الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لأجل عيون روزا (سيرة خمسة أيام)

ضياء حميو

2016 / 4 / 4
الادب والفن




كان عمري 24 عاما، طالب جامعي في السنة الثالثة، شيوعي متحمس، ناشط منذ خمسة أعوام.
إسمي حَسَن في هذه الحكاية.. وهو ليس الاسم الوحيد على أية حال، فقد استخدمتُ أسماءً عدّة تلك الفترة – حفاظا على حياتي وحياة الآخرين ـ وهو الأمر الذي ستجدونه في التفاصيل أدناه، وسترون استخدامي لإسمين آخرين هما: سعيد توما، ويوسف.

م الحكاية؟
"هي حكاية بيوت، أحبّتْ وطنا تراه اليوم يتمزقُ طوائفَ.
بيوتٍ عربية، كردية، تركمانية، ـ شيعية، سنيةـ، مسيحية، أزيدية، صابئية، وغيرها، في وطن إسمه العراق.
لِمَ أسردها الآن ؟
لأن المعني بالأمر مازال على قيد الحياة، وهو من طلب ومن ثم أذن لي بالنشر.
ولسبب آخر: هو أننا وفي زمن الخذلان، نستغرق في الذكريات لنستمد من العيون التي التقينا بها ومضت بعيدا، بريقها المضيء وألقها الذي أخذنا نحو فكرة حرّة آمنا بها يوما.


العام 1991، بعد الانتفاضة بثلاثة أشهر في مدينة زاخو من كوردستان العراق، آخر نقطة على الحدود التركية العراقية - كانت منطقة مشمولة بالحضر الجوي بعد غزو الكويت، ضمن ثلاث محافظات كوردية، وصارت إدارتها بيد الكورد، ولا وجود رسمي للنظام الحاكم في بغداد فيها-.
يناديني أحد الشيوعيين من الرفاق الكورد، إسمه "كيڤي"، ليعرّفني على رفيق عربي من الجنوب اسمه "أبو روزا"، بدين، وسيم، وجهه متورد دوما وممتلئ ضحكا.
قال الرفيق الكوردي بلا مقدمات كثيرة: "مهمةٌ قد تكون خطرة، ولا نعرف إن كنتَ تستطيع القيام بها!".
هدف المهمة:
أن أقوم بجلب زوجة وطفلة أبي روزا ليلتحقا به.
وافقتُ بلا تردد، ما أروع أن أكون سببا بجمع شخص بأحبّته!
في الشروع بهذه المهمة، كانت لديّ هذه المعطيات عن المهمة:
الزوج:
"أبو روزا"عمره 41 عاما، متزوج ولديه طفلة اسمها "روزا"، شيوعي محكوم بالإعدام بسبب انتماءه للحزب الشيوعي العراقي، اختفى منذ عام 1980، محاولة الهروب الأولى باتجاه الكويت تفشل، والثانية لثلاثة أيام مشيا على الأقدام عبر الأهوار المائية إلى إيران، تنجح، ولكن يتم سجنه في إيران تسعة أشهر، ويقرروا عدم إعادته للعراق، ومن ثم يلتحق بالأنصار الشيوعيين في كوردستان العراق.

الزوجة:
اسمها أحلام، عمرها 31 عاما، يتم اعتقالها وطفلتها عام 1981، وتبقى في المعتقل لثلاث سنين، يتم التفريق بينها وبين ابنتها، يهددونها بالإعدام طيلة ثلاث سنوات، يقررون الإفراج عنها، بشرطين: أن تتطلق منه، والثاني أن لا تلتقي بابنتها أبدا.

روزا:
عمرها 11 عاما، يتم اعتقالها بعمر ثلاثة أشهر برفقة جدتها، يتم إطلاق سراحيهما بعد عشرة أيام، لا تتذكر أباها، ولا تلتقي أمها إلا سرّا ونادرا، طيلة 11 عاما، تعيش مابين بيت جدتها وبيت عمتها.

الأم:
بلغتْ 79 عاما من عمرها، أمضت حياتها ومنذ عام 1963 وهي تبحث في السجون عن أولادها الشيوعيين، تُعتقل عام 1981 ولمدة عشرة أيام، وبسبب أبي روزا هذه المرة، منذ ذلك الحين لم تتلق سوى خبراً واحداً عنه عام 1984 وأنه بخير، ولا تعرف إن كان ما يزال على قيد الحياة.
الجميع مراقبون من أجهزة الأمن.


أخذتُ عنوان بيت الأم في مدينة الناصرية في الجنوب، مع رقميّ هاتف، الأول لصديق عمره، وهو ثقة جدا كما قال لي أبو روزا، واقترح أن يتم الاتصال به أولا، والثاني لأحد إخوته.
وفي فجر اليوم التالي ركبتُ بسيارة إلى مدينة دهوك، متنقلا بهويةٍ تحمل اسما مسيحيا، والتي بواسطتها أستطيع التنقل بين دهوك (التي تقطنها نسبة كبيرة من مسيحيي العراق) والموصل التي أستطيع بها التنقل بهويتي الجامعية، ومن ثم أخذتُ القطارالمتوجه إلى بغداد، برحلة استغرقت الليل كله.
تعودتُ في السنوات السابقة أن أستغرق بالنوم عميقا في المواصلات، لأستغل ما تبقى من الوقت نشطا.
في بغداد التقيتُ بصديقي عبد الرزاق علي*، وهو من نفس مدينة أبي روزا (الناصرية)، ويعرفها جيدا.
رزاق طالب في كلية الآداب وليس مؤدلجا مثلي، ولكنه كان مخلصا لقضية اليسار العراقي.
تناقشتُ مع صديقي بأيهما أتصل؟، هل أتصل بالصديق كما نصح "أبو روزا" أم أتصل بأخيه؟، أي اختيار خاطىء سيُنهي حياتنا!
اتفقنا أن معرفة رفيقي بصديقه تعود لسنوات خلت، وقد يكون تغيّر، وقد يوشي بنا خوفا أو طمعا، ولكن مع الأخ يمكن المراهنة على صلة الرحم، وهكذا كان قرارنا.. ذهبنا لملاقاة أخيه الأكبر وكان يعمل "عرضحالجي"، أمام إحدى الدوائر، بدا مرتابا وخائفا، كيف لا..!، من أدراه أننا لسنا مندسين من الأمن للإيقاع به؟، لم أتفاجأ بتردد الأخ الأكبر، إذ سبق وأن رفضتْ عائلة في حي العامل في بغداد حتى الحديث معي وأنكرت معرفتها بابنها-.
أوصلَنا الأخ الأكبر إلى أخيه الأصغر وكان اسمه "يوسف"، ليتخلص من هذا الهم، كان يوسف يكبرني بعشرة أعوام تقريبا، بدا بشوشا وغير مرتاب بنا وبداخله طيبة تحسّها، ولكنه خائف، مع ذلك اصطحبنا إلى بيت الأم، تلك السيدة التي تريد أن تسمع بنبراتنا صوت ابنها، وتشم بأنفاسنا رائحته.
هي الوحيدة التي لم تشك للحظة واحدة بنا.
في البيت أخبرنا "يوسف" أننا محظوظان بعدم الاتصال بصديق أخيه - كانت له شكوكه حينها-!!.
علِمنا أن الزوجة تعيش في بيت أبيها مذ خروجها من السجن قبل ثمانية أعوام، وأبوها رجلٌ شكاك وخائف ومرتاب.
حلّ المساء وخوف أن ينكشف أمرنا، لذا أخبرنا العائلة أنه ليس لدينا إلا ساعات ويجب أن نغادر فجرا برفقة الزوجة والطفلة روزا.
ذهب يوسف والأم إلى بيت أب الزوجة فيما بقيتُ وصديقي لوحدنا، لساعة راودنا الخوف كثيراً، أيّ خبر يصل للسلطات سيُنهي أمرنا حتما، ربما يعرف الجيران، ربما يرتاب الأب ويبلّغ عنّا ليخلي مسؤوليته.
بعد ساعتين عادا محبطين، قالت الأم: أبوها لم يوافق، وأضافت: يقول.. إذا أراد زوجته فليأتي بنفسه لأخذها.
صمتَ الجميع، فهو يطلب المستحيل بعينه!، فأبو روزا محكوم بالإعدام.
أعدّوا لنا العشاء، بصمتٍ تعشينا، مصدومين بطلب الأب، بتنا ليلتنا عندهم، نزولا عند رغبة الأم التي اقترحت أن تعاود المحاولة فجرا معه.
لم يبدّل رأيه، ومع شروق الشمس غادرنا أنا وصديقي عبد الرزاق، الأمر الذي أراح العائلة، كون وجودنا وعدم الإبلاغ عنّا تهمة تؤدي بهم إلى الموت.
افترقت وصاحبي في الناصرية وعدتُ وحدي لأقطع أكثر من 800 كيلو مترا، صعودا نحو زاخو!
عليّ أن أغيّر أكثر من هوية واجتاز بها عشرات نقاط التفتيش. لم اتوقف في بغداد، بل واصلت طريقي إلى زاخو.

شأني في مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني ليس هيّنا، إذ عليّ أن أتحرك بهوية مسيحي من زاخو، لو كشفوا أمري سيضطر رفاقي إلى التدخل، ليفرجوا عني، ولكن حينها سيكون فُضح أمري، خصوصا وأن النظام الحاكم ـ باحتمالية كبيرة ـ زرع مخبريه في صفوف الأحزاب الكوردية وغيرها.
لحسن الحظ شكلي الطفولي لا يُثير الريبة!(بعد كل هذه السنوات، أتساءل هل هو شكلي من أنجاني طيلة عشرة أعوام من العمل السرّي؟ أم طاقة خفية كانت تريد أن تبقيني على قيد الحياة؟).
وصلتُ إلى مقر الحزب في زاخو، الراية الحمراء ترفرف فوق بنايته، فيما القوات الأمريكية والحليفة معها توزع شحنات كبيرة من الأغذية على المخيمات، وأيضا على مقرات الأحزاب المعارضة.
مع الحزب الشيوعي تردد الأمريكان قليلا قبل أن يقدّموا للشيوعيين، أعداءهم، مساعدات غذائية!.
سألوا الرفاق: هل أنتم مؤيدون للبيروسترويكا وغورباتشوف؟
حين أجاب الرفاق بنعم صادقة، أعطوهم مساعدات غذائية.
أخبرتُ أبا روزا بجواب أبي زوجته، فاستشاط غضبا، ذهبتُ لأنام وتركته يناقش الأمر مع رفاق آخرين.
في صباح مبكر من اليوم التالي، أخبرني رفيقي برغبته بأن أعود إلى أبيها حاملا رسالة!.
أن أعود للمكان مرةً أخرى، يُعتبر خرقا أمنيا، لم نكن لنفعله في عملنا السرّي، تركوا القرار لي، نظرتُ إلى أبي روزا، وهو العارف بخطورة هذا الأمر، أشاح بنظره صوب الجبل المحيط بزاخو، كانت عيناه تلمعان!، هل هي دموع الشوق، أم مجرد أشعة الشمس وقد عكستها ثلوج الجبل الأبيض؟!.
وافقتُ، أردتُ أن أرى عينيه وعينيّ روزا حين يلتقيا.
أخذتُ الرسالة وكانتْ تهديدا أكثر منها توسلا، يقول فحواها على لسان رفيقي: "أنا متمسك بزوجتي وطفلتي، وهذه هي المحاولة الأخيرة، إن بقيتَ مصرّا على رأيك، فلكَ ابنتك وحفيدتك، أما أنا فسابدأ حياة جديدة وأتزوج امرأة أخرى!.
سلّمني الرفاق مبلغا مضاعفا لتغطية مصاريف الطريق وللطوارئ أيضا، واتفقنا على أن أحسم الأمر وأعود بهما بسرعة وبحدٍّ أقصاه يومان.
بعد الظهر حملتُ الرسالة مخفيةً في طيات البنطلون أسفل الحزام، وعدتُ برحلتي الطويلة نحو الجنوب... المبيتُ في القطار، والصبح في بغداد، وعصر اليوم التالي في الناصرية.
ذهبتُ لصديقي رزاق ومن ثم ذهبنا لبيت أهل أبي روزا. .
هذه المرّة استقبلونا باسترخاء أكثر، أظن أن الوقت منحهم فرصة، كانوا وأبوها بحاجة لها للتفكير بروية.
حملتْ والدة الرفيق الرسالة لأبي زوجته، وكانت والدته متأهبة وبقوة شوقها لِلمّ شمل ابنها بزوجته وطفلته، مصممةً على إقناعه.
بعد ثلاث ساعات عادوا بالموافقة، ولكن بشرط!؛ أن يرافقنا في الرحلة كل من يوسف والأم.
كان شرطا تعجيزيا آخر من الأب، لم نحسب له حسابا بتوفير هويّات مزورة ليوسف وأمه ليُسافرا بها معي!، كما أن الأم كبيرة بالسن ومريضة، والأخطر أن ملامحها جنوبية، سيكتشفونا مؤكدا في إحدى نقاط التفتيش بين الموصل ودهوك.
حضر الأب للقائنا، هدأ روعه حين رآنا، هو كالآخرين كان يظن أنني كوردي- طفل مسالم، أتى ليؤدي خدمة- كان طوال الوقت يناديني "كاكا"، وهي صيغة احترام تعني الأخ الأكبر باللغة الكوردية.
طلبنا منه أن يترك هكذا كلمة وينادينا بأسمائنا- المزورة طبعا-.
كانت برفقته الزوجة، وهي شابة جميلة بملامح بيضاء، وكذا طفلتها "روزا"، التي كانت خجولة وتبتسم خلسةً لنا تتفحصنا، ربما تبحث عن أبيها فينا.
فرحتُ كثيرا لملامحهما وبشرتهما البيضاء، فبشراء الملابس المناسبة لهما من الموصل سيشبهان تماما كورد دهوك.
وافقتُ على طلبه باصطحاب الجميع، وفي قرارة نفسي كنت آمل بأن أتوصل إلى مخرج أثناء الطريق الطويل من الناصرية الى بغداد.
ودعتُ صديقي رزاق وتمنى لي السلامة.
وهكذا قررنا أن نرحل مع خيوط الفجر الأولى.
قبل أن نخرج نطقتْ الزوجة بخجل ولكن بإصرار: لدي طلب، وهو نذر نذرته على نفسي، إن أتى هذا اليوم، أن أذهب قبل لقاء زوجي لزيارة ضريح الإمام علي، والإمام الحسين، والإمام موسى الكاظم!
لم أكن أتوقع هذا، نزل طلبها كالصاعقة عليّ، أضرحة الأئمة المذكورين تقع بثلاث مدن مختلفة، زيارتها خطرة جدا على الناس العاديين.. خصوصا بعد انتفاضة آذار، وجميع المحافظات المنتفضَة يحكمها حاكم عسكري وليس محافظ، فكيف بمن هو مثلنا بهويات مزورة!!.
لم أتمكن من الرفض، كنتُ محتاجاً لقوةِ إيمانها بوفاء نذرها للأئمة المعصومين الثلاثة.
وافقتُ.. وبدأت رحلتنا نحن الخمسة لتبدأ بالنجف حيث ضريح "أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب".
وصلنا النجف، وكان أثر الطلقات والقذائف والمواجهات المسلحة واضحة قرب الضريح وفي قبته ومنارتيه.
أتمّتْ الزيارة هي والأم والطفلة، فيما بقينا أنا ويوسف بانتظارهما خارجا، بعد ربع ساعة عادوا إلينا ووجوههم مشرقة.
استأجرنا تكسي أخرى صوب كربلاء على بعد ثمانين كيلومترا تقريبا، لم يكن مشهد ضريحي الحسين وأخيه العباس في كربلاء، يختلف عما هو عليه ضريح أبيهما في النجف، بعد انتهائهم من الزيارة، تغدّينا في مطعم، كنا جائعين، ولهذا كان تشريب اللحم والدجاج لذيذا جدا، مازال طعمه بفمي إلى الآن...
بعدها وبتاكسي أخرى علينا أن نقطع 100 كيلومترا متوجهين إلى بغداد، وصلنا في الغروب- لولا النذر لكنّا الآن في الموصل، ولبتنا في بيت رفيق كان مُعَدّاً لقدومنا-.
لم أشأ أن أجازف بالمبيت في بغداد بفندق بهويتي المزورة.
ولذا توجهنا إلى بيت أهل الرفيق "محمد نمر" الذي سيُعرف لاحقا باسم "محمد الخياط"، عمره 19 عاما في مدينة الثورة في بغداد.
لم يكن هنالك موعد مسبق مع محمد، وسيُحرجه الأمر كثيرا بعددنا هذا، خصوصا ونحن في أول سنة للحصار، وعائلته فقيرة، سيكون تقديم الخبز والشاي لنا كرما كبيرا، على حساب حصتهم الغذائية التي توزعها الحكومة كلّ شهر، وهي على سوئها لا تكفي عشرة أيام من الشهر.
ناهيك عن دمار عائلة محمد لو تم اكتشافنا في بيتهم أو اكتشاف أمرنا في الطريق- خمسة أشخاص تحت التعذيب، سيكون من المستحيل عدم الوشاية -.
لم يكن هنالك خيار، أهل محمد يعرفوني منذ خمس سنين ويحبوني، فأنا صديق خالهم المسرحي "كثير چثير"، وبتُ أياما كثيرة في بيت جدهم -.
كان محمد هو من فتح الباب، وقد كان هو الأخ الأكبر وعلى الرغم من صغر سنه، فقد كان ذو عقل يكبره، وقارئا ذكيا، تربّى على أفكار ومثل اليسار الإنسانية صغيرا منذ كان في العاشرة.
بين دهشته وخوفه سألني بعينيه، لم أنطق سوى بكلمة واحدة، قلتُ: رفاق.
وإلى هذا اليوم لم يسألني محمد عنهم.
دخلنا البيت وجاءتْ أمه وبقية العائلة ليسلّموا علينا.
لم تمض سوى دقائق حتى أتتنا صينية بأطباق البيض والطماطم المقلية مع الشاي والخبز،-كان هذا فوق مانتمناه -..هذا ما ستؤكده لي الأيام؛ إنّ الفقراء أكثر كرما واحتضانا من الأثرياء.
نمنا ليلتنا بعمق من الإنهاك.
وفي الصباح توجهنا إلى مرقد الإمام موسى الكاظم، وبرفقتنا محمد، كان لدينا وقت كثير حتى قطار الساعة السابعة مساءً، المتوجه إلى الموصل، أمضيناه بالجلوس في باحة الضريح، حيث من المعتاد أن يجلب الزائرون غذائهم وشرابهم ويفترشون أرضية باحة الضريح المقدس، يأكلون ويسترخون ويتبركون ببركات الإمام، فيما تحط حمامات الإمام تلتقط ما يُعطى لها.
في الخامسة توجهنا إلى المحطة العالمية لنأخذ قطار الموصل، في المحطة، كان وجود محمد مهم معي لنقنع يوسف بعدم مرافقتنا لتقليل الخطر، وأن يعود إلى الناصرية ويختفي ببيتهم إلى أن أعود بأمه إن وصلنا سالمين.
بعد تردد كبير، تمكنّا من إقناعه.
ودعتُ محمد ويوسف، وأخذنا نحن الأربعة قطار الموصل.
حجزنا كابينة منام وفيها سريران بطابقين، أي تتسع لأربعة.
في اليوم السابق لاحظتُ أن روزا لا تقترب من أمها كثيرا، بل ملتصقة بجدتها، صرتُ أمازحها قليلا، هكذا صارت تقترب منّي وتجلس بجانبي، وتبتسم لي خلسةً.
قبل تحرك القطار طرق بابنا شخص بلباس عسكري ليتأكد أننا عائلة، هنا استخدمت هويةً أخرى كانت باسم يوسف، على أنني ابن السيدة الكبيرة وهذه زوجة أخي وطفلتها.
قبلها نبّهتُهنّ بأن إسمي تغيّر إلى يوسف.
في هكذا موقف، كان شوقنا لأحبتنا وأن نعود إليهم سالمين، هو الذي أمدّنا بالقوة، كي لانخاف ونرتبك.
بعد دقائق طرق باب مقصورتنا رجل أمن، طلب هويتي، أعطيته إياها، ولكي لا يسألهما، قلت: هذه الحجية أمي مريضة، أعطاني هويتي وأغلق الباب.
تمددنا على أسرّتنا هادئين طيلة اثنتي عشرة ساعة.
في الصباح المبكر وصلنا الموصل، علينا أن نفطر بسرعة ونختار ملابس مناسبة للسيدتين والطفلة، تشبه ملابس الكورد، وأن يرتدينها في المحل.
وهذا ما كان، ارتحتُ حين رأيتهما بملابس الكورد.
توجهنا إلى گراج السيارات المتوجهة إلى دهوك التي تبعد 70 كيلو مترا.
وقبل أن نأخذ سيارة نوع "كوستر"، تتسع لأكثر من عشرين راكب، انتحيتُ بالسيدتين والطفلة جانبا لأخبرهما أنها المرحلة الأصعب والأخيرة، وأن اسمي الجديد حسب الهوية "سعيد توما"، طلبت منهن أن لا ينطقن بأي كلمة عدا كلمة "بلي" وتعني نعم، هذا إن تحدث معهن رجال الأمن في التفتيش باللغة الكردية.
وبلهجة الواثق: الباقي أتكفل به حسب الموقف، حينها كنتُ أجيد النطق ببعض الجمل الكوردية بلهجة باهدينان، كنتُ أفهم كوردي أكثر مما أنطق بلهجة سوران الكوردية، بحكم دراستي الجامعية في أربيل.
هكذا مضتْ بنا السيارة وشوق الزوجة لزوجها، والأم لابنها والطفلة لأبيها الذي لم تره، وأنا أن أتمّ مهمتي وأرى عينيه كيف تضمهم.
كان سرب السيارات طويلا في نقطة التفتيش، انتظرنا ساعةَ كاملةَ!
لم تكن ساعة.. كانت كأنها العمر كله، بين أن نموت جميعا لو تم اكتشافنا وبين أن نعيش سالمين.
حين أتى دورنا، كانت نظرات رجلي الأمن تتفحصنا كمدانين كلنا، لأننا ندخل منطقة خارج نطاق سيطرة الدولة، وممنوع على العرب دخولها إلا بموافقة أمنية.. وهذه شبه مستحيلة.
كنّا نجلس في الوسط بمسار واحد وأنا في أقصى الطرف الأيمن.
طلب هويتي، وحين أتم تفحصها سألني بالعربية: أين تسكن؟، فأجبته: "في زاخو"، ومن ثم قال بالكوردية: "خه لكى كي رى"؟ أين تسكن، أجبتُ: "خه لكى زاخو مه"، أسكن في زاخو.
أعاد لي هويتي، ولحسن الحظ، اكتفى بالتحديق بالسيدتين والطفلة، ولم يسألهن شيئا، ومضى يسأل ويدقق بهويات باقي الراكبين.
هكذا تنفسنا بعمق، إنها النجاة.
أما نقطة تفتيش الكورد ممثلة بالحزب الديمقراطي الكوردستاني، فإنه لن يعني لهم الكثير دخول العرب،- كانوا منشغلين بصراعهم غير المعلن مع حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني،ـ الذي سيتطور إلى صراع مسلح بائس سيطول-.
طلبوا فقط هويتي، وسؤال واحد باللغة الكوردية: أين تسكن؟، وأجبت عليه وانتهى الأمر.
إنه منتصف الظهر، تم كل شيء بسلام، ولكن متأخرا يوما كاملا عن موعدي مع أبي روزا والرفاق الآخرين الذي حددوه لي، - لم يكن في ذهني أن تطلب الزوجة بشكل مفاجئ زيارة الأضرحة -!.
أقدر قلق ورعب تأخرنا على أبي روزا، لم ينم ولم يأكل، وفي ذهنه أنه ربما تم القبض علينا،-سأختبر هذا الشعور القاتل لاحقا بعد ثلاث سنين، حين سأنتظر رفيقتي ـ زوجتي ـ وطفلتي، وهما يحملان بريدا حزبيا إلى أربيل، ويتأخران عن موعدهما معي خمسة أيام، فيما كنتُ بأنتظارهما في الموصل برفقة صديقي الصحفي المرموق الآن، طارق الأعسم.. لولا وجوده معي لجننتُ،.. كيف لا تُجن وأنتَ تتخيل زوجتك الشابة الجميلة وطفلتكَ في قبضتهم!!، ويساومونك عليهما بتسليم نفسك، إن فعلت فقد أوديتَ بحياتك وبحياة عشرات الرفاق، الذين كلهم طلبة جامعات يافعين مثلك، وإن لم تسلّم نفسك قتلوا زوجتك وطفلتك!!-.
أكتبُ الآن وأنا ألهث حين أسترجع هذه الذكريات، والتي لم أندم عليها يوما، كانت الُمثل والاطمئنان للفكرة التي تجذرت عميقا.
وصلنا مركز محافظة دهوك، هذه المدينة الجميلة التي تحتضنها ثلاثة جبال، "الجبل الأبيض"، سُمي هكذا بسبب الثلوج التي تغطي قمته طوال العام، وجبل "زاوا" في الجنوب، وجبل "مام سين" من الشرق.
كان البيت الذي ينتظروننا به يقع خارج مدينة "سيميل" الصغيرة في سهل زراعي، والتي تبعد خمسة كيلومترات عن دهوك، هو بيت "رفيقنا محمد علي" الذي كنا نسميه "محمد سُمّيل"، وعائلته الطيبة، التي أحبها وتحبني جدا، سيميل وتعني الثلاث تلال باللغة الكوردية، عرفتها منذ خمس سنوات، لي بها رفاق بعمري، وعوائلهم الطيبة.
حين وصلنا قرب البيت، وهو بيت زراعي فقير بباحة كبيرة فيها ورود وثيّل، بيت جميل، كانوا قد استعدوا لنا باختبار، أن نفتح الباب ويقف قبالتنا ثلاثة رفاق بالزي الكوردي، أحدهم هو الأب، كان اختبارا للصغيرة "روزا"، هل ستعرف أباها من بينهم؟
قال لها رفيقنا محمد سميل وهو يبتسم ويشجعها: أبوكِ أحد هؤلاء، اختاري واحدا!.
كان يقف على اليمين رفيقنا "كيڤي" من مدينة العمادية الجميلة، يسمونها "ئاميدي" بالكوردية، وسامة رجالها وجمال نسائها يُضرب بهما المثل، تقع كلها على جبل بارتفاع 1400مترا، كأن الطبيعة قطعت قمته بمنشار عظيم لتستقر عليه العمادية مطلة على واد سحيق من كل جهاتها، كيڤي وسيم جدا وهاديء ببريق عينيه، فيما وقف في الوسط رفيقنا "أبو أفكار"، بنظاراته وسمرته البصرية، ذو اللكنة الغريبة، بسبب طول استخدامه للّغة الكوردية التي ربما شوشت لهجته العراقية العربية. وفي أقصى اليسار وقف الأب مورد الوجنتين وسيما، بشارب أسود أنيق، ممتلىء الجثة ومبتسما، أظن أن الاختبار كان قاسيا عليه أيضا، يُريد أن تنتهي الدقائق بسرعة ليضمها ويبكي.
لم تتقدم روزا الحلوة لأي منهم ظلّت تبتسم بشجاعة، واختارت مشيرة بأصبعها إلى كيڤي الأوسم!، في أثناء ضحكنا.. تقدم الأب حاسما الموقف.. باكيا وحاضنا لها: "بل هو أنا حبيبتي، أنا أبوك".
(أوه دموعي تسيل الآن متذكرا مشهده وهو يبكي ويسب الدكتاتورية).
ثم تقدّمتْ زوجته وهي تحضنه خجلة منّا جميعا، ودموعها تسيل، فيما الأم ببصرها الضعيف الذي تكاد تفقده لكثرة بكائها عليه، ظلت منتظرة في مكانها، تحاول أن تشمّ رائحته، تقدّم منها مقبلا يديها ومحتضنا، يحاول أن يسندها بذراعيه كي لا تتهاوى، لم تنطق بشيء كانت فقط تشمُّ به طويلا، باكيةً بصمت، استمر المشهد وكنّا جميعنا نبكي.
ثم جاء دوري، يسلمون عليّ ويهنؤنني على السلامة.
بعد الغداء وفي حضنِ عائلتين عراقيتين، كوردية وعربية، أغمضتُ عينيّ وأنا أتخيل عينيه، ونمتُ عميقا.
لم تنته مهمتي هنا، إذ بعد أربعة أو خمسة أيام، عليّ أن أعود بالأم قاطعا الطريق كله صوب الجنوب حيث بيتها في الناصرية. في طريق العودة كانتْ الأم هادئة مطمئنة، وفقط تسبح لله وتلهج بالدعاء، وصلنا في الغروب إلى بغداد، لاحظتُ إعياء السفر على سيدة بعمرها، فقررتُ المبيت في أحد الفنادق الرخيصة من منطقة البتاوين، حيث لن يسألوا عن شاب وأمه المريضة، وهذا ما كان.
في اليوم التالي، غادرنا فجرا صوب بيتها في الناصرية التي وصلناها بعد الظهر، لم يكن في البيت أحد.. أرادتني بصدق أن أنتظر يوسف وأبي زوجة رفيقي ليُسلّما عليّ..!
اعتذرتُ منها.. قمتُ بخرقين للسلامة الأمنية،- أن لا نعود إلى مكان ذاته مرتين، فكيف بثلاثة!-..
حين رأت إصراري، قالت: "طيلة رحلتنا لم أكن أدعو لأبني وأن تصل عائلته سالمة إليه فحسب، بل كنتُ أدعوا لكَ أيضا.. وسأظل أدعو". قبّلتُ يدها، فقبلتني على جبهتي وهي تقول برجاء الأم: "هل ستعود يوما لاصطحابي، كي أراه ثانية قبل أن أموت؟"
أجبتها مودعا: "انشالله"، وأنا أعرف أنني لن أعود.
وسأعرف بعد 24 عاما، أنها توفيتْ بعد أقل من عام من لقائها بابنها.
ستسافر روزا ومن ثم تعيش في ألمانيا برفقة أبيها وأمها، وستكبر هي وعائلتها ليصير لديها أخت وأخَوَان".
أما أنا.. فمازلتُ أغمض عينيّ لأتخيل وداعة العيون التي تلتقي أحبتها هادئة مطمئنة..
وألهج بدعاءٍ واحد:
"سقى اللهُ أرضَ العاشقين بغيثه
وردَّ إلى الأوطانِ كلَّ غريبِ".

• عبد الرزاق علي: باحث الدكتوراه حاليا، والإعلامي، والناشط المدني.. سيكون له الدور الأكبر عام 1992 بجمع ملف ثقافي ـ عرّض به حياته لخطر كبير ـ، لأدباء شباب، وينشر الملف سرا خارج العراق في مجلة الثقافة الجديدة، كان الملف الذي نُشر تحت اسم" ألواح طينية لأحفاد كَلكَامش"، صرخة من الداخل تقول: ليس كل الأدب في الداخل بوقا للطاغية، وها نحن نصرخ وإن باسماء مستعارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-