الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية الغرق - الفصل الثاني

محمد مزيد

2016 / 4 / 15
الادب والفن


في صباح اليوم التالي ، عندما فتحت نافذة غرفة النوم ، شاهدت فاتنة تركية تقف تحت مظلة الحافلات ، قلت بصوت حالم ( شلون صباح جميل ) ، فسمعتني زوجتي وهي تتمطى في نومها ( شكرا ) ، عصفوران بحجر واحد ، النساء عبارة عن كلمات ، ومحاسن ليس اكثر من ثلاث كلمات ( محاسن فاتنة قيصري ) اهدأ يا هذا ، لاتتعلق بامرأة اخرى ، انت في عمر لايسمح لك بالعشق ، هكذا يهمس بأذني قريني العاقل ، هذه المرة لن اتبع قريني ، سأسحقه ، فطرت قيمر عرب تركي ، اين قيمر السدة اللذيذ من قيمر الترك ، سيجارة الصباح ، شرفة المطبخ تطل على العمارات الاخرى ، شقة تلك المرأة الشقراء تثير لدّي حساسية مرضية ، تقف زوجتي كظلي تراقب الى ما أنظر ، تتابع بشغف كل حيثياتي ، لديها شهادة حسية عالية بسلوكي التعبان ، فأقول لها دائما دع ظنونك الحسية واتبعي وجدانك ، تضحك ، تعجبني عندما تضحك ، تعتبر كلامي خارج سياق عقلها ، وحين لاتفهمه تلوي بعنقها الى شؤون المطبخ ، غير انني اليوم واجهت نفسي ، كيف اصل الى محاسن ؟ لابد من الرجوع الى محيوس ، الخبير بالتحركات السرية والعلنية للاجئين ، تأخذني دوامة التفكير الى حيث متاهات محاسن ، لابد من معرفة اسباب ودوافع اهتمامها المفاجئ بشخصي المتواضع ، العمر بيني وبينها لا يسمح التعلق بها ، كما لا يمكنني التصديق انها ستتعلق بي ، هل أعتبرتني من كبار السن الاكثر اثارة في نفسها ، هل تريد ان تسخر مني ، لست محط سخرية ، وهذا النوع من التفكير خطير ، لانه سيحبطني ، ولكن يجب معرفة سبب الاهتمام المفاجئ ،اتصور إنها ليست قصة عبارة قالها مستطرق مثلي بحق امرأة عابرة سبيل ، بدأ عقلي يحلل ويفكك الحيثيات ، المرأة الشقراء لم تخرج من نافذتها بعد ، وسيجارة الصباح لم تنته بعد ، ووقوف ظلي يتشمم روحي لم يزل في مكانه ، يا محيوس يجب ان تعرف هل فعلا انها تسأل عني ؟
ليلة البارحة ، اخذني الحنين الى ايام الحب القديمة ، تذكرت تلك الفتاة التي بقيت توجع قلبي الى يومنا وانا اكتب لها الشعر والمناجاة ، هل يمكن لمحاسن ان تمحو اثرها ؟ خرجت المرأة الشقراء ، شعرها اشعث ، نفضت خرقة كبيرة من النافذة ، صدرها بارز من الثوب الوردي الشفاف ، ومن خلفي قالت شريكتي ، ( طلعت حبيبتك ) ضحكت وأنا التفت اليها ( انت حبيبتي ) .. كنت انظر الى الشقراء ، لم تزل اثار النوم بجفنيها ، تنظر الى الاسفل ، لا ادري ما الذي آثار إهتمامها في اسفل عمارتهم ، خروجي الى الشرفة سيكشفني ، وستتوارى عن انظاري ، مثل لعبة كل يوم ، ثم تبدأ هي تراقب شرفتي من خلل ستارة مخرمة ، اجلت شغفي بما يحدث في الاسفل لاستمر بالتمتع بمشاهدة اللوحة التي ترسمها المراة في التفاتها يمينا وشمالا ، رفعت رأسها الى الاعلى وراقبت شرفتي ، لم تحصل على بغيتها ، ستارتنا المخرمة تمنعها من اشباع فضولها ، عادت الى الاسفل .. وبعد قليل ، انسحبت الى داخل شقتها ، فلكزتني زوجتي ، ( متى ستذهب الى التوقيع في الامنيات ) قلت ( بعد قليل ) قالت ( اذهب وحدك .. سنذهب انا وام زينب بعد الظهر ) .. قلت لها ( احب المشي معك في شوارع قيصري الجميلة .. ) ابتسمت ، وتركتني .
×××××××××××
وقفت في الطابور خلف امرأة ايرانية حنطية كثيرا ما تبادلت السلام معها ( شالوم ) بالايراني قلت بالايراني والعربي ( شالوم ..مرحبا ) ..( لواكه زايده منك ‘‘ هكذا يقول لي القرين العاقل ‘‘ )..وانا اشم رائحة الايرانية كثيرة الحركة بمؤخرتها العجيبة التي تثير اضطراب الناظرين سمعت :
- ما الذي حصل بشأن ملفك مع الامم المتحدة ؟
وقوفي في الطابور ، اصبح قريبا من البوابة التي تخص دائرة الامنيات حيث يجري توقيع اللاجئين في سجل لاثبات حضورهم ، لم التفت الى المتحدثة ، لظن إنها لا تقصدني ، لكن تكرار همسها في اذني جعلني التفت الى مصدر الصوت الناعم فوجدتها محاسن مبتسمة ، توقفت عن التفكير ، لا اعرف كيف اجيبها ، بعض الايرانيين والسوريين يتابعوننا بنظرات دبقة فكرهت ذلك ، السؤال لا يعني شيئا ، كأي سؤال تافه لاجراء محادثة ، بقيت انظر الى عينيها ، كنت ارى بوضوح سوادهما ، لاول مرة يعصف بي السواد ويشل حركتي ، لم تلتقط ذاكرتي الاجابة الشافية على السؤال ، ضاع في دهاليز عقلي ، وددت لو انها اعادته ، صوتها اختفى وسط فوضى الاصوات التي كانت تطالبني بالتقدم الى الامام .. انهينا انا وهي التوقيع ( عبارة عن بصمة لاحد اصابعنا ) واخذنا نسير في الشارع الفرعي خلف دائرة الامنيات ، شارع فارغ تماما ، تظلله الاشجار ، حدثتني عن انزعاجها لقطع كل هذه المسافة من شقتها للمجئ الى هنا تسير وحدها ، زوجها لا يود مصاحبتها ، كلماتها متقطعة ، تقول جملة ثم يشرد ذهنها ، او هكذا تصورت ، احببت شرودها ، يعكس مزاجا لا يمكن توقع ردود افعاله ، سرنا بشارع اخر لايتسنى للعراقيين المشي ، الا اذا اراد احدهم تضييع وقته وجهده بالدوران حول الزقاق.
وصلنا الى حديقة كبيرة ، يجلس على مصاطبها العشاق ، جلسنا قبالة اثنين منهما يغوصان في قبلة طويلة ، اشعلت لها سيجارة ، ولي ايضا ، كانت المسافة بيني وبينها اقل من نصف متر .. فقالت عيناها اقترب ، ابتسمت ولم اقترب ، ثم قالتها بصوت ناعس يشبه الامر ، لا أستطيع هضم الاوامر ، حتى لو كانت صادرة من ملكة جمال الكون ، كانت تمص السيجارة وتنفث دخانها برفع حنكها الى الاعلى ، بياض جيدها سحرني ، شلني ، كررت حركة رفع الحنك ، حتى انهارت قواي فتقربت منها ، ( انت سخيف تقول لك اقترب يعني اقترب ) هكذا كان يحدثني قريني المجنون ، لكن الاخر العاقل كان يراقبني ، يمنعني من الدخول في دوامة هذه الفاتنة التي لا اعرف ماذا تريد مني ، يقول لي عماذا تبحث فيها ، ان لها مثل ما للنساء ، وانت تخاف الله ، وما تفعله قد يؤدي الى الزنى ، ضحكت من العاقل وابعدته عني ، اخبرته انني الاطفها ببراءة من اجل اشعال البخور في روحي ، سألتني : لماذا قلت عني فاتنة قيصري امام الجميع ؟ اوضحت لها بأن كل الرجال يميلون الى الجمال ولكن طرقهم في التعبير عنه مختلفة ، انت سيدة الجمال ! هنا بلعت ريقها، طوال حياتي ، لم اجد امرأة ، تحنو علي بنظرة مثل تلك ، وقالت ( وبعد ) ،
هذه ( البعد ) دوختني ، كادت تصرعني ، قالتها بشاعرية ، بشبق ، شعرت كأن الورود تساقطت من السماء وتناثرت حولنا .. صفنت قليلا وهي تنظر الى العاشقين اللذين مازالا يستغرقان بقبلة ساخنة ، وجدتها فرصة سانحة بغياب نظرها عني كي ازحف إليها ، حتى لو سنتمتر واحد ، نجحت في الدنو منها ، باتت المسافة الفاصلة بيننا اقل من شبر ، وكان هذا كافيا لاشم العطر الذي تضعه ، يا له من عطر !!
قالت لي بعد ان قطعنا مسافة طويلة ونحن نسير في الحديقة الكبيرة المؤدية الى ساحة اتاتورك ، ( ما رأيك نحتسي فنجاني قهوة على حسابك ) قريني العاقل بدأ يهمس باذني ( ولك لاتنجرف .. تره هاي البداية ) عندما شاهدت مسجد الساحة العملاق بطوابقه الخمسة ، تصاعد صوت القرين العاقل في اذني ( اهدأ وتعقل .. ارفض الدعوة .. اي عراقي سيراكما سينقل الخبر الى كل العراقيين ، وستعرف زوجتك حتما ، وتعال جيب ليل وخذ عتابه ، شلون تقنع شريكتك بما حصل ) ..بقيت صامتا ،
لكنها بادرت وحسمت ترددي في الدخول قبلي الى المقهى ، اختارت الجلوس في الصالة المعتمة ذات الزجاج المظلل الذي يظهر حركة المارة لمن يجلس في الداخل ، جلسنا عند طاولة بعيدة عن الباب واعطت ظهرها له، عيناها قلقتان ، كانت تنظر الى جميع الجهات ، كأنها تستكشف زبائن الصالة المعتمة ، جلوسنا هنا ، يعني لي الكثير ، جاءت النادلة ذات البنطلون الضيق ، رطنت معها فعرفت انها طلبت فنجاني قهوة ، انتقل قلق عينيها الى قدميها ويديها اذ بدأت تحركهما على نحو آثار فضولي وشغفي .. ( هذا المكان لا يرتاده العراقيون فاطمئني .. ) ، ابتسمت تلك الابتسامة المشعة ( كيف عرفت ) لاحظت ان الجرح على خدها الايمن لايتسبب عندي في تغيير صورة الجمال الساحر في وجهها ، ( انا مدمن على هذه المقهى ، كما ان سعر الشاي أو القهوة بليرتين ونصف ، اغلى سعرا من مقاه تبيع الشاي بليرة واحدة ، ولا يدفع اللاجئون العراقيون هنا هكذا مبلغ لمجرد الجلوس والفضول ) .. قالت بشاعرية ( احب صوتك ) ..انتقلت عدوى قلقها الي ، لدينا مليون موضوع مشترك للحوار ، مشكلتي من اين ابدأ ، تذكرت إنها في الصيف الفائت ، كانت هي التي تعرفت علينا انا وزوجتي في سوق الخميس القريب من مبنى مكتب منظمة اللاجئين الانسانية ، افتتحت حديثي بذكرى ذلك اليوم ( هل تتذكرين كيف تعارفنا ؟ ) ، كانت تنظر الى تمثال اتاتورك الشاهق يمتطي الحصان ، ترتشف قهوتها ببطء ، ولما سألتها ركزت نظرها بعيني ، شاهدت سواد عينيها ،
- اذكر ، كنتما مثل الضائعين في السوق ..
شفتها السفلى تبللت ، فاصبحت الحمرة لامعة :
- نعم كنا ضائعان ..
ضحكت بانطلاق ، بصوت كمثل المطر حين يتكسر على النوافذ ..
- انا الذي تحارشت بكما !
لا اعرف كيف اداري الهسهسة التي اخذت تتسرب الى تلك المنطقة المحصورة بين فخذي ، تمنيت القيام بغزو غير منظم في عقر حواسها الدفينة .. ( قريني المجنون بدأ يحرضني على التفكير في الحيز الجمالي ، ) ،
قلت لها :
- كيف ؟ اننا تقابلنا وجها لوجه .. ولم نكن نتحدث انا وزوجتي ..
مدت يدها الى علبة سجائري وسحبت واحدة ، ثم وضعتها بين شفتيها من دون اشعالها ، تذكرت مشهد مولينا وهي تستخرج سيجارتها كيف تلهفت الايدي الى اشعالها بقداحات اصحابها ، اردت اشعالها فرفضت ..
- احب امصها بدون دخان ..
لن اخبركم ماذا قال لي ( قريني المجنون ) حين رنت بعقلي كلمة امصها ، ، يبدو إنها كانت تعرف كيف تضرب على اوتاري الحساسة ، ستشل بها ما تبقى لي من عمري ولكن هذا ( قريني العاقل يحذرني منها ، يقول اهرب ، انك تكاد تقع في شراكها ، انت احمق كبير لا تفهم عالم النساء ، زوجتك اذا سمعت بجنونك ، سوف تحجز على مقعد اول طائرة ذاهبة الى بغداد ، ) .. اوقفت التداعيات في ذهني بشأن مص السيجارة ، وذهبت الى عبارة ( انا تحارشت بكما ) لافكك المعنى فلم اهتد إليه، سالتها :
- كيف تحرشت بنا ؟
اخذت القداحة وولعت سيجارتها ..
- كنت اسير خلفكما ، كانت زوجتك تتحدث معك ، وانت لم تبال بها، تقول لك شنو اسم الطماطة بالتركي ، شنو اسم البطاطة ، شنو اسم الخيار ، وانت ساكت ، دفعني الفضول الى الاصغاء ، وهي تحاول استدراجك للكلام ، ( خمسة اطنان من الكلام تحدثت وانت صامت ) كنت ساكتا بطريقة اذهلتني ، في الحقيقة احببت صمتك ، صمتك لوعني كثيرا ، كنت تنظر الى خارج السوق ،لا اعرف الى ماذا تنظر ، ربما الى الفضاء ، ربما الى الافق البرتقالي ، حتى استطعت ان اسمع صوتك وانت تهمس لها بصوتك هذا الذي احببته ايضا ،قلت لها : محلولة ، اومأي الى الخضار الذي تريدينه ونظرك الى البائع ، بدون قول الاسم، بعد سماع صوتك ، هل تعرف ماذا فعلت ، قررت في نفسي ،انني يجب ان اتحدث معك ، قلت يجب ان اسمع صوته حتى لو عبرت زوجته عن غيرتها ونفورها مني ، فدرت من الجهة الاخرى وتقابلنا ..
في تلك الاثناء غطت وجهها بيديها بشكل مفاجئ ، التفت الى جهة التي اثارت انتباهها فرأيت محيوس مع سنان يسيران من جهة المترو باتجاه دكاكين السمك ، ضحكت ، واخبرتها ( انك ترينهما ولا احد يراك) ، عادت الى وضعها الطبيعي ، وقد احمر وجهها ، ( هذا محيوس شل حالي ، يتابعني اين ما ذهبت ) :
- لماذا اردت التحدث معي في ذلك اليوم ؟
قالت ضاحكة :
- حبا باثارة زوجتك .
قلت بعد ان رشفت اخر ما تبقى من القهوة :
- لماذا تريدين اثارتها ؟
عدلت خصلة سقطت على حاجبها الايمن ، ثم سحبت نفسا عميقا ، وقالت بجدية :
- لا ادري حقا ..
( قريني المجنون يقول إنك مازلت لم تتقدم خطوة الى الامام )
- ولكنني ادري انا !
ابتسمت :
- ماذا تدري ؟
قربت اصابعي من يدها التي كانت تعبث بها ..
- ادري انك في حالة انهيار مع السكير زوجك .
اطلقت حسرة قوية
- زوجي !!.. هل تعتبرني لدي زوج مثل الاوادم .. أم رعد احسن مني ... يومية ينام معها . حياتها حلوة ، ويمكن زوجتك حياتها حلوة معك ، ونسرين حياتها حلوة ..
فوجئت بجرأتها في طرح النوم بهذا الشكل المباشر .. ( قريني يقول تقدمت هي الف خطوة اليك ، فتحرك يا هذا .. خايب شمالك ) ..
لامست اصابعها ، ثم سحبتهما موهما اياها بأني لم اقصد ، وسحبت يديها ووضعتهما مضمومتين على وسطها ، بالضبط قرب الملتقى ( شكد غشيم انت .. هكذا يقول القرين المجنون ) ..
صمتت طويلا وهي تنظر الى المارة ، حتى مللت من صمتها ، غمامة من الحزن هيمنت فوق رأسها ، ضيعتني في غشاوة غموضها ، ليس لدي القدرة الان على التحليل ، كنت انظر الى اصابعها المضمومة الى اسفل المنضدة ، ( العاقل يقول .. هيا اختم اللقاء ولا تطولها ، الى هنا كافي ) و ( والمجنون يقول ، استثمر هفوتها بالحديث عن النوم ) .. بقينا هكذا حتى صاح مؤذن المسجد ( الله اكبر ) .. فقلت لها لنذهب ، يجب نفترق عند باب المقهى .
××××××××








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة