الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في فلسفة الفن

هشام حمدي

2016 / 5 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سؤال الوجود الصعب الذي نعرفه ونسمع به بسيط التكوين وسهل التركيب عميق المعنى بعيد الآفاق يبحث في جوهر الأمر وكنه الشيء الممتد في بحر الغيب، هناك حيث الأشياء والأمور لا تخضع لحسابات العلم وإجراءاته التجريبية.
الفن هو تلمس الخيوط الغامضة المنسوجة في أعماق الإنسان ذلك المكان الذي تكسوه دياجير الظلمة، حيث تجعل العقل يصمت يسكت يقف حائرا لا يتكلم، الفن هو أن نخلق ما ليس بالموجود، أن نجمع كل لغات القلب والعقل وأن نكتب فيها وبها ما هو خارج عن النفس وما ليس في النفس، وما هو خارج عن العالم وليس فيه. إنه مقدس بنحو ما وفوق عقلي، إنه النشاط الغامض والبحث عن المستحيل والمحاولة اليائسة البائسة للإمساك بالنار بالروح بجوهر الحياة.
يرى البعض أن الدين والفن يتداخلان إلى حد التماهي نظرا لاشتراكهما في قضية واحدة هي قضية الإلهام الإنساني المعبر عنها بطرق مختلفة، فالدين يؤكد على الخلود والمطلق وتؤكد الأخلاق على الخير والحرية ويؤكد الفن على الإنسان والخلق، وهذه الزوايا للمقاربة ليست إلا تمظهرات مختلفة لحقيقة جوهرية جوانية واحدة يتم التعبير عنها بلغة قد تكون قاصرة في إيصال المعاني لكنها اللغة الوحيدة المتاحة.
التاريخ الفني في التراث العربي الإسلامي من جهته قدم إسهامات حضارية مبهرة في مجال الآداب والفنون والعمارة، كما قدم عبر تياراته الصوفية جملة مدهشة من فنون الصوت والأداء والتعبير بمختلف أركان الروح والجسد. هذا التاريخ المشترك والمتداخل بين الروحي والفني اصطدم في الآونة الأخيرة برؤية ضيقة ومغايرة، ترى تباينا بين الأمرين وتنظر لاختلاف بينهما في جذر البدايات والغايات وترى أن الفن أداة متاحة حين يخدم الرؤية الإيديولوجية للمؤسسة الحزبية بمعزل عن تأصيل مفهوم الفن بما هو إبداع إنساني فيه الكثير من الفردية والذاتية والحس الداخلي بالعالم الخارجي والحياة، وتتجاهل هذه الرؤية حقيقة المصدر الديني للإبداع الفني وتحاول أن تبرز وكأن الإبداع نقيض الحرية في الدين، وهذا ما لا تقره شواهد التاريخ، وإذا كان الإسلام قد اهتم بالتربية الفنية والجمالية في الإنسان ليدوم سعيه لاكتشاف ما أودعه الله من جمال في الكون وليعيد إنتاج مظاهر الزينة في الوجود، فلماذا عرفت العلاقة بين بعض المنتسبين للتيار المتأسلم من فقهاء وعلماء وخطباء وبين أهل الفن كثيرا من التشنج عبر التاريخ القريب والتي تثور وتتطور بين فينة والأخرى؟ وما هو أصل الخصومة في منع عمل إبداعي كرواية أو ديوان شعر أو هدم تمثال أو حظر فيلم أو حجب مشهد سينمائي أو دعوة لوقف ومنع مهرجان وطني أصبح ذا صيت دولي؟ ولماذا إصرار البعض على تحريم الغناء ومحاربة الموسيقى والعداء لغيرهما من الفنون؟
يعرف أبقراط الفن بأنه حياة قصيرة لها عمر طويل، ويقول أندريه جيد عن الفن بأنه يعيش في القيود ويموت في الحرية، وأما الرسام بابلو بيكاسو فيعرف الفن بأنه يمسح عن الروح غبار شقاء الحياة اليومية ويضيف بأن الجميع يعرف أن الفن ليس الحقيقة إنما هو عبارة عن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة ويرى برطولد بريشت الفن بأنه مرآة غير عاكسة للواقع بل مطرقة تمكننا من تشكيل الحقيقة، ، ويعرفه عميد الأدب العربي طه حسين بأنه شعور الإنسان بالجمال وإشعار الناس بهذا الجمال، وفي كتابه "نظرية التعادلية" يصف توفيق الحكيم الفن بأنه توازن القوة المعبِرَة والقوة المفسِرَة بمعنى أن التعبير يشمل الشكل والمضمون والأسلوب والموضوع وبه يكتمل الأثر الأدبي والفني وأما التفسير فهو الرسالة التي يحملها الأثر الأدبي والفني للإنسانية عاكسة وضعيته الكونية والمجتمعية، أما الكاتب يحيى حقي فيقول عن الفن بأنه تثقيف الذهن والروح وخلق مزاج سليم بحيث يصبح الإنسان قادرا على إدراك أسرار الكون والنفس أي أن يكون إنسانا واعيا نبيلا وكريما، وتقول غادة السمان عن الفن بأنه ليس انعكاسا للواقع إنما هو تبشير بالمستقبل، وأما الفيلسوف الألماني ثيودور أضورنو فيقول لا يمكن لأي كان إلا أن يكون مجرما، أن يأتي هنا ويقول ثمة جمال في مكان ما، وكأنه يريد القول بعدم وجود سعادة في هذا العالم الحزين والمليء بالبؤس الإنساني والحروب والمحرقات التي نعيش، في هذا العالم بما فيها العربي الإسلامي، على إيقاعها.
الفن ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لمخاطبة الإنسان. الفن هو وعد بالسعادة بل الفن هو الكمال والسعي نحو شكل من أشكال التجلي والجلال، إنه مقاربة اللامحدود والاقتراب من اللامتناهي، إنه انعكاس النفحة الإلهية في النفس الإنسانية على مرآة الواقع، إنه اللحظة التي تتناغم فيها الذات الإنسانية مع موسيقى الكون، إنها اللحظة التي أخرج فيها عن نفسي للقاء الآخر وكأنها لحظة غزل لانهائي لحظة عشق وتوحد واتصال لا حدود لها لحظة يتصل فيها الفاني والمطلق، تتدافع فيها قوى الأرض والسماء لينتج عنها أعمالا خالدة تجسد جوانبا من الروح هي الشوق والرغبة، وإذا كان الفن مشكلة عند بعض الفلاسفة وفلسفة عند بعضهم الآخر، فهو بمثابة طفل الدين عند البعض الثالث ك ميرسيا إيلياد في مقولته "الإنسان حينما صنع أول منحوتة، جلس قُبالتها وطَفِقَ يصلي"، فإنه يبقى في كل الحالات سعيا لإيجاد الخاص والفردي، إنه اللاتشابه، إنه الاختلاف في ذاته، إنه الوحيد الأصيل اللامتكرر، الباحث عن الصدق والتميز والأصالة العميقة في الأشياء عند محاكاته، إنه بصمة الفرد الشخصية تلك الأداة الساعية للتعبير والتنفيس عما يختلج في صدر صاحبها من صبا وحب وحنين لعالم آخر وبهذا يكون الفن تجليا من تجليات الروح.
أخيرا، ولأن الفن لا يموت عادة إلا في مجتمع خنقت فيه حرية المواطن وصودرت فيه حرية التعبير عن الرأي، فإن أعداء الفن من جهلاء بعض الوزراء والفقهاء أصبحت أعدادهم في تزايد مطرد، لا لشيء عدا علمهم بأن الفن بجميع أنواعه وتعبيراته اليوم هو قطعا نفير للتغيير والإصلاح غدا.
الإنسانية هي الحل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب