الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو أنها كانت شظية

شهربان معدي

2016 / 4 / 30
ملف 1 ايار - ماي يوم العمال العالمي 2016 - التطور والتغييرات في بنية الطبقة العاملة وأساليب النضال في ظل النظام الرأسمالي والعولمة


لو أنها كانت شظية!؟...

الضوء لا ينكسر بالصدفة، كذلك النفس البشرية!
لم يثنه صقيع كوانين القارص، ولا زخات المطر المتتالية، عن تسلق صقالة العمار العالية، بخفة ابن عشرين وبعزمٍ لا يعرف الكلال! ليقبض على شاكوشه الثقيل ويبدأ بتثبيت الألواح الخشبية، برفقة عاملين إضافيين تسللا معه لداخل الخط الأخضر، للبحث عن لقمة العيش الكريم! فبعد ساعات قليلة، ستتوافد خلاّطات الباطون الجاهز، لتصب سطح العمارة التي تعاون الثلاثة في بناءها...

ولم يستطع التحكم بالمسمار الفولاذيّ الحاد الذي تملّص من ضربة شاكوشه الثقيل، ليستقر في عينه اليمنى، التي بدأ تنزف منها الدماء بغزارة، كنافورة الماء...

هبط عن الصقالة العالية، وهو يغطي عينه النازفة بقبعته الملطخة بالإسمنت اليابس، وكان يفرفر كدجاجة مذبوحة ويصيح: عيني، لقد انطفأت عيني!

واتصل زميلاه المذعورين، برب عملهم الذي كان يعاملهم كأصدقاء، وكان في حيرة من أمره! فهو لا يستطيع نقل المُصاب للمستشفى، ولا حتى لأية عيادةـ محلية! لأن الأخير لا يملك تصريحا للعمل في اسرائيل، مما يعرضهما الاثنين لعقوبة السجن ودفع غرامة مالية...

وبسرعة البرق، نقله لإحدى الأطباء المحلين، الذي استقبله بحذرٍ شديد، تخالطه شفقة كبيرة، بعد أن تبيّن له الأذى الكبير الذي ألحقه المسمار اللعين بعين العامل المسكين الذي كان يتلوّى من شدة الألم، وقد شدد على ضرورة نقله لأقرب مستشفى، وبسرعة قصوى، خوفا من حدوث مُضاعفات قد تؤدي إلى تلف عينه المُصابة،

رجع "حامد" إلى غرفته الحقيرة الباردة المسكونة بالفقر والقهر، والتي كان يدلف سقفها طيلة فصل الشتاء، واستلقى على فراشه الخشن، مؤملا نفسه أن رب عمله سيتدبر له شاحنة، أو مركبة، تهرّبه لتلقي العلاج في إحدى مستشفيات بلاده الحكومية!

تبا لهذه الحياة القاسية! ولعثرات الزمن التي تُفاجئنا بثقلها وضرباتها الموجعة! وهو الذي بذل جُهدا جهيدا، لكي ينهي هذه العمارة المنحوسة، ليعود لدياره بغير رجعة، وليُنهي سنته الأخيرة في دراسة المحاماة، بعد أن توقف عن الدراسة منذ سنتين، بسبب عدم توفر المال، وكان مزمعا أن يمارس عمل جديد، يُغّنيه عن هذه الحياة الشّاقة المتأرجحة بين الحياة والموت!

وهو يفقه جيّدا، ما معنى أن تكون عامل فلسطيني، تسلل لبلاد لا ترحب به! وبدون تصريح!
أن تكون شفّافا كالماء، بدون لونٍ ورائحة وطعم! لكي لا يقبضوا عليك، وعلى عتبات الليل، تنام...
في العراء، وتحت الشجر، وفي المخازن والبيوت المهجورة، تحت الأرض، فوق الأرض، المهم أن تجد لك مخبئاً، لا يدركه حتى الذباب الأزرق!
وأن ترضى بأي طعام يقدم لك، وأن تكون أعمى وأخرس وأطرش، وتعمل ما يُطلب منك، أعجبك أم لم يعجبك!!
وحتى لو تعرضت للموت، فلا أحد يسأل عنه، أو يعوّض ذويك بحفنة نقود، فأنت مُخالف للقانون، تسللت بدون تصريح ولا يحق لك شيء! وثمة نقابة عمالية مسؤولة عنك، وعن مصيرك المجهول!

تبا! لهذه الحياة! هتف حامد في سريرته... وهل بهذه السهولة يستطيع المرء الحصول على تصريح عمل في إسرائيل؟
يجب أن يكون سجلّه نظيف، ناصع كبياض الّثلج، وأن يكون متزوجا وأبا لكومة أولاد، وأن يكون حسن السّلوك، وأن ينتظر في الطابور لساعات طويلة، كي يسمح له بالدخول لإسرائيل، وأن يتحمل الاختناق والضغط في الصيف والبرد القارص في الشتاء! وعذاب التفتيش الدقيق...

وهو حتما، سجلّه نظيف، وقط لم يبحث عن مشاكل! ولم يطلب صدقة من أحدهم، وكل ما يبتغيه من غربته وعمله المنهك، الحصول على المال، والعودة إلى مقاعد جامعته، التي تركها منذ سنتين...
وهو ليس، رقما مثل هؤلاء الأرقام التي تنتظر في الطابور، هو شابٌ مثقفٌ طموح، يريد أن ينهي دراسته بأسرع وقت، ويباشر بممارسة مهنة المحاماة، لكي يدافع عن هؤلاء العمال البسطاء...

وأي قلب لا يرحم شُبانا في مقتبل العمر، تسللوا خفية لبلاد لا ترغب بهم، وبوسائل غير شرعية، ولطالما سافروا في صناديق السيارات الخلفية، أو حشروا أنفسهم في شاحنات نقل البيض والخضار، كسمك السردين المرصوص بإتقان! وطالما زاولوا أعمال شاقة في الزّراعة والبناء، واشتغلوا في ظل ظروف عمل مزرية، من أجل نيل لقمة العيش الكريم ...

ومرت أيامٍ قليلة، وحامد طريح الفراش ينتظر سيارة تقله لدياره، وكان وحيدا يكابد آلامه، لا أم تمسد شعره، ولا أخت تناوله جرعة دواء، ولا حبيبة تواسيه بكلمة رجاء!
واختلطت عليه المشاعر، وبدأ يهذي بعد أن أشتد عليه الألم، فلم يعد بوسعه إدراك، أفول شمسٍ أم بزوغ فجر...

وتذكر والده المرحوم، الذي طُرد من عمله، والده كان إنسانا شريفا، رغم جريمته الصغيرة، التي ذاق من أجلها الأمرين، الطرد من العمل، والاحتقار من قبل المجتمع، يا له من مجتمع ملوّن كالحرباء! يحاسب العامل البسيط على هفوة صغيرة، ولا يحاسب هؤلاء الأغنياء والرأسماليون الذين أصيبوا بتخمة الغنى، والذين يقتاتون بدماء عُمالهم، ويسرقون كل ما يسرقه الفقراء، بصفقة واحدة! وحتما لولا شحّهم واستبدادهم برؤوس الأموال، ومنعها عن الفقراء، لما كان سارق ولا قاتل، ولا حتى شريد واحد في العالم!

بعد يومين من تلك الحادثة المؤلمة، عاد الشاب إلى دياره، خالي الوفاض، مهيض الجناح...يحمل آماله الموءودة، التي سربلها القنوط...

وفي الطرف الآخر، أستقبله أخيه الصغير، ووالدته التي كانت تبكي بحرقة، وكأنها تلبس حزن جميع الأنبياء...وسافر الثلاثة لأقرب مستشفى حكومي...
وعندما دلف حامدا، لغرفة الاستقبال وجد طابورا طويلا، ينتظر الطبيب المختصّ بأمراض العيون!

وفوجئ عندما أقبل نحوه، رجلاً كهلا في الستينات من عمره، وكان يلبس بزة رسمية، وتبدو عليه حياة الرفاهية، وسرعان ما تعرّف عليه حامد، فهو صاحب المصنع الذي كان يعمل فيه والده، وهو من هؤلاء الرجال الذين يعدون أنفسهم من سادة المجتمع، بل هو رجلا من أغوال الرأسمالية، الذين أعمتهم الأثرة وحب النفس، عن آلاف العمال الذين يُعانون يوميا من الفقر والقهر والمطاردة، بينما هم يحتفظون بأموالهم في بنوك الدول الغربية، بدل أن يستثمرونها في بناء ورشات عمل ومصانع، تستوعب هؤلاء العمال، الذين يستجدون الرحمة واللقمة في بلاد لا تعترف بحقوقهم ويرزحون تحت رحمتها!

هذا الرجل الذي كان لا يستقر لسانه في حلقه، ويثرثر كالغراب مع كل الحاضرين، نظر إلى عين حامد المصابة والمضمدة بإحكام وسأله بفضولٍ:

-أهي رصاصة مطاطية، أم شظية يا ولد؟
أجابه حامد بامتعاض:
-أنها إصابة عمل يا عمي.
-وهل أصبت هُنا أم هُناك؟
-قصدك في اسرائيل يا عمي؟
-نعم يا ولد، هُناك يعني إسرائيل!
- أصبت هُناك يا عمي...
-وهل كان معك تصريحا؟
-لا، أجابه حامد وهو ينظر إلى الأرض...
-حظك سيء يا ولد! لن تظفر بأي تعويضا...
لا من هُنا ولا من هُناك!
نظر إليه حامد مستنكرا، بينما تابع الأخير متشدقا:
لو أنها كانت شظية، أو رصاصة مطاطية...
لتدبرت لك "تعويضا دسما"، من هُنا، وهُناك!...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى