الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - دنيا - للروائي عودة بشارات

سميح مسعود

2016 / 5 / 11
الادب والفن


شاءت الظروف أن أتعرف مؤخراً على الروائي الفلسطيني عودة بشارات، أثناء حفل إشهار روايته الجديدة " دنيا " في قاعة دارة الفنون والثقافة بالناصرة، وأسعدني الحصول على نسخة منها تحمل إهداءً لي على صدر صفحتها الأولى، أخذتها معي مع عدد من الكتب عند مغادرتي الوطن، ومن ثم قرأتها وتملكني شعور فوري بأن كاتبها قد أقام في سياق تركيباتها النصية علاقة وثيقة بين الأدب والحياة، صور الحياة في الداخل الفلسطيني تصويراً موضوعياً، وتلمس في صوره أطياف أمكنة كثيرة، أباح لقلمه بتعبيرات متدفقة نبش نبض مشاعرأهلها، وتفاصيل مشاغلهم الحياتية.

تمكن كاتب الرواية من سبر أعماق أوجاع كثيرة بتفاصيل مشهدية مباشرة ذات خصوصية متميزة، من واقع الشعب الفلسطيني الذي بقي في وطنه بعد النكبة، إختار مواضيعها بعناية فائقة ضمن أبعاد زمانية ومكانية واسعة، قدمها في نسيج محكم يمتزج فيه السرد بأسلوب درامي ساخر، يُثير في القارئ عنصري الدهشة والفضول، لتقاطع النص مع الواقع تقاطعاً كاملاً وغوصه فيه ما أمكن في العمق، بعيداً عن دلالات الإشارة والتلميح والرمز، مرتكزا في هذا على اتباع منهج الكتابة الواضحة والمباشرة على امتداد صفحات الكتاب، حتى في مجال استخدام الأمثال والماكولات الشعبية، ومفردات كثيرة من اللهجة المحلية الفلسطينية، تظهر في شكلها النهائي بمنطق متميز.

تدورأحداث الرواية حول قضايا وأحداث محلية متشعبة تتصل بالمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني، تُجسدها شخصيات كثيرة بتركيبات مختلفة، تم اختيارها من الواقع المحلي بدقة وعناية من قبل الكاتب، تنقل بهم في محيط زماني ومكاني واسع يعج بحياة مثقلة بالمشاهد والحكايات، معتمداً في ذلك على عناصر فنية لافتة في بناء الحدث والمشاهد والمتن الحكائي، ضمن منظومة تكوينات نصية مستمدة من الواقع شكلاً ومضموناً، ومن مجريات الأحداث اليومية المتعاقبة للمجتمع المحلي بكل ما تحمله من خير وشر وأفراح وحزن، وما تنطوي عليه من جوانب سلبية وإيجابية في الحياة.

وتتميز الرواية بأن البعد الزمني فيها هو جوهرها الحقيقي، لامتداده على اتساع فترة زمنية طويلة، بما فيها من مراحل متعاقبة مليئة بالاحداث المحلية والصدمات والهزائم، إبتداءً من نكبة عام 1948، ومروراً بفترة الحكم العسكري، ونكسة حزيران1967، وأحداث يوم الأرض آذار 1976، ووصولاً إلى الزمن الراهن، ومن ثم استشراف المستقبل، وقد نجح الكاتب في استحضارتفاصيل محوريه كثيرة من تلك الفترات الزمنية، سجلها بقدرة تعبيرية عالية سرداً وحواراً، لخصها بمصادرة الاراضي وهدم مئات القرى وتهجير أهلها، وضنك الحياة في أيام الهجيج الأولى، واتكال العمال العرب على العمل في المدن اليهودية ضمن مجموعات متعددة ووفق منظور حياتي قاسٍ، إضافة إلى تحمل العربي لمعاناة زائدة للحصول على تراخيص التنقل من الحاكم العسكري، وغيرها من الحكايا المؤلمة لقصص اللجوء والتهجيرفي الداخل الفلسطيني، وتداعيات الاعتقالات والتحقيقات وأجواء العنصرية ضد العرب.

ولا تقف الرواية عند جوانب المعاناة التي عاشها العرب في الداخل الفلسطيني فحسب، بل إنها ترصد أيضا ملامح ظواهر أخرى كثيرة ومتشابكة، متصلة بهم في المجالات التراثية والفكرية والسياسية والحزبية، مترعة بآراء ومواقف وقيم ومشاعر متنوعة ومتداخلة، تحمل في طياتها الكثير من التفائل والأمال من جانب، والتعاسة واليأس والتشاؤم من جانب أخر، كما تطرح أيضاً مجموعة كبيرة من التساؤلات حول الحاضر، والغد الأتي في المستقبل، تجيب عليها الرواية بنظرة تقدمية تفاؤلية يشوبها أحياناً بعض التشاؤم، وتتخللها بعض الصياغات الساخرة باللهجة المحلية، تعبر بدقة مدهشه عن واقع الداخل الفلسطيني .

وغني عن البيان أن رواية "دنيا" لا تُقرأ في حدودها الضيقة المتعلقة باجتلاء ملامح من الحياة الحقيقية في الداخل الفلسطيني ، بل في حدود نقدية أكثر إتساعاً، إذ وُفق كاتبها في اعتماد نهج نقدي تكاملت أعتابه النصية على امتداد صفحات الرواية، وهكذا التحم النقد بالنسيج البنائي للرواية فشد من خيوطه، وتم به تعرية ظواهر كثيرة تتفشى في المجتمع الفلسطيني لا تتلاءم مع روح العصر، كالتنجيم والسحروالشعوذة، والغيبيات التي لا تتفق مع العقل والفطرة، كما تم به أيضا توجيه النقد الصارم لألوان واضحة المعالم من العادات والتقاليد البالية في شتى جوانب الحياة، بما فيها الزواج والعلاقة ما بين المرأة والرجل، وتم التأكيد في هذا الجانب على أن الحل يكمن فقط في مجال الدعوة إلى الفكر التنويري واحترام العقل... بمعنى أخر أن الرواية، ترتكزفي بنائها للمستقبل على منظور خاص بها يميزها، يكمن في عودة العقل، وبهذا تعيدنا إلى البيت الشعري الخالد للشاعر والفيلسوف العربي أبو العلاء المعري" كَذَبَ الظنُّ، لا إمامَ سوى الـعقلِ، مشيراً في صبْحه والمساءِ".

النهج النقدي الذي يتقنه كاتب الرواية، يتطرق إلى جوانب فكرية وسياسية كثيرة داخلية وعربية، وُدلالات كثيرة مؤلمة عن ظلم ذوي القربى، تعمق كاتب الرواية في تفاصيلها، بمذاقات سردية خاصة طعمها بمؤثرات منتقاة من الواقع المعيش، حدد بالمجهر أشد النقاط حساسية عما اعتبره العرب في الدول العربية عن بقاء الفلسطينيين في وطنهم بمثابة خيانة، وقد تم تكرار هذه المقولة طيلة فترة طويلة من الزمن،وأثبتت الأيام والأحداث خطأها وقصر نظر قائليها، لأن فلسطينيي الداخل قد أثبتوا بصدق خالص طيلة عقود طويلة بأن وطنيتهم لا تقبل الشك ،عبروا عن ذلك بتمسكهم بهويتهم الفلسطينية والتصاقهم بأبناء شعبهم في كل المناسبات، وبما يتعدى مستوى الرمزية برفع الأعلام والشعارات، عبر أفعال وممارسات سلوكية يومية تؤدى بدون مناسبات تذكيرية،وكاتب هذه السطور يعي ذلك جيداً لتكرار زيارته لأهله في الداخل الفلسطيني بعد إنقطاع زاد عن ستين عاما، يمنحه اللقاء بهم استيحاء دروس وعبر كثيرة من واقع حياتهم وأحلامهم وهواجسهم الداخلية.

لحسن حظي أنني اطلعت على رواية " دنيا " قرأتها بتمعن ووجدتها ذات خصوصية واقعية متميزة، تلامس قضايا كثيرة شديدة الحضور في حياة أهلي في الداخل الفلسطيني،استوقفني كل ما فيها على اختلاف مواضيعها من حيث اللغة والبناء، وانتقاء شخوص الروايه الذي يدل على معرفة مؤلفها بالناس، ومعرفته الثرية بشؤون حياة الذين يعيشون من حوله، ساعدته على تسجيل تراكيب نصية مليئة بالمشاغل الوطنية، وبكثير من الأمور اليومية الصغيرة، تفيض بأحاسيس وصلات انسانية بامتدادات وتفرعات كثيرة تجسد عواطف وأحاسيس شخوصه، سجلها بقدرة تعبيرية عالية وبإنجاز بنائي متقن .

تمكن عودة بشارات من الإقتراب من شخوصه في عدد من القرى والمدن على اتساع المكان، تعرف على دواخلهم بفهم عميق وانصاف، اتسعت سطوره على رحابة المجتمع ومساحته الواسعة المليئة بألوان كثيرة من تجارب الحياة، لم يغرق في روايته كغيره بالعموميات والرمزيات والإيحاءات وحكايا التاريخ ، بل حصر كل عمله بالانسان الفلسطيني ،بالكشف عن ما يستتر في داخله واجتلاء مشاعره وأحاسيسه وأماله وتطلعاته، وبكل ما يتصل به من أحداث ومشاغل وقضايا اجتماعية وسياسية من الحياة الحقيقية.

وهكذا ساقتني المصادفة إلى الإقتراب من نموذج إبداعي واقعي متميز، واجتمعت في نفسي أحاسيس زادت من قدرتي على تفهم مفردات مليئة بالعبر، تختلط فيها مرارة الغربة التي أعيشها في منافي الشتات، وحلاوة التواصل مع أهلي في الداخل الفلسطيني، تشع بدفء ينفض عن كاهلي عبء السنين.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81