الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الإسلام الرأسمالي الليبرالي والإرهاب التكفيري: السياق التاريخي لأطياف السلفية المستجدة

خالد عايد

2016 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


( ملاحظة: هذه المقالة هي خلاصة مكثفة لدراسة موسعة ومعمقة وموثقة بالمصادر، يقوم الباحث بإنجازها حالياً، تتناول أطياف الإسلام السياسي من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة "داعش")


شهد ربع القرن الأخير، والعقد الأول من القرن الحالي، تحولات عالمية وإقليمية وعربية أساسية (العولمة والخصخصة، وما رافقهما من تعميق النهب والاستغلال والغطرسة الامبريالية واحتلال الأراضي العربية والتفريط بمقدرات الشعوب وحقوقها). وأدت هذه التطورات إلى نشوء أوضاع مأزومة، إلى بروز مطالب ملحة لدى مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية إزاء هذه الأوضاع، مع استعصاء الحلول في إطار الوضع الراهن.

كان المحرك الرئيسي لهذه التطورات يتجسد في الامبريالية الأمريكية وشقيقتها الصغرى الأوروبية، في حين أصبح "المستجيب " الرئيسي هو الأنظمة العربية القائمة، وشريحة رجال الأعمال العرب، وفقهاء الإسلام السياسي على مذهب الرأسمالية المعولمة المتوحشة.

وفي هذا السياق، لم يكن نشوء "السلفية الجهادية" و"إدارة التوحش" بقيادة داعش نبتاً غريباً في الصحراء العربية. فممارسات تنظيم الدولة داعش- القادر على تفكيك الدول، العاجز عن بناء دولة تكون مثالاً يُحتذى- هي من جنس الممارسات التي شهدها التاريخ العربي-الإسلامي والتاريخ العالمي، خصوصاً الأوروبي والأمريكي، في فترات التحولات الكبرى واستعصاء الحلول بالطرق المألوفة، وهي التحوّلات الآتي ذكرها.

بالتوازي، ومن باب التبسيط، يحل "العنصر" الإسلامي السني، في الخطاب الإرهابي التكفيري الداعشي، محل العنصر الجرماني المتميز، المتفوق في الخطاب النازي على ما عداه من عناصر أخرى مختلفة عنه.

يمكن تلخيص الأوضاع المأزومة التي نشأت عن التحولات المذكورة في كلمتين: "ضنك العيش". إنه تدهور الأحوال الاقتصادية الاجتماعية وتأزمها إلى درجة الاستفحال، وإهدار كرامة وحقوق الإنسان والشعوب إلى درجة "مسحها بالأرض".

و"ضنك العيش" هو ضيق العيش الذي لا يطاق ! وهو يعبر عن نفسه بأكثر من شكل وأكثر من محتوى: اتساع مساحة الفقر والبطالة، كما الاستبداد والفساد، والغطرسة الامبريالية والصهيونية، وامتهان الكرامة الشخصية والقومية.

بالتعابير اللغوية الدينية، تقول الآية القرآنية:" ومن أعرض عن ذكري فإن له عيشة ضنكا". والضنك أشد من البلاء، في الفقه الإسلامي. وتقول آية أخرى:" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا"، من ظلم وطغيان.

وبالتعابير الحديثة، الضنك كلمة دارجة الاستعمال لدى الشعب المصري، ومعها تعبير "محلتوش اللضا". وهذه هي حالة الأزمة الشاملة إذ يعم الظلم والطغيان والفساد، وتضيق سبل العيش إلى حد أن "يكفر" الناس بالحياة وقيمة الحياة. " اللضا" هنا ليس مادياً فحسب، بل ومعنوي أيضاً. و"الفساد" ليس أخلاقياً حصراً، ولا مجرد "آثار القرى المهدمة" بحسب تفسير الآية، بل هو "مؤسسة" شاملة للمجتمع باقتصاده وسياسته وقيمه وأفكاره. ومثل هذا "الضنك" و"الفساد" يلازمان في جوهرهما مراحل التحولات التاريخية الكبرى، وإن اختلفا في الشكل.

التحولات التاريخية الكبرى

مثل هذه التحولات الكبرى عرفها التاريخ العربي-الإسلامي منذ فجره "الرشيد" متمثلة في "الفتنة الأولى" و"الفتنة الكبرى"، إبان مرحلة التحول من دولة قبيلة قريش- القائمة على تجارة الخاصة وتربية الماشية لدى العامة- إلى الإمبراطورية الأموية، القائمة على أساس توسيع الوساطة التجارية وخراج الأراضي الواسعة الجديدة التي جرى فتحها. كما عرف التاريخ تحولات أخرى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، مع انحطاط الدولة العباسية و"تداعي الأمم من كل أفق" على بلاد العرب "كما تتداعى الأكلة على قصعتها": الغزو الأوروبي تحت مسمى الحروب الصليبية، والغزو المغولي والغزو التركي السلجوقي.... وعاد التاريخ وشاهد تحولات جديدة في مرحلة التوسع الاستعماري للرأسمالية الأوروبية وتفسخ النظام الإقطاعي في بلاد الشام وديار عربية أخرى واقعة تحت الحكم العثماني في أوائل القرن التاسع عشر.

شكلت فترات الأزمة والتحولات الكبرى في التاريخ العربي- الإسلامي سياقاً تاريخياً ملائماً لظاهرات العنف والتطرف على أنواعها: من فرقة "الخوارج" ورمز الاستبداد الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي الذي لجأ إلى الصلب والخوزقة بدلاً من إقامة الحد الشرعي، في فترة "الفتن"، مروراً بسلفية ابن تيمية في فترة "تداعي الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، ثم سلفية محمد بن عبد الوهاب في فترة التوسع الاستعماري والتحول من الإقطاع إلى الرأسمالية التابعة، وصولاً إلى تيار "السلفية الجهادية" الإرهابي التكفيري بكافة أطيافه في وقتنا الحاضر.

وعرف الغرب الرأسمالي أيضاً تحولات كبرى في فترات مختلفة من تطوره بما رافقها من وحشية دموية: تأسيس الولايات المتحدة على أجساد "الهنود الحمر" والأفارقة السود، "الحروب الدينية" الدموية بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي قضى فيها ما يتراوح بين خمسة ملايين وخمسة عشر مليوناً من المدنيين والجنود، وما عرفه النصف الأول من القرن العشرين من حركات وأنظمة فاشية ونازية وحروب عالمية لصوصية وجرائم هيروشيما وناغازاكي والاحتلال الصهيوني الاستعماري لفلسطين.

السياق الراهن

والآن، تعيش المنطقة مرحلة تحول جديدة، مرحلة العولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، بكل ما فيها من أوضاع مأزومة، من "ضنك" و"فساد". ومما زاد الطين بلة أن " الأدوية" الرئيسية للأزمة انقلبت إلى داء. فمن جهة، أدت وصفات صندوق النقد الدولي بشأن الإصلاح الاقتصادي الهيكلي إلى تفاقم " النقائص" السابقة ( ازدادت معدلات البطالة خصوصاً في صفوف الخريجين الجامعيين، وازداد الدين العام والعجز في الموازنات الحكومية..الخ. ومن جهة أخرى، ساهم فشل "ثورات الربيع العربي"، المغدور منها والمأزوم والمصطنع، في تراجع ثقة الطبقات الشعبية بأمل التغيير، وفي استجرار التدخل الامبريالي، وتعزيز شوكة الإرهاب التكفيري (ولو إلى حين). وفي ما عنى الفقر تحديداً، لم يعد صحيحاً الحديث عن وجود "جيوب فقر" معزولة تحتاج إلى علاج، بل الأحرى القول بوجود "جيوب ثروة" في مجتمع مفقر بأكثريته الساحقة.

على غرار مراحل التحول السابقة، تشكل المرحلة الراهنة أيضاً بيئة حاضنة لشتى الأيديولوجيات والحركات السلفية المتطرفة. لكن أثر العولمة الرأسمالية الجديدة لم يقف عند هذا الحد، بل طال التيارات السلفية "التقليدية" ذاتها، فتمخضت عن ولادة صنف جديد من الإسلام السياسي نسميه: " الإسلام الرأسمالي الليبرالي".

هذا الطيف من الإسلام السياسي وجد مثاله "الناجح" ومرجعيته الواقعية، بالدرجة الأولى، في "حزب العدالة والتنمية" التركي ووصول الحزب إلى السلطة ب"الوسائل الديمقراطية"، وفي التجربة الماليزية أيضاً. ومن دون العداء للرأسمالية، بل ومع الاستعداد للتعامل مع الغرب الرأسمالي، يرفع هذا الإسلام "الوسطي" "المعتدل" شعارات ومطالب بمضامين عملية لا تخرج عن "القيم" الديمقراطية الرأسمالية الغربية، ديمقراطية صناديق الاقتراع، التي يكون المال السياسي الناخب الرئيسي فيها لمصلحة رجال الأعمال: التعددية، الدولة المدنية الحديثة، التنمية المستدامة، الحكم الرشيد، العدالة الاجتماعية، مساواة الجنسين، حقوق الإنسان...إلى آخر ما هناك من شعارات فضفاضة، ظاهرها فيه استجابة للمطالب الشعبية، وباطنها فيه تحقيق أهداف الرأسمالية العالمية النيو ليبرالية وتابعيها المحليين. وهكذا، نجد أن حركات جديدة على هذا الطراز التركي/ الماليزي أخذت تخرج من رحم السلفيات التقليدية (خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين) في مصر والمغرب والأردن وسواها.

وتشكل جماعة الإخوان المسلمين في سورية حالة خاصة زاوجت بين "السلفية الجهادية" والإسلام الرأسمالي الليبرالي. فقد توزعت قيادات وكوادر الجماعة السابقة على كل من "الائتلاف" وجبهة النصرة والجبهة الإسلامية وحركة أحرار الشام... وشارك نفر منها ( مثلاً، أبو مصعب السوري، القادم من "الطليعة المقاتلة" الإخوانية في ثمانينات القرن الماضي) في تأسيس منظمة "القاعدة"، إلى جانب الإخوان المسلمين المصريين السابقين وغيرهم.

رجال الأعمال
على مذهب الإسلام الرأسمالي النيو ليبرالي

يعبّر الإسلام الرأسمالي الليبرالي عن أفكار ومصالح الشريحة الصاعدة من رجال الأعمال المتدينين العابرين للمذاهب والطوائف. وقد لعبت "الطفرة النفطية" الخليجية خصوصاً في "الحقبة السعودية" في سبعينات القرن الماضي الدور الرئيسي في صعود فئة رجال الأعمال المغتربين العرب، من خلال دورهم ك"مقاولين من الباطن" للشركات النفطية والمؤسسات الحكومية في دول الخليج. وبرز ذلك جلياً في تكوّن فئات رجال الأعمال اللبنانية ( على سبيل المثال، آل الحريري و"الظاهرة الحريرية" بمجملها مثلا)، والفئة الفلسطينية ( شركة اتحاد المقاولين ال CCCمثلا)، ودور هذه الفئات في الحياة الاقتصادية والسياسية. ( لا ننسى هنا مثال رجل الأعمال السعودي الأكثر شهرة، أسامة بن لادن- لكنه تجاوز مثال رجل الأعمال على مذهب الإسلام الرأسمالي الليبرالي باتجاه "السلفية الجهادية").

لكن الدور السياسي لرجال الأعمال السوريين المغتربين في الخليج لم يظهر على حقيقته في الإعلام ، مع أنهم- إلى جانب الإخوان المسلمين ورجال الأعمال منهم - يحتلون مركز الصدارة في مكونات " الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" وفي مؤسساته القيادية.

كما انضم إلى صفوف هذ الشريحة من رجال الأعمال أصحابُ المهن العليا (خصوصاً في مجال الهندسة) الذين تحولوا إلى أصحاب شركات استشارات هندسية وشركات مقاولات بناء البنية التحتية ، وكبار موظفي الدولة الذين استفادوا من "الفساد" في المؤسسات الرسمية وكوّنوا "الخميرة" الضرورية لدخول عالم البزنس.

إلى جانب الاغتراب، كان ثمة مصدر آخر لتكوّن شريحة رجال الأعمال، هو عمليات الخصخصة( أي: نقل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص)، وما رافق هذه العمليات من استشراء الفساد على نحو غير مسبوق. شملت الخصخصة شركات ومؤسسات حكومية، كان أبرزها في قطاع الاتصالات- هذا "النفط الافتراضي" الذي جرى اكتشافه و"احتكار القلة"لاستثماره منذ مطلع القرن الحالي. وقد نشب بشأن الاستئثار بالقطاعات المخصصة تنافس شديد بين رجال الأعمال القدامى المتحدرين من البرجوازية البيروقراطية الحاكمة ورجال الأعمال الجدد، خصوصاً المغتربين منهم.

وترافق صعود رجال الأعمال بفضائح تنم عن جشع ووحشية الرأسمال "الوطني" التابع،مثل: فضيحة الإسمنت المصري، المباع بوساطة فلسطينية، لبناء المستعمرات والجدال الفاصل، وبيع الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني بأسعار بخسة، وبيع مساحات واسعة من الأراضي المصرية إلى الأمير السعودي الوليد بن طلال بثمن "التراب".

تصدرت مؤسسات وشركات القطاع العام صفحة الخصخصة، التي أثارت الجلبة الإعلامية والخلافات بين مؤيد قوي للخصخصة في أوساط رجال الأعمال وتابعيهم من المثقفين الليبراليين، ومعارض ضعيف لها في الأوساط الشعبية. لكن الصراع، الخفي في بداية الأمر ثم المتفجر في ما بعد، كان يدور أيضاً على ملكية "موجودات" عامة أخرى أهم وأكثر قيمة اقتصادية من المؤسسات والشركات العامة، ألا وهي: الأرض.

كان الاهتمام حتى القرن الماضي ينصب على تملك الأراضي الزراعية، تليها الأراضي القابلة للزراعة. لكن الطلب على الأرض أخذ يزداد بالتدريج ليشمل الأراضي "المتروكة"، وذلك لعدة أسباب:

- التوسع الرأسمالي في عصر الامبريالية والعولمة الرأسمالية النيو ليبرالية: توسع سوق البضائع والرساميل على نطاق عالمي.

- تقدم التكنولوجيا الزراعية(الأدوات والآلات والأساليب الزراعية)، ما مكّن من استصلاح مساحات واسعة من "أراضي البور"..

- ازدياد الطلب على المنتجات الزراعية على خلفية التزايد السكاني.

- التوسع العمراني لأغراض السكن والسياحة والمعامل والشركات، في فترات "الطفرة"

الاقتصادية التي ترافق إجراءات الهيكلة الاقتصادية المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي.

- امتداد الطلب حتى إلى أراضي البادية والصحارى ، بما تحتويه من نفط وغاز ومعادن.

لا يتسع المجال هنا للتفصيل في موضوع الصراع المستجد على ملكية الأرض والاستثمار فيها. فهذا الصراع لم يخرج إلى العلن إلاّ في الآونة الأخيرة، وهو يشمل جلّ البلاد العربية، مصر والعراق والأردن وسورية وغيرها. وهو وصل، في الأردن مثلاً، إلى التصادم بشأن "الواجهات العشائرية" بين السلطة وعدد من القبائل الكبيرة في الأعوام الأخيرة ( بني حسن في منطقة الزرقاء وبني صخر في منطقة بالقرب من المطار الدولي). وفي مصر، كُشف النقاب في أيار/ مايو 2016 عن "اعتداءات" من داخل السلطة على 300 ألف فدان من أراضي الدولة المعدة ل"التنمية". وفي سورية، تنجلي صورة الصراع الدائر على حيازة الأرض.

سورية مثالاً

في سورية، وإلى جانب عمليات الخصخصة المستمرة حتى الآن، تجري تعديات على أراضي الدولة في مختلف المناطق السورية. (مثلاً، نشر موقع سيريا نيوز تقريراً مفصلاً سنة 2007في هذا الشأن تحت عنوان:" بعض المتنفّذين و أصحاب المناصب يستغلون القانون لتملك أراضي الدولة حتى ولو كانت جبالا". ونشر موقع آخر هو Syria Steps في سنة 2012 تقريراً عنوانه: "أملاك الدولة للتعديات والتجاوزات !".) وفي هذا الإطار، تبرز منطقة الجزيرة/ محافظة الحسكة، التي تنتج نحو ثلث إنتاج سورية من القمح والقطن.

لقد شهدت محافظة الحسكة وسائر أنحاء المنطقة الشمالية الشرقية من سورية (كما الريف والبادية إجمالاً) موجات من الاشتباكات الضارية بين الجيش السوري والمجموعات المسلحة وعلى رأسها داعش، كما بين المجموعات المسلحة نفسها (داعش ووحدات الحماية الكردية والجيش الحر وجبهة النصرة في فترات مختلفة من الأزمة السورية).

ليس خافياً أن هدف الصراع على هذه المنطقة يشتمل على أراضيها الزراعية الخصبة بالدرجة الأولى وعلى حقول النفط والغاز فيها. لكن هذا الصراع يكشف عن جانب من جوهر الصراع على سورية، باعتباره مسعى لائتلاف طبقي محدد للإطاحة بالنظام القائم والاستئثار بالسلطة في سورية. يغلب على التركيب السكاني لهذه المنطقة الطابع العشائري، ويحتل زعماء القبائل دوراً بارزاً في قيادة "الائتلاف السوري" ( مثلاً: سالم المسلط، "شيخ مشايخ قبائل الجبور"، وأحمد الجربا، أحد شيوخ عشيرة الشمر) كما في قيادة الجماعات السلفية "الجهادية" على اختلاف مسمياتها ( في داعش مثلاً: أبو لقمان من عشيرة العجيل، وأبو عبد الرحمن الأمني وأبو علي الشرعي من ريف الرقة).

هنا تبرز الأرستقراطية العشائرية في البادية والريف بوصفها المكون الثالث من مكونات "المعارضة والثورة" السورية، إلى جانب المجموعات السلفية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، ورجال الأعمال. وتشكل الجماعة "واسطة العقد" في هذا التحالف الثلاثي غير المقدس، فهي الحزب المعارض الوحيد الواسع الانتشار ذو الجذور التاريخية، ويمثّل رجال الأعمال من الجماعة النواة الصلبة لشريحة رجال الأعمال الجدد. أما رموز الأرستقراطية العشائرية فهم يملكون تعليماً ليبرالياً وجيوشاً من أبناء عشائرهم، كما يملكون طموحا للاستيلاء على أراضي الدولة، لا لزراعتها، بل لاستعمال استملاكها منصة للقفز إلى نادي رجال الأعمال الجدد.

في الحرب الطاحنة الدائرة على أرض سورية، جرى "تقسيم للعمل" فريد بين قيادة هذا الحلف الثلاثي من جهة، وسائر فصائل "السلفية الجهادية" من جهة ثانية، وقاعدتها الاجتماعية من جهة ثالثة:

- تتولى جماعة الإخوان المسلمين دور قائد الأوركسترا: عدا عن حضورها الطاغي في محطات "الائتلاف" القيادية، تحتل كوادر الجماعة مكانة بارزة هيكليته التنظيمية، في حين يشكل أعضاؤها قاعدة أساسية من قواعد "الائتلاف" إلى جانب بعض العشائر والعائلات الريفية.

(عن دور الجماعة، يقول أحد قادتها عمر مشوح"ليست مبالغة أن أقول أنّه لو رفعت أيّ حجر في سورية لوجدت تحته الإخوان عملاً أو فكراً، لكن ليس من الضروري أن نعلن كلّ شيء نفعله." بل إن ملهم الدروبي، رجل الأعمال المقيم في السعودية، اعترف في مقابلة صحافية أن الجماعة كانت تخطط ل"الثورة" منذ 13 /1/2011، أي قبل نشوبها بشهرين، وأن الجماعة "دعمت العديد من الكتائب والفصائل"، "وشكّلت لاحقاً "هيئة الدروع" ونسّقت وشاركت في العديد من المبادرات للتنسيق بين الفصائل والكتائب.")

- يستقوي"الائتلاف" المعارض، الهشّ عسكرياً، بسائر المجموعات "الجهادية" بما فيها تنظيما داعش والنصرة المصنفيْن إرهابييْن ( ويمكن تصنيفهما "فاشييْن"، أو "نازييْن" بالمعنى التاريخي الدقيق للتصنيف)، من أجل قتال النظام. كما أن جبهة النصرة تتموّه خلف الفصائل المسلحة غير المصنفة دولياً إرهابية حتى الآن.

وفي الوقت نفسه، يمسك "أمراء الحرب" المحليون، المعارضون المتعارضون، بدفة الإدارات المحلية، ويشكلون مرجعيات فعلية للمرجعيات الثانوية البعيدة المتعددة، ذات الأصل السلفي الواحد المفترض، ويتنافسون على مناطق النفوذ و"غنائم" الحرب وأموال الدعم الخارجي... فيغرقون "بيئاتهم الحاضنة" بالدمار والدماء.


- يتولى رجال الأعمال تنسيق العلاقات السياسية والمالية مع دول الاغتراب الخليجية (وطنهم الثاني) ومع الدول "الديمقراطية الحرة" (مثلهم الأعلى)؛ ويتولى موظفوهم من المثقفين والأكاديميين الليبراليين مهمة السكرتاريا.

- يتولى زعماء العشائر مهمة "مقاولي أنفار" يجندون أبناء عشائرهم الشباب- الفقراء، المهمّشين المهشّمين، العاطلين عن العمل وعن الحياة، المكبوتين جنسياً، المخدّرين بالأيديولوجيا الدينية؛ ويتولى شيوخ داعش الدينيين القبليين تجنيد مثل هؤلاء الشباب الخليجيين والعرب، والمغاربة ممن ذاقوا مرارة العنصرية الرأسمالية الغربية طلباً لثأر بدوي وهمي وطمعاً في "جهاد النكاح" من حوريات الشام والجنة. ( يختلف الأمر في العراق، حيث استمد داعش قوته العسكرية الضاربة- بالدرجة الأولى- من الضباط والجنود الذين سرّحهم الاحتلال الأمريكي في إطار إجراءات تفكيك الدولة العراقية: حلّ الجيش و"اجتثاث البعث" ..الخ.).


يجنّد قادة هذا الحلف الثلاثي غير المقدس عشرات الآلاف من هؤلاء الشباب السوريين (وآلاف الشباب العرب والمسلمين، الذين يجري تضخيم أعدادهم بغية طمس البعد الداخلي للصراع، وتحميل مسؤوليته لأطراف مؤامرة خارجية)، ويزجّون بهم طعاماً للمدافع والأحزمة الناسفة، في أتون المعركة التي تدور رحاها في سورية منذ سنة 2011، ألا وهي: معركة الإسلام الرأسمالي الليبرالي.

... أو هي بالأحرى: معركة رجال الأعمال العرب الصاعدين تابعين، في عصر العولمة الرأسمالية المتوحشة، تحت راية الدين الإسلامي، من أجل مزيد من الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الامبريالية الأمريكية(تنافسها شقيقتها الأوروبية) وبتكريس للتبعية لهذا النظام.

في انتظار قيامة الطبقات الشعبية

في ظل مثل هذا التوجه الأيديولوجي، وهذا الاندماج وهذه التبعية، سيظل "ضنك العيش"، ستدوم الأزمة البنيوية الشاملة لمختلف مناحي المجتمع. وسيظل "التحوّل الكبير"، سيظلا التغيير الجذري الشامل موضوعاً على جدول أعمال الطبقات الشعبية... إلى أن تأخذ هذه الطبقات زمام أمورها بيدها، باستقلال عن مختلف الشرائح البرجوازية التابعة، وباستقلال عن منوعات السلفية، الإرهابية التكفيرية منها والليبرالية.

خالد عايد
18 أيار/ مايو 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص