الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلم زنديق

رفيق عبد الكريم الخطابي

2016 / 4 / 16
كتابات ساخرة


قلم زنديق :



ولأني أكتب كثيرا، وأعشق ممارسة الكتابة، فإني أحرص ألا تكون جيوبي خالية من الأقلام ، قلم جاف واحد على الأقل. حتى أني امتنعت في يوم من الأيام عن ارتداء سروال معين ، كان يروق لي كثيرا ، كونه كان متخصصا في تكسير أقلامي ، كلما جلست على مقعد صلب نوعا ما .
ولأني حريص على حمل الأقلام معي دوما، وأعتبرها جزءا /وسيلة ضمن عملية الكتابة، فإني أكثر من اقتنائها، وفي بعض الأحيان أكثر من حاجتي.
كان يوما ربيعيا جميلا، استيقظت باكرا كالمعتاد تاركا من في البيت نيام. لبست لباسي الخاص بيوم الأحد أو "عدَّة الشغل" كما نسميها ؛ قميص وسروال و( بيرية Beret) على الرأس والنظارات طبعا إظافة للحذاء الأسود اللامع وكتاب ومجموعة أوراق ، قلم أو قلمين والحاسوب في الأخير. توجهت إلى المقهى التي لا أجلس فيها إلا يوم الأحد ؛ يوم عطلتي الأسبوعية الوحيد، وهكذا أمارس دوري كمثقف وهوايتي ككاتب.
جلست بالطاولة المعتادة ، وجيء لي بكأس القهوة السوداء المعتاد، وليكتمل المشهد نهائيا؛ بدات بتصفح إحدى جرائد المقهى كما العادة، أتصفحها لمدة نصف ساعة ، أقرأ العناوين وناذرا ما أقرأ مقالا كاملا ، ولا أعرف لحدود الساعة سببا لتصفح جرائد مثل جرائدنا، ما دمت أنسى مأ أقرأه فيها مباشرة بعد وضعها..ربما هو إدمان من نوع آخر..
وأنا على هذه الحال من صفاء الذهن وراحة البال، مر أمامي بائع متجول يحمل أقلاما جميلة ومحافظ للنقود والبطائق ..وغيرها. إشتريت منه قلما أعجبني كثيرا ب 15 دراهم ما يعادل دولارين تقريبا، وهو ثمن محترم لأن الأقلام التي أستعملها عادة لا يتعدى ثمنها درهم ونصف . ومن هذه النقطة سيتغير مسار يوم عطلتي الأسبوعي رأسا على عقب ، بل لربما سيتغير كل مسار حياتي .
بعد الإنتهاء من تصفح الجريدة ، نثرت أمامي أوراقي البيضاء ،مصرا على كتابة شيء مميز يتناسب مع الثمن الذي دفعته مقابل القلم، ظنا مني أن قلما مميزا كفيل بكتابة موضوع مميز ، ولم اعرف مدى سداجتي أو بالأحرى انتهازيتي إلا فيما بعد.
بدأت أفكر في موضوع للكتابة، جالت بخاطري الكثير من المواضيع لكنني لم أحسم أمر اختياري، لذلك قلت مع نفسي فلأبدأ وسوف تتناسل الكلمات وتتوالد الأفكار تباعا. إلا أن كل تكهناتي ذهبت أدراج الرياح، فقد امتنع القلم عن الكتابة.
جربت وجربت دون جدوى، حين أخربش خطوطا بلا معنى يسيل مداده مدرارا وسلسا، وحين أهم بكتابة حرف أو كلمة ذات مغزى يمتنع القلم ويكف عني مداده. وأنا في حيرة من أمري، قلت مع نفسي وأنا ممسك بالقلم فوق إحدى الوريقات :
ـ أي صباح هذا وأي نحس هذا؟

كتب القلم دون رغبة مني ساخرا:

ـ أراك تؤمن بالنحس والفال؟ وأنت من أفرغت أقلاما قبلي محاربا هذا النوع من التفكير.

أجبته فاغرا فمي: هل انت مسلط علي؟

ـ وكيف أسلط عليك وأنت من اشتريتني بإرادتك ودفعت ثمني من مالك؟

ـ قلت له :" لم أر في حياتي قلما يتمرد على صاحبه ويرفض الكتابة كما فعلت أنت؟"

ـ قال:" وأنا لم أر شخصا مزدوج بل منفصم الشخصية مثلك ؟"

ـ قلت :" كيف؟ أراك تشتمني يا إبن....؟"

ـ قال:" العفو ، أنا لا أشتمك ، أنا أفضحك !"

ـ قلت:" أفصح؟ ماذا تريد أن تقول؟ أفرغ ما جعبتك وهات ما عندك! لم يبق سوى قلم جاف كي يحقد علي ويهاجمني هو الآخر ..هزلت؟!"

ـ قال :" سأعلمك درسا لن تنساه، كل هيلمانك وكل عجرفتك ، وكل من هو مثلك ، لا يساوي جناح بعوضة من دوني ورفاقي..بل إن معاملكم وكل جبروتكم قد يتهاوى إن عمت انتفاضتي كل أقراني..أما الآن فالمعركة بيني وبينك وسأحرمك من متعتك ريثما نحرمكم من استبدادكم ، لن أكون أداة لمتعك".

ـ قلت :" أنا اشتريتك بثمن غال، على الرغم من امتلاكي لقلم جيد غيرك، وأنقذتك من يد البائع الذي كان يحملك ويتجول بك في كل مكان معرضا إياك لقيض الشمس، وأنا من سيضعك على صدري، داخل جيب قميصي ، وهذا شرف لك ما بعده شرف، لأنك ستستمتع بنبضات قلبي، بدلا من أن أضعك في الجيب الخلفي لسروالي، مع كل مخاطر الروائح التي قد تضطر لشمها...أفبعد كل هذه التضحيات تتمرد علي، أيها القلم الزنديق، وترفض تحويل مواقفي وما ستجود به قريحتي إلى حروف على الورق تنير درب التائهين وتشفي أسقام العقول وتروي عطش القلوب والأدمغة؟"

ـ رد علي الزنديق قائلا:" من يدري، لربما تكون قد حرمتني من مشتر آخر، أكثر نظافة منك، على الأقل يغسل يديه بعد الأكل وقبل ممارسة طقس الكتابة المقدس. أما أنت ، فما أعانيه الآن مع رائحة زيت الزيتون الذي لا شك أنه كان أهم ما في فطورك لا يقل نتانة مما سأعانيه إن وضعت في الجيب الخلفي لسروالك. ومن يدري، أن من كان سيقتنيني، قد يكون قميصه يفوح بأغلى أنواع العطور، بدلا من رائحة عرق إبطك المحترم ! وكيف لا تدري أن السجون كلها سجون لا فرق بين قفص من ذهب وآخر من خشب؟ وأنت الكاتب والأديب والمفكر يا حسرتي!"

صمت الزنديق قليلا ثم أردف قائلا:" ..ثم إن كان بمبرر تضحياتك المزعومة اتجاهي ، ستفرض علي أن اكون بوقا لك دون أن تأخذ رأيي، فالأجدر أن تكف عن الكتابة فورا وابحث عن تسلية أخرى.. فلا كتابة بدون عشق للحرية وعبادة لها ولا تنفس إلا بنفسها. فكيف لعاشق / كاتب أن يرفض تمرد قلمه بدعوى إمتلاكه تارة وتضحياته معه تارة أخرى؟! كيف تدعو إلى الحرية وتدعيها وانت تحاول استعبادي وتريد توجيهي على هواك؟ إنها لكارثة إن كنت تفعل ما فعلته معي مع أبنائك ايضا ، فلعمري كتبت عليكم العبودية إلى يوم يبعثون ويوم لا يبعثون!...

ـ وأنا أحاول تغيير الموضوع وتشتيت إنتباهه قلت له فيما يشبه الاستعطاف:" لقد خلقت الأقلام لإسعاد البشر أو على أقل تقدير جزء من البشر، إن دوركم في هذه الحياة بحسب كل الكتب القديمة المقدس منها والمدنس والأعراف المحلية والدولية هو تسطير رغباتنا على الورق ..والدليل : نون وأنت وما يسطرون، أولست بقارئ ..فكيف إذن تتجرأ تمردا على قدرك؟"

ـ رد علي الزنديق ضاحكا أو مستهزئا لم أعد أميز شيئا:" أنا مخلوق! ..ههههه..عجبا ! أولا، إن كنت تعتقد بأنك مخلوق فذاك شأنك، ولا شأن لي بمعتقداتك، وما دام أنك عاجز عن استيعاب تاريخك وكيفية ظهورك أو للدقة تطورك، فعلى العكس منك أنا أعرف تاريخ تصنيعي وكل المواد التي تشكلني، ولهذا أنا لست مخلوقا .. أنا بضاعة.. لقد قمتم بتصنيعي من أجل جني الأرباح عبر مبادلتي ببضائع أخرى ومن أجل استعمالاتكم المختلفة ..وبالتالي فلا غنى لكم عني.. ثم ثانيا، لقد عملتم أيها البشر على نقل كل أمراضكم إلينا، فقد زرعتم الفرقة بيننا نحن معشر الأقلام وعلى نفس نمط أوهامكم، فأصبح منا الذهبي الذي لا تكتب به إلا صفوتكم ، وأصبح منا القلم الحقير الذي لا يستعمل إلا من طرف أطفالكم البؤساء وفي أغلب الأحيان يكون مصيره القضم بأسنانهم، وهذا قلم سويسري وذاك صيني وهذا عربي وذاك فارسي، لقد قسمتم بني جلدتي إلى طوائف وملل ونحل وقبائل على نفس نمط انقساماتكم العبثية والحقيرة. إننا كأقلام بتنا نتحسر ونترحم على أيام كنا نعرف فيها فرقا واحدا فقط بيننا : أقلام فقيرة وللفقراء منكم ، وأقلام ميسورة للأغنياء اللصوص منكم. الأدهى من كل هذا أن القلم الموجود بالجيب الخلفي لسروالك من المستحيل أن يتضامن معي ، ويرفض بدوره الانصياع لك ويتمرد عليك كما فعلت ..إنه لا يعي بعد إنتماءه الطبقي ، مثلك بالضبط ، أو لربما كانت رائحة مؤخرتك أقوى من بخور مشعوذيكم...".

عند هذه اللحظة بلغ بي الغضب أشده ، فصحت في وجهه: " ألا تخاف من أن أكسرك الآن أيها القلم الزنديق؟ ألا تستحي وأنت تضيع نصف يومي وهو كل نصيبي كعطلة خلال أسبوع من الشقاء ، أليس لك ضمير يؤنبك ولا مبادئ توجهك وأنت تحرمني من متعتي الوحيدة : الكتابة!".

أجابني ببرودة قاتلة :" تهديدك ووعيدك لي ، لن يحل مشكلتك، فأنا مجرد قلم ، إن كسرت أو بقيت في جيبك/ سجنك أم استعبدني غيرك أو رميتني في أقرب قمامة ..الأمر سيان عندي ..الأهم أنك أعجز من أن تكسر إرادتي . فلن أساهم في نفاقك ولن أشارك في تكريس أوهامك ولن ألطف من تناقضاتك مع نفسك قبل غيرك ولن أكون بالتالي مخدرا ولا مهدئا لعقدك ولا مفرجا عن مكبوتاتك ".
لم أتمالك نفسي أمام استفزازاته المتكررة وعنفه اللفظي ووقاحته الفاجرة حتى وجدت نفسي أكسره وأرميه بعيدا عني..وبعدها افرجت عن القلم الآخر الذي كان مخبئا بالجيب الخلفي من سروالي لأحاول استئناف عملي. لكن بمجرد ما نظرت إلى الورقة التي بواسطتها كان الزنديق يحاورني ، حتى ذهلت لما وجدت نصا مكتوبا بخط زاهي وجميل جدا لا علاقة له بخطي هو أشبه بالوصية : " أنا القلم المتمرد ، لست بزنديق ، أنا الرافض للاسترزاق والرافض أن أكون قلما مأجورا.. أعرف أنك أعجز من أن تقارعني الفكرة بالفكرة ..لذلك كنت متأكدا من أنك ستقوم بإعدامي حتما .. طلب أخير: رحمة بالقراء وبالأقلام ، أتوسل إليك ، كما لم يسبق لي أن توسلت لأحد، : أن تبتعد عن الكتابة .. وأرجو أن أدفن بجوار "رأس المال" فقد كتب هذا الكتاب بواسطة أحد أجدادي ولك أن تختار أي رف وفي أي مكتبة لأني واثق من أنك لم يسبق لك ان قرأته " إمضاء : القلم المتمرد.


ملاحظة هي بمثابة مفتاح للنص:

ولأن الشهيد " الزنديق" قد علمني من الدروس ما لا يمكن محوه ، وأول تلك الدروس الصراحة والصدق حتى لو كانا جارحين، فإني سأصارحكم عن مصدر فكرة المقال أعلاه، برغم ما قد يترتب عن ذلك من سوء فهم وتأويل، فسأسرد عليكم الأمر ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، كما يقول التجار. الفكرة جاءتني ليلا عندما كنت داخل المرحاض بمكان كدحي، بعد نزع سروالي لمست قلما في الجيب الخلفي للسروال، هذا القلم لم أستعمله إلا مرة أو مرتين طيلة 3 أشهر ، بالمقابل هناك قلم آخر من نفس نوع الأول تماما بالجيب العلوي من سترة العمل ، أستعمله باستمرار حتى أنه أصبح يكتب بشكل متقطع. فتساءلت مع نفسي باستغراب،لماذا أجهد يداي مع هذا القلم العليل وأضعه في صدري بينما الآخر الجيد لا يستعمل ومتروك بجيب السروال. فكان الحوار الذي سردته عليكم أعلاه.


صدق من سمى المراحيض ببيوت الراحة:

أخيرا إن كانت قوائم او تصنيفات الكتاب واضحة إلى حد ما ، مابين كاتب ملتزم مبدئي وكاتب مأجور وآخرين مرتزقة ومتطفلين ، أتمنى ألا تنضاف قائمة جديدة أخرى، قد تزرع البلبلة، خاصة بكتاب المراحيض.
مع كامل شكري على تفهمكم ، والنضال ختام.



رفيق عبد الكريم الخطابي : البيضاء : 25 مارس 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائعه
Almousawi A. S ( 2016 / 4 / 16 - 14:35 )
لقد قدست كل الاماكن بوجودك
رائعه هي الحقيقه والصراحه
حتى ان تصور البعض انها كالحه او عاريه
وليس المهم مكانك او وضعك
فها انت الجميل المتزن الواعي انى كنت
كان الجواهري يكتب غزيرا
ويستخدم احيانا ورق السكائر مضطرا
لغرض احترام ميلاد ووقت الفكره
ولا اخفيك سرا
ان شمران الياسري كتب مقالا ضد المسلكيين ومتسولي الحقوق
فعاتبوه ان يكون قلمه نظيفا فاجابهم
كان قلمي نظيفا عندما طلب مني الجلاد ان العن قائدكم تحريريا فافرغته من الحبر تحديا
فما اروع الاقلام المتحديه حتى عندما لا تكتب


2 - أنت الأروع رفيقي
رفيق عبد الكريم الخطابي ( 2016 / 4 / 17 - 16:16 )
تحياتي العالية رفيقي العزيز الموسوي ..دام الود والاحترام والاعتزاز بيننا والصدق والوضوح والمبدئية والثبات والصلابة ديدننا ورأس المال رأسمالنا والطبقة العاملة بوصلة وموقع لنا ..تحياتنا رفيقي

اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي