الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بشر الحافي في ثورته الروحية

محمود يعقوب

2016 / 3 / 22
الادب والفن



محمود يعقوب

بشر الحافي
في ثورته الروحية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شيخي ‹ بسّام الدين › يقول :
« يا بشر .. اصبرْ
دنيانا أجملُ مما تذكرْ
ها أنتَ ترى الدنيا من قمـّة وجدِك
لا تبصر إلّا الأنقاضَ السوداءْ .

ونزلنا نحو السوقِ أنا والشيخُ
كان الإنسان الأفعى يجهدُ أن يلتف على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلبْ
عجباً ، ...
زور الإنسان الكركي في فم الإنسان الثعلبْ
نزل السوقَ الإنسانُ الكلـبْ
كي يفقأ عين الإنسان الثعلبْ
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوقُ بخطواتِ الإنسان الفهدْ
قد جاء ليبقرُ بطنَ الإنسان الكلبْ
ويمصّ نخاع الإنسان الثعلبْ
يا شيخي ‹ بسّام الدين ›
قل لي .. أين الإنسان .. الإنسان ؟ » .

الشاعر صلاح عبد الصبور
من ديوان ‹ أحلام الفارس القديم ›
• بشر الحافي :
بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله ، المكنى أبو نصر ، أو المعروف بالحافي . ولد في مرو ، ونزل بغداد وتوطنها . وسمع الحديث بها . وأخذ عن شيوخ كثيرين في بغداد وغيرها من أمثال :
حمـّاد بن زيد ، وعبد الله بن المبارك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ومالك بن أنس ، و أبو بكر بن عياش ، و الفضيل بن عياض ، وغيرهم .
وروى عنه جماعة من الأئمة الكبار من أمثال :
الإمام أحمد بن حنبل ، وإبراهيم الحربي ، وزهير بن حرب ، وسري السقطي ، والعباس بن عبد العظيم ، ومحمـد بن حاتم ، وآخرون .
سَمـَعَ الحديث وأسمَعَهُ ، وعدّل وجرّح ووثـّق وضعّــف . وما لبث أن اعتزل شأن الحديث ، قبل أن يعتزل شأن الناس وينغمس كلياً في خضم العبادة والتصوف والزهد . ولم يحدّث ، غير أنه عاد علماً من أعلام السالكين ورمزاً من رموز الورع الصافي .

قال تلميذه الإمام إبراهيم الحربي :
ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه ، ولا أحفظ للسانه بشر ، ما عُرِفَ له غِيبة لمسلم . كأن في كل شعرة منه عقلاً ، ولو قُسِمَ عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء ، وما نقص من عقله شيء . وطئ الناس عقبه خمسين سنة .

وقال محمـد بن الصلت عنه :
« كان اسمه بين الناس كأنه اسم نبي » .

نشأ بشر بن الحارث في بيت ثراء وسعة . فقد كان من أبناء الرؤساء والكتبة الذين يعملون في قصور الملوك ، ممن كانت مكانتهم الاجتماعية والمعيشية مرموقة بكل تأكيد ، وتمتعوا بمنزلة خاصة بين طبقات المجتمع جعلتهم يعيشون في بحبوحة ورغد ..
يقول الإمام المناوي عن بشر :
« وأصله من رؤساء مرو » .
ونشأ بشر نشأة أولاد الذوات . ويروي صاحب كتاب الحلية أنه كان في ابتدائه في لهو ولعب . يجلس مع الرفقاء للهو واللعب ، ويمضون أوقاتهم في ترف ونعيم .
وعلى الرغم من أنه تعلّم في بواكير حياته العبادة ، إلا أنه مارسها في صورة تقليدية .
وحينما استقر به المقام في مدينة بغداد برز فيها كأحد كبار الأغنياء . كان يقيم بين الحين والآخر حفلات اللهو والطرب والغناء والرقص في بيته . وكان يستدعي المغنيات والعازفات والراقصات . ويحضر هذه المجالس الرجال وبعض النساء . وحتى لا تقع أية مفارقة كان بشر يجلس في مكانٍ عالٍ ليراقب الاحتفال . وعلى هذا المنوال كانت أيامه تمضي رخيّة .
ويروى أنه أقام ، في أحد الأيام ، حفلة صاخبة ، في بيته الكبير ، وبدأت ساعات اللهو والغناء وأصوات الطرب تتصاعد من المنزل . وفي هذه الأثناء خرجت إحدى خادماته لترمي النفايات في موضعٍ ما من الطريق ، فصادف أن مرّ بقربها رجلٌ عظيم الشأن ، وقد ملأت أسماعه أصوات الطرب والغناء ، ليدنو من الخادمة ويسألها :
« صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد ؟ » .
فتجيبه :
« حر » .
فيعود ويقول لها :
« صدقتِ فلو كان عبداً لخاف من سيده » .
وحينما عادت إلى الدار أخبرت سيدها بذلك .
ما أن سمع بشر هذا الكلام من خادمته حتى انتفضت مشاعره وثارت روحه ، فهبّ راكضاً وهو في ذروة انفعالاته وانفلاته من أجواء المرح اللاهي ، خرج ساهياً عن انتعال حذائه ، ومضى راكضاً يبحث عن هذا الرجل حافياً ...
منذ تلك اللحظات حدث الانقلاب الحاسم في حياته : انفجرت الفقاعتان الخضراوتان ، اللتان كان يرى الدنيا من خلالهما بثوبٍ أخضر زاهٍ . وخفتت أصوات الدفوف ليعود يسمع نبض القلب الحي ، وهمسات الضمير النقي . وراحت مداركه الحسية تتفجر بأنبل الأحاسيس ..
في تلك اللحظات أشرقت في قلبه الأنوار الإلهية .
يقول العلامة الفيض الكاشاني في مؤلفه ‹ مقامات القلب › :
إن القلب مثاله مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه ، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلّا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه ، كما لا يقدر على حراسة أبواب الحصن من لا يعرف أبوابه أصلاً .
وهذا يعني أن التحرّر من أسار الشيطان ليس بالأمر اليسير .
بشر بن الحارث كان شاباً ثرياً ، غرّاً ، استحوذ الشيطان على قلبه ، واستحواذ الشيطان على القلب يعني بصريح العبارة سيطرته على الإنسان سيطرة كاملة تعمي بصره وبصيرته وتجعله متخبطاً في ظلمات نزواته وأهوائه .
إن النجاة من غياهب تلك الظلمة الداجية ، وتخطي شراكها ، وسدودها ، لا يتهيأ إلا لمن يمتلك الإرادة الإنسانية الطاهرة ، وتشرق في جنبات روحه الأضواء الرحمانية من مشكاة الربوبية ، فيطهر قلبه من الخذلان والهوى المدنس .
هذا ما حدث لبشر بن الحارث في تلك اللحظات الخاطفة وهو يقف بين يدي ذلك الرجل العظيم ، حينما ثاب إلى رشده بصورةٍ عنيفة ، وهو يرى أنوار بروق الهدى بين عينيه تخطف كالسيوف الحامية وهي تقطع أوصال الظلام . وراح يواصل ركضه لاهثاً على دروب الإيمان ، وهو يدوس على جثة شيطانه بأقدامه الحافية .
حدث الانقلاب العظيم الذي دفع بهذا الشاب إلى رحابة الحياة الجديدة التي قوامها الزهد والورع والعمل الصالح . وقد اتخذ من التصوف سلوكاً روحانياً لمسيرة حياته هذه ، وفي مسلكه راح قلبه يزداد رقـّة وروحه تزداد رهافة .
بات ملتزماً طريق العلم والمعرفة ، مستغرقاً في تعبده ، ومنصرفاً إلى هداية نفسه وهداية المجتمع ، وساعياً إلى أفعال الخير ابتغاء مرضاة الله .
أحدثت تلك الانتفاضة الروحية تبدلاً كبيراً في نظرته إلى الإنسان والمجتمع وكل ما يحيط بهما . وقد عبّرت مجريات حياته الصوفية الثرّة عن فيض من الأقوال والأفعال التي نضحتها مسيرة حياته الجديدة وهي تعبر عن رؤيا إنسانية شمولية ، عميقة ، نابعة من قلب كوني مغمور بنور الإشراق .

قال بشر :
« أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن يطلب الدنيا ! » .
وحدّث العالم محمد بن عبد الله عن رجل ٍ قال :
« رأيت بشر بن الحارث وقف على أصحاب الفاكهة ، فجعل ينظر إليه ، فقلت : يا أبا نصر لعلك تشتهي من هذا شيئاً ؟ قال : لا ، ولكن نظرت في هذا ، إذا كان يطعم هذا من يعصيه فكيف من يطيعه ! » .
وقال : « إذا قلّ عمل العبد ابتلي بالهم » .
ومن أقواله : « خصلتان تقسيان القلب ، كثرة الكلام ، وكثرة الأكل » .
وقال : « الليل والنهار حثيثان ، يعملان فيك ، فاعمل فيهما » .
وكان يقول :
خلت الديار فَسِدْتُ غير مسوّدٍ ومن الشقاءِ تفرّدي بالسؤددِ .

ومن خلال ملاحظتي للعديد من الكتب التراثية ، التي ترد ترجمات بشر الحافي فيها ، استنتجت أن أشعاره قليله ، وهي عبارة عن مقاطع محدودة من الشعر الوعظي .
ويفيض الحديث عن كرامات بشر الحافي ، ولكن من أطرف ما يروى عنه في هذا الباب هو ما ورد في كتاب ‹ زهرة البساتين من مواقف العلماء والربانيين › من جمع الدكتور سيد بن حسين العفـّـاني / الجزء الأول : قال فتح بن شخرف الخرساني ‹ الذي عاش في بغداد ثلاثة عشر عام › : تعلّق رجل بامرأة ومعه سكين ، لا يدنو منه أحد إلا عَقَره ، وكان شديد البدن ، فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح ، مرّ بشر بن الحارث فدنا منه ، وحكّ كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ، ومرّت المرأة ومرّ بشر ، فدنوا من الرجل وهو يرشح عرقاً ، فسألوه : ما حالك ؟ فقال : ما أدري ولكن حاكـّـّني شيخ وقال : إن الله عز وجل ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل . فصَعقتُ لقوله وهبته هيبةً شديدة ، لا أدري مَنْ ذلك الرجل . فقالوا له ذاك بشر بن الحارث . فقال : واسوأتاه ، كيف ينظر إليّ بعد اليوم ! وحُمّ من يومه ذاك ، ومات يوم السابع .

قضى بشر بقية حياته في العبادة والزهد والنسك والتقشف والورع ، متنقلاً بين العلماء هنا وهناك ، غير أنه سرعان ما يؤوب إلى موطنه في بغداد ، وما لبث حافياً . ويروي صاحب الحلية عنه : « وكان أسفل قدمه أسود من التراب ومن كثرة المشي حافياً » . وكان من العلماء الذين لم يتم أمرهم ، فقد عاش ومات أعزبا ، في عائلة صغيرة تشبه عائلة طيرٍ ، قوامها ثلاث أخوات ، كن مضرب الأمثلة في التقوى والورع ، وتناقل الناس الكثير من أقوالهن وأفعالهن ، حتى عدّهن البعض من جملة متصوفات بغداد .

قال الخطيب البغدادي والحافظ ابن كثير : حين مات يشر ، اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم ، فأخرج بعد صلاة الفجر ، فلم يستقر في قبره إلّا بعد العتمة . قال يحيى بن عبد الحميد الجماني : رأيت أبا نصر التمّار وعلي بن المديني في جنازة بشر ، يصيحان في الجنازة : هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة .
ورد في كتاب ‹ تهذيب التهذيب › لابن حجر : أن بشر مات في بغداد وهو ابن ست وسبعين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني