الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعله يأتي من المجهول!

أكرم شلغين

2016 / 4 / 9
الادب والفن


كانت السيدة البرلينية داغمار جيبلر احدى زميلات زوجتي في العمل فكان من البديهي أن ألتقيها بشكل ما، في مناسبة خاصة أو حفلة عامة. رأيتها للمرة الأولى بشكل عابر حين عرّجت بطريق عودتي الى البيت لاصطحاب زوجتي بعد نهاية عملها فقدّمتنا الأخيرة لبعض كزميلة عملها وكانت هناك بعض كلمات المجاملة العادية. وعندما رأيتها للمرة الثانية كانت قد دعتني وزوجتي بشكل خاص لعشاء في بيتها فكنا ثلاثتنا فقط في ذلك المساء. كانت سيدة لطيفة ومثقفة ومتعددة الاهتمامات، لم أصدق مدى معرفتها بالثقافات "الأخرى" فكانت تحكي وتشرح وكأنها عاشت في بلدان يصعب علي معرفة عددها. كانت في الثلاثينات من عمرها، لم تكن بالمرأة الأجمل ولكن ما يُظهرها بهية ومتميزةَ الحضورِ كان أعمق من الشكل ويتلخص عموماً بكونها امرأة متيقظة، حريصة، مثقفة، حساسة مراعية لمشاعر الآخرين وتعرف كيف تدير دفة الجلسة التي تستضيفها... تشعبت الأحاديث وتنوعت وكلما تكلمنا أكثر كلما شعرت بالقرب منها أكثر. بعد الانتهاء من تلك السهرة وفي طريق عودتي وزوجتي إلى البيت سألت عمّا كان جوابه يبدو واضحا ولكنني آليت ألا أن أسمعه من باب التأكد عما إذا كان للسيدة جيبلر زوج أو شريك أو أية علاقة بصيغة ما...! فكان الجواب يشرح أنها منذ عرفتها قبل سنوات لم تكن إلا بمفردها وـ وفقاً لما هو معروف ـ لم يطرح عليها أحد قط هذا السؤال بشكل علني أو يُسمعها فحواه ولكن البعض من الزميلات تهامسن مرة بعيداً عنها موضحين واقعها.. كان ذلك لمرة واحدة وانتهى ..وهم الآن لا يبدون اهتماماً واضحاً بمواضيع العلاقات والارتباط خصوصاً أمامها حرصاً على مشاعرها، وبنفس الوقت لا تحاول السيدة جيبلر نفسها أن تتطرق لمواضيع العلاقات والشراكة والحب بين الجنسين لأن تلك المواضيع قد تكون محرجة بالنسبة لها!
عند اقتراب نهاية تلك السنة التي عرفتُ بها السيدة جيبلر اتفقت وزوجتي على أن تكون ضيفتنا في سهرة يتخللها عشاء. هاتفتها بقصد دعوتها وقلت متعمداً للسيدة جيبلر بأن الخيار يعود لها فيما لو أرادت أن يكون برفقتها أيا تشاء.. شكرتني ولم تعلق على عرضي في ان تصطحب معها أحد ما. عندما حضرت، كانت بمفردها. حدثتنا بالكثير، وأوردت معلومات مما كانت قرأته من الكتب مؤخراً، وأَرتنا صوراً من رحلتها قبل الأخيرة إلى جمهورية الدومينيكان التقطتها بأماكن متعددة وبشواطئ تُجمّل الحياة. وبعيد قليل من الساعات قالت جيبلر إن علينا أن نرتب لكي نذهب يوما برفقة بعض إلى السينما، كررتها مبتسمة فقلت لها: "من ناحيتي أترك لك اختيار الفيلم لنشاهده معا.." ثم غادرت.
لم تسمح الفرصة بترتيب موعد للذهاب مع السيدة جيبلر إلى السينما ولكنني التقيتها بفعالية في مكان عام. كان ذلك في داخل المكتبة الوطنية الجديدة ببوتستدامر بلاتس ببيرلين حيث حلّ الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ضيفاً هناك. كانت الناس بالآلاف تتهافت وتتدافع بشكل غير عادي لحضور ما سيقوله أحد كبار مفكري العصر..كانت السيدة جيبلر قد اتخذت لنفسها مبكراً مقعداُ قريبا من المنصة التي سيتكلم من فوقها ديريدا...جلست في الكرسي الثاني من الصف الرابع في الوسط وأما الكرسي الأول بجانب الممر فقد بقي شاغراً حيث وضعت عليه كتاباً وجريدة إيحاءً منها بأنه محجوز. تدافعت الناس أكثر لحضور الفعالية ومع كل واحد دخل ومر بالقرب منها كانت السيدة جيبلر تميل برأسها وتنظر إلى الأعلى...امتلأت القاعة وجلس الناس حتى على المنصة وجاء ديريدا وبدأ يتكلم والقاعة مليئة بالبشر جلوسا ووقوفا...أما المقعد بجانب السيدة جيبلر فقد بقي شاغراً....في طريق عودتنا رحت أستعيد وزوجتي حينها بعضاً مما قاله ديريدا واتضح لي أن هناك الكثير مما فاتني...في البيت سألت: هل هناك أدنى شك أن السيدة جيبلر انتظرت أحدهم؟ وربما حبيب أو صديق قديم عرفت أنه لايضيع مثل تلك الفعاليات توقعته أو ربما عرفت أنه قادم ولكنه لم يأتِ...! ربما لاتزال تفكر به...! فردّت بلهجة توضيحية أو بالأدق "تعليمية": "أنت تتكلم عنها من خلال معرفتك بنفسك وبثقافتك، "نحن الألمان لا نتطلع إلى الوراء..إن كان الماضي مؤلماً نتعلم من دروس ألمه وإن كان مريحاً وليس بإمكاننا استحضار شبيهه نعاني بصمت ودون مشاركة الناس علناً بألمنا..!"
بعد عدة أشهر جاء الروائي والباحث الايطالي أومبيرتو ايكو إلى الجامعة الحرة في برلين ليستلم جائزة ممنوحة له فتراكض المئات كي لاتقوتهم فرصة الاستماع لما سيقوله هذا الكبير. وهناك لقيت السيدة جيبلر من جديد وقد اتخذت مقعداً في الصفوف الخلفية هذه المرة وكما في المرة السابقة كانت تجلس في الكرسي الثاني من الصف وأما الأول فكان محجوزاً بالكتاب والجريدة ! وكانت تنظر في وجوه الداخلين الى القاعة والمارين من قربها، ضاقت القاعة بالحضور وكانت الكراسي مليئة إلا ذلك بجانبها فقد بقي شاغراً، دون اكتراث بحقيقة أن عدد الواقفين كان أكبر من عدد الجالسين! بدأ اومبيرتو أيكو كلامه وشُكره للجامعة ثم انتقل ليقدم ما أعد له حينها من انتقاد للتكنولوجيا والانترنت. انتهت الفعالية وعدت إلى البيت مناقشاً وضع السيدة جيبلر أكثر من نقاشي لما قاله ايكو. قلت ما معناه ان السيدة جيبلر ربما تتوقع أن يأتي فجأة شخص لينظر إليها ويستطلفها من النظرة الأولى وتتحاكى الأعين وترفع السيدة الكتاب والجريدة لمن قد يكون نواة مشروع حبيب! فكان الرد ليس بالأفضل من المرة السابقة: "أنت تتكلم عن الألمان بعقلية من اعتاد على رؤية الأفلام الهندية والعربية ومن شاهد الكثير من الأفلام الأمريكية حيث المفاجأة متوقعة والمعضلة محلولة والانتظار سيكون مثمراً وغالبا وفي اللحظة الأخيرة يأتي المنقذ...!" ورحت أفكر أنني عاجز عن فهم السيدة جيبلر.
بعد أشهر أعلنت الجامعة الحرة ببرلين أنها ستمنح الكاتب الانكليزي، الهندي الأصل، سلمان رشدي شهادة الدكتوراه الفخرية كونه كان تعرض للمضايقات نتيجة فكره وكتابته وبقي تحت الحراسة لفترة طويلة بعد فتوى الخميني بقتله إثر عمله الروائي آيات شيطانية. أسرعت الناس وبالآلاف لترسل معلومات عنها للجامعة للتأكد من هوية الحضور. يوم الاحتفال كانت هناك أجهزة تفتيش دقيقة وكأننا في مطار ونخضع، مع ما نحمله، للتفتيش الدقيق. بعد تجاوز هذه الاجراءات الدقيقة دخلتُ القاعة الأكبر من ذلك المبنى وهناك وجدت السيدة جيبلر تجلس في الوسط هذه المرة وكالعادة فإن المقعد المحازي للممر كان شاغراً وعليه كتاب وجريدة، حييتها باحترام وتمنيت أن أسمع منها أي شيء ولكنها اكتفت بالابتسامة والمجاملة اللطيفة. بعد تقليد رشدي بالدكتوراه الفخرية جاء أستاذي الدكتور مانفرد بفيستر وقدم للسيد رشدي هدية رمزية من البلد وهي "جرة" مليئة بالمكابيس الألمانية. بعدها استلم رشدي المايكروفون وراح يتكلم عن الهند وعن الديمقراطية وعن انكلترا وكرر شكره للجامعة. في هذه الأثناء كانت السيدة جيبلر لاتزال تنتظر والقاعة مليئة بالبشر الا الكرسي بجانبها فقد فرغ منهم ، تماماً كما في المرات السابقة. في البيت رحت أتكلم عن الكرسي دائم الشغور بجانب السيدة جيبلر فأتاني التعليق الأقسى هذه المرة: " أنت تهدر الوقت في التفكير بما لايعنيك...دع المرأة وشأنها...عش ودع غيرك يعيش!" صمتت...
مرت الأشهر والسنين، مات من مات وغاب مت غاب ورحل من رحل ولكن رؤيتي لمشهد الكرسي الفارغ بجانب السيدة جيبلر كانت تتكرر...إنه المشهد القديم الجديد...كنت أتمنى أن أعرف ما كان يدور برأسها و ذلك من باب حبي لمعرفة البشر ولكنني فشلت...تركت برلين وبقي الكرسي شاغراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه