الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية متن الأنسكيلوبيديا الفلسفية الشاملة - من أعمال جورج لابيكا

حسان خالد شاتيلا

2016 / 3 / 8
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


من أعمال جورج لابيكا
‏ الملحق الثاني ‏
‏ الماركسية متن الأنسكيلوبيديا الفلسفية الشاملة
‏ حسان خالد شاتيلا
‏ ‏
‏ الماركسية أرثوذكسية وانشقاق
‏ مـن أجــل مـحــصــــلـة نقـــديـة*‏

• جورج لابيكا، الموسوعة الفلسفية الشاملة، المجلَّد: العالم الكوني للفلسفة، باريس، ‏المطبوعات الجامعية الفرنسية، الطبعة الرابعة 2000، ص ص 311-319. ‏
Georges Labica, Le Marxisme : orthodoxie et hétérodoxie. Pour un ‎bilan critique, Encyclopédie philosophique universelle, Paris, PUF,4ème ‎éd. ‎‏ 2000‏‎, pp 311-319. ‎


بعد مرور قرن واحد على وفاة ماركس (1883)، وقرن ونصف القرن ما بعد تأليف الأعمال ‏التأسيسية (1945: أوضاع الطبقة العاملة في بريطانيا، والأسرة المقدَّسة،‎ ‎و الإيديولوجية الألمانية) ‏وفي ما أصبحت "أزمة الماركسية" ذائعة علانية، فإن الوقت قد حان لجرد المحصِّلة. وهي من الضرورة ‏بمكان ما دامت الماركسية تَطرح بصورة مستمرة مشكلات كثر في ما يتعلق بطبيعتها، وموضوعها، ‏وأشكالها، ومستقبلها، وفعاليتها.

فلتساءل قبل أن نطرح أي سؤال آخر:
1/- ما هي الماركسية اليوم بأنظارنا؟

‏ 1/- فلنتساءل قبل أن نطرح أي سؤال: ما هي الماركسية اليوم بأنظارنا؟ ثمة مقاربات متعددة بين أيدي الباحث. أولها، وهي الأكثر بداهة، أن نتعرَّف ونقيس مجموعة ‏معقَّدة وواسعة من المعطيات الواقعية. أولها كارل ماركس نفسه، الذي اشتُقَّت من اسمه الماركسية. ‏وحري بنا أن نقول ماركس وفريدريك إنجلز، ما دام الثاني هو الأنا الأخرى للأول، وهو المؤسس الأخر. ‏ثانيها البيان الشيوعي، هذا العمل المقاتِل، ونحن نعلم في ضوء أعمال بيرت أندرياس ‏Bert Andreas‏ ‏وجاك غراندجونك ‏Jacques Grandjonc ‎، أن البيان هو ثمرة لعمل جماعي حقيقي، والصياغة ‏الأخيرة المعدَّلة لبرنامج أُعيدت صياغته مرات عديدة. وثالثها الحوليات الفرنسية الألمانية ‏‏(1843)‏Annales Franco-allemandes ‎، ولجنة المراسلات الشيوعية ‏Comité de ‎correspondance communiste‏"1846)، والجمعية الدولية للعمال (1846-1876). ولم تكف هذه ‏الأعمال عن الاتساع بفضل رفاق النضال، والأصدقاء، والخصوم - وكان هؤلاء يتبادلون في كثير من ‏الحالات الأدوار في ما بينهم - والمراسلين والمساعدين. ويكفي العودة إلى أي ثبت بالأسماء في أي ‏مؤلَّف لماركس وأنجلز، كي ندرك مدى اتساع عدد هؤلاء. حيث نجد العمال، والحرفيين، ترزيين، ‏إسكافيين، نجارين، دهانين، طباعين، ودباغين...(وكان ماركس أهدى رأس المال لمعلِّم مدرسة ابتدائية، ‏وهو ابن لفلاح فقير)، فضلا عن العلماء، فيزيائيين، بيولوجيين، كيميائيين، رياضيين، جغرافيين، علماء ‏الطبيعة...، بالإضافة إلى الصحفيين والكتاب والفنانين والشعراء والفلاسفة والاقتصاديين، ناهيكم ‏والإداريين والمغامرين. وهؤلاء ينتمون إلى مختلف الجنسيات. ومنهم من كان منفيا أو مغتربا، على غرار ‏ما هو حال ماركس نفسه. وعندما توفي إنجلز في العام 1895، وكان هو نفسه قائد الأممية الثانية ‏والناطق باسمها، كان أعضاء الأممية الثانية منحوا الماركسية في إطار الأممية نفسها منحاها التاريخي ‏متعدِّد اللغات. ثم جاء اللاحقون من ورثة مخلصين "ومحرِّفين"، مدَّعي المعجزات أو النمامين، وهم ‏كثرٌ، والذين اعتبروا أنفسهم "رجال العلم، ورجال الحزب". وألَّف هؤلاء، ومنهم المشهورين ‏والمُجهولين، الأفراد والجماعات والجماهير، عملا متعدِّد الأوجه، وذات جغرافية كونية، وما يزال أصحاب ‏هذه الأعمال في مطلع القرن الواحد والعشرين يتلاحقون ويتكاثرون. وهذه الأعمال أكداس مكدَّسة من ‏الأوراق بأطنان لا يُحصى لها وزن، وأفكار، وفرضيات، وبرامج، وعقائديات، وشعوب، وأمم، ومنظمات، ‏ومؤسسات، ورجال سياسة، وسلطات، وتاريخ غني بالضجيج والصخب والخرافات والخوف والحماس. ‏هذه هي الماركسية. إنها كل ما تقدَّم، تعدُّديةٌ على قاعدة واحدة، برج بابل، أو غابة شهيرة. إنها بكلمة ‏واحدة كل من ينتمي لماركس، وكل ما يرتبط باسمه بصلة منذ 150 عاما. ‏
وكيف لنا أن نفكِّر في مثل هذه الظاهرة؟ إن العودة إلى ما نعرفه من تشبيهات ومجازات أمر لا ‏بد منه. ‏
ونحن نعرف الجواب الذي كان سارتر اقترحه في دراسة له باسم مسألة المنهج ‏Question ‎de méthode ‎‏ 1957، (انظر نقد العقل الدياليكيكي، باريس، غاليمار، 1960)‏‎ J. P. Sartre, ‎Critique de la raison dialectique, Paris, Gallimard, 1960 ‎‏): الماركسية من حيث هي ‏‏"زمان" فلسفي. "إذا كانت الفلسفة معرفة شمولية، منهجا، فكرة منظِّمَة، وسلاحا هجوميا، وجماعة ‏لغوية، وإذا كانت هذه "الرؤية للعالم" هي في الوقت نفسه أداة عمل للمجتمعات التي نُخِرَت بالسوس، ‏وإذا كان هذا المفهوم الفريد عن إنسان ما أو جماعة من الناس يضحى ثقافة، وأحيانا طبيعة لكل طبقة، ‏فإن من الواضح أن عهد الابتكار الفلسفي نادر. وإني أرى ما بين القرن السابع عشر والقرن العشرين ‏ثلاثة فلاسفة أتعرف فيهم على أسماء شهيرة: ثمة "زمان" لديكارت ولوك، وآخر لكانط وهيجل، وأخيرا ‏زمان لماركس. إن كلا من هذه الفلسفات الثلاث تصبح كل بدورها تربة عضوية لكل فكر بعينه، وأفق لكل ‏ثقافة، وهي ضرورة لا بد منها مادامت اللحظة التاريخية لتي تعبِّر عنها لم تتخطاها لحظة تاريخية ‏غيرها". فلنقر بأن مثل هذا التعريف للفلسفة يبدو مؤاتيا بصورة أفضل ل/"زمان" ماركس منه إلى ‏سابقيه الاثنين، وأنه مدينة أكثر ل/ أطروحات عن فويرباخ منه لأي عمل سابق آخر. ‏
وإن العودة إلى الموازاة مع الدين أمر لا مفر منه أيضا. إن إريك هوبزباوم يلاحظ في مقدمة بحثه ‏الماركسية اليوم: محصِّلة مفتوحة، تاريخ الماركسية، المجلَّد الرابع ‏‎(Eric J. Hobsbawm, Il ‎marximo oggi : un bilancio aperto, Storia del marxismo, Torino, Eimaudi, ‎‎1982, t. IV‎‏): إن مَن المفكرين، ممن يمكن التعرُّف عليهم فرديا، أولئك الذين شغلوا موقعا مشابها ‏للموقع الذي كان مؤسِّسو الديانات العظمى شغلوه في الماضي، إلا أن أيا منهم، ولعل الرسول محمد هو ‏الاستثناء الوحيد من بين هؤلاء، لم ينتصر مثلما انتصر ماركس على مثل هذا المستوى، وبمثل هذه ‏السرعة. ومن وجهة النظر هذه، فإن أي مفكر علماني لا يمكن أن يقارن بماركس". ونحن نَعْلَم، من جهة ‏أخرى، دون أن نقع ضحية الصورة الكاريكاتورية التي ترى في ماركس آخر أنبياء إسرائيل، وفي ‏البروليتاريا الشعب المختار، أن الممارسات الشيوعية تذكِّرنا بتلك التي تمارسها الكنسية، من حيث مراتبها ‏الهرمية، وتقديسها للأسرار، وطقوسها الثابتة، وقيمها المقدَّسة بصورة استبطانية، تذكِّرنا بالولاء، ‏والإخلاص، والاعتراف أو النقد الذاتي، فضلا عن الثنائي: أرثوذكسية وبدع. حتى أن الشيخ إنجلز لم ‏يمتنع عن الإشارة إلى أوجه التقارب ما بين الديمقراطية الاشتراكية الألمانية و"الحزب الثوري" ‏المسيحي في الإمبراطورية الرومانية القديمة. "إن سماءنا (أو إلَهَنا)، حسب ما كان يُعلِن ماو تسي تونغ، ‏وهو يتحدث عن يوكونغ الذي كان ينقل الجبال من مكان إلى آخر، ليس أمرا آخر سوى الشعب الصيني". ‏
وإن العودة أيضا إلى المفردات العسكرية ليست أقل إيحاء. ذلك أن قيادة صراع الطبقات بالعودة ‏إلى مرجعية كلاوسيفيتس ( كارل فون كلاوسيفينس ‏‎ Karl von Clausewins، قائد ومنظِّر عسكري ‏بروسي 1780-1831، تُعْتَبر كتاباته العسكرية قاعدة أساسية في الاستراتيجية المعاصرة) أو ‏نابليون، يجعل من هكذا عودة أمرا لا مفر منه: الحرب، الاستراتيجية والتكتيك، الطليعة، المَفْرَزَة، ‏المعسكر، النظام، القادة، إلخ. والعودة إلى العلوم الجامدة لا تقل شأنا عن مرجعية المفردات العسكرية. ‏هنا "قوانين" التاريخ والتطور الاقتصادي، وهناك "القطيعة الابستمولوجية"، أو كما هو الحال في وقت ‏قريب: التحليل النفساني، دون أن ننسى أن إنجلز يُشبِّه ماركس ب/لافوازيه وداروين. ‏
// وليست العودة إلى الماركسية من حيث هي ظاهرة ثقافية، ونمط للوجود الثقافي والتجريبي في آن ‏واحد، أقل شرعية من سابقاتها. وكنت اقترحت مقاربة مع موسيقى الجاز... من مولدها في نيو أورليانز، ‏إلى زلاتها التي استُوْعِبت على خير وجه في ما بعد، في شيكاغو، وويست كواست ، وموسيقى البوب أو ‏الفري ‏Free‏ ، من الشوارع المتواضعة في مدينة هجينة، إلى كارنيجي هول، في باريس وكالكوتا أو في ‏موسكو، من الفرق الموسيقية الصغيرة إلى الأوركسترا السمفونية، من النموذج الموحَّد في برودوي إلى ‏إعادة كتابة باخ، من حرية الارتجال إلى تشدُّد المعاهد العليا للموسيقى... ‎‏فهل نخلط ما بين جنس ونوع الدلالات الغنية في موسيقى الجاز باسم التساهل والرضا ‏الإيديولوجي؟ إن ذلك يقود إلى التساهل بجودة بالصعوبات التي تلازم تعبير الماركسية، وإن كانت هذه ‏الصعوبات كلها تندرج في المفاهيم المسيَّرَة من قِبَل الفكر الماركسي والمتمركس. ‏
وفي ما يتعلق بالمصطلح، فإننا نلاحظ لزوما بأن تعبير الماركسية نفسه لا يزيدنا علما في تعريفها. ‏إنه، على النقيض من ذلك عَرَضٌ من أعراض انعدام اليقين في الحالات التي استعرضناها أعلاه. وإن ‏الصفات الملصقة بالماركسي والمتمركس والماركسوي، تُستخدم في المجادلات والخصومات الخطابية، وغالبا ما ‏تُحْمِل معنى قدحياً. وتُستخدم هذه المصطلحات حسب الظروف بصورة متعارضة في ما بينها مقابل ‏‏"لاسالي" ‏Lassalien (نسبة إلى فرديناند لاسال ‏Ferdinand Lassale‏ 1825-1864، مفكر ‏وكاتب اشتراكي من ألمانيا، صاحب النظرية القائلة إن أسعار العمل في النظام الليبرالي هي دوما الأسعار ‏الأقل انخفاضا، والتي تكاد تكفي لسد حاجات العمال)، ومدافع عن نظرية الإمكانية ‏‏(إمكانوي)‏possibiliste ‎، وباكونيني (نسبة إلى القيادي والمفكر الفوضوي، فرنسي من أصل روسي، ‏ميخائيل ألكسندروفيتش باكونين 1914- 1876). وكان ماركس أَعرب في العديد من المناسبات عن ‏تحفظاته حيال هذه الاستخدامات الاصطلاحية المُشتقة من اسمه. ويُسنَد إلى لافارغ (الاشتراكي الفرنسي، ‏وصهر ماركس، بول لافارغ ‏‎ Paul Lafargue‏ 1842- 1911) أن ماركس قال له: "إن ما هو مؤكَّد، ‏هو أنني لست ماركسيا". وكان ماركس امتنع عن التحكيم بين هذين "النوعين" من الماركسيين ‏وال"المناهضين للماركسيين". ويضيف لينين أن ماركس كان يستطيع أن يسجِّل لنفسه بين أقواله ‏المأثورة قولا مأثورا ل/هين، ويأخذه عنه: "أنا زرعت الجنود الفرسان بيد أني لم أحصد سوى ‏البراغيث"(كريستيان جوهان هينريش هين 1797- 1856 ‏Heinrich Heine، شاعر رومانيتكي ‏وصحفي من ألمانيا، وارتبط مع ماركس بعلاقة فكرية وثيقة). ويعود اعتماد المصطلح بمعناه الإيجابي ‏إلى إنجلز في إحدى هوامش كتابه لودفيغ فويرباخ. واعتبارا من هذا التاريخ، فإن الجهود الرامية إلى ‏العثور على مرادف أقل ارتباطاً بشخص ماركس ليست قليلة. إن تعبيرات من أمثال "المادية التاريخية"، ‏و"المادية الدياليكتيكية"، و"الفلسفة العلمية" أو "فلسفة البراكيس"، حاولت كلها أن تَستَخرِج ‏موضوعا لا مراء فيه، أو أن تَضَع على الأقل يدها على هذا أو ذاك من مظاهر الجدَّة، لتأخذ من كل ‏ازدواج في التعبيرات المتناقضة التي تشكِّل الحدَّين المتناقضين في التعبير الواحد، أحد هذين الحدين على ‏حساب الحدّْ الآخر. وعلى هذا النحو، فإن التاريخ والدياليكيتيك، أصبحا مضافين إلى المادية، المادية ‏التاريخية ، والمادية الديالكيتيكية، بعدما كانا حتى غاية ماركس من موضوعات الفلسفة المثالية. وظهرت ‏فكرة القطيعة المزدوجة مع كل من فويرباخ وهيجل. وما اقتران العلم بالفلسفة إلا "باروكية مُضحِكَة"، ‏أو تناقض ما بين الصفات (الباروكية: أسلوب فني في العمارة وغيرها من الفنون التشكيلية ساد بخاصة ‏في القرن السابع عشر، وتميَّز بالزخارف والحرية في الشكل)، على حد قول لابريولا (هو أنطونيو ‏لابريولا ‏Antonio Labriola، 1843- 1904، فيلسوف وسياسي ماركسي من إيطاليا، وهو من أوائل ‏الذين نشروا الماركسية في إيطاليا، وله أبحاث في المفهوم المادي للتاريخ) الماركسية فلسفة علمية، ‏وكأن ماركس وأنجلز يُنجزان الحلم الكانطي ب"طريق موثوق للعلم"، أو مقولة هوسرل حول "الفلسفة من ‏حيث هي علم متشدِّد" (إدوموند هوسرل ‏Edmund Husserl، 1859- 1939، فيلسوف ومنطقي ‏وعالم رياضيات من ألمانيا، مؤسس الفنومينولوجيا أو الظاهراتية التي تركت أثرا على مجمل الفلسفة في ‏القرن العشرين)، أو حتى فلسفة البراكسيس التي تأخذ حرفيا الأطروحة الحادية العشرة لفويرباخ، أو ‏اللقاء ما بين التأويل ومسار ثوري ما. أما تعريف الماركسية بأنها نقد الاقتصاد السياسي، فإنه إذ يلازم ‏على الدوام أعمال ماركس في سن النضج أو ماركس الراشد، إلا أنه لا يتحدث عن الحيز الذي يأتي منه ‏نقد الاقتصاد السياسي. وكان لابريولا اقترح "الشيوعية النقدية" كي يَكشف عن قطيعتها مع الشيوعية ‏الطوباوية، والفلسفة، والإيديولوجية. وإذا كان هذا التعريف لا يعدم من إغراء، إلا أنه بقي بدون مستقبل. ‏إن أيا من هذه المرادفات لم يقو على فرض نفسه بصورة مستديمة. إن كلاً من هذه التعريفات يحيل إلى ‏التعريفات الأخرى حسب التركيب الجدلي، وهي نفسها "الأجزاء الخمسة" للمادية الديالكيتيكية ‏والتاريخية، الوارد ذكرها في القاموس الفلسفي الموجز من تأليف لودين‎ ‎وروزنتال ‏Petit ‎dictionnaire philosophique, Loudine, Rosentahl، أو "الأنظمة الثلاثة عشر" الوارد ‏ذكرها في الماركسية اللينينية ل/ ج. رو‎ J. Roux ‎، وذلك بين أمثلة غيرها، وكلها تترك في كل مرة شعورا ‏بالنقص أو الفائض، وفي جميع الأحوال شعورا بعدم الرضا. وبذلك، فإن تعبير الماركسية تفوِّق لأسباب ‏تتعلق براحة البال، إن لم يكن لانعدام أي تعبير آخر غيره. وما ذلك في الحقيقة – ولابد من الدقة طلبا ‏للفائدة - سوى طريقة في احترام صمت واهب الاسم نفسه، أي ماركس الذي رفض أو لم يقدر على ‏تسمية ما أنتجه. ‏
‏ ‏ولم يجد مصطلح "الماركسيات" الذي شاع استخدامه في السنوات الأخيرة مخرجا أفضل. وإن ‏قيمته إذا هي لم تخدم الصراعات الإيديولوجية، فإنها لا تعدو كونها وصفية. إنها تقف عند حد، وهو ‏معاينة أن بيت الأب يتضمن عددا من الأماكن. وفضلا عن ذلك، وعلاوة على أنها تضاعف وتثبِّت الرجوع ‏إلى الاسم الموصوف المنسوب إلى شخص بعينه، كاوتسكية، لينينية، تروتسكية، ستالينية، غرامشية، ‏ماوية، وغيرها كثر، فإنها تترك بلا معالجة مسألتي العلاقة ما بين الماركسيات وماركسية ماركس من ‏جهة، والشروط التي ترافق ظهورها وما تركته من أثر. ‏
وهذا كله يقودنا إلى استخراج محصلة أولية لما هو راهن: إن الفلسفة، وقد دمَّرها ماركس، تبقى ‏إلى ذلك بلا تعريف، وما أسَسه من علم، فإنه ما يزال ينتظر إنجازه، والثورة الشيوعية ما تزال تنتظر ‏التفكير فيها، إن لم يكن إنجازها. هذا، إلا إذا لم يكن ذلك كله من أهداف ماركس؟ ‏
2‏- العودة إلى أعمال ماركس وإنجلز‏
2/ فلنسلك مسارا آخر للإجابة على السؤال: ما هي الماركسية بأنظارنا اليوم؟ إنه مسار العودة ‏من حيث كانت البداية، أي إلى أعمال ماركس وإنجلز منذ البدء. ولن نكون بطبيعة الحال بصدد عرض ‏لأسماء كتاباتهما، وإنما نقتصر على تدوين بعض الملاحظات التي تبدو ضرورية لتقدير المشروع ‏الماركسي والإنجلزي، وما نسميه بحذر وبصورة محايدة النظرية.‏
لقد عَرفت أعمال ماركس مصيرا فريدا من نوعه، وهو غير معروف بصورة كافية. ‏
إن ما نشره ماركس أثناء حياته قليل نسبيا. وكان في أعقاب الدفاع عن أطروحته لنيل درجة ‏الدكتوراه، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، نَشَر عددا من المقالات في راينيشي زايتونغ‎ ‎Reinische Zeitung‏ التي كان يعمل محررا فيها، إلا أن الرقابة البروسية سارعت إلى حظرها. وفي ‏العام 1844 أعادت الحوليات الفرنسية الألمانية ‏Annales franco-allemandes ‎‏ في العدد الوحيد ‏الذي صدر عنها نشر دراستين اثنتين لماركس: في المسألة اليهودية، ومدخل إلى نقد فلسفة القانون لدى ‏هيجل. وصَدر في العام 1847 بؤس الفلسفة الذي يفنِّد برودون. وما بين 1848 و1863، وفي قلب ‏بضعة مئات المقالات أكثرها ذات صلة بالظروف، يَظهر العمل المأجور ورأس المال (1848)، وصراع ‏الطبقات في فرنسا (1850)، و 18 برومير لويس بونابرت (1852)، ثم مساهمة في نقد الاقتصاد ‏السياسي (1859)، وهير فوغت ‏Herr Vogt‏ (1860). وكَتَبَ النظام الداخلي والعريضة الافتتاحية ‏للجمعية الأممية للعمال (1846)، وبرنامج المؤتمر الأول (1866)، و الحرب الأهلية في فرنسا (1871) ‏وهو دراسة تحليلية لكومونة باريس. وصدر الكتاب الأول من رأس المال في العام 1867. وتبعه مقدِّمة ‏الطبعة الثانية ل/البيان الشيوعي (1872)، والطبعة الثانية باللغة الألمانية لرأس المال (1873)، ومقدمة ‏لترجمته الفرنسية (1875)، والمدخل النظري لبرنامج الحزب العمالي الفرنسي (1880)، وأخير مقدمة ‏للطبعة الروسية ل/البيان الشيوعي (1882). ‏
ونشر ماركس بالتعاون مع إنجلز الأسرة المقدّسة (1844)، رسالة ضد كريغي ‏Circulaire ‎contre Kriege‏ (1845)، والبيان الشيوعي (1848)، وفصل واحد من أنتي دوهرينغ (1877). ‏يضاف إلى ذلك مراسلات واسعة من 15 مجلدا. إن عددا كبيرا من كتابات ماركس لم تُعرَف إلا ما بعد ‏وفاته، وفي بعض الأحيان ما بعد مرور فترة طويلة على وفاته. وعلى سبيل المثال، فإن الكتاب الثاني من ‏رأس المال لم يُنشر إلا في العام 1885، في ما نُشر الكتاب الثالث في العام 1894، وذلك بفضل عمل ‏شاق كان بذله إنجلز. ونُشر الجزء الرابع من رأس المال، والذي يضم نظريات فائض القيمة في ثلاثة ‏أجزاء، ويعود تاريخ كتابتها إلى ما بين 1861 و1863، إلا أنها لم تُنشر إلا في العام 1905، وذلك ‏بفضل جهود كارل كاوتسكي. ولم يَصدر مؤلّف الإيديولوجية الألمانية (1846) إلا في العام 1932، ‏وأسس نقد الاقتصاد السياسي "غروندريسي‏"Grundrisse ‎‏) الذي كُتب ما بين 1857 و 1858، لم يُنشر ‏إلا ما بين 1939 و1941. ناهيكم وأن الأعمال التي لم تعرف النور أبدا ما تزال تخرج علينا، ف/ ‏المخطوطات في علم الرياضيات ظهرت للتو باللغة الفرنسيةA. Alcouffe, Paris, Economia, ‎‎1985 ‎‏. هذا ولن تَصدر الأعمال الكاملة لماركس وإنجلز باللغة الألمانية، والتي تقع في مائة جزء تقريبا، ‏قبل العام ألفين (لم ينته هذا العمل حتى الآن، المترجم). والحال أن ماركس توفي وأعماله لم تُنجز بعد ‏بصورة نهائية. وكان ماركس رَسم لنفسه، في مقدمته ل/أسس نقد الاقتصاد السياسي، ورسائله الموجَّهة ‏إلى إنجلز، رسائل في رأس المال، باريس، المنشورات الاجتماعية، 1964‏‎ Lettres sur le Capital, ‎Paris, ES, 1964‎‏، وهي خطة عمل لإنجاز رأس المال، إلا أن ماركس لم ينفِّذ خطته. وفي الفصل الأخير ‏من رأس المال (الكتاب الثاني)، وهو مخصَّص لل"طبقات" يوجد صفحة واحدة فقط. ولم يَكْتب أيضا ‏ماركس المطوَّل في "الدياليكتيك" الذي كان نَقل إلى جوزيف ديِيِتزغين ‏Joseph Dietzgen‏ (عامل ‏وكاتب اشتراكي ألماني، ويَظهر لأول مرة الترابط ما بين المادية والدياليكتيك في رسالة ماركس إليه قبل ‏أن يَستخدم إنجلز هذا المصطلح في لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية،(المترجم) ‏اعتزامه كتابة مطوَّل في الدياليكتيك (المرجع السابق، رسالة 9 أيار/مايو 1868). وقد أُدخِلَت بصورة ‏مستمرة تعديلات على هذه الأعمال. إن الأعمال ذات الصلة بنقد الاقتصاد السياسي ما تزال حتى اليوم ‏ورشة يضيع فيها أفضل سباحي ديلوس ‏‎ Delos‏ (جزيرة يونانية كثيرة الرياح.المترجم)، كما كان يقول ‏سقراط عن هيراقليط. ف/المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي لم تنته أبدا، وهذا يصح أيضا في ما يتعلق ‏بالعمل الضخم أسس نقد الاقتصاد السياسي (من جزءين اثنين بالفرنسية)، وماركس لا يرجع إليه لدى ‏كتابته رأس المال. ويصح أيضا في مخطوطات 1861-1863 التي تّندمج على خير وجه في نقد ‏الاقتصاد السياسي، ناهيكم والفصل غير المنشور من رأس المال (الفصل الرابع من الكتاب الأول) الذي ‏كان ماركس ألغاه، وناهيكم أيضا والدفاتر ‏Cahiers ‎‏ من 16 إلى 23 قيد الطباعة في الأعمال الكاملة ‏لماركس وإنجلز ‏MEGA، فضلا عن أن الكتابين الثاني والرابع من رأس المال ليسا من إعداد ماركس. ‏وهذا كله يعطينا فكرة عن مقدار الصعوبات الضخمة التي تنتظر إعادة التفكير النقدي بهذه الأعمال ‏وتتحداه. (انظر، جاك بيدي، ماذا نفعل برأس المال؟ ‏J. Bidet, Que faire du Capital ? Paris, ‎Klencksieck, 1985‎‏). والحال، إن الأعمال أعيد النظر فيها مرارا لتعديلها. وجرى ذلك أحيانا بصورة ‏سرية في المخابر، وأحيانا بصورة علنية حسب ما يظهر في المقدِّمات المتتابعة لماركس وإنجلز لدى ‏إعادة طباعة أعمالهما (انظر على سبيل المثال، صراع الطبقات في فرنسا، البيان الشيوعي، أو الأفكار ‏حول كومونة باريس)، وأحيانا أُخر بصورة أقل وضوحا، حسب ما يَظهر لدى مطالعتنا هذا التلميح ‏للمراسلات، أو مراجعة هذا أو ذاك التحليل، هنا وهناك في النصوص. ‏
وإذا أخذنا أخيرا بعين الاعتبار أن الأعمال قد وَصَلَت إلينا بصورة مضطربة من حيث الزمان، وأن ‏كل شيء كان يجري بخلاف ما هو الأمر حاليا، حيث تنتشر اليوم أدوات البحث من قواميس وفهارس ‏وأدلَّة (جمع دليل للبحث) وغيرها، فإن الناشر كان في حينه ينشر الأعمال دون أن يزوِّد القارئ بدليل ‏عمل للكشف عن مواضع التداخل أو الخلط ما بين النصوص. وهو الأمر الذي يحملنا على التساؤل حول ‏القيمة العلمية لقراءة ماركس حسب ما كنت سائدة في الماضي. وثمة ما يدعونا إلى القول بأن هذه ‏الأعمال لم تُقرأ أبدا، ولا بد من أجل قراءتها بصورة نقدية أن ينتهي العمل بصورة نهائية من نشر ‏الأعمال الكاملة. ولنكتف في ما حضر بمعاينة مؤدَّاها أن الانفجار الزمني لهذه الأعمال، وهو لا ينفصل ‏عن الظروف التاريخية التي كانت ترافق الكشف عن هذا الجزء أو ذاك من الأعمال، قد أدَّت إلى ظهور ‏قراءات كثر لها، وأن هذه القراءات هي التي كانت في كل مرة تشكِّل الأعمال الماركسية، أي صياغة ‏الماركسية في لغة تزعم لنفسها أنها تَقبُض على شمولية ما أو أنها نموذجية. وبهذا المعنى، فإن ‏الأطروحات الجديدة التي تقول بالماركسيات في صيغة الجمع تجد لنفسها ما يبرِّرها. فما هي هذه ‏القراءات؟
تأتي في المقام الأول القراءات غير المشبوهة والتي كانت تعمل بما ملكت يداها أو في ضوء ما ‏كان متوفرا من أعمال. ففي العام 1848، كان البيان الشيوعي ما يزال مجهولا بعد مرور فترة على ‏ترجمته إلى الفرنسية. وكانت الجمعية الأممية للعمال ‏AIT‏ قرَّرَت في مؤتمرها المُنعقد في بروكسيل، ‏وذلك بعد مرور أربع سنوات على تأسيسها، قراءة رأس المال الذي كان صدر قبل فترة وجيزة. وكان ‏لينين، وهو على معرفة ممتازة بالأعمال، يجهل "أسس نقد الاقتصاد السياسي" . وعندما انكب على تحليل ‏روسيا في زمانه (لينين، تطور الرأسمالية في روسيا 1896- 1899)، كان يعوِّل في المقام الأول على الكتاب ‏الثالث من رأس المال. وكان لينين يُقْبِل بنهم على كل ما كان يَظهر من كتابات لماركس وإنجلز، كالرسائل ‏إلى لاسال وكوجيلمان ‏Kugelmann‏ وسورج‎ Sorges ‎، و نظريات في فائض القيمة، إلخ.‏‎ ‎وكان ‏لابريولا طلب من إنجلز أن يرسل إليه بمخطوط الإيديولوجية الألمانية، وقد حظي من لابريولا بنسخة من "‏الأسرة المقدسة" بعدما كان فشل في العثور لنفسه على نسخة من هذا المؤلَّف. ولم يكن غرامشي يعرف ‏مخطوطات 1844 التي حظيت من سارتر أثناء كتابته ل/الوجود والعدم على ثنائه عليها. ولم يُكْتَب لإنجلز ‏قبل أن توافيه المنية أن ينجز مشروعه، وهو أن يجمع أعمال ماركس وأعماله وينشرها في مجموعة ‏واحدة. وكانت ابنة ماركس إليانور نسبت إلى أبيها مقالات نُشرت في نيويورك تايمز، ثم تبيَّن في ما بعد ‏أنها لإنجلز وليست لماركس. وقد تناهى إلى علمنا قبل فترة وجيزة أن ‏Luther als Schiedsrichter ‎zwischen Strauss und Feuerbach, ‎‏ والذي يتضمن الصيغة ذائعة الصيت ل/"نهر من النار" ‏ليست لماركس حسب ما جاء في الأعمال الكاملة ‏MEW, t.1‎‏، وإنما هي لفويرباخ نفسه. ولنذكِّر ما ‏كان أحدثه قبل عقود قليلة اكتشاف عملين اثنين من أعمال ماركس الشاب، وهما مخطوطات 1844، ‏والإيديولوجية الألمانية (1932)، وهو عمل ما يزال يثير مشكلات، وقد حَمَل الماركسيين على إعادة التفكير ‏بالماركسية. ‏
ومن هذه القراءات ما كان منها أقل براءة من غيرها. فقد أخفى قادة الاشتراكية الديمقراطية، ‏ولمدة طويلة، ما كان ماركس وجَّهه إلى أول برنامج للحزب من انتقادات. ولم يَكشف عنها إنجلز إلا في ‏العام 1891 في مؤتمر إرفورت. وحَكَى ريازانوف ما واجهه من صعوبات في نشر الإيديولوجية الألمانية ‏‏(دافيد بوريسوف ‏‎ ‎غولدينباخ، الملقَّب بريازانوفDavid Borissovitch Goldenbach, ‎Riazanov 1890- 1931‎، بلشفي من روسيا، صحفي وناشر وكاتب، مؤسّس معهد ماركس-إنجلز ‏ومديره، طُرِد من الحزب في العام 1932 في إطار محاكمات المناشفة، ثم أوقف ومات في معسكرات ‏الاعتقال). و"نسي" لينين نفسه في جرد دقيق له لأعمال ماركس وإنجلز في الدولة والثورة أن يسجِّل ‏الكتابات ذات الصلة بإمكانية "الانتقال السلمي" إلى الاشتراكية... هل يعود هذا النسيان إلى صدفة ما؟ أم ‏الاستثناء؟ كلا أبدا. فقد جرت العادة على التعامل مع ماركس من حيث هو ميت جاهز للحياة. ولكل أن ‏يستخرج من أعماله حسب اختلاف النوايا وتباين المقاصد ماركس "الحقيقي". بيد أن تفسير الماركسية ‏بصورة مختلفة في كل مرة عن غيرها من المرات، يُشبه، هنا، قطار الأنفاق، حيث يتوقف الراكب في ‏المحطة التي يقصدها، المحطة 42، أم 46، أم، أم...؟ هل يتوقف لدى وصوله إلى محطة البيان ‏الشيوعي، أم رأس المال، الكتاب الأول أم الثالث من رأس المال؟ ‏
وذَّهَبَت الأعمال على هذا النحو نهبا لحالات كثر من التلاعب بها في ما هي كانت تجزِّؤها وتنصبها ‏ضد نفسها وتحظر عليها أن تكون ما هي عليه، أي أعمال (أثار). وغالبا ما تأتي الظروف لتقرِّر فترجِّح ‏هذا الجزء والمظهر أو ذاك منها. وإذا كانت المقتطفات من النصوص والأقوال الشهيرة في الدين والثورة ‏والحرب والمسألة الفلاحية، إلخ، لا تعدم من فائدة تربوية ما، إلا أن اختيارها تمليه تفسيرات بعينها. وكان ‏ماركس يردِّد أن حيازة "خيط موجِّه" مهما طال الزمان أمر لا مفر منه. وإن المونتاج المصطنع يخالف ‏فكر ماركس. ومن هذه الأعراض وأهمها أن ستالين الذي يعود إليه الفضل في نشر الطبعة الأولى باللغة ‏الروسية من هذا الكتاب لإنجلز "قد عرض بصورة لا تضاهى القواعد الفلسفية للماركسية وجعلها تنتشر ‏وتتقدَّم" (كذا). والحق، أن هذا الكتاب قد صُنِع حَرْفِيّاً بصورة مُلَفَّقَة في مستودع كتب ومنشورات ‏آدوراتسكي ‏Adoratski ‎، سلف ريازانوف، وعنه ورث الثاني التلفيق، وهو الذي نشره بعدما أَلصَق في ‏صفحة واحدة ملاحظات وهوامش كتبها إنجلز خلال فترات تناهز أحيانا عشرين سنة. وقبل سنوات قليلة، ‏فإن بحاثة في معهد أمستردام لم يتردَّدوا، بعدما انتهوا من تحقيق دقيق في قراءة مخطوطات 1844، ‏إلى نتيجة مؤدَّاها أن هذا العمل، من حيث هو أو كما وصل إلينا، لا وجود له. ‏‎ Der Fall der sog, ‎Okonomisch-philosophischen Manuskipte aus dem Jahre, 1844, apud ‎International review of social history, vol. XXVIII, 1983)…‎
إن تاريخ هذه القراءات ما يزال إلى حد كبير بانتظار الإنجاز، بما في ذلك تلك النصوص التي لا ‏وجود لها – وهي لا تقل حجما عن سابقاتها. ولنضف أننا لم ننته بعد من المصاعب التي تواجهنا في ما ‏يتعلق بأعمال ماركس، إذ إن من الضروري أيضا أن نراعي سلسلة جديدة من المشكلات ذات الصلة ليس ‏فقط في ما يتعلق منها بنشرها الأصلي، والذي تحدَّثنا عنه أعلاه، وإنما مشكلات تتعلق بانتشارها في ‏سياقات قومية ولغوية متباينة. أليس من المفيد أن نَعرف كيف وصل رأس المال إلى معارف المصريين ‏واليونانيين؟ وكيف دخل البيان الشيوعي إلى تركيا أو كولومبيا؟ وكيف تُرجِم مصطلح "الاشتراكية" إلى ‏العربية، متى وكيف حدث ذلك؟ وكيف ومتى تبنَّت الصين الدياليكتيك؟ ألا يحق لنا أن نفكر أن هذه المهمة ‏العظيمة التي تكاد أن تبدأ (انظر، 1883-1893: أعمال ماركس، ما بعد قرن واحد، باريس، المطبوعات ‏الجامعية الفرنسية، 1985‏‎ 1883- 1983 : L’oeuvre de Marx, un siècle après, Paris, ‎PUF, 1985‎‏)‎‏ لن تقتصر على إغناء الأنطولوجيا الأممية للمعاني المعكوسة، والثغرات والنواقص في ‏التسلسل الزمني، والعثرات النظرية، وإنما ستساهم بصورة جدِّية في عرض حالات متعدِّدَة من التاريخ، ‏وهي كلها تندرج في زماننا.‏
ذلك أن الماركسية هي أيضا هذا كله.‏
3 – الأعمال من أولها إلى آخرها متعلقة بالظروف

‏3/ لماذا وصلت بنا الأمور إلى مثل هذه الحالة؟ ثمة ما يبرِّر مثل هذا السؤال أمام أعمال لم ‏تُعرَف بصورة كافية، ولم تُنشَر بصورة جيدة، وهي غير مكتملة، وقد أعاد كاتبها تعديلها، وغير ‏متسلسلة زمنيا من حيث نشرها، وقد أُعيد بناؤها وخضع بناؤها للمراجعة من جديد، وجرى التلاعب بها، ‏وخَضعت مواضع النصوص إلى التغيير والتبديل. والتساؤل "لماذا وصلت بنا الأمور إلى مثل هذه ‏الحالة؟" يأتي من نِتاج الأعمال نفسها وفي متنها. وإذا تركنا جانبا هذه المعطيات التجريبية، وهي ذات ‏صلة بعادات ماركس في عمله، وهو المعتاد على المخطوطات والمسودات، وإذا تجاهلنا تشتُّت ‏المخطوطات والخلافات بين أولئك الذي نفّذوا واحدا وراء الآخر الوصيَة، فإن ميِّزتين اثنتين تظهران ‏من حيث هما حاسمتان: ‏
آ- إن الأعمال من أوَّلها إلى آخرها متعلِّقة بالظروف. ‏
المثال على ذلك أن صراع الطبقات في فرنسا لماركس هو عمل من "تدبير" إنجلز الذي اختار له ‏هذا العنوان في شهر آذار/مارس من العام 1895 قبل أشهر من وفاته. وهو مؤلَّف من أربع دراسات. ‏الثلاث الأُوَل كان ماركس كتبها، ونُشِرَت في كرَّاسات لانوفيل غازيت رينان ‏La Nouvelle Gazette ‎rhénane ‎‏ (الصحيفة اليومية التي كان ماركس يصدرها في ألمانيا من كولونيا ما بين 1848-1849، ‏Neue Rheinische Zeitung ‎ )، واسم لمجلة شهرية كان ماركس يصدرها من لندن في العام 1850) ‏الصادرة في كانون الثاني/يناير ، وشباط/فبراير و آذار/مارس 1850). وصَدَرَت الدراسة الرابعة في ‏العدد المزدوج من المجلة نفسها الصادر في فصل الخريف من العام نفسه، وهو من نِتاج التعاون بين ‏ماركس وإنجلز. ويقول إنجلز إن هذا الكتاب ليس فقط تعميقا للتحليل في ضوء المعلومات التي جمعها ‏ماركس في لندن، وإنما تعديل يتخلَّى عن "الأمل بظهور انطلاقة جديدة قريبة للطاقة الثورية"، ويَربط ما ‏بين الأزمة والثورة في علاقة تبعية. إن ظروف صراع الطبقات هي، إذن مزدوجة. المرحلة الممتدة ما ‏بين شهر شباط/فبراير، وإلغاء الانتخابات العامة في العام 1848، والذي يَمْثُل كمادة للبحث في التاريخ ‏المباشَر، من جهة. وإعادة التسجيل في التسعينات بصورة كراس، وذلك في ما كانت الاشتراكية ‏الديمقراطية في ألمانيا تُسجِّل نجاحات انتخابية. وكان إنجلز يقصد من وراء ذلك إلى هدفين اثنين. تقديم ‏نموذج "لا مثيل له" للمادية التاريخية وهي تدخل إلى حيِّز التنفيذ والعمل، وتسجيل، بطريقة النقد ‏الذاتي، للتعديلات التي طرأت خلال حوالي نصف القرن على استراتيجية الطبقة العاملة، ما دام العمل ‏المشروع قانونيا بدا بصورة هامة وذات فعالية أكثر من العمل غير المشروع ("إن زمن سطو الأقلِّيات‏قد انتهى"). وقد شرح إنجلز للشرعية القانونية في مقدِّمة مطوَّلة لا تخلو من المجاملة حيال أطروحات ‏زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الذين كانوا التحقوا ب"التحريفية"، حسب ما يلاحظ ‏ريازانوف، (ماركس وإنجلز، باريس، أنتروبوس، بدون تاريخ، ص 221‏Marx et Engels, Paris, ‎Anthropos, s.d., p 221‎‏). وهنا يثور إنجلز ضد الطبعة المبتورة التي نُشرت رغما عنه من ‏قِبَل فووروارتز‎ ‎‏ ‏Vorwärts‏ (صحيفة إلى الأمام: لسان حال الاشتراكية الديمقراطية الصادرة في ‏لايبزيغ بألمانيا اعتبارا من العام 1876) :"إني أبدو وكأنني عاشق وديع للعدالة بأي ثمن" حسب ما ‏يكَتب في رسالة موجَّهة إلى كاوتسكي (الأول من نيسان/أبريل 1895). وفي رسالة أخرى موجَّهة إلى ‏لافارغ يَكتب إنجلز :"إن ليبكنيخت ‏‎ Wilhelm Liebknecht‏(رئيس تحرير ووروارتز حتى وفاته في ‏العام 1900) قد احتال علي للتو بخبث. فقد أَخَذَ من مقدمتي لمقالات ماركس عن فرنسا ما بين 1848-‏‏1850 كل ما يخدمه من أجل تعزيز فكرة التكتيك الهادئ والمعادي للعنف مهما كلَّف الثمن، والذي ينادي ‏به منذ بعض الوقت(...). لكن هذا التكتيك أنا لا أقول به إلا من أجل ألمانيا اليوم، وذلك مع تحفظ إلى حد ‏عظيم. أما في ما يتعلق بفرنسا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا، فإن هذا التكتيك غير صالح في جملته، وقد ‏يصبح غدا غير قابل للممارسة في ألمانيا (3 نيسان/أبريل 1895). وبدون جدوى، فإن نيو زايت‏‎ ‎Newe Zeit ‎التي أعادت نشر صراع الطبقات في العام 1895 لم تَنشر نص إنجلز بكامله. حتى أن ‏النسخة الأصلية ل/صراع الطبقات لم تُعرف إلا من حيث هي وصية سياسية لإنجلز. ‏
ولم يقارب إنجلز هذين السياقين للتاريخ دون فكرة مبطَّنة. وكان يريد من وراء ذلك أن يَضَع ‏النص تحت تأثير قراءة معقَّدَة إن لم يكن متناقضة. ولا يجوز تقليص هذا التأثير، وماركس هو الذي كان ‏دقَّق في النص وعدَّله، لا يجوز تقليصه إلى مجرد عمل متعلِّق بالظروف التي يُقتطَع أو يؤخَذ منها. إن ‏هذا التأثير من نتاج العمل النظري الممتزِج بصورة مباشرة بعجينة التاريخ، وهي ليست مصادفة عابرة، ‏أو رسما توضيحيا، وإنما هي حيز لممارسة العمل النظري وامتحانه. والعمل النظري "متابعة ل/صراع ‏الطبقات في التاريخ اليومي... من حيث هو مادة موجودة ومتجدِّدة يوميا" (العمل المأجور ورأس المال). ‏هذا هو معنى الظروف. إنه "الزمن الراهن" أو "التحليل الملموس لوضع ملموس" كما يقول لينين. إنه ‏الحيز الذي يتقاطع فيه ما هو حدث تاريخي، وما هو مفاهيم تجازِف في استكشاف الحدث التاريخي وكل ‏ما يترتب على ذلك من نتائج عملية. ولهذا السبب، فإن صراع الطبقات ليس معفى من كل الاستخدامات ‏التي أُنيط بها، والتاريخية منها بحصر المعنى. تكتيكية، وهي كثرٌ. وقد جَعَلَت الحركة العمالية منها أدوات ‏لتبرير الطريق الثوري العنيف أحيانا، والطريق السلمي ناهيكم والبرلماني أحيانا أخرى. نظرية أخيرا، إذ ‏أن هذا العمل، صراع الطبقات، غني بالتطورات - غير الموجودة في مكان آخر- ذات الصلة بموازين ‏القوى، والطبقات، واستلام السلطة، والإيديولوجيات، أو دور "العامل المحدِّد "، وهذه المكوِّنات ‏التاريخية تُعْتَبَر كلها على مستوى الإدراك بمثابة أنظمة في التحليل وأفعال من مستوى المفاهيم. إن ‏صراع الطبقات بعيد كل البعد عن أية حالة استثنائية. إنه على النقيض من ذلك يسمح بادراك الأعمال في ‏عملها الوظيفي. وإن أي عنوان في أعمال ماركس وإنجلز لا يفلت من صراع الطبقات. فالنصوص التي ‏توصَف بأنها تاريخية (حرب الفلاحين، و18 برومير، والحرب الأهلية في فرنسا، إلخ)، أو السياسية هير ‏فوغت ‏Herr Vogt، والتعليقات الهامشية على برنامجي غوتا وإرفورت، ومسألة السكن، إلخ، أو ‏المداخلات ذات الصلة أكثر من غيرها بالظروف والسياق، والمقالات الصحفية، والمراسلات، أو دفاتر ‏المدونات والمسوَّدات، إن كل هذه وتلك مُوَلِّدة ومُنْتِجَة للنظرية. وإن الكتابات النقدية في الاقتصاد ‏السياسي، ومنها رأس المال نفسه، والتي تُعْتَبَر "نظرية" في غاية الكمال، إن هذه وتلك قد حفرها كلها ‏التاريخ أو أملاها وسجَّلها. وذلك، ليس فقط لأن هذه الكتابات تعير لتاريخ العقائد في عصرها مكانة هامة، ‏وللأحداث أهمية أعظم (انظر في رأس المال، التراكم البدائي، يوم العمل، تشريع المصنع أو الإيراد)، ‏وإنما لأنها علاوة على ذلك ذات طبيعة خاصة بها من حيث مسعاها، وهي "وجهة نظر البروليتاريا"، ‏التي تشكِّل النقطة التي انطلق منها رأس المال في كتابته (مقدِّمة الطبعة الثانية، باللغة الألمانية)، وطالما ‏يشكِّل الاشتراكيون والشيوعيون "منظِّري الطبقة البروليتارية"، وذلك على غرار علماء الاقتصاد الذين ‏يشكِّلون الممثِّلين العلميين للطبقة البورجوازية" (بؤس الفلسفة، القسم الثاني، الباب الأول، الملاحظة ‏السابعة)، ومن حيث موضوع هذه الكتابات ومادتها، وهو المجتمع "المعاصر"، و "البورجوازي" أو ‏‏"الرأسمالي"، أي بنية ذات تاريخ، زمنية، أو بتعبير آخر إنها ظرف زماني يمتد لفترة طويلة جازف ‏خلاله ماركس بالتفكير في "أزمنة راهنة" كان شاهدا عليها أو محرِّكها.
3 – الأعمال نقدية بصورة كاملة‏
ب/ وسنتوخى الاختصار في ما يتعلق بالميِّزة الثانية. إن الأعمال نقدية بصورة كلية. فالنقد هو الكلمة ‏المرجع، والدالة التي تَشمل عن عمد الأعمال كلها. فالنقد هو الذي يُعلن دون أي تحايل عن قيمة هذه ‏الأعمال، منذ مقدمة نقد الاقتصاد السياسي (1843-1844) لإنجلز، والتي تحمل على غرار الأسس أو ‏المساهمة عنوانا ثانويا، وهو "نقد الاقتصاد السياسي"، وحتى غاية أنتي دوهرينغ. وإن قارئ البيان ‏الشيوعي أيا كانت سرعته في القراءة يتبيَّن على الفور أيِّ هي الموضوعات الملموسة للأعمال. إن ‏موضوعاتها "الأسرة"، و "الوطن"، و"الزواج"، فضلا عن "القانون"، و"الفلسفة" و "الدين"، إذ ‏إن ماركس لم يترك أيا من القيم الأكثر رسوخا، أو أيٍ من التقسيمات الأكثر تقليدية للمعرفة، دون أن ‏يدحضها. الأمر الذي يُفَسِّر لماذا كانت الماركسية تقاوم كل تقليص لها إلى أيٍّ من هذه وتلك من ‏الموضوعات، ولماذا كان اسمها موضعا للتأويلات والمنازعات. وهو الأمر الذي يفسِّر أيضا ما تلا ذلك من ‏محاولات قوية لإقرار تعريفات ومفاهيم جديدة: أسرة من نمط آخر، وقانون من نمط آخر، وزواج غير ‏بورجوازي، ووطن سوفييتي (وطن المجالس، المترجم)، وأخلاق وعلم جمال ماركسيين، وكلها تحديدات ‏علَّمنا التاريخ أن نكون حذرين حيالها. ألا يُخفي تدمير الأنظمة البائدة، والذي يتباهى بنفسه، ما أعاد هو ‏بنفسه بناءه بصورة هي أبعد ما تكون عن التصورات، وعلى الأقل من حيث الحنين لإعادة بناء ‏المؤسسات، ألا يخُفي إعادة لبناء ما كان هُدم (ما هي الدولة أو الواقعية الاشتراكيتين؟) ‏
ويَنَطلق هذا النقد من حيِّز راسخ على خير وجه. نقدٌ لا صلة له بقرار تعسُّفي، أو منطق نظري ‏تأملي. إنه واقع الشيوعية، وتفعيل الشيوعية الذي كان بدأ في العلاقات المعاصرة للإنتاج، وهو إذن حيِّزٌ ‏نقدي طالما تَحمل الرأسمالية نفسها، من حيث وجودها التاريخي نفسه، هذا النقد. "إن الشيوعية ليست ‏بأنظارنا دولة يجب تشييدها، وليست أيضا مثلا أعلى يُملي على الواقع صورة هو ملزم بتمثُّلها. إننا نسمِّي ‏شيوعية هذه الحركة الواقعية التي تلغي الحالة الطبيعية". وكان موزيس هيس ‏Moses Hess‏ الذي ‏تعاون في كتابة "الإيديولوجية الألمانية" التي تشيِّد الماركسية من حيث هي الحركة الواقعية، كان أدرك أن ‏‏"الاشتراكية تعني الحركة نفسها التي تقيم في أحشاء المجتمع الرأسمالي نفسه، وهي التي تحمل هدفا ‏هو إلغاء المجتمع الرأسمالي في العالم".(انظر:جيرارد بنسوسان، م. هيس، الفلسفة، الاشتراكية، باريس، ‏‏1895‏)) G. Bensussan, M. Hess, la philosophie, le socialisme, Paris, 1985‎‏ ). ‎‏ وكان ‏أنطونيو لابريولا ‏Anotnio Labriola ‎‏ تحدَّث عن "النقد الذاتي الكامن في الأشياء نفسها"، و"دموع ‏الأشياء"، هذا " النثر"، الذي يشكِّل قطيعة نهائية مع الطوباويات، ويجعل من الماركسية هذا الآخر، ‏وهو غريب عن التسمية، ومن النقد موضوع الثورة. "وبكلمة واحدة، فإن الشيوعيين، حسب ما جاء في ‏البيان الشيوعي، يَدعمون في كل بلد كل حركة ثورية ضد النظام الاجتماعي والسياسي السائد". والبيان ‏الشيوعي على هذا النحو يَعتَمد حتى في مصطلحاته أول إعلان نوايا كان ماركس بدأ به حياته الفكرية ‏والنضالية: "إذا كان بناء المستقبل ورسم خطط نهائية من أجل الأبدية ليست قضيتنا، فإن ما نجد أنفسنا ‏ملزمين بإنجازه في الحاضر هو من البداهة بمكان؛ أي النقد الجذري لكل نظام قائم، نقدي من حيث أن ‏النقد لا يخاف مما يتوصل إليه من نتائج، ولا يخاف مما هو أعظم، أي النزاعات مع القوى السائدة (رسالة إلى‎ ‎‏ أرنولد . روج، أيلول/سبتمبر 1843) ‏Arnold Ruge، 1802-1880، مفكِّر ثوري ‏ألماني، مؤسِّس الحوليات الفرنسية الألمانية‎ Annales franco-allemandes ‎‏ ) في باريس في العام ‏‏1844 التي لم يَصدر منها إلا عددا واحدا من جراء قطيعته مع ماركس. ) وما يأتي بعد لا يخالف هذه ‏البداية. ‏
إن هذه الأعمال، هذه الكتابات، هذه العملية، ظرفيةٌ ونقدية
وعلى هذا النحو أراد كل من ماركس وإنجلز أن تكون. ولما كانا انخرطا بعزم "في حالات كثر من ‏النضال الواقعي" معاصرة لهم، وقد أخذا من نقد السياسة ركيزة لهما، ولهما مواقف سياسية، فإنهما لم ‏يجدا في أعمالهما سوى "مساعدة" للحركة العمالية، حسب ما يُذَكِّر به إنجلز في وقت لاحق (اشتراكية ‏رجل القضاء)، إلا أنها مساعدة بلا تنازلات حيال المنظَّمات وبرامجها(رسالة ماركس إلى فيرديناند ‏فريِّليغراث، 29 شباط/فبراير) (‏Ferdinand Freiligrath، 1810-1876)، شاعر ألماني ومساعد ‏ماركس في صحيفة نوفيل غازيت رينيان، أشعاره وأغانيه مثال تَحتذي به الاشتراكية الواقعية، ولقِّب ‏ببوق الثورة) ا (انظر: التعليقات على المؤتمرات وبرامجها، والمسألة الفلاحية). إن صناعة التاريخ من ‏أجل صناعة التاريخ في مثل هذه الفِخاخ (جمع فخ) لا بد أن يلقى في ما هو يبحث عن شرعيته قصاصه، ‏ألا وهو المعاصرة. ‏
4 – الماركسية من حيث هي صيرورة واقعية
4/ وتظهر حينئذ المسألة الجوهرية التي تُجْمِل الماركسية، عبر تاريخها منذ مرحلة التأسيس، ‏الماركسية من حيث هي صيرورة واقعية وخطاب في الصيرورة: كيف لمثل هذه الأعمال، وهي انشقاقية ‏وغنية بالبدع والهرطقة، وعدوة التقاليد، ونقدية، ومُنتِجة للأزمة والثورة، كيف أمكن لها أن تتمخَّض ‏عن أرثوذكسية أو أرثوذكسيات، وأن تصبح عبادة أحجار وأصنام، ويقينية، ومحافظة؟ كيف، وما الذي ‏يجعل من هذه المسألة تظهر على بساط البحث منذ وقت مبكر وبوجه السرعة، طالما هي كانت تلاحِق ‏إنجلز حتى غاية وفاته؟ وكان اعترف في آخر رسالة له إلى بليخانوف بقوله "حسبك والارثوذكسية!" ‏‏(26 شباط/فبراير 1895). والجواب يتلخص بكلمتين اثنتين، وهو ثمن النجاح. فالماركسية منذ السبعينات ‏من القرن التاسع عشر تفوَّقَت ضمن الحركة العمالية على أشد منافسيها الذين كانوا في احتكاك مباشر ‏معها، أي الاشتراكية المسماة بالاشتراكية الطوباوية، والتبادلية البرودينية، والفوضوية الباكونينية. ‏وأقْنَعَت بـأن التنظيم القومي للبروليتاريا ضرورة، وأن الأممية ذات المركز الواحد ضرورية للقضاء على ‏الرأسمالية. وأصبحت الماركسية مهيمنة، وحَمَلَت أفضل العقول المفكِّرة في كل من فرنسا وروسيا على ‏اللحاق بأفكارها. بيد أن ذلك لا يعني أبدا أن الصدامات الإيديولوجية قد انتهت، وبوجه خاص الصدام مع ‏الفوضوية، وإن كان يعني بالتوكيد وبالمقابل، أن الماركسية نجحت لقاءها ب/"الحركة الواقعية"، والتي ‏كانت ثمرة لها كما تقول عن نفسها. ‏
‏ وفي هذه الأثناء، فإن هذا النجاح تتسلل إليه الشبهات. إذ إن تمثُّل الماركسية واستيعابها من قبل ‏المنتمين إليها والذين ينشرونها لم يكن كافيا. وكان ماركس كما رأينا ساخطا حيال تسمية أعماله ‏بالماركسية. وكان كتب إلى إنجلز بصدد أصهرته: "لونغيه ‏Longuet‏(شارل لونغيه، 1839-1903، ‏فرنسي، وإحدى شخصيات كومونة باريس، كاتب ومناضل) هو آخر البرودونيين، ولافارج آخر ‏الباكونيين! ليأخذهما الشيطان!" (11 تشرين الثاني/نوفمبر 1882). وكان إنجلز كرَّس مداخلاته الأخيرة ‏من مراسلاته لتصحيح الخطأ الفادح الذي كانت الأممية الثانية وقعت فيه، ألا وهو تقليص الماركسية إلى ‏مذهب اقتصادي (رسائل إلى بلوخ ‏‎ Blochوشميدت ‏Schmidt‏ وبورجيوس ‏Borgius‏ وميهرينغ ‏Mehring، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز، دراسات فلسفية). ولا يفنِّد فقط إنجلز سطحية العلاقة ما ‏بين الأشكال الإيديولوجية وحتمية العامل الواحد، الأول والأخير، المحدِّد، وإنما ينهض أيضا لينتقد ما ‏لحق بالمادية من فهم مشوَّه، وليكشف علاوة على ذلك عن افتقار التحليل التاريخي للأهمية، وهو جدير ‏بمثل هذه الأهمية، ولينبِّه إلى غياب الدياليكتيك. ولنعترف أن ماركس وإنجلز نفسه يتحمَّلان جزءا من ‏المسؤولية في ما يتعلق بوجه خاص با/"لجانب الاقتصادي". إلا أن ما هو جوهري نلقاه على مستوى ‏آخر. فالثغرات، والاستهانة بالأعمال يوجِّه الأنظار نحو ضرورة العناية بصورة أفضل بالنظرية نفسها. إذ ‏إن ما يقدِّمه إنجلز من توضيحات، وما يواجهه من صعوبات، يكشف بجلاء عن أعمال أو نظرية غير ‏مكتملة. وفي ما يتعلق بالإيديولوجية، وهي نقطة حساسة للغاية، فإن إنجلز يبدو إلى حد ما غير مؤهل ‏بصورة كافية في هذا المجال. إنه إذ يلح على "الفعل في حالة الارتداد"، أو " حالات الوساطة"، فإنه لا ‏يعيد ترميم عقيدة لن تلقى اهتماما بها، وإنما يتقدَّم في مجال لم تفكَّك رموزه بصورة كافية. لذا، تراه ‏يقترح قراءة "العجوز ج. فون غوليش" ‏G. von Gülich، في ما يتعلق بتاريخ الاقتصاد، ويعيد 18 ‏برومير أو أنتي دوهرينغ إلى التطور الاقتصادي (رسالة إلى بورجيوس ‏Borgius ‎، 25 كانون ‏الثاني/يناير 1894). ‎‏ وتسري الملاحظة نفسها على كل من الحواشي الهامشية، وبرنامج غوتا ‏وإيرفروت. وهل كان لكتاَّب واسعي الإطلاع من أمثال برنشتاين وكاوتسكي أن يتركوا لهفوات ضخمة أن ‏تمر مرور الكرام دون أن يغمزوا، هفوات كتلك التي تشبِّه الطبقة الفلاحية ب"كتلة رجعية"، أو تلك التي ‏تتحدَّث عن الغاية الثورية لل"دولة الشعبية الحرة"؟ وللتدليل على ذلك، فإن ماركس قد اضطُر كي يُبرز ‏أفكاره أن يعرض لعدد من ملاحظات في ما يتعلق بكل من الانتقال إلى الشيوعية، والدولة، والكومونة أو ‏القانون، والتي لم يكن لها أثر في أعماله المتقدِّمة. وهو الأمر الذي حمل لاحقيه إلى الرجوع بصورة ‏شبه مهووسة إلى الحواشي الهامشية، كلما قفزت إلى مقام الأولوية الحاجة إلى التفكير بسلطة البروليتاريا ‏بصورة متجدِّدة. إن الدولة والثورة هي المثال الأوضح للتدليل على هذا المسار، والحاجة إلى الاستنجاد ‏بمقتطفات من النصوص من أجل البحث عن "نظرية الدولة" الماركسية... وذلك من أجل تشييد نظرية ‏ماركسية للدولة. ففي غياب الإيديولوجية الألمانية أو غروندريسه (الإسهام ) في نقد الاقتصاد السياسي، ‏فإن الصفحة التي عَرفت شهرة منقطعة النظير، والتي نلقاها في مقدمة المساهمة في نقد الاقتصاد ‏السياسي، كانت موضع دراسة عشرات المرات من حيث هي الحيز الوحيد الذي يحتوي على العلاقة ما ‏بين القاعدة والبنيات العليا. وإن هذه الخاصية للأعمال لم تخف عن أوائل المريدين: هذا لابريولا ‏‎ ‎Labriola ‎شديد الاهتمام بالتاريخية وفعالية الإيديولوجيا ("الميدان الاصطناعي")، والذي اعْتُبِر ‏مؤسس مشارِك في صياغة النظرية. وهذا بليخانوفPlekhanov ‎‏ صاحب الاهتمامات المشابهة والذي ‏اختَرَع "المادية الدياليكتيكية". ‏
وكان ما لحق بعد ذلك قد كَشَفَ بصورة أفضل عن أهمية هذه النقاط العمياء من حيث هي مصدر ‏للتيِّه: هذا كاوتسكي يقول في نيوزايت ‏New Zeit‏ إن النظرية لم تحدِّد موقفها من الفلسفة، وهذا لينين ‏الذي يَعْتَبِر الفلسفة "كتلة واحدة ذات قيمة دنيا". وهنا "الأزمة النهائية" وقد أَخَذت مكانها برأي ‏بعضهم في قلب رأس المال، في ما لا يَعثَر بعضهم الأخر لها على أثر. وهذه هي ديكتاتورية البروليتاريا ‏ولينين الذي تلقاه على مبعدة أصبعين اثنين من الوقوع في خطأ بشأنها بالرغم من أنه أفضل من عرَّف ‏بها (انظر: الدفتر الأزرق، المدخل، تقدمة جورج لابيكا، بروكسيل 1977،Le Cahier bleu, Introd. ‎de G.L., Bruxelles, 1977‎‏). إن ديكتاتورية البروليتاريا، ليست بأنظار مَن هم أقرب من حيث الزمان ‏إلينا ظاهرة عارضة، إلخ. ‏
وعلاوة على ذلك، فإن ما لقيته الأعمال من نجاح واسع، وما يستدرجه مثل هذا النجاح من نتائج، ‏قد وضع الأعمال في الوقت نفسه، وبصورة لا تَرحَم، تحت ضغط إكراه الظروف التي تفرض نفسها بقوة. ‏ولما كانت الماركسية قد دُعِيَت إلى أن تأخذ مكانا مرموقا في صراع الطبقات، فإنها استجابت إلى ما ‏تقضيه الممارسات من ضرورات مُلْزِمَة، أي تأسيس الأحزاب، ورسم البرامج، وصياغة عقيدة ذات ‏طموحات عالمية. وكان على التوضيحات والتفسيرات النظرية وملاحقها المنطقية أن تنتظر أمام ضرورة ‏الاستجابة للظروف على وجه السرعة. ولقد رأينا كيف أن تحفظات ماركس وإنجلز، وما كانا يوجِّهانه ‏من تحذير، وكانا ما يزالان على قيد الحياة، لم تزن بثقلها. ولقد نشأت الماركسية عن هذه الوضع: ‏النظرية والممارسة، وهل إحداهما غير ناضجة، والثانية منهما متناقضة. إن أي جواب على هذا السؤال ‏من شانه أن يتناسى حقيقة مؤداها أن النظرية والممارسة تندرجان بصورة مشتركة وعن عمد في ‏مسيرة تاريخية غير مكتملة ومتناقضة بامتياز. وهذا هو ما يلمسه لينين عن كثب شديد عندما يكتب وهو ‏يقرأ إنجلز: "إن الممارسة متفوِّقَة على المعرفة النظرية، ليس لأنها فقط تحوز على الرتبة الشمولية، ‏وإنما لأنها أيضا تحوز على رتبة الواقع الفوري المباشر" (ملخَّص "علم المنطق" لهيجل، الجزء 38، ‏ص ‏‎ ‎‏ 203‏‎ ‎‏ ‏Résumé de la « science de la logique », de H., t. 38, p.‎‏ ) ، أو عندما ‏يستشهد بغوته: "يا صديقي إن النظرية رمادية اللون، إلا أن الشجرة الأبدية للحياة خضراء اللون " (رسائل في التكتيك، الجزء 24، ص 35 )Lettres sur la tactique, t. 24, p.‎‏ ).
ولم تأتِ الأرثوذكسية في أول تجلياتها، والتي كانت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية هيأت لها، ‏وجاءت تحت تأثيرها، وقد فَرِضَت على الأممية الثانية، لم تأتِ بصورة اعتباطية. إن الأرثوذكسية تستمد ‏قوتها من أنتي دوهرينغ لإنجلز، وتحت رعاية ماركس الذي شارك في كتابة فصل واحد من هذا الكتاب. ‏إن تاريخ هذا الكتاب مُحَمَّل بالعبر. إنه أبعد ما يكون عن "ثمرة ل/دوافع داخلية / ، حسب ما ينبِّه إليه ‏إنجلز منذ السطر الأول، بل وأنه على النقيض من ذلك قد أُعِدَّ تحت ضغط الظروف التي كانت تستدعي ‏إطلاق عيارات نارية مضادة للمؤسسة التي كانت تسعى إلى مذهبة الاشتراكية، والتي كان دوهرينغ ‏يقترحها أمام شبان الحزب الألماني في نهاية السبعينات من القرن التاسع عشر. فلا غرابة إذن أن يأتي ‏هذا العمل من حيث مسعاه وتنظيمه مماثلا بوجه الدقة لعمل خصمه، أي أول عرض، من حيث شكله ‏كاللوائح بصورة نظام، للأطروحة الماركسية الإنجلزية بجميع موضوعاتها، مدوَّنة لمجموعة قوانين في ‏‏"التاريخ" (المقدمة)، و"الفلسفة" (الجزء الأول)، و"الاقتصاد السياسي" (الجزء الثاني)، ‏و"الاشتراكية" (الجزء الثالث). لقد جازف مؤلِّفاه أن يقدِّما عملا متحرِّكا مجبولا من طينة مغامرتهم ‏الفكرية، عملا مفتوحا، ومشِعا، وإشكاليا، وتقدمة مبنية بصورة منتهية، بل وحتى دليلا موجزا. وكانت ‏المبادئ لديكارت، تستجيب هي الأخرى لطلب، إلا أنها كُتبت بلا تأثر أو على البارد، ولم يكن من الضروري ‏أن يُقرأ بصورة مسبقة خطاب في المنهج، أو التأملات الفلسفية. وهو أمر لا يسري على أنتي دوهرينغ. ‏هنا كان لا بد من التوقف عن أداء أي عمل آخر (لنلاحظ الاستمرار في العمل النظري) و"الذهاب، حسب ‏ما يقوله ماركس، لملاقاة دوهرينغ والهراوة باليد". إلا أن العصا تحوَّلت إلى سلاح يرتد إلى مطلقه لأنه ‏لم يصب الهدف، وحلت بصورة فورية معرفة هذا العمل محل أي مقاربة نظرية، وشَغَلَت هذه المقاربة ما ‏تشغله النظرية من حيِّز. وأصبحت الظروف فخا. بيد أن ماركس وإنجلز ما كان لهما أن يتخليا عن ‏ضرورة إنجازه ونشره طالما كان يستجيب لحاجة بيداغوجية لدى الحركة العمالية، الألمانية منها على ‏وجه التحديد. وقد صَدَرَت مؤخرا دراستان تسلطان الأضواء على هذه الفترة المفصلية، الأولى منهما ‏ل/فرانكو آندروشي، تحت عنوان نشر الماركسية وجعلها في متناول الجميع ‏Franco-‎Andreucci, La diffusione e la volgarizzazione del marxism‏ ، والثانية ل/هانس ‏جوزيف ستاينبرغ، تحت عنوان الحزب وتكوُّن الأرثوذكسية الماركسية ‏Hans-Josef ‎Steinberg, Il partito e la formazione dell’ortodossia marxista (apud Storia del ‎marxismo, t. 2.‎‏ . إنهما ينقلان في أحكامهما علي خير وجه الوضع الذي كان سائدا في حينه: الإيمان ‏بالخلط من كل جهة، ومنح القدرة على مقاومة نمط الإنتاج الرأسمالي أقل مما تستحقه، والاندماج ما بين ‏الماركسية والدارونية، و"ثقافة مأمورة وتابعة" تربط ما بين التوسُّع وانتشار الفقر، الانتشار والمذهبية. ‏ولم تكن قراءة العمال ل/رأس المال في تلك المرحلة أحسن حالا من ثوار الحرب الشعبية في أمريكا ‏اللاتينية في أيامنا، وإن كان أولئك العمال يملكون أدلَّتهم وبراهينهم، وكانوا يعرفون أن مصيرهم متوقف ‏عليها. وإلى ذلك، فإن الماركسية أصبحت موضوعا قابلا ل/البناء. وكان كاوتسكي الذي قرأ أنتي دوهرينغ ‏منذ العام 1880 "مخترع" الأرثوذكسية وأباها. هذه الأرثوذكسية والمدينون إليها، من التنظيم الحزبي ‏ونظامه الانضباطي ومراتبه، إلى "التعاليم" العقائدية في شكلها الأقرب إلى التعاليم الدينية لدى غوسدي( جول غوسدي‏‎ ‎‏ ‏Jules Guesde، 1845-1922، وإليه يُنسب تيار الغوسدية ‏Guedisme، وهو ‏تيار تاريخي في الاشتراكية الفرنسية، وكان ظهر في فرنسا في العام 1880، وقد مارس دورا هاما ‏في تشييد الفرع الفرنسي في الأممية العمالية في العام 1905الذي أَسَّس للحزب الفرنسي وللتعاليم ‏العقائد)، هذه التعاليم والانضباطية التي كانت تُعْتَبَر ضرورة لا مفر منها من أجل تكوين الوعي العمالي. ‏ناهيكم والأطروحة ذائعة الصيت لجدانوف والمعروفة باسم "العلمين اثنين"، العلم البورجوازي، والعلم ‏البروليتاري، والتي عَرِفت في عهد هذا الأخير انتشارا واسعا في الخمسينات من القرن العشرين. إن ‏الدرس المستقى من "أنتي دوهرينغ" لم يتلاشى مع مرور الوقت، شأنه شأن قراءة أعمال إنجلز، من حيث ‏هي ممر لا بد من اجتيازه كلما اقتضى الأمر البحث، بصورة ارتكاسية كما كان الحال في ما يتعلق ب/(أنتي ‏دوهرينغ)، في محتويات "الفلسفة الماركسية (راجع حول هذه النقطة وما يليها كتابي الماركسية ‏اللينينية، باريس، منشورات برونو هوسمان 1983‏Marxisme-léninisme, Paris, Editions ‎Bruno Huisman ,‎‏ ).


5 – النزاع مع التحريفية

‏5/ النزاع مع التحريفية، حتى وإن كان ينال من الأرثوذكسية الناشئة، من حيث شكلها في ‏صورته الأولية، والذي يمكن اعتباره تأسيسيا ودياليكتيكيا، فإن هذا النزاع لا ينال من الأرثوذكسية ‏الناشئة من حيث مبدئها. إن التحريفية ستستمر على قيد الحياة ما بعد الأممية الثانية و"أرثوذكسيتها ‏الماركسية". وكانت هذه التحريفية موضعا للنقد من قِبَل كل من روزا لوكسمبورغ ولينين لأنها تأخذ ‏بالمركزية. هذه الماركسية الأرثوذكسية بلغت أوجها مع الستالينية، من حيث هي أرثوذكسية حقيقية ‏مؤسِّس لها، وهي دستورية تأسيسية، ما دامت كانت تُرْجِع ما كُتب للثورة في روسيا من نجاحات إليها. ‏هذه الأرثوذكسية الجديدة استردَّت، تحت الختم المزدوج للدولة الاشتراكية الأولى والأممية الشيوعية، ‏سابقتها، ألا وهي الأرثوذكسية الناشئة، ومَنَحَت الأرثوذكسية جمودا مطلقا. وبلغت هذه المسيرة منتهاها ‏في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين. إذ هاهو مؤلَّف ستالين المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية ‏يُرسي لائحة (لائحة اللوائح كاسم علم) نموذجية بالقانون (قانون القوانين كاسم علم) في حالة المثال ‏الأعلى. وهاهي الماركسية "وقد بلغت صورتها النهائية والكاملة" حسب ما كان يُعلّن عنه. وما لم ينته ‏أبدا من التجديد والتكرار حتى تاريخه هو إنشاء الموجزات والمطولات، بصورة متجدِّدة لا تَعْرف نهاية، ‏والتي كانت تَقترح حلولا وبرامج باسم الحقيقة التي استَحوَذَت عليها، في مجال المعرفة بما في ذلك ‏العلوم الدقيقة، فضلا عن المعرفة في مجال الممارسة، والسياسة على رأس القائمة. وأصبح بالتالي ‏سلطان المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية هو نفسه سلطان طبقة الإكليركيين أو الجهاز. إن تحليل ‏هذا السلطان لا يختلف أبدا عن ذاك التحليل الذي كان غوتفريد آرنولد ‏Gottfried Arnold‏ (1666-‏‏1714) المنظِّر الأكبر لحركة التقوية (حركة دينية نشأت في ألمانيا في القرن السابع عشر وأكَّدت على ‏دراسة الكتاب المقدس، والخبرة الدينية الشخصية) عَرَضَ لها: إن رجال الدين أهل الهرطقة والبدع، هم ‏بالضرورة المرادف لكل مؤسسة كهنوتية مرتبطة بالنظام القائم (انظر: م. شوب، مونتزير ضد لوثر، ‏باريس 1984، ص 17. ‏M. Schaub, Müntzer contre Luther, Paris, 1984‎‏). ها هنا، وعند ‏هذا الحد، تظهر الماركسية وهي على تخوم تناقض، ألا وهو: كيف أمكن لمثل هذا العمل العلمي (النقد) ‏ذات الصلة المباشرة بالتاريخ (الظروف)، أو "المادية التاريخية"، أن يتحوَّل، إن لم نقل ينحرف ويشذ، ‏إلى خطاب في الشمولية، أو ما أطلقنا عليه تسمية "الوظيفة الفلسفية للدولة"، فيرمي جانبا، مما هو ‏حركة، البحث والتاريخية في وقت واحد؟ وليست النظرية هي وحدها موضع الانحراف، ما دام الانحراف ‏لا يقف عند حد الأفراد ("عبادة الشخصية")، أو الأوضاع "النموذج" (السوفييتي)، وهذا يزيد الطين ‏بلة. ولا يقل عن ذلك من حيث الانحراف الشاذ تلك التفسيرات التي تعود إلى الماضي للبحث عن الدودة في ‏الثمرة (أو تبرير التحريف بالاستناد إلى نصوص في الأعمال).. ليست النظرية هي وحدها موضع ‏الانحراف، وإنما لحق الشذوذ بتصدِّي النظرية، حسب ما كان يرى ماركس، لتناقضات الواقع، وصراع ‏الطبقات وما يرافقها من انحرافات إيديولوجية غير قابلة للتنبؤ بها بصورة مسبقة. وكانت البلشفية في ‏مطلع عهدها اختراع لا يَحمِل معه الدوغمائية، أي الأرثوذكسية الجديدة. ولينين، قارئ ممتاز لماركس، ‏يرى على خير وجه أن "نظرية ماركس" لا تَفرِض "أي مخطَّط إلزامي لفلسفات التاريخ كلها"، وأنها ‏ليست أبداً أكثر من "تفسير لتكوين اقتصادي واجتماعي ما" (الأعمال الكاملة بالفرنسية، الجزء الأول، ‏ص 211)’ أو مجموعة مبادئ عامة موجِّهَة" (م.س. الجزء الرابع، ص 218). وإن ما ينجزه لينين من ‏عمل في ما يتعلق بأوضاع روسيا ومراحلها المتعاقبة منذ القرن التاسع عشر حتى غاية تشييد سلطة ما ‏بعد الثورة، هو من الطبيعة نفسها لعمل ماركس في ما يتعلق بالأزمات الفرنسية. إنه يرجِّح، عن تصميم، ‏الممارسة السياسية حيث يَخضَع المفهوم بصورة مستديمة للظروف وما تحمله معها من إلزام. بيد أن ‏لينين، بخلاف ماركس وإنجلز، قائدٌ لحزب، وأول ماركسي مؤسِّس لدولة. إن شاغله بالتالي ينصبُّ على ‏القواعد العقائدية وبيداغوجيا النظرية (االمصادر الثلاث المؤسِّسة للماركسية، والمادية والنقدية ‏التجريبية،...). إن محصِّلة ما قدَّمه في هذا المنحى للاحقين به يمكن أن يُعْتَبَرَ مماثلا للمحصِّلة التي قدَّمها ‏إنجلز لقادة الأممية الثانية. ومن هنا تَعرف اللينينية المصير الذي عرفته، والذي خَضع في آن واحد ‏لهجمات قاسية من كارل كورش‎ Karl Korsh ‎‏(الماركسية والفلسفة)، أو ل‏‎/‎بأنِّيكويك ‏Pannekoek‏ ‏في كتابه لينين الفيلسوف (‏lenin als philosoph‏ )، من جهة، وللثناء على ابتكاره الثوري ("المنظِّر ‏الوحيد الذي يرتفع إلى مستوى ماركس" يكتب لوكاش)، من جهة ثانية، أو موضوعا لنظام مبني ‏بصورة مغلقة من قِبَل ستالين، من جهة ثالثة (أنطون بانِّيكويكPannekoek ‎‏ ‏Anton، 1973-‏‏1960، المولود في هولندا، دكتور في علم الفلك، وكاتب ماركسي، مناهض للاشتراكية الديمقراطية، ‏وكان من أنصار الثورة البلشفية، وقد أُعجب بأعماله لينين، قبل أن يرتد ضد ستالين ويَعتَبِر في كتاب له ‏مادية لينين الصادر في العام 1938 أن قادة الاتحاد السوفييتي إذ هم ميَّزوا ما بين المعرفة الثورية ‏والجماهير الذين أصبحوا بنظر هؤلاء مجرَّد منفِّذين، فإن لينين يدلِّل على هذا النحو عن مادية ‏بورجوازية. ومن أهم أعماله المجالس العمالية الصادر في العام 1946 في هولندا، ولينين ‏الفيلسوف1948)‏‎ ‎‏. (كارل كورش، 1886-1961، المولود في ألمانيا والمتوفي في الولايات المتحدة ‏الأمريكية، ناقد ماركسي معارض للدوغمائية التي جاءت برأيه نتيجة للتجريبية التي قادت خطا التطور ‏السلطوي للبلشفية، حيث تحوَّلت النظرية النقدية إلى بنية إيديولوجية. وهو قائد الحزب الشيوعي الألماني ‏ما بين 1920 و1926. أهم مؤلَّفاته "الماركسية والفلسفة" الصادر في طبعته الثانية في العام 1930. وقد ‏طُرد من الأممية الشيوعية في العام 1924، ومن الحزب الشيوعي الألماني في العام 1926، وكان في ‏حينه نائبا في البرلمان حيث يصوِّت في حينه ضد المعاهدة الروسية الألمانية من حيث هي "معاهدة ‏للعسكريتارية الألمانية والبلشفية"، على حد قوله. ويرى في مؤلَّفه "الماركسية والفلسفة" أن الصيغة ‏اللينينية للماركسية لم تتخلَّص من الدياليكتيك المثالي، وأن البورجوازية تحل الصراعات بفضل الدياليكتيك ‏المثالي المنقول عن هيجل، وتأتي حلولها لها مثالية فقط ولا علاقة لها بالواقع. ويحاول في مؤلَّفه "كارل ‏ماركس" أن يُخلِّص ماركس من الإيديولوجية البورجوازية واللينينية التي تختزل الماركسية برأيه، ويُبَيِّن ‏أن المهمَّة الثورية للبروليتاريا تقوم على أسس من "تدمير عميق وجذري للتيميَّة الرأسمالية (عبادة ‏الأشياء والبضاعة) بفضل تنظيم مجتمعي ومباشر للعمل". وفي مؤلَّفه عشرة أطروحات في ماركسية ‏اليوم يفنِّد الماركسية الأرثوذكسية) . ‏
إن امتثال النظرية للسياسة هو العلامة المميِّزة للأرثوذكسية، وهو الذي يحمل معه كالجرف ‏الكاسح تقديس النموذج السوفييتي وتوجيهات الأممية الثالثة. هذه التوجيهات التي ستتبناها مختلف ‏الأحزاب الشيوعية سواء كانت في السلطة أم لا بحذافيرها وحرفيا وتنضوي تحتها، وبوجه خاص في ‏الظروف الدولية المتوترة غداة الحرب العالمية الثانية. إننا نجد أنفسنا على هذا النحو وقد وقفنا أمام ‏ظاهرة الاندماج الإيديولوجي- العملي، الذي كاد أن يحقِّق الحلم الهيجلي لاندماج الفلسفة- الدولة (انظر: ‏هنري لوفيفر، المنطق الصوري والمنطق الدياليكتيكي، باريس، 1982، مقدِّمة الطبعة الثانية. ‏H. ‎Lefebvre, Logique formelle et logique dialectique, Paris, 1982, Préf. 2e éd‏)، ‏وحيث كانت أيضا تتكاثر بصورة مضاعفة الأرثوذكسيات الوليدة على صورة ونموذج أمهاتها ‏الأرثوذكسيات. وما حدث هو أن هذه الحلقة التي عاشت خلال فترة من الزمان، ما لبثت أن التوت من ‏جراء مواجهتها للسياقات القومية، ما دام تكيِّيفها مع السياقات القومية متعذِّر ما لم يخضع للتعديل، ‏وللتعديل العميق أحيانا. إن الاندماج الناجح لحركة عمالية ما، كما كان يقول لينين، ما بين الشمولية ‏النظرية والخصوصية، ليس أبداً من عمل "التطبيق". إن الخصوصيات التاريخية في ما يتعلق بصراع ‏الطبقات، والتقاليد الثقافية، والتصورات المجتمعية، ووزن المؤسسات والإيديولوجيات وثقلها، كانت ‏تَفرض مقاومتها أمام العمل بموجب اليقين. وعلى هذا النحو، فإن الانحرافات، والبدع، والأرثوذكسيات لم ‏تكف عن ممارسة تأثيرها باسم الصفاء العقائدي، حتى أنها لم تلبث أن ظهرت إلى العلن: هنا الانشقاق ‏اليوغسلافي والصيني، وهناك حالات كثر غيرها من الانشقاق والانقسام، وحالات من "الثورة ‏المضادة"... لقد تمخَّض، عن تأثير ما هو خصوصي من حيث هو تناقضات داخلية ضمن "الأوضاع ‏الملموسة"، ظهور الشخصيات البارزة للماركسية، الماوية، والتيتاوية، والكاستروية، إلخ. وهو الأمر ‏الذي كان يقود أيضا إلى تكوين تيارات ماركسية غربية، وآسيوية، وإفريقية، إلخ، وأمريكية جنوبية، ‏ويؤدَّى إلى ظهور تصويبات، وتحديثات. وكانت هذه وتلك راديكالية أحيانا: لم يتردَّد عدد من الأحزاب ‏الشيوعية ما بعد حل الأممية الثالثة وانعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، في ما عُرِف ‏بتسمية "تصفية الستالينية"، عن التخلي عن كل من المرجعية الماركسية اللينينية، وديكتاتورية ‏البروليتاريا، أو الأممية البروليتارية. وكانت المسافة الفاصلة ما بين "طرق الانتقال إلى الاشتراكية"، ‏سواء كانت واقعية أم إسقاطات، والخطاب الذي يمنحها شرعية، تَتَّسع وتَتعمَّق. إن قوة القوميات التي لم ‏يَتوقَّع ماركس ما ستحظى به من الاهتمام، والنزاعات ما بين القوى، والتي بلغت حدا من التطور حتى أنها ‏وصلت إلى حدِّ من الخلل عندما أصبحت حروبا ما بين الاشتراكيين، قد لعبت دورا حاسما. ولم تعد ‏الأرثوذكسية أكثر من معطف ممزق بصورة كاملة، حتى أن نسيجه لم يعد ليخفي أكثر من الحفاظ الذاتي ‏على الأجهزة والبيداغوجيات الرسمية، بما في ذلك تلك السائدة في اتحاد الجمهوريات السوفييتية ‏الاشتراكية (يعود تاريخ كتابة هذا النص إلى ما قبل نهاية الاتحاد السوفييتي، ح.خ.ش.). إن "دروس ‏التاريخ" التي ترد للحقيقة أولويتها ومهازلها ومآسيها، قد أتت على الغلال التي كانت تأسر الحقيقة.

6 – "الواقع لا يُستحوَذ عليه بالحجج المنطقية والتفكير، وإنما الواقع ‏يُدْرَك ويرى" ‏

وثمة ظاهرة ثانية تَدخل في الإطار نفسه من هذا الطلاق ما بين النظرية والظروف، وهي متزامنة ‏مع الأولى. ثمة ماركسية ممتدَّة حية وبصورة مستمرة وبعناد ما تحت التفسيرات الماركسية السائدة، ‏ماركسية ممتدَّة تحت الأرض " ماركسية قطار الأنفاق ‏Underground‏ " ( أو ماركسية مختبئة في ‏حيِّز الأسرار) . إن مصير هذه الماركسية لا يدخل في حيِّز النسيان، بالرغم من أنه متوارٍ، وقلما يُرى ‏بصورة واسعة إذا ما غادرنا الحركة الشيوعية. ويقع، من جهة أخرى، على محك كل من التحايل على ‏السلطات السائدة، وتحريمه إن لم يكن تصفيته الجسدية، بما يدلَّل بأن البحث الماركسي بصورة حرة ما ‏يزال مستمراً. وقد تكوَّنت هذه الماركسية المقيمة حيَّة تحت الأرض في اتجاهين اثنين: أولهما معرفة ‏الأعمال، وقد رأينا أنها دّرّجَت على مدى طويل، وثانيهما إنتاج المفاهيم. وكانت مقاربة ماركس "من ‏حيث هو عالم من بين سواه من العلماء"، حسب كلمات ألتوسير، فتحا عظيما. ومن الواضح أن المقاربات ‏الأكثر خصوبة واستنهاضا قد رَبطت في فكر ماركس نفسه ما بين هذين الشاغلين الاثنين، أي الذهاب والإياب ‏المتبادل ما بين الفكر والممارسة، والذي يحاول أن يقوم بما يترتب عليه من مهام ونتائج. ولسنا هنا ‏بصدد عرض لهذه الأعمال، أو توزيع الجوائز عليها، وهو أدهى من استعراضها. ونترك للقارئ الأقل ‏دراية أن يختار ما يخيَّل إليه أنه نموذجي ضمن هذه المغامرة الاستثنائية لتاريخنا المعاصر، أن يختار ما ‏بين لوكاش وغرامشي وبلوخ وديلافولبي ‏Della Volpe، إذا ما اكتفينا بذكر أسماء هؤلاء العظام ‏المتوفِّين. إن هذا المتواري المرئي الذي رَمَى إلى السوق في الستينات من القرن العشرين أعمالا أدبية ‏فائقة الأهمية، لم يقوِّض فقط الأعمال التي كانت اعتُبِرَت منتهية بصورة كاملة وأبدية، وإنما حَدَّث في كل ‏المجالات في الإشكاليات، والفرضيات، والمقاربات وطرقها، وطبع بطابعه وبصورة مستديمة الأبحاث، ‏وفي المقام الأول في مجال العلوم الإنسانية، التي لم تكن تعترف بصلتها بالماركسية . ‏
إن ما تعاقدوا على تسميته "أزمة الماركسية"، وهي نتاج لهذه العوامل مجتمعة التي تندرج ‏بدورها في صخب وضجيج الصراعات الطبقية والإيديولوجية، تحوز في المقام الأول، سواء وافقنا على ‏ذلك أم لا، على معنى إيجابي وهو تقويض الدوغمائيات، واستعادة لعمل نقدي مندمج بالظروف والسياق ‏التاريخي، وجسارة الإرشاد والابتكار، والإرادة في التغيير. إن الماركسية في جهودها المستمرة حتى ‏يومنا هذا من أجل إعادة النظر والتقويم الذاتي وَجَدت نفسها في مواجهة الأجواء الخانقة لتاريخها، وهي ‏التي لم تنته من تقويض تاريخها، تاريخ ليس من نتاج العضوية الذاتية، وذلك بخلاف ما يقال على سبيل ‏المثال في الديكارتية أو الكانطية، وإنما هو نتاجٌ لزماننا. إلا أن هذا لا يَعفي الماركسية من التدليل على ‏قدراتها في الابتكار والإبداع الثقافي، وفعاليتها في الممارسة، في مواجهة العالم المعاصر في كل حالاته ‏الواقعية. هذه الحالات يجب أن تندرج لزوما وبالضرورة، حسب ما كان يقول إنجلز، "في ‏حقِّها التاريخي" ( (رسالة إلى ب. لافروف، تشرين الثاني / نوفمبر 1875 ‏L. à P. Lavrov,‎‏)‏‎‏‎ ‎Peter Lavrovitch Lavrov، 1823-1900، ضابط روسي خريج مدرسة المدفعية في ‏بطرسبورغ، وأستاذ الرياضيات فيها منذ سن الواحد والعشرين، وأحد مفكري وكتَّاب الحركة الثورية في ‏روسيا منذ السبعينات من القرن التاسع عشر، حيث يُعرف باسمه المستعار ميتوف، ويفر إلى باريس حيث ‏يشارك في الكومونة التي تنتدبه إلى بروكسيل ولندن لتعبئة الدعم لها، وينتمي إلى الأممية الأولى، ‏ويترأس في ما بعد عددا من الصحف الثورية الشعبوية، حيث كان يدعو عبر صفحاتها إلى التخلي عن ‏الإرهاب). ولن يتأتَّى للماركسية إن تَبْلغ إلى مثل هذا الابتكار وهي تواجه واقعية عالمنا المعاصر بالعودة ‏إلى ينابيعها أيا كانت طبيعة هذه العودة، أو بفضل تأسيس نظري جديد لها، وإنما يتأتى لها ذلك بفضل ‏قدرتها على السيطرة على برنامج وتطويعه، وهي التي ساهمت أكثر من غيرها أيا كان هذا الآخر في ‏تعريف وتحديد وقياس خطر وأهمية الرهان على فعالية البرنامج. فلنقف على مسافة ولو قصيرة من هذه ‏المهمة البرنامجية مهما بلغت صعوبة ذلك. إن ما وراء ستار الأرثوذكسيات التي لا تَعْدَم من تأثير حتى ‏غاية الآن، تتكشَّف المحرَّمات التي كانت قوِّضَت بصورة سيئة، والثورات التي كانت أُوقِفت وهي في ‏منتصف الطريق. أما تزال هذه الرهانات والمهام البرنامجية في ما يشارف القرن العشرين على نهايته هي ‏نفسها التي حَمَلَت ماركس ولاحقيه على خوض معركتهم القويمة؟ إن علاقات السيطرة والاستغلال ‏المجتمعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، إن "العجول الذهبية "( العجول هنا بالفرنسية في صيغة اسم ‏العلم الذي يُمنح للبورجوازية كناية عن علَفِها بالثروات الدسمة) ما تزال واقفة على حوافرها. بل، ‏وأنهم أصبحوا يملؤون الكوكب كله. "لكن حسبك قليلا، يًكتب لابريولا لصديقه كروشه في رسالة موجَّهَة ‏إليه في ما كنت الماركسية تجتاز أول أزمة لها، أخبِّرني قليلا ما هو مضمون ومعنى العالم من حيث هو ‏واقع جديد، والذي يُلحِق بأعين كثيرين التلف بصورة بديهية بالماركسية. ها هنا تكمن الصعوبة. "إن ‏الواقع، على حد قول لابريولا لكروتشيه- لا يُستحوَذ عليه بالحجج المنطقية والتفكير، وإنما الواقع يُدْرَك ويرى" (8 كانون الثاني/ يناير ‏‏1900).‏
هذا صحيح، إن الواقع يُدرَك على هدا النحو، إلا إذا لم تكن الشيوعية هي"الحركة الواقعية التي ‏تقوِّض الحالة الراهنة"... .‏
(الأقواس من وضع المترجم، ح.خ.ش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا