرتبط بها من مكوِّنات، وهي: صراع الطبقات ك/"محرِّك ‏للتاريخ"، وتمركز الاقتصاد في السياسة، ومركز القيادة في الصدامات الإيديولوجية والنظرية نفسها، ‏وضرورة المسارات الثورية، كي ما يتاح القضاء على العلاقات الرأسمالية في كل المجالات بقيادة الطبقة ‏العاملة ومنظَّماتها في إطار من التحالفات السياسية، والمرحلة الانتقالية نحو تشييد علاقات شيوعية ‏للإنتاج تتميَّز بوجود سلطة سياسية من نمط جديد ("ديكتاتورية البروليتاريا")، حيث تتمسَّك الطبقة ‏العاملة في المقام الأول بمراجعة كل البنية السابقة للدولة، "تدمير الدولة"، ومن ثم تأسيس منظَّمات ‏السلطة ("نصف دولة"، "زوال الدولة") وضمان الممارسة الكاملة للديمقراطية في الحياة المجتمعية ‏كلها. ‏
ويتوقَّف على الماركسية نفسها، شرطَ أن تَخرج من الأزمة وهي حديثة، أن تقول ما إذا كان هذا ‏الإطار الضروري كافٍ للتحكُّم بالمشكلات التي تَنشأ عن الأشكال الجديدة التي تمخَّضَت عن الصراعات ‏الطبقية في العالم المعاصر.‏
 
‏*   جورج لابيكا، مدخل "الماركسية" في الانسكلوبيديا أُنيفيرساليس، المجلد العاشر، باريس، المنشورات ‏الجامعية الفرنسية، (ملاحظة: كتَب لابيكا هذا المقال للموسوعة في العام 1981، أي قبل ما يزيد عن ‏عشر سنوات على انهيار الاتحاد السوفييتي).‏‎ ‎‏ /الحواشي ما بين القوسين من وضع المترجم: ح.خ.ش./.
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ


.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا




.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟