الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأرضِيّة التّكتِيكِيّة للأُمَمِيّة الشُّيُوعيّة

السموأل راجي

2016 / 5 / 24
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


بعد أن تمّ نشرها على أجزاءٍ أقوم بإعادة نشرِها بارتِباطٍ مع راهنِيّتها وبُرُوز عالم "مُتعدّد الأقطَاب" وحجم الحُرُوب والدّمار

مُقدّمة


على إثر تأسِيسها في كيتُو/الإكوادُور 1994 على قاعِدة الإعلان العالميّ لعُمّال وشُعُوب العالم،نشرت النّدوة الأمميّة للأحزاب والمُنظّمات الماركسيّة اللّينينيّة سلسلة وثائِقِها التّأسيسيّة التي تمّت المُصادقة عليها من قِبَل 16 حزب ومُنظّمة في العالم،ولم يتسنّى لحدِّ الآن مع الأسف للتّنظيمات العربيّة الماركسيّة أو لعُمُوم المُهتمّين بِالحركة الشُّيُوعِيّة في العالم الإطّلاع على هذه الوثائق التي لم تُتَرجم في غالبِيّتها وحتى ما تُرجم بَقِيَ شبه داخليّ نتيجة ظروف السّريّة التي عاشها الحزب العربيّ الوحيد في هذه الأمَمِيّة وأقصِدُ به حزب العُمّال التُّونِسِيّ.
واحدة من أهمّ وثائق النّدوة(C.I.P.O.M.L) هي إعلانها وقد قُمتُ بترجمته مع الإعلان عن "وحدة وصراع" اللّسان المركزيّ للأمميّة،مع أرضِيّتها التّكتيكيّة التي كُتِبَت في 1994 وخضعت لعديد التّحيينات لكنّ الإطّلاع عليها يكشف حجم راهِنِيَّتها من ناحية،ومبلغ سلامة الطّرح والتّحليل للواقع آنذاك بما منح الأرضيّة بُعدها الإستشرافيّ السّليم ويكشف واقع اليوم بكُلّ ما فيه وبإرتباط مع الرّبيع العربيّ القائم مُناهَضَةً لنتائج لبرلة إقتِصَادِيّاتٍ تابعة لدوائر الإحتكار مُضافٌ لها واقع الطُّغيان الحليف لعِصابات الحُكم في عواصم غرب أوروبا وواشنطن،يكشف واقع اليوم مدى جِدّيّة ما طُرِح آنذاك ومدى أهمّيّة تعميم مثل هذه الوثائق وتحويل البرامج المُتَمَخّضة عنها إلى فضائها العمليّ بما يقلب موازين قوى مُختلّة إن خلقت شيئًا فهو الحيف والنّهب والقتل والإحتلال والطّغيان تداعت نتائجه فهبّت لمُكافحتها جماهير الشّغيلة والشُّعُوب في مُدُن العالم كافّة.




الأرضِيّة التّكتِيكيّة للنّدوة الأمَمِيّة للأحزاب والمُنظّمات الماركسِيّة اللِّينينِيّة




شكّلت البُلدان التي قَطَعت مع العالم الرّأسمالِيّ إبّان الحرب الكونِيّة الثّانِية مع الإتّحاد السُّفياتِيّ مُعَسْكَرًا إشتِرَاكِيًّا في مُواجهة خَنْدَقًا رأسمالِيًّا تَقُودُه الولايات المُتّحدة الأمرِيكِيّة؛ليَتَحَوّل بذلك التّناقُض الواقع بين الإتّحاد السُّفياتي والكُتلة الرّأسمالِيّة والمُندلع عقب إنتصار ثورة أكتوبر البلشَفِيّة إلى صِرَاعٍ بين كِلاَ المُعسكَرين ليَتَحدّد مصير العالم،وعبر كِفَاحٍ شاقٍّ،من خلال نتائج هذا الصّراع.
كان للتحوّل الذي عرفته "الكُتلة الشّرقِيّة "والإتّحاد السُّفيَاتِيّ و"للإصلاحات" اللّيبرالِيّة البيرُوقراطِيّة لسنوات 56-1960 عميق الأثر في إيقاف الصّراع بين الرّأسمالِيّة والإشتراكيّة رغم تواصُلِه يَمِينًا ويَسَارًا؛وبالرّغم من إستعمال "الإتّحاد السّفياتِيّ" و"الكُتلة الشّرقِيّة" لعناوينَ عُمّالِيّة مُتَغَلِّفة بالإشتِراكِيّة فإنّه لم يكُن لِكِلَيْهِما أيّةُ علاقة بمفهُوم الإشتِراكيّة أو الطّبقة العامِلة،وتَحَوّل الصِّراع القائم بين كِلا المُعَسْكَرَين مُنذ 1960 إلى تقاتُلٍ من أجل الهيمنة والسَّيْطَرة على العالم يستَمِرُّ على مدى ثلاثين عامًا إعْتِمَادًا على التّلويح بالحرب النّوَوِيّة وتوازن الرُّعب الدّوليّ.
مَثَّلَ إنهيار الإتّحاد السُّفياتِيّ و"الكُتلة الشّرقِيّة" نَتِيجَةً حتمِيّةً للصِّراع حول الأسواق ومناطِق النُّفُوذ المُستَمِرّ طيلة ثلاثة عُقُود؛غَيْرَ أنّ هذا السُّقُوط،وبإرتباط مع توظيف مفاهيم ماركسيّة وإدّعاء الإشتراكيّة وإحتِضان رُوسِيا لأوّل ثورة بروليتارِيّة،أخذ أبعَادًا هزائِمِيّةً سبّبت كثيرًا من الأضرارِ وآلامًا وتَصْفِيَاتٍ لِنِضالات الطّبقة العاملة والشُّعُوب؛إذ كان الحدث الواقع بين 1989 و1990 مُوَلِّدًا مَرْكَزِيًّا لأَمْرَين مركَزِيَّيْن:
1--محاولة جديدة من قبل الاحتكارات الرأسمالية والدول الاستعمارية ، من أجل إعادة غزو العالم (أسواق ومناطق النفوذ) الخَارِج حَدِيثًا من الانهيار والتفكك.
2--حملة عامّة،أخذت فيما بعد شكل موجات،من هُجُوم طبقات الرّأسمالِيّة على البرُوليتاريا والشُّعُوب المُضطهدة.


وجسّد الإعلان عن "النِّظام العَالمِيّ الجديد" في عام 1990 هاتين الحقيقتين المُشوَّهَتيْن والمُفْرَغَتَيْنِ من مُحتواهما الفِعْلِيّ: الصّراع الطّبقيّ والإضْطهَاد الإمبِريَالِيّ ،سباقٌ تَسَلُّح ، والتّروِيج لمقولات أنّ الثّوْرَة والحُروب تنتمي إلى التاريخ ، وأنّ العالم "جزيرة من السّلام والوئام" ، تُهَيْمِنُ عليها التّنمية والازدهار وإعادة توزيع عادِلٍ! "للأسف "، هذا أمر مستحيل،إذ أرسلت الأحداث المُنبَثِقة عن هاتين الحقيقتيْن إلى المزْبَلَة كل هذه الغوغائية الدِّماغُوجِيّة وهاهِيَ الوقائع نفسها،لم تَتَغَيّر، تُحدِّدُ شكْل وسَيْر الأمور في العالم.


النّتائج التي تَرَتّبَت عن إنهِيَار الإتّحاد السُّفياتِيّ وتفكّكه مُرْتَبِطَةٌ بالموقع الذي إحتلّه هذا الكيان وبِرَمْزِيَّته كحاضنٍ جغرافِيٍّ لثورة أكتُوبر 1917 ومركز أوّل عَمَلِيّة بِنَاءٍ إشتِراكِيٍّ وبدُخُول الجيش الأحمر مُظفَّرًا لبرلين في 1945؛وبالنّظر لأنّ هذه الأحداث قد رَسَمت ملامح العالم خلال الخمس عشرة سنة الماضِيَة،ولا تَزَال لليَوْم،فإنّ النِّظام العالمِيّ الجديد يتَّسِقُ مع طبيعة النّمط الرّأسمَالِيّ ومع طبيعة الإمبريالِيّة ذاتِها.


- I -


النظام العالمي الجديد


"النظام العالمي الجديد" رَدِيفٌ للنّظام الرّأسمالِيّ المفروض على الشُّعُوب والطّبَقَات العَامِلة مِنْ قِبَلِ البُلدان الإمبرياليّة والطبقات الرّأسمالِيّة؛وتُحَدِّدُ الإمبريالية الأمريكية ، استنادا إلى دورها المهم في إنْهِيار الإتّحاد السُّوفياتيّ و"الكُتلة الشّرقية" ، عَبْرَ سياستها الاقتصادية والسياسية والعسكرية "النّظام الجديد" على أساسِ أنّهُ نمَطَ "إمبراطوريّة أميركيّة " تفرِضُ على بَقِيّة القوى الكُبرى الطّاعَة بدُون قَيْدٍ أو شَرط بِرُتْبَة" توابع متَمَيِّزِين ". إنّ هذا النِّظام ، في آنٍ وَاحِد،هُو نِظامٍ دُوَلِيٍّ لجميع الدّول الغنية،و نِظَامٍ للإمبراطوريّة الأميركيّة القَائِدة من دون منافس ، في الوقت الراهن على الأقلّ.


غَنِيٌّ عن القول أنّ السّبع الكِبَار المُتَحَوِّلِين لِثَمَانِية (G8) بإنضمام رُوسِيا الإتّحادِيّة،جَدَّدُوا المُنَظّمة العالَمِيّة للتّجارة وصُندُوق النّقد الدُّولِيّ والبنك الدُّوَلِيّ لتكُون هيئات إعلان وتنفيذ قرارت مجمُوعة الكِبار،وتمّ تَبَنِّي مفهُوم جديد بمُقتضاه تحوّلت مهامّ مُنظّمة الأمم المُتَّحِدة ومعها الحِلْف الأطلَسِيّ لوِقَايَة هذا "النِّظام العالَمِيّ"،مفهُوم يُضْفِي شَرْعِيّةً على العملِيّات المُعْتَزَم القِيام بها؛ويكُون بَدِيهِيًّا القبُول بِزَعَامة الوِلايات المُتّحدة من بقِيّة القُوى في هذِهِ الأطُر "الشَّرْعِيَّة"،ويضطرّ النّاس في البُلدان المُتخلّفة ، وخاصّة تلك البُلدان الأوروبيّة الشّرقِيّة السّابقة ، للإنْصِيَاع للخُطط المُختلفة "للعَوْلَمة" ، والقَواعِد "الشّرعيّة" لمنظمة التجارة العالمية. وميزةٌ أخرى لهذا "النظام الجديد" تَمَثّلت في تقديم سلسلة من المُعاهدات العسكريّة والسّياسيّة على أنّها "إنتصارات" للنضال من أجل السلام.
ولكن لم تكن الأحداث التي وقعت في هذا النظام ، وليس لَهَا أو من مهامِّها الإستِجابة "لتوقّعات" للعمال والشعوب بإرتِباط مع الحقِيقَتَيْن المذكورتين أعلاه ، وسرعان ما واجه العالم ،بالرّصاص، أحداثًا "غير متوقعة".
إعادة غزو العالم


بيَّنَت الوَقَائِع أنّ مُحاولات الهَيْمَنة على العالم من قبل الدُّوَل الكبرى والمجموعات الإحتكاريّة يعني إندلاع قتال جديد تَعَمَّم وتَطَوَّر في إتِّجاهيْن ، بِطَبِيعة الحال على حِساب الطّبقات العاملة والشعوب؛ فَمِن جهة ، صراع بين الاحتكارات "الجَدِيدَة" على حصة من السوق مع نِيَّةِ ضَرب المنافسين بما في ذلك فوق مجالاتِ نُفُوذِهم وتدميرهِم وتحقِيقِ نُمُوّهم الخاصّ بشكل أسرع. من ناحية أخرى ، في اتصال مع هذه المعركة ، منطقة قتال "جديدة" حول المجال الحَيَوِيّ (أرض) ، بِمَا يُؤدِّي مع إتِّسَاع النِّطاق إلى زيادة القوة ،هدَفُهَا الموادّ الخام ، وإحتكار الطّاقة على مُستَوى الأسواق السّلطة وتَحويل هذه المناطق المُستَوْلَى عليها لِرأس حَرْبَة مُستَقْبَلِيّة.


أ) أعراض الإنهيار والتّفكُّك السّريع للإتّحاد السُّوفياتِيّ و"الكُتلة الشَّرقِيّة" ، قد خلقت أوْضَاعًا "جديدةً" في العالم. وإتّسَم هذا الوضع "الجديد" على الصّعيدَين الوَطنِيّ والدُّولِيّ ،مع اندلاع حركة صَهْر جديدة، بعمليّات دمج وتحديد مَوَاقع نُفُوذ في السُّوق العالميّة ، إلى درجة لم تتحقّق من قبل بين مجموعات رأس المال المُنتمِيَة إلى "البُلدان المُتقدّمة". الحقيقة هي : إن مجموعات رأس المال الأمريكيّة والأوروبيّة واليابانيّة قد بدأت الصراع مع الجماعات الرّأسمَالِيّة الصَّاعِدة في أقطارِها ، وبطبيعة الحال وعلى وجه الخُصُوص، مع تلك الدُّوَل المُنَافِسَة عَلَى الأسْواق المَحليّة والمراكِز الرّئيسيّة .


والواضح أنّ هذا التّطَاحُن والتّجاذُب والإنْدمَاج و"إبتِلاَع مُؤسّسات لتبرُزَ أُخرى"، لم يكُن نتيجة خياراتٍ إعْتِبَاطِيّة؛ فَإِضافةً لأنّ إحتِمال التوسُّع والهَيمنة يُذْكِي جِذْوَةَ حالة الدَّمْج والإستِيعاب ، فهُوَ مُرتَبِطٌ بشكل وثيق بإمْتِداد و شُمُولِيّة الحركة في جميع القطاعات مع تكثيفٍ مُعَمَّمٍ لِرأس المال: صِرَاعٌ جَدِيدٌ-قديم بدأ بغضّ النّظر عن الصّلابَة الإقتِصَادِيّة لهذه اللّحظة،الغرضُ منه الإستيعاب للحَيْلُولَة دُون الإنهيَار،والنُّمُوّ بِهَدَفِ الصُّمُود في السّوق.


ب) كانت القُوى الكُبرى "مُوحّدَةً إلى الأبد!" في صُلْب الثّمانِية الكِبَار G8 ومَجلس الأمن التّابع للأُمم المُتّحِدة. لكنّ إنْهِيَار وتفكُّك المُعَسكِر الشّرقِيّ سَلَّطَ الضّوء على التّناحُر بين الجماعات الرأسماليّة والتّفاوُت في الحِصَصِ بينها؛وأصبَح من العَبَث القوْلُ أنّ الثّمانِية الكِبار G8 لا يزالُون في وِئَامٍ، فَفِي الإنتاج العالميّ ، كانت حصّة الإتّحَاد الأورُوبِّيّ الثُّلُث (1/3) رُبْعُهُ مُتَأَتٍّ من ألمانِيا ، واليابان 17 ٪-;---;-----;---؛أمّا رُوسِيا المُنهَارة، فلَديْها قاعدة واسعة للصّناعة والتّكنُولوجيا وجيش قوي؛ورغم هذه المُعطَيَات،فإنّ الوِلايات المُتّحدة الأمريكية تفرِضُ "الحلّ" الخاصّ بِها في كُلّ الأُمُور ،ولم تترُك لِبَقِيّة القُوى إلاّ الحقّ في العُوَاء الرّسمِي كُلّما تعلّق جدول الأعمال بإعادة توزيع الأسواق ومناطِق النُّفُوذ.
ومَثّل النِّزاع حول "وَضْعِيّة الشّرق الأوْسط" المُتَفَجِّر بعد الحرْب الأُولى على العِراق سنة 1991 ، مُؤشِّرًا حادًّا على عُمق التّضارُب بِشكْلٍ لا رِجعَةَ فيه ؛ومُنذُ ذلك الوقت ، أصبحت هذه الصّراعات المُتضَاعِفة بإرتِباط مع تطوّر موازين القِوى، إشْكَاليّاتٍ كُبْرى تُحدِّدُ على الدّوام جدول الأعمال.


باختصار ، كان لا بد لِعمليّة غزو العالم التي أشْعَلَها رأس المال العالَمِيّ أنْ تُؤدّي أولا إلى نِزَاعٍ من أجل إعادة توزيع حصَص السُّوق ومجالات النّفُوذ؛ وبعد ذلك إلى تَعَمُّقِهِ وتطوُّرِه لِخِلاَفاتٍ وتناقُضَاتٍ أشدَّ بين:-المجمُوعات الرّأسمالِيّة الإحتِكَاريّة
-الأقطار الإمْبِريَالِيّة.
أوّلاً ، التّفَاوُت (الذي يتجدّد بإستمرار مع تطوُّرٍ لامُتكَافِئ) المَوْجُود بين حَجم القُوى الفِعْلِيّ للمَجمُوعُات الإحتِكاريّة والأقطار وحصَصِها في الأسواق ومناطِق النُّفُوذ يَجُرُّ هذه الدُّول للدُّخُول في صِرَاع. ثَانِيًا ، الأزَمَات "الغير المُتوقَّعَة" ،القلق حول حُدُود القُوّة (الإقتصاديّة) الأمرِيكِيّة ،إستِبداد الولايات المُتّحدة وتَفَرُّدِهَا بالقرَار إستِنادًا لإفراطِها في العَسْكَرة:كُلُّها عَوَامِل تُؤدِّي إلى تسريع الصّراع المُتَجَدِّد حول التّقاسُم و التّوزِيع.




نِضَال الشُّعُوب المَقهُورة والطّبقَة العَامِلة


كان إعْتِبَار إنهِيار الإتّحاد السُّوفِيَاتِيّ و"الكُتلة الشّرقيّة" هَزِيمةً كبيرةً ، ذريعة لرأس المال العَالمِيّ للتّحرُّك ، ضدّ الطّبقة العاملة والشُّعُوب التّابِعة ، في هجوم إزداد بعد ذلك تدريجيا ليَأخُذ شكل مَوجَة عامّة. الأزمات المُتتالية التي بدت في البداية مُقْتَصِرَةً على المجالات الإقتصاديّة والإجتماعيّة ، وفواتير نزَاعات التّقاسُم بين الأقطَار والإحتِكارَات الإمبريَاليّة ، جَعَلَت من هذا الهُجُوم واسِع النِّطَاق ،يتّخِذُ خُصُوصِيّاتٍ سِيَاسِيّة في بعض البُلدان المُستَقِلّة والمناطق المُضطَرِبة. وتطلَّبَت الأوضَاع عملاً إرْهَابِيًّا ، مثل 11 سبتمبر 2001 ، لتكثيف الهَجَمات السّياسِيّة في كافّة أنحَاء العالَم، وعلى الفور، شكّلت هذِه الهَجَمَات "اللّيبرَالِيّة" حَافزًا للنّضال والمُقَاومة في أوساطِ العُمّال والشُّعُوب.


إستمرّ نِضَال الطّبقة العاملة والعُمّال والشُّعُوب التّابِعة بإعتِمادِ وَتيرَة الهَجَمات ، وتبلور بوصفه مُعادَلَة جَمْعٍ بين حَرَكَتيْن "مختلفتين" مرتبطتيْن إرتباطًا وثيقًا ، ولكن من وجهات مختلفة :
أ) نضال (نقابيّ) العُمّال ضدّ الهجَمات الإقتصاديّة والإجتماعيّة ، وحماية المكاسب وإفتِكاك المَزِيدِ رُبَّمَا.
ب) حركات من أجل السّلام والمُقاوَمة ذات طَابع وَطَنيّ للدّفاع عن السّلام والإستِقلال والحُريّة ، ضد الحرب والتدخّلات الإمبرياليّة.


تَوَجّهَت النِّضَالات ضدّ الهَجمات الإجتِماعيّة والإقتِصادِيّة أكثر وأكثر في إتّجاه صِرَاع مع الحكومات ، و في بعض الحالات تمّ إستِهدَافُها رَأْسًا وأخذت طابعًا سياسيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ؛ نضالٍ نَاتِجٍ عن التدخُّل الإمبريالِيّ والإضطهَاد القَومِيّ. وعلى الرغم من المَحْدُودِيّة ، كانت أعراضَ "عودة" كِفَاحٍ للشُّعُوب المقهُورة والتّابعَة. وحقيقَة أنّ الجَمَاهِير في الأقطَار "المُتَقدّمة" قد إحْتَجّت بمئات الآلاف والملايين ، ضدّ التّدخُّل الأمريكيّ في العراق هُو أكثر إثارة للاهتمام. فهذه الإحتِجَاجَات ،من جهة، مَثّلَت خُطوَةً لتُوجِّه شُعُوب الأقطار التّابِعة أنظارَهَا نحو الطّبقة العامِلة في الأقطار "المُتَقَدِّمَة" ونحو طبَقَاتِها العامِلَة أيْضًا،ومن جِهةٍ أُخرى ، طَوّرَت ونَشَرت فَائِدة الخَوْض في مَسائِل الحَرب والتّدخُّل الإمبرياليّ في الأقطار "المُتقدِّمة".


إنّ الدّرسِ الرّئيسيّ من هذه النّضالات المُحْتَدِمة على مُسْتَوَيَيْن:معركة ضدّ الهجمات الإقتصاديّة والإجتماعيّة وأُخرى ضدّ الحُرُوب والتدخّلات ، هُو الآتِي : على عكسِ مَا قِيلَ ، مع انهيار الإتّحاد السُّوفياتيّ و"الكُتْلة الشّرقيّة" ، لم يُصبِح العالم "جزيرة سلام" للشّعُوب والأفراد والطّبقات؛ ولنْ يَستطيع البقاء أيْضًا ،فَقط، مَسرحًا للنّزاع داخِل الإمبرياليّة وساحةً للهَجمَات ضدّ الطّبقة العَاملة والشُّعُوب. فلَقَد كانت نضالات ومُقاوَمة الشّعُوب والطّبقة العاملة ضدّ الإمبرياليّة ورأسِ المال ،واحدة من الحقائق المُمَيِّزة له دون شك ،خاصّةً أنّها لمْ تكُن تَسير في خَطٍّ مُتَقَطِّعٍ.


نِظام رأسِ المَال


كانَت هذه الفَترة مِن الإستِغلال المُكثّف والقًمع على الصّعِيد الدُّولِيّ ، ومِن إعادة تَمَوْقُع الأَقطاب المُختَلفة المُتَصَارِعة داخل العالم الرّأسمالِيّ، مرحلةً جديدةَ من التّناقُض البارِز بعُمْقٍ مُتَنَامٍ ، سواء بين المجموعات الرّأسمالِيّة والأقطار الإمبرياليّة أوَّلاً ، أو ثانيًا بين الإمبرياليّة والرأسماليّة في مُواجهة الطّبقة العاملة والشُّعُوب؛ وبلا شكّ، كانت مرتبطةً بشكل وثيقٍ بالوضع الذي أفْرَز الصِّرَاعيْن ، وتَصَلّبَت مع إنهيار الإتّحاد السُّوفيَاتيّ و"الكُتلة الشّرقِيّة" ، لِيَتَّخِذَ رأس المَال زِمامَ المُبَادَرة بِسُرعةٍ.


وإن كانَ هُنَاك بَعض مَن يَعتَقِدُ بأنّ "العالمَ قد تَغيّر " فإنّهُ في الواقِع،لم يَكُن هُنَاك شَيءٌ غَير عَاديّ لإِثَارة الدّهشَة فِي مَا حدَثَ؛فالعالم الذي يلهَثُون لِتَقدِيمِه في ثَوْبٍ جَديدٍ هُو نفسُه المُعاش في القرنِ الماضِي المُرتكِز على الإنقِسَام وعلى التّناقُضِ بين رأس المال والعمَل ، وبيْن الأقطار "المُتقدّمَة" والتّابِعَة ، وتناقُضٍ بين الأقطار "المُتَقَدِّمة" ذاتها. وسَوَاءً كان ذلك في ما أُشِيرَ إليه في البداية أو ما إنْبَثَق عن هذا الواقِع،فإنّ مُرتَكَزَهُ يَكْمُنُ في هذه الإنقِسامَات والتّنَاقُضَات.


عالَمٌ مُعوْلَم ، وسياسَات كَوْنِيّة ، ولا معنى القَوْمِيّات،ومافوق الأمّة (supranation)،الخ الخ...؛ لقد أظهرت التّناقضات دَاخِل هذا العَالم ، بِما يَنْجَرُّ عنها ، أنَّ هَذِه الطُّرُوحات هي مجرّدُ غَوْغَائِيّة مَحْضَة، إذ كانت الخمس عشرة سَنَةً الأولى من وَهْمِ "العالم المُعَوْلم" كافِيَةً لإظهار أنّ الرّأسمَاليّة فِي تَنَاقُضٍ عِدَائِيٍّ مع تَيّار "العولمة" و "تجاوُز الأُمّة" ، والتغلّب على الإنقِسامات الطّبقيّة والوطنيّة : إنّ تَشجِيع التقدُّم الشّامل للإنسَان لن يتحقَّق إلاّ مع إمكانِيّة وحيدة بِتَصفِية رَأس المَال مِنْ قِبَل العُمّال.
- II -


عُدْوَان ،صِرَاع وإمبِريَاليّة


مُنذُ بِداية التِّسعِينات،كان وُجُود ثلاث قُوى رئِيسِيّة إقتصاديّة وماليّة تعمَلُ على حِماية نفسِها وحمَاية أسواقها هُو السِّمَة الأبرَز ، سَعت هذِه القوى للإنتشار أينمَا كان وتَعَامَلت في تنْسِيقٍ تامٍّ لفَرض "برامج التّحرِيرالإقتِصادِيّ" على بقيّة العالم : أ) الوِلايات المُتّحدة الأمريكيّة خَلَقت مسَاحة للحِماية مَعروفة بإِسْم إتّفَاقِيّة التّبادُل الحُرّ في شمال أمريكا (NAFTA(ALENA ؛
ب) والاتحاد الأوروبي يُقدِّمُ نفسه على أساسِ أنّهُ سوقًا مشتركة.
ج) وتُعتبر اليابان رائدة الجنوب الشّرقيّ لآسيا والمحيط الهادئ.


أظهَرت حركة رُؤوس الأموَال و التطوّرات الإقتصاديّة والماليّة أنّ حجمَ رأس المال المالِيّ المُهَيْمَنِ عليه بأشكالٍ مُختَلِفة من هذه القوى الثلّاث الصناعيّة الكبرى ، قد تَرَكّزَ بشكلٍ مُفرط وبَلَغَ مبالغ كبيرة جدًّا. هذا الإتّجاه نحو التّركُّز والمَركزِيّة المُلاَحَظ بِدايةً من النّصْفِ الأخِير من الثّمانِينات،تحوّلَ إِلى مَوْجةٍ في التِّسعِينات تواصَلَت إلى نِهاية هذا العقْد لتَتَجَاوَز مُستوًى لم يسبِق له مثِيل؛ولقد أظهرَت حَجم العمليّات التي أجرِيت في المؤسّسَات المَاليّة ، ومَوجة الإندِماجات وتحرُّكُات رُؤُوس الأموَال الأخرَى ،هذه الحقيقة بوضوح؛وعلى سَبِيل المِثال ، أُنفِق مِن المَال فقط لشِراء الشّرِكات مِقْدَارًا هائلاً وصَل 3.3 تريليون دولار في سنة 2000.


كان لا بُدَّ لِهذا الإتّجَاه نَحو تركُّز ومركَزَة رأس المال المُنْتَشِر أن يَتْرًك أعمق الأثر على الجَامِع المُشتَرك والوِحدة الظّاهِرِيّة لهذه القوى الثّلاث وقُوى أخرى مثل روسيا أو الصّين. بالإضَافة إلَى مَا نَتَجَ عن الحقيقَتَيْن النّاجِمَتَيْن عن إنْهِيَار الإتّحَاد السُّوفياتِيّ و"الكُتلَة الشّرقِيّة" ، بدأ من النصف الثاني للتِّسْعِينات ، وخاصة بعد عام 2001 ، بالطّفُوِّ إلى السّطح أكثر فأَكثَر وبشَكلٍ مُكثّفٍ وعميقٍ،وَقَائِع مُتَعَدِّدة :

أ‌- تجدّد وإعلان الهُجوم على الطّبقة العاملة والشُّعُوب مرّةً أًخرى ، بدءا من عام 1996 مع خُطّة "الإصلاَح الهَيكَلِيّ" وتَضخِيمها.
ب‌- بُرُوز الصّراع بين الإحتكارات والدُّول "الكُبرى" على الأسواق ومناطق النُّفُوذِ لِيَأخُذ أبعَادًا جديدةً في وقت مبكر من سنوات الألْفِيّة الثّانِية مع صُعُود النّزعة العَسكريتَارِيّة والتوجُّه نَحوَ عسْكَرة الإقتِصَادِيّات.

يُعَادِلُ تكثُّف وتَركُّز رأسِ المال تَكاثُر إحْتِياجَاتِهِ ومُتَطلِّبَاتِهِ مَعَ نُمُوّ المَجمُوعَات الإحْتِكاريّة عن طريق الإندِمَاج وعمليّات الشّرَاء والإستِغْلال الأقصى؛ وبِالتَّالِي فإنّ هجَمَات رأسِ المَال مَعَ إنْتشَار وتوسُّع النِّزَاع بين الأقطَار والمجمُوعات الإمبِريَالِيّة لا مَفَرّ مِنْه.




هَجَمَات مُتَجَدِّدَة ومُقَاوَمة لا مَحِيد عَنهَا


كان لتَطَوُّر الحَركة النِّضَالِيّة لعُمّال فرنسا وإيطاليا تَأثِيرًا على تباطُؤ الهَجَمات المُتَسَارعَة مع إنهِيار "الكُتلة الشّرقِيّة" والمُنتَشِرة في كافّة أنحَاء العَالم بعد أزمة عام 1993 . ولقد كانت أقطارًا أورُوبِّيّة تلك التي تأخّرت في الهَجْمَة الهَوْجَاء على قُوى الإنتاج نَظَرًا لإحتيَاجَاتٍ عاجلةٍ ضاغِطة، في أورُوبا ، وبِصِفَةٍ "غير مُتوقّعة" ، بَرَزَت الطّبقة العَامِلة فَلَمْ تَتْرك الكثير من الفُرَص لرَأس المال. ومع ذلك ، لا يُمكِن لرَأس المال الأُوروبي أن يَتَرَاجَع أو حتّى يَنَال قِسْطًا من الرّاحَة في مُواجَهَة العُمّال.
أمّا الأنغلو ساكسون ، الأوفِيَاء لِنَبِيِّهِم "اللّيبِرَالي" ،وعلى الرّغم من بَعض الأعبَاء المَاليّة ،فقد كانُوا يُسجِّلُون بعض التّقدُّم في مجال وضع الحياة العَمَلِيّة "مَوْضِعَ الإِصْلاَحِ والمُرَاجَعَة". ومَا وَراء "الإصْلاَحات" التي تمّت في مجال التّرْبِية والتّعليم ، والضّمان الإجتِماعيّ الخ، ضَمَّت الوِلايات المُتّحدة في عام 1996 حوالَيْ 34 مليونًا من العُمّال بدَوامٍ جُزئِيّ في إطَار "تشْغِيلٍ مَرِنٍ". وشَمِلَ هذا النّوع مِن العَمل "المَرِن" بجُزء فقط من الوَقت حتّى ذلكَ الحِين 50 ٪-;---;-----;--- من العاملين في هولندا و 43 ٪-;---;-----;--- في بريطانيا؛ بينما تَقَلَّص أُسبُوع العَمَل في أُوروبّا إلى 35 ساعة. في بلدٍ مِثل الوِلاياتِ المُتحِدة ، حيث الإنتَاجِيّة وتَنظيم العَمَل مُتَطَوِّرٌ نِسْبِيًّا ،إشْتَغَل العُمّال ،في سنة 1995، قُرَابَة 164 سَاعة زِيَادَةً عن الحَدِّ القَانُونِيّ في السّنة مُقارنةً مَع العشرين سَنَةً الماضِيَة.أمّا اليابان فَسُمْعَتها تَدِينُ إلى "المُرونة" و "حزام المُؤهّلات" الشّهير.


لَمْ يَعُد بِإمْكَانِ أيِّ طَبَقَةٍ رأسمالِيّة في القارة أن تتحمّل أكثَر مِثْل هذِه الوَضعِيّة فَلَقَد زَادَت حِدّةُ مُطَالبات الإحْتِكارات بالتّوَازي مع نُمُوِّها وإزْدِيَادِ أحجام هذه الإحتِكارات؛من هُنا، يُصْبِحُ تجدُّد الهُجوم ضرُورِيٌّ ليس فقط في أوروبّا بَل أيضًا في اليَابان والأقطَار الأنغلُو سَكسُونيّة. من ناحيةٍ أُخرى ، ومع إدخَال "الكُتلة الشّرقِيّة السّابِقة" في الزّريبة ، تَكَوَّنت "ظروفٌ تَنَافُسِيّة" من شأنها أن تُسَاهِم في خَفْضِ الأُجُور وتكَاليف اليَدِ العَاملة لا سِيّما في الأقطَار "المُتَخلّفة" ولكن أيضا في الدُّول "المُتقدّمة" على الصّعيد العَالَمِيّ. وعلى سَبِيل المِثَال ، كانت تَكلفة العَمالة 28 سنتا يومِيًّا في الصّين ، و 1.5 دولار في المِكسيك؛لِذَلِك كانت وِجْهَةُ الأقطَار المُتَقدّمة نحو دُوَلٍ مثل الصّين والمكسيك ، ورومانيا ، وهلمّ جَرًّا:لقد كَانَت القَاعِدة التي لا مَهْرَب مِنْهَا للمُنَافسَة "الحُرَّة".

لم يكُن بإمكان الهَجَمَات المُتَزَايِدة لِرأس المال الإقْتِصَار على الطّبقة العامِلة وَحْدَها فَاَصْبَح من "الضّرُورِيّ" وَضع خُطّةٍ مَضْمُونَةٍ و مُكَثّفَةٍ خاصّةٍ بالأقطَارِ التَّابِعَة المدفُوعَة بالفعل إلى اعتماد "برامج تَحرِير الإقتِصَاد" والتي حقّقَت "تقدُّما" في هذا الصّدد. وإجتمعت برامج الإصْلاَح الهيكليّ المُفرغَة من أيّ مُحتَوى "إجْتِمَاعِيّ" أو "وطنيّ" مع إتِّفَاقِيَّاتٍ مثل الإتّفاق المُتعدّد الأطرَاف بِشأن الإستِثمَار( M.A.I. : Multilateral Agreement on Investment) الضّامِنة للّتنفِيذ السّليم لهذه البرامج ، وإنْضَافَ لَهَا القبول من حيث المبدأ على عُلْوِيَّة المَحَاكم والقانُون الدّوَلِيَّيْن ليس فقط للفَصْلِ في نِزَاعَاتٍ صناعيّةٍ وتِجاريّةٍ ومَالِيّةٍ ، ولكن أيضَا في مسائِل الزّرَاعَة؛ لتُصْبِح "القانون الأساسيّ /المَرْكَزِيّ" لهذا الأقطَار التّابِعة!




الطّبِيعَة العامّة للهُجُومِ ومَضمُونِهِ


أُلْزِمَ عُمّال وشُعُوب الأقطار التّابِعة في المَقَامِ الأَوّلِ بِدَفْعِ التّكلُفة الأثْقَل في سنة 1996، كما هو الحال أيضا بعد أزمة عام 1993.
ولم تَعُد الأقطار التّابِعة مُطَالَبةً فقط ب"تطهير" أموالِها وإقَامة"التوازن" في ميزانيّاتها وتجارتِهَا الخارجيّة وإنّمَا إنْضَاف لَهَا إلْزَامٌ بإستِخدام الخصْخَصَة كوسيلةٍ لتدمِير ونهبِ الهَياكل الصّناعيّة والماليّة والوطنيّة الخاصّة بِهَا ، والتّوقُّف عن إسْنَاد الإعَانات الزّراعيّة للاستيلاء على الأراضي الخِصْبَة ، الحُصُول على براءة إختِراعِ المنتَجات الفِلاَحِيّة والإذْن في إستِغْلال البُذُور ومَنْح الحقّ للأقْطَاب الإحْتِكَارِيّة في إدارة الإنتاج الزراعيّ؛مع فتْح المَرَافِق العَامّة مثل التّعليم والصحّة الخ أمام المُنافَسَة ؛ إستِيعَاب الشّركات التّعَاوُنِيّة السَّابِقة وتسْهيل ظُهور نوعٍ جديدٍ لِمُتَعَاوِنٍ لن يَكُون أكثَر مِن مُجرّدِ خادمٍ : هذِه مُجَرّد أَمثلة لمَضْمُون الفَاتُورة المُقدّمة إلى هذه البُلْدَان.
لم يَعُد مَفْرُوضًا على الأقطار التّابِعة فقط تَحْوِيل إسْتِقلاليّاتِها لطابعٍ شَكْلِيٍّ فقط،ولكن الأهم من ذلك ، أصْبَحَت مُطالَبَةً،وبِصِفَةٍ فَجَّةٍ،بالقَبُولِ "الطَّوعِيّ" لِوَضْعِيّة "مُستعمرة إقتصاديّة وماليّة" لتحويلِهَا إلَى لِحَاءٍ جَافٍّ؛ وليس مِن بَابِ المُبالغة القَوْلُ أنّ مُعظَم هذه الأقطَار تَعيشُ فِعْلِيًّا حالةٍ من العُبُوديّة ومُعظمها قد قطَعَ أشواطَا في هذا الإتّجاه ؛على الرّغم من إرتفاع الدّفُوعاَت الفوائد على الدّيون ، وزيادة حجم صادراتها إلى بُلدانٍ مُتقدّمة ، فإنّ عِبء الدّيُون الخارجيّة لها وزن يَزْدَادُ ثِقَلَهُ مع فَقْرٍ في التّخلُّص مِن عَجْزِ التّجارة الخارجيّة ، وهُو "فَتِيلُ تَفَجُّر" الأزَمَات : تُخَيَّرُ هذه الدُّول بين التّعرُّض لصدماتِ الأزمات المُتَلاحقة وبيْنَ الرُّضُوخ ل "برَامج صُندوق النّقد الدُّولِيّ" التي تُمَثِّلُ بَلْطَجَةً وإفْتِرَاءًا لم يسبِق لهُ مثِيل.
بِخَنْق الأقْطَار التّابِعة،لم تعُد الدُّول المُتَقَدِّمة والإحتِكارَات الرّأسمَاليّة في حاجَةٍ للمُجازَفَة بضخِّ إستِثْماراتٍ كُبرى مثَلاً؛ وبالمُقارنة مع تدفُّق رأس المال المسجل دَاخِل البُلدَان "المُتَقدّمة"،فإنّ حجم الاستثمار المباشر إلى هذه الأقْطَار ، بِما في ذلك نَقْل مَجَالاتٍ تحتَاج إلى كثافة تَشْغِيل ، يَبْقَى هامشيٌّ جدًّا ؛فَعَلَى الرّغم من المُضَاعَفَة الثُّلاَثِيَّة بين 1990-1995 للمبالِغ المُستثْمَرَة في الأقطَارِ التَّابِعَة ،فإنّهَا بالكَادِ تَصِلُ ل84 مليار دولار لنَفسِ الفَترَة. بالإضافة إلى ذلك ،غَالِبِيّة هذه الأمْوَال التي تَذهبُ في مُعظمها إلى الأقطَار الآسيويّة والصّين ، تَتِمُّ إعَادة حَقنِها في مَسَالِك البُورصَات أو تُستَخْدَمُ لِدفْع الدُّيُون والإستِحْوَاذ على الدُّوَل. وبغضّ النّظر عن القِطاع الذي تُضَخُّ فيه ، لم يُوجَد حتى الآن بَلَدٌ "مُتَخَلِّفٌ" إستَفَادَ من الرَّسَامِيل المُوَرّدَة من البُلدَان المُتقَدِّمَة.
أوضَاعُ العُمّال لا تَخْتَلِف بإخْتِلاَف التَّصْنِيف القُطْرِيِّ غَيْرَ أنّ الأُجُور وتكَالِيف قُوّة العَمَل والحُقُوق الإجتِماعِيّة أقلّ نِسْبِيًّا في الأَقطَارِ التّابِعة؛ وعلى الرّغْم من هذا الوَاقِع،فإنّ عُمّال هذه البُلدان أيضًا يَتَمَتَّعُونَ بحُقُوقٍ مُعيّنَة إجتِماعِيّة وإقتِصَاديّة ودِيمُقرَاطِيّة تَمَّ إفتِكَاكُها من خِلال نِضَالَاتِهم أو عَبْرَ المُكْتَسَبَات التي حقّقها النّضَال الطّبقيّ العُمَّالِيّ الأُمَمِيّ. وتُشَكّل موجَة الهُجُوم الأخِيرَة تهديدًا خطيرًا لبَقَاء العَمَل نَفْسِه والأمرُ سَيَّانٌ لِكَافّة الأقطَار بإعْتِبَار أنّ البُورجوازِيّة المُتَعَاوِنَة تُصبِحُ في هذِه الظُّرُوف أشدَّ جَشَعًا.وتُطَالِب البُرجُوازيّة العَالَمِيّة بإستِمرَار تَغْيِيرالقَوانِين المُسَيِّرة للحَيَاة العَمليّة بِمَا في ذَلِك تِلْكَ التي تَمّ تَعديلها بإتّخَاذ"طَرِيق العَوْدة" إلى أدنى مستوى للحُقُوق الإقتصَاديّة و الإجتِماعيّة. وسوف تُستَخدمُ هذِه "العودة" كسلاحٍ فعّالٍ لإنْجَاح هُجُوم رأسِ المَال في أقطَارِ المَرْكَز.
عِلاَوة على ذلكَ ، لَم يَستَهدِف الهُجُوم فقط الأقطَار التّابِعة وعُمّالَها بَل شَملَ شَغِيلَة البُلدَان المُتقدّمة أيضًا حَيْثُ أصبَحَت موْضُوع عُدْوَانٍ واسع النّطاق مُنذُ العَشْرِيّة الأخيرة خاصّةً تَمَثَّلَ في إزَالَة جَميع الضّمَانات علَى التَّشْغِيلِ والأَمْنِ الوَظِيفِيّ بالمُرُونة في سَاعَات العَمَل والحَدّ الأدنى للأجْر، فتْحِ المُنافُسة لنُظُم الضّمَان الإجتِمَاعِيّ المَحْرُومَة بالفِعل مِنَ "المُسَاهَمَات"، التّمدِيد المُطلَق لأوْقَاتِ العَمل اليَوميّة والأُسبُوعيّة ؛ التّخفِيض فِي مِنَح البِطَالة ، التّرْفِيع في سِنّ التّقاعُد ،التّخفِيض فِي قِيمَة عُقُود التّشغِيل : في نِهَايَة المَطاف الحَدِّ من تَكلُفة اليَد العَامِلَة،هذا عددٌ قليلٌ من التّدَابِير المَفرُوضَة فِعْلِيًّا على العُمّال في تِلك الأقْطَار مُنذُ مُدَّة؛ مَرَّةً أُخرى،يَسْتَهْدِفُ الهُجُوم العُمّال بإجْرَاءَاتٍ تَحْرمهُم من أدْنَى فُتَات حُقُوقهم الإقتِصَادِيّة والإجتِمَاعِيّة.

ما هُوَ علَى المِحَكّ يَتَمَثَّلُ في تَصْفِيَة المَكَاسِب الوَطنيّة والطّبَقيّة التي حَقّقَتها النّضَالَات العُمّالِيّة البُطُولِيّة ضدّ الرّأسمَالِيّة لأكثَر مِن قَرنٍ ونِصفٍ وفَرَضَهَا كِفَاح الشُّعُوب ضِدّ الإمبريَاليّة مُنذُ أكثرَ من قرنٍ. يُدْفَعُ العُمّال إلى ظرفيّة مَا قَبْلَ إنْتِفاضَة ليُون(يونيو/حزيران-تشرين الثّاني/نوفمبر 1793) وما قبل الحركة المِيثَاقِيّة (التي هزّت بريطانِيا 1838-1848) مِثْلَمَا تُدفَعُ الشُّعُوب المُضطَهَدة لفَترَة ما قبل إستِقْلاَلَها ولو كان سِيَاسِيًّا مَحْضًا لتوجِيهِهَا لِمَرْتَبَة مُستَعمرةٍ إقتِصَادِيّةٍ: في حالِ لم تتَدَخّل عَوامِلٌ وأطرافٌ أُخرى فمن المُحتّم أن ّالرّأسماليّة والإمبِريَاليّة سَتُوَسِّع هُجُومِها ضدّ العُمّال والشُّعُوب لِتَحْقِيق هذِه الغَايَات.

إنتِفَاضة العُمّال والشُّعُوب


تدْفَعُ الحركَة المُتّبعة والمُتواجد فِيها رأس المال إلى مُواصلَة الهُجوم ضدّ الطّبقة العَاملة وشُعوب البُلدان التّابعة. لكنّ تُبَيّن الوَقَائع أنّ الهَجَمات لم تكُن دُون رُدُود في أيّ بلدٍ ، بغضّ النّظَر عنِ الشّكل الذي إتّخذتهُ : تدفَعُ الرّأسماليّة والإمبريَاليّة الشُّعُوبَ إلى الهبَّات والإنتِفاضَة.
عندَما بدَأت الهجَمات ، واتّخذَت شكلَ مَوْجَةٍ عامَّةٍ في منتصف التِّسْعِينات ، وَجَدت الطّبقة العَاملة ومَعنويًّا وتَنظيمِيًّا في أَدنَى مُستَوَيَاتِها ، سواء كان ذلك على النِّطَاق الأمَمِيّ أو الوطَنِيّ . صدّقَت شُعُوب الأقطَار التّابِعَة والقَومِيّات والأقليّات العِرْقِيّة الوَاقِعة تحتَ سِيَاط القَمع في تلك البُلدَان ،مع إستِثنَاءَات قليلة ، الأكَاذِيبَ المَرْوِيّة حولَ مَزايا "نِظامٍ جدِيدِ" و "عَوْلَمَة" فَسَقطُوا في "وهم" التّصحِيح والإصلاح الإمبِريَالِيّ ليُعَدُوا جيرَانَهُم .


بِلاَ جِدالٍ ، كانت أوضاع الشّغِيلَة في تِلك الظَّرْفِيّة أسْوَأ بِكَثِيرٍ من اليوم ، على الرّغم من أنّ الفَترة نفسهَا لا تَزال حَاضِرَةً مِنْ عدّة نَوَاحِي. ليسَ هُناك شَكّ في أنّ الظُّرُوف في العَالَم تَطَوّرَت لِتُلاَئِمَ الحرَكة العُمّالِيّة والشّعبِيّة اليوم ، على الرغم من نقاط الضّعفِ المُستَمرّة والمُغَذِّية للخَسَائِر؛ وبعبارةٍ أخرَى ، تَزَعْزَع الوَهمُ الرّاسِخُ مُنذُ 1985 وأصبَحَ بإمكَان العُمّال الإِسْتِفَادةُ على الأقلّ من بَعض تَجارب السّنواتِ الأخِيرة.
في كُلِّ الأَقْطَار "المُتَقَدّمَة" ، يَجِدُ العُمّال أنفُسَهُم بَعِيدِين عن صِفَة "الوَاثِق والمُرتَاح" التي بشَّرَ بِهَا رُسُلُ اللّيبرَالِيّة ما قَبْلَ سَنوات 1990-1995؛ فإِلَى جَانب خَفض الأُجُور وتدهوُر ظُروف العَمل ، والتّهدِيد المُتزايِد للأَمنِ الوَظِيفِيّ ؛يَتَضَخَّمُ شُعُورٌ من إنْعِدام الثّقَةِ في رأسِ المال بين الشّغِيلَة وفِي "قُوّة" بُلْدَانِهِم بِمَا يُعَمّق قَلَقًا "أصبَحَ سِمَةَ مُمَيِّزَةً" مِحْوَرُهُ أنْ لاشَيْء باقٍ على حالِهِ دُون المسَاسِ بِه وعلى رأسِ القَائِمَة حُقُوقهم، على الرَّغْمِ من إنتَشَار مَسَائِل وإشْكَالِيَّاتٍ بينَ عُمّال هذه البُلدَان تُسْتَخدَم ضِدّ تَطوِير الحَرَكة مثل قضيّة تَزايُد أعْدَادِ العاطلين عن العمل أو مسألة العَمَالة الوَافِدة/المُهَاجِرة.
بالتَّوَازِي مَعَ إمْلاَءاتٍ لا تَنتَهِي مُرْتَبِطَةٌ بتَضَخُّم رأس المال المُتَمَتّع بِرُكُود الحَركة ، تُشِيرُ الوقائِع إلى أنّ الحَركَة العُمّالِيّة مُتَّجِهَةٌ صَوْبَ "الحرارة" في أُورُوبا وفِي المَقام الأَوّل في فرنسَا وإيطَاليا؛وفي حِينِ أنّ التَّصَادُم بين العُمّال وحُكُومَات كِلاَ البَلَدَيْنِ يَتَسَارَع؛ يَتَنامَى في ألمانيا والقَلَقُ وإنعِدامِ الثّقة ؛ وحتّى في الدُّول الإسكَندِنافِيّة حيث يَبْدُو كُلّ شَيْءٍ مُسْتَقِرٍّ ،تنتشِر خيبَة الأمَل وشُعُور القَلق بين العُمّال رَاغِبِين في مَعْرِفَة مَصِيرِهِم و"أين يذهبون".
فَقَدَت الأحزَاب المُحَافِظة (conservateur) والإشتراكيّة الديموقراطيّة مِصداقيّتَها خِلاَلَ هذه الفَترَة الأخِيرَة من الهُجُوم. فالمُناقَشَات حول دُستُور الإتّحَاد الأُورُوبّي بإمْكَانِها أن تتَحَوّل لِمِنْبَر إستِقطابٍ سياسيٍّ جَديد ضِدّ الوِحْدَة الأُورُوبيّة ؛ والوَضعِيّةِ التي سَقَطَ فيها الإشتِراكِيُّون الدّيمُقرَاطِيُّون البريطانيّين والألمَان نَتِيجَة أَكاذِيبِهِم والمَوْقِف المَسؤُول للشّعْبِ الِإسْبَانِيّ ضدّ مُحاوَلةَ التّضْلِيل للحُكُومة اليَمِينِيّة ، هي عَلَامَاتٌ دَالّةٌ عَلَى "المَصلحَة السّياسيّة" للعُمّال.


من ناحية أخرى ، ودَاخِل الوِلايَات المُتّحِدة ، في مركَز الهُجُوم ذَاتِه ، تُحْرِزُ حركةٌ سياسيّةٌ شعبيّةٌ تَقَدُّمًا وتَشمَل مُختَلف الطّبقَات الإجتِماعِيّة ؛ فَلَقد تَجَاوَزت الحَرَكة ضدّ "القَانُون الوَطَنِيّ" (PATRIOT Act) الدّعْم المُقَدَّمِ فِعْلِيًّا من طَرَفِ مَجْلِسَيْ أَقَالِيم لِتَحْصل على إسْنَادِ 300 مَجْلِس بَلَدِيّ ؛ أمَّا حَرَكة المُعَارضة الفِكريّة ضدّ الحُرُوب والإحْتِلاَل فَقَد جَمَعَت أكثر من 40 ألف توقيعٍ . إثنَان من أكبر الإتّحَادَات العُمّاليّة ، قَامُوا ب"الخُطوة الأُولَى" في مُؤتَمَرِهم بإتّخَاذ قَرَار طَلب إنسِحَاب الوِلايَات الُمتّحدة مِنَ العِراق. بالإِضَافة إلى ذلِك ، فإنّ الوَقَائِع تُشير إلى مَسَارٍ جديدٍ مِن التّدَهوُر الإقتِصَاديّ ، وفي هذه الظروف ، إمكانِيّة التحرُّك العُمّالِيّ على قَاعِدة مَطَالِب إقْتِصَادِيّة وَارِدَةٌ جدًّا .
وعِلَاوة عَلى ذَلك ،لَا جِدال أنّ "مُطَالبَات" رَأس المَال بأُسبُوع عَملٍ يَصل إلَى 50 ساَعة وإمكَانيّة 73 ساعة أو الإعفَاء الضَّرِيبِيّ الكُلِّيّ لِصَاحِب العَمَل والشَّرِكَات ، سَوفَ يُعَمّق الإستِياء العُمّالِيّ . تَبْدُو بُورجوازِيّة الأقطَار "المُتَقَدِّمة" وَاثِقَةً في الكثير من مُنْجَزَاتِهَا مثلَ البطَالة والتّهجير دُون أنْ تَأخُذ على مَحمَل الجِدِّ خَطَر تَفَكُّك البِيرُوقرَاطِيّة النّقَابِيّة و إنْبِعَاث لِجَان النّضَال دَاخِلَ المُؤَسَّسَات وإنْتِقَال النَّقَابَات لمُعَسْكَرات الكِفَاح لِتَبْزُغَ من جَدِيدٍ "إضرَابَاتٍ شَرِسَة". كُلّ المُؤشِّرَات تُؤكِّدُ أنّهُ في تِلك الأقْطَارِ "المُتَقَدّمة" الدَّافِعَة بالعُمّالِ إلى ظروفٍ بدائيّةٍ سَتَحْصُل "مفاجآت" في المُستقبلِ القَرِيب.


حالة البلدان التّابِعَة مَعْرُوفة ؛ فَلِمُوَاجهة عبء الأزمة و تَكَالِيفَ بَرامِج صُندُوق النّقد الدُّوَلِيّ وَقَعَ حِرَاكٌ هَامٌّ تصَاعُدِيٌّ وَصَل لمُستَوى إنتِفَاضَاتٍ جُزئِيّة. لكن هذه الأقطَار تَشْهَدُ رُكُودًا نِسْبِيًّا مَرَدُّهُ الإنْهَاكَ القَمْعِيَّ حِينًا، أو سِيَاسَة الإسْتِرضَاء المُتَّبَعَة من بعض الحُكُومَات الإصْلاَحِيّة الواصِلَة للسُّلطة حِينًا آخر .
ومعَ ذَلك ،لقد إستَمَرّ التّدهوُر الإقتِصَادِيّ وسَاءَت الظُّرُوف المَعِيشِيّة خلال السّنَوات الخَمس عشرَة المَاضِية. في هذِه الأَثْنَاء ، تَرْفُضُ الطّبقَات الُبرجوَازيّة المُتَعَاوِنَة/المافيَاوِيّة في هذِه الدُّوَل الإعتِرَافَ بأيّ حُقُوقٍ للعُمّال. فَعَلى سَبيل المِثال ، أخَذَ الهُجُوم على الطّبقة العَامِلة وجماهير الشَّغِيلَة في التّزَايُد حتّى في أَقْطَارٍ مثل المِكسيك والبَرازيل وتُركيا التي تَشْهَدُ نَوْعًا مِن "النُّمُوّ" الإقتِصَادِيّ : تُبَيِّنُ الإمْلَاءَات المَفْرُضَة علَيْهَا من رأسِ المَال العَالَمِيّ أنّ ظُرُوف المَعيشَة سوفَ تَزدَاد سُوءَا أكثر فَأَكثَر .
تُشِير المُعْطَيَات إلى أنّ هذِه البُلدَان ، لَا سِيّمَا الأَكثَر نُمُوًّا بَيْنَها ، قَد فقَدَت مَا يَقرُب مِن نِصفِ "الأُصُول الوَطَنِيّة"(national assets) وتَتَجَاوَز دُيُونها أَلْفَيْ مِليار من الدُّولاَرات. وعلاوة على ذلك ، فإن هذا الصِّنْفَ من الأقطار التَّابِعة ؛ الفَاقِد لأصُولِهِ والمُرتَمِيّ في مُستَنْقَعِ المديُونِيّة و"الأكثَر نُمُوًّا !"؛ وكمَا تَبَيَّنَ جُزْئِيًّا خلال الأَزمة الآسيوِيّة وتركيا وأثنَاء الإنهِيَار الأرجُنتِينِيّ في أوَاخِر 2001 ،مُعظَم النّقَاط الأكْثَرَ إستراتيجيّةَ فِي إقتِصاديّاتهِ التَّابِعة و"الغنية !" مَمْسُوكَة مِن قِبَلِ مجموعاتِ رأسِ مالٍ إمبرياليٍّ ؛ وتَلْعَبُ هذِهِ المجمُوعات الرّأسمَالِيّة وحُكُومَاتها مع تِلكَ الأقطَار عبر التّلْوِيح ب"عَصَا الأزْمَة".
ما يَقْرُب مِن نِصف سُكّان البُلدَان التّابِعة "الغَنِيّة" ، وأكثر من نِصفِ سُكّان البلدان التّابِعَة "الفَقيرَة" يَعِيشُونَ تَحت خَطّ الفَقْر؛ ومُعْظَم الأقطَار الإفرِيقِيّة دُمِّرَت ومُسِحَت ؛ بَعض الدُّول الآسيويّة مِثل فيتنَام أو أمرِيكا اللاّتِينيّة أُنْهِكَت من الفَقرِ المُزمِن النَّاتِج عن إمْلاَءَاتٍ إنْتِقَامِيّة للإمبِريَاليّة. في معظم هذه الدُّوَل،فَاضَت الكُؤُوس أو كَادَت.
بِغَضِّ النَّظَرِ عن واقِع الخُضُوع الكُلِّيِّ والإصطِفَاف الطَّبَقِيٍّ،فإنّ "النّظام العَالَمِيّ" الرّاهن بِخُطّة "التّحرِير الإقتِصَادِيّ" المَطلُوبَة مِن قِبَل القُوَى الكُبْرَى ، لا تَتْرُك فُرصةً لتَحسِين الأوضاعِ وتَنْمِيَةِ الشُّرُوط المَعيشِيّة لِشَغِيلَة هذه البُلدَان التَّابِعة المُحْتَضِنَة لِطَبَقَةٍ عَامِلةٍ أكبَر وأكثَر خِبرَة ، وليس هناك من سبب لتأجُّجِ حَرَكاتٍ عَفوِيّةٍ وإضرَابَاتٍ كُبرَى وأُخْرَى عَامّة وحتى إنتِفَاضَاتٍ شَعبِيّةٍ كما حَدَثَ في بُولِيفِيَا ( تشرين الأول/أكتوبر 2003).
ولكن من الخطأ تَوَقُّع أنّ كُلّ حِرَاكٍ عُمّالِيٍّ سَيَتَحَوّل بالضّرُورَة وفي أيِّ ظَرْفٍ لِحَركةِ مُقَاوَمة ؛ فَبِاستِطَاعة طَبَقاتِ رأس المال والحُكُومَات دَفْعَ التّحرُّكَات الجارية عَبْرَ التَّهْدِئة أو القَمع. يُمْكن أَن تَظهَر الحَرَكَة بِشَكلٍ أو بِآخَرَ في بلدٍ واحدٍ ، بينما في حالات أخرى تُخَدَّرُ عن طريق الإنتِخَابَات أو غير ذلك قَبْلَ حَتّى تَشكُّلِهَا ؛ ولا يُمْكِنُ إستِبعَاد هَذه الإحتِمَالاَت خُصُوصًا في الظُّرُوف الحاليّة.


مَا لاَ تَجَاوُزَهُ هُو الآتِي : إنّ الرّأسماليّة والإمبرياليّة تضتَوَرَّطُ أكثر فأكثَر فِي مُواصَلة هجَمَاتهم ؛ في المُقابِل، لا تَمْنَحَهُمَا الطّبقة العامِلة والشّعُوب التّابِعة على طَبَقٍ من ذَهَبٍ ما تحتاجَانِ إليهِ ،غَيْرَ قَابِلِين بالظُّرُوف المَعيشيّة المُقَدّمَةِ لهُم. لا يُمْكِن أنْ يَرقَى الشّكُّ لتنامِي الحركة الشّعبِيّة للطّبَقَة العامِلة لِتَتّخِذَ أَشكَالًا أكثَر تَطوُّرًا ، بَعِيدًا عن التَّمَشّي والمَسَار الذي ستتَّبِعُهُ.
في الختام ، فإنه لا يُمكِن بأيّ شَكلٍ مِن الأشكَالِ مَنْع نِضالاَت عُمّال الأقطَارِ "المُتقدّمة" و"المُتخلّفة" ، وكِفَاح شُعُوب البُلدَان التّابِعَة من التّطَوُّر لتُصْبِح ، في ظروف مُعَيَّنة ، تَصْفِيَةٍ نِهائيّةٍ للحِسَاب. لكن لا يمكنُ التّحدِيدُ والمَعرِفةُ سَلَفًا أين ستضَع الأزمَة أوزَارَهَا، وماهِيّة مَسَار الهُجُوم وتَمَشِّيهِ في كُلّ بَلَدٍ ، وكَيْفِيّة مُراكَمة ولأيّ درَجَةٍ من التّراكُم تُعْتَمَدُ لِتَشْكِيلِ عَنَاصر إنفِجَارٍ مُحتَمَلٍ ، ومكَان وآلِيّات تَمَظْهُرَات الإنتِفَاضة ؛ كَمَا لا يُمْكِنُ "التّكهُّن" بشأن مُمْكِنَات المُقاوَمة أو الخُضُوع في مُواجَهة الهجَمَات الأُولَى. ما هو أسَاسيٌّ يَكْمُنُ فِي حَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ هي: لا يمكنُ منع الفَصْل بين العُمّال ورأسِ المَال ،بين البُلدَان والإمبِريَاليّة ، وإن كان ذَلِك بِمَشَقَّةٍ كُبرى تكُونُ مَوْضِعَ تَرْحِيبٍ كُلِّيٍّ في النّضَالَات والمَعَارك.


الصّراع من أجل الهيمنة والتّشكُّل الحَتْمِيّ للكُتَل


كُتلة رأسِ المَال تَرَاكَمَت وتَرَكّزَت في البُلدان المُتَقَدّمَة بأحْجَامٍ هائلةٍ ، وتتَوَزَّعُ بين إقتِصَادِيّاتِها الكُبرى بِشَكْلٍ لامُتكَافِئ. في منتصف التّسعِينات وأوئل الألفِيّة الثّانِية، يُمكن القَوْل أنّ حركَة الرّسامِيل كَانت أكبَر في أقطَار الإتّحاد الأورُوبي ؛ فَوِفْقًا للأرقام المُصَرَّحِ بِها ، إستثمَرت الأقطَاب الإحتِكارِيّة الأورُوبيّة 1,218 مِليَار دولار في عَمَلِيّات شِراءٍ و "إعادة هيكلةٍ" للمُؤسَّسات. الأهم من ذلك ، وصلت إستِثْمَارَات المجمُوعات الأوروبيّة الإحتكاريّة في عَمَلِيّات إندِماج مُستَوى 1,478 مِليَار دولار ، وهُو ما يُعادِل في ذلك الوقت ، نِصف إجمَالي المَبَالغ المُستَثمَرة في العالم لعَمليّات الدّمْج . وَمَثّلت الرّسَامِيل المُصدّرة من الفضاء الجغرافِيّ الأورُوبّيّ للوِلايات المُتّحِدة بهَدَفِ التّوظِيف في عمليّات إندِمَاجٍ ما مجمُوعُهُ 265 مِليَار دُولار في الفترة 1999-2000، أي ثلاثة أضعاف أكثر ممّا كَان فِي الإتّجَاه المُعَاكس. وعلاوة على ذلك ،وإذَا ما تمّ إحْتِسَاب أكبر خمسة عمليّات دمجٍ، يُشكّلُ المُشترُون الأورُوبيُّون ثلاث مرّاتٍ العدد الإجماليّ للمُشترِين .
هذا لا يعنِي بطَبيعَة الحَال تراجعًا حقيقيًّا لرُؤُوس الأموال الأمرِيكِيّة ؛ في المُقابِل، تمكّنت المجمُوعات الرّأسمالِيّة اليَابانِيّة على الرغم من الخسائر القليلة والأقطاب الإحتِكارِيّة الأوروبيّة مِن إستغلال ظَرْفِيّة الأزمة والرّكُود ، لتحقِيقِ نُمُوٍّ سَريعٍ. بالفعل في عام 1995 ، وفي حين أن عددا من الشركات الأميركية لم تُسَجِّل إرتِقَاءًا يُذْكَر مقارنة مع الوضع في عام 1990 ، حَقَّقت المجموعات اليابانية (37) والأُورُوبيّة (38) إختِرَاقًا كَبيرًا في قائمة أكبر 100 شركة في العالم.


كان لا بد للصّرَاع بين الدُّوَل والمَجمُوعات الإحتِكاريّة حَول الأسوَاق ومنَاطِق النُّفُوذ أن يَحْتَدّ ويتَعَمّق خاصّة مَعَ الخَلَل المُترَاكم (disproportionate market) سابقا ، ولكن أيضا بسبب التّكثُّف الرّأسمالِيّ (intensification) وهُوَ ما حَدَث فِعْلاً .
إنْتِعَاش الصِّرَاع حَوْل الأسْوَاق وَمنَاطِق النُّفُوذ


لإنْهِيار وتفَكُّك "الكُتلَة الشَّرقِيّة" أهَمّيّة خاصّة لاَ سِيّمَا بِالنّسبَة للوِلايات المُتّحدة وألمَانيا والمَجْمُوعات الرّأسمَالِيّة في هذه البُلدان؛فلقد عَمَدت الأقطاب الإحتِكَارِيّة الأمريكيّة وحُكُومَتِهِم إلى إتّخاذ وسائل الإعلام والمُؤسّسات الماليّة الرُّوسِيّة كَأَدَواتٍ لها وُصُولاً "للتّكنُولُوجيا العَالية" المُتَبَقِّيَة من الحَقبَة السُّوفِياتيّة ، ودفْعِ التّعَاوُن بين الجناحين اللّيبرالِيّ والمافياوِيّ للبُرجوازيّة الرُّوسِيّة "المُتَحَوِّلَة" ، وبالتّأكِيد ،عَمِلَت على السّيْطَرَة على شَرِكَات الغَاز والنّفْط الرُّوسِيّة ومُرَاقَبة مَنطقة القُوقَاز وبَحر قَزْوِين. أمَّا أقطاب الإحتكار الألمَانِيّ وحُكُومَتِهِم، و كَزعامَات لأُورُوبا ، فقد إستَهدَفت جَنُوب شَرق أوروبّا نَفْسِهَا ، وهي منطقَة ذَات أهَميّة تَاريخيَّة مُضَافٌ لَهَا مِحْوَر أُورُوبا الشّرقِيّة - مُوسكو. ومن الواضح أن هذا المجال الجَغْرَافِيّ ذُو خُصُوصِيّة أثارت شَهِيّة المجموعات الرّأسْمَالِيّة الأُخرَى اليَابَانِيّة والأُورُوبيّة الأُخْرى والفِرَنسِيّين على رأسِهِم.
فِي نَفس السِّيَاق، لم يكن الصِّرَاع لِيَهُمّ فَقَط مُجَرّد "الشَّرْق" ، فلَقَد كانت ظَرْفِيّةَ إنْتِعَاش إعَادَة تَقسِيم العَالم ، وبالتّالي فإن مَجَال النِّزَاع أَشْمَل من "الكُتلَة الشّرقِيّة" السّابِقَة ؛ فَتَمَدّدَ الصِّرَاعُ سَرِيعًا بَين الدُّوَل والجَمَاعَات الإحْتِكَارِيّة حَوْلَ أسواق البُلْدان "المُتَقدّمة" ، إلى مناطق مثل الشّرق الأوسَط وبَحر قَزوِين والقُوقَاز ، والبَلقَان ، وآسيا والمُحِيط الهَادئ ، والمَكسيك ، والأَمَازون و أقطَار أفريقِيا السّودَاء جَنُوب الصّحرَاء ؛ وهِي مَجَالاَت "جذاّبَة" إقتصاديًّا وعسكريًّا اليَوم وغدًا.


جَدّدَت الوِلايَات المُتّحدة والإحتِكَارَات الأمرِيكيّة والبُنُوك في المَقَام الأَوّل ،علَاقاتها وعزَّزَت موقِفَها في فضاء التّبادل التِّجارِيّ الحُرّ لأمريكا الشّمَالِيّة (ALENA) ، وفي جميع بُلدَان أمريكَا اللاّتِينِيّة تَقريبًا عَبْرَ حملَاتِ "التّحْرِير الإقتِصَادِيّ" التي بدأتها مُنذُ مُنتَصَف الثّمَانِينَات ؛ وبِشَكْلٍ مُتَزامِنٍ،ترَكَّزت الرّسَامِيل الأمريكية مَعَ إتِّجَاهِهَا نحو مزيدٍ مِن الحِمَائيّة لِسُوقِها المَحَلّيّة (وخصوصا في التعامل مع الإحتكَارات الأُورُوبيّة واليَابَانِيّة) ، خلال التِّسْعِينَات ، مَعَ إهْتِمَامٍ مُتَزَايدٍ بِمَنَاطق القُوقاز-بحر قزوين والشّرق الأوسَط ، إلى جَانب مَناطِق مِثْلَ أُورُوبا ورُوسيا والصِّين وآسِيا -المُحِيط الهَادئ.
من ناحية أخرى ، تشير الدلائل إلى أن مجموعات رأسِ المال الأمريكية رَكَّزَت ، بِدَايةً مِنَ التِّسْعِينَات ، إسْترَاتِيجِيَا خاصّةً لِتَعزِيزِ مَوَاقِعها في أُورُوبا ؛ وبِغَضِّ النّظَر عمّا قامَت به لمُدّة عَشر سَنَوَات ، فَقَدْ إسْتَثمَرَت رُؤُوس الاموال الأمرِيكِيّة فيمَا بَيْنَ 1999-2000 مبْلَغَ 90 مِليار دُولار في دُوَل "مِنطَقة اليُورُو" وُجِّهَت لِعَمَلِيّات الإستِحوَاذ على الشّرِكات . وكَانَ وَاحدًا من أَولَوِيّات الولايات المتحدة "أَمْرَكَة" أُورُوبا ونَشْرِ ثَقَافتِها (الماديّة والفِكرِيّة) بِمَا يَجْعَلُهَا سُوقًا وَاسِعَة النِّطَاق من الملابس إلى الموسيقى والغِذاء والسّينِمَا .
وعَلَى الرّغْمِ مِن أنّ اليَابَان تُعْتَبَرُ مجالَ نُفُوذِهَا الطّبِيعِيّ ، بَاتَتْ مِنطَقَة المُحِيط الهَادئ -الصّين وجَنُوب شَرق آسِيا مَطْمَعًا على نَحْوٍ متزايدٍ للإحتِكَارَات الأمرِيكِيّة والإنْجلِيزِيّة المُتَنَازِعَة ليس فقط ضدّ اليَابَانِيّين ، ولكن أيضًا ضِدّ الإحتِكَارَات الفِرنسِيّة والألمَانِيّة فِي مُحَاوَلَة إحتِواء هَذَا المَجَال. وتَعتَزِم اليَابَان أنْ تَكُون قُوَّةً حَاسِمَةً في المنطَقَة بِتَوْسِيعِ نُفُوذِها في المُحِيط الهَادئ وَوُجُودها في الصّين عَبْرَ الحفاظ على الضّغط بالتَّعَاوُن مَعَ الوِلَايَات المُتّحدة ؛ لَنْ تَتَقَيّد البُنُوك اليَابانِيّة والأقطاب الإحتكاريّة في الالكترونيّات والسيّارَات بأهدَافِهَا في مُحِيطِهَ القَرِيبِ إذْ تَعْمَلُ على زِيَادَة حِصَّتِهَا في الأسوَاق العَالَمِيّة بِمَا في ذلِك َالأسْوَاق الأمريكِيّة والأُورُوبيّة عَبْرَ إسْتخدَام أسَالِيبَ تُمَكِّنُهَا من تَجَاوُزِ الجُدران الحِمَائيّة (تنظِيم عمَلِيّات تبادُلٍ لِسِلَعٍ مُنخَفِظة التّكالِيف) .
خلال التِّسْعِينات ، كانت ألمانيا القُطر الأكثر نَشَاطًا في الصِّرَاع "الجديد" فِي العَالم بَعد الوِلَايات المُتّحدة رَغْمَ الصِّغَرِ النِّسبِيّ لحَجْمَ إقْتِصَادَهَا ؛ إذ لم تَحْصِر المجمُوعات الرّأسْمَالِيّة الألمَانِيّة نفسها في الحِفَاظِ عَلى مِحْوَر شَرق أورُوبا/ مُوسكُو فإمتدّ نَشَاطُهَا الى الصّين وآسِيا والمُحِيط الهَادئ ، ودَعَّمَت مكانَتَهَا المُرتَفِعة أَصْلاً في الأسوَاق العَالميّة في مَجَالات صِنَاعة السيَّارَات والصّنَاعَات الكَيمَاوية والتَّعْدِين والآلَات وغَيْرِهَا ؛ أصْبَحت الوِلَايات المُتّحِدة مرّةً أُخرَى في سُوقٍ مُزدَهِرَةٍ لأَقطَابٍ إحتِكارِيّةٍ ألمَانِيّةٍ لِصِنَاعة السّيّارات ولمْ تَعُد تُخْفِي ألمَانِيا رَغْبَتَها فِي المِكسِيك والبَرَازيل وجَمِيع "الفناء الخلفي" الذي هو أمرِيكا اللاّتِينيّة.
وزَادَت ألمَانيا مِنْ حِدّةِ المُزَاحَمة في القِطَاعَات التي تتمَتّع فيهَا بِوَزْنٍ مُعَيَّنٍ وتَسْعَى لتَحقِيق التّقَدُّم في مَجَالاَتٍ أُخرَى مثل الطّيَرَان والفَضَاء والإلكترُونيّات الدّقِيقَة ؛ وَلاَ يُمْكِنُ تجاوز واقع أنّ بريطانِيَا مَثَلاً قد حقّقت تقَدُّمًا في الَفترَة ذَاتها في مجَالَات العَمَل المَصْرِفِيّ والإتّصِالَات السّلكِيّة واللّاسِلكِيّة والتَّسْلِيح والنّفط ، وفِي قِطَاعات السيّارَات واإالكترُونِيّات مَعَ فَرنسَا التي سجَّلَت تَقَدُّمًا لا يُمكِن إنكَارُهُ في تحديث إقتِصَادها.


إضَافَةً للإجْرَاءات الحِمَائِيّة ، لم تَتَرَدّد الحُكُومَات في دخولِ صِراعٍ حول مناطِق النُّفُوذ ودَعَم المَجْمُوعَات الإحْتِكَارِيّة الخاصّة بِهَا بكُلّ الوَسَائِل بِمَا في ذَلِك العَسْكَرِيّة في المناطِق الطّاقِيّة المُتَأَزِّمَة : دعَّمَت الوِلَايات المُتّحدة إنْقِلَابَاتٍ في بَعض البُلدَان الإفرِيقِيّة وفِنزوِيلا وجُورجِيَا ، وسَلَّحَت ألمَانِيَا الكِرْوَات والسّلُوفينيين بِطُرُقٍ غَير رَسْمِيّة ضِدّ يُوغُوسلَافِيَا التي كانت "مُحْتَضَنَةً" إنجلِيزِيّة ؛ أمَّا عن نَشَاطِ فَرَنسَا لمَنْعِ إنْتِشَارِ الأمرِيكِيِّين في أفرِيقِيَا ، فَقَد تَمَّ ذَلِكَ بإستِخدَام أيّ وَسِيلة مِثل دَعمِ الإنقِلَابَات العَسْكَرِيّة وإرْسَالِ قُوّاتٍ ومَذَابِح ، وما إلى ذلك، وتُمثِّلُ هذِه الوقائِع أَدِلَّةٌ قَلِيلَةٌ لإثبات حقِيقَة الصِّرَاع ؛ في هذه المناطِق والفَضَاءات الهَامّة والمُتَوَتِّرَة،تُفَضِّل الاحتكارات متضاربة السَّيْرَ في دُرُوبٍ مُمَهَّدَةٍ مِنْ قِبَلِ الحُكُومَات السَّاعِيَة أكثَرَ فَأكثَر،عن طريق الرّشوة،الإتّفاقِيّات التّفضِيلِيّة والإنقِلَابَات، لِتَذلِيلِ العَوَائِق.
مِن خِلَال الحَرب ضِدّ يُوغُوسلَافِيا ، "جَدَّدَت" القُوى "العُظمَى" إتِّفَاقَهَا على إسْتِهْدَاف الشُّعُوب التّابِعَة بهُجُومِهَا مُتَغَلِّفَةً بِذَرِيعَة "الأَمْن" أو "الحَربِ ضِدّ الإرْهَاب". لَمْ يَدُم هَذَا طَوِيلًا، فَفِي عَام 2001 ، وَاجَه العَالم مُنَاوَرَةً جَدِيدَةً للوِلًايَاتِ المُتّحِدة عَلى الرَّغمِ مِن أنّ النِّقَاشَ جَارِي حَوْلَ العِرَاق ،بِمَا لَا يَعكِس الحَقِيقَة كَامِلَةً. فِي الوَاقِع، أعلَنَت الوِلَايَات المُتّحِدة أرْضِيَّةً جَدِيدَةٍ-قَدِيمَة،وِفْقَهَا،تَضَعُ نَفْسَهَا فَوقَ جَميع البُلْدَان والهَيْئَاتِ الدُّوَلِيَّة ، وهِيَ إذْ تَدْعَم سُلطَة الأُمَم المُتّحِدة ، فإنّهُ لا يَحِقُّ لِأَحَدٍ أبدًا أنْ يَحُدَّ مِن حُريّة نَشَاطِ أمرِيكَا !. كان ذلك أساس أرْضِيّةٍ جَديدَة للولايَات المُتّحِدة تخلّت عَبْرَهَا رَسْمِيًّا عن إدِّعَائِهَا بِأَنَّهَا لَا تَزَال "عَلَى قَدَمِ المُسَاوَاة" مع القُوى الكُبْرَى الأُخْرَى ، و رَغْبَةً فِي إطْلاَقِ يَدٍ "حُرَّةٍ" للقُوَّة وإسْتِخْدَامِ السُّلْطَة في خِدْمَةِ فُرَصِهَا وفُرَصِ أقطَابِهَا الإحْتِكَارِيّة ضِدّ كُلَّ مُزَاحَمَةٍ . لم تَكُن القُوّة الإقتِصَادِيّة للوِلايَات المُتّحِدَة كَافِيَةً لِمَنْعِ الدُّوَل المُنَافِسَة وحُكْمِهَا والهَيْمَنَة عَلى العَالم وَحْدَهَا مِمَّا إضْطَرَّهَا لإسْتِخدَام فَاعِلٍ من خَارِج القُوّة الإقتِصَادِيّة (سياسيٌّ كان وعَسْكَرِيٌّ). وَلَنْ يَتَسَنّى لها ذَلِكَ إذَا مَا بَقِيَت في وَضْعٍ دِفَاعِيٍّ ،فَكَان من الضَّرُورِيِّ خَوْضَ مَعَارِك شَرِسَة وعُدْوَانِيّة بِمَا يَجْعَلُ المُنَافَسَة ضَرْبًا من المُسْتَحِيل على الدُّوَل الأُخرَى ؛ ولم تقتَصِر عَلَى إعلَان الحَربِ عَلى أفغَانِستَان ثُمّ العِرَاق فَأَخْرَجَت "مَشْرُوع حربِ النُّجُوم 2" ، و "الحَقّ فِي إسْتِخدَام الأسلِحَة النّوَوِيّة أَوَّلًا !" و "إحْتِكَار الحَربِ الوِقَائِيّة".
مَثَّلت هَذِهِ المَسْلَكِيّة المُتَّبَعة من الوِلاَاياتُ المُتّحِدة نُقْطَة تَحَوُّلٍ في الصِّرَاع من أجل الأسوَاق ومَنَاطق النُّفُوذ ، وتَوسُّعِهِ لِيَشْمَل إِعَادَة تَقْسِيمٍ مُبَاشِرٍ للعَالم (بما في ذلك الأراضي ) بيْنَ القُوَى "العُظْمَى". بَلَغت الأوْضَاعُ في هَذِهِ الأقطَار مُسْتَوًى لم تَعُد تعني فيه الحُكومات شَيْئًا سَوَاءًا كانت من "اليسار" أو "اليَمِين" بإعْتِبَارِ إنْعِدَام تأثِيرِهَا على التوَجُّهَاتِ الأَسَاسِيّة.




صِرَاعٌ مُبَاشِرٌ من أجلِ الهَيْمَنة




بعد إحْتِلَال أفغَانستَان والعرَاق ، لم تَعْرِف الولَايَات المُتّحِدة طَعْمَ الرَّاحَة إذ إستَمَرّت فِي إقَامَة العَدِيد مِن القَوَاعِد العَسْكَرِيَّة وعَقْدِ إتفَاقِيّاتٍ ومُعَاهَدَاتٍ عَسْكَريّة أيضًا (بِدُونِ إعْتِبَار حاجَتِها الفِعْلِيّة) مع جميع البُلدَان الوَاقِعة في مَنَاطِق إسترَاتِيجيّة ، بَدْءًا مِن مَنَاطق الشّرقِ الأَوسَط فالقُوقَاز و آسِيا والمُحيط الهَادئ وأمرِيكا اللّاتِينِيّة ؛وفي إعادةِ تَنظِيمِ قُوّاتِها المُسلَّحَة، نُقطَة الإنطِلَاق بِلاَ شَكٍّ هِي الرّغبَة في السّيطَرَة عَلى مَوَاطِن الطّاقَة وطُرُق النّقلِ والتِّجَارة وعَلَى المناطق ذَات الأَهَمّيّة العَسكَرِيّة والإسترَاتِيجِيّة ؛ كُلّ تَدُخّل للوِلَايَات المُتّحِدة يَدُلّ على أنّ الهَدَفَ هُوَ زِيَادَة قَمْعِ الشُّعُوب وعَزْلِ القُوَى الإمبِريَالِيّة المُزَاحِمة والحِفَاظ على ميزة إحْتِكَار"الضّرْبَة الأُولى". وهِيَ لا تَتَوَرَّعُ عن تَخْرِيبْ التّدخُّلَات السّيَاسِيّة والعَسْكَرِيّة للقُوَى "العُظْمَى" الأُخْرَى ؛ وتَعْمَلُ عَلَى تَقْسِيم الإتِّحَاد الأُورُوبّي وتَخوِيف رُوسيا والصِّين وإرْغَامِهِم على المُشَارَكة فِي مَشَارِيع مِثل "حَرب النُّجُوم" أو "نِظَام الأقمَار الصِّنَاعيّة" ولاَ تَجِدُ أنَّ سيطرتِهَا آمنة في مأمَنٍ ولا تَرَى أنّهَا أنشأت بِما فيه الكِفَاية. و رَغْبَةً فِي إرْهَابِ مُنَافِسِيهَا ، تَهْدِفُ ل"تعزيز" النِّظامِ الأمريكِيّ ، كنوع من نِظَامٍ لل"إمبرَاطُورِيّة" ، بِمُوجَبِهِ لا يَقْوَى أَحَدٌ عَلى إمْتِلاَك حتّى الحَقّ في التّذَمُّر.


بالتّأكِيد ، ولإقنَاع القُوى الأُخرَى ، فإنّهَا لاتَبقَى فِي حَالة "إنتِظارِيّة"، وعَلَى العَكس مِن ذلِك ، تَتَقَدّمُ نَحْوَ أهْدَافِها وَلا تَتوَقّفُ عن إتِّخَاذ خَطَوَاتٍ جديدةٍ. لَكِن ، لا يمكنُ القَول أنّهَا إستَطَاعت تَلبِيَة جَمِيع "نَزواتِها". فَبِالإِضَافَة إلى فِقْدَان الصُّورَة الذِي تُعَانِيهِ مِنَ الشُّعُوب ، فَشِلَت في جَرِّ ألمَانِيَا وفَرنسا للمُشَاركة في مَشَاريع "الأقمار الصِّنَاعِيّة" و "حَربِ النُّجُوم 2"؛ وقد أعلنَ كِلَا البَلَدَان والصّين ، نِيَّتَهُم فِي بَدء مَشَارِيعِهِم الخَاصّة في "أقمارٍ صِنَاعِيّةٍ" . ولم تَمْتَنِع فرنسا وألمانيا عن تحويل إعلانِهِما عن بِناءٍ بَدِيلٍ، في إطَار الإتِّحَاد الأُورُوبيّ، لِطَائِرات قِتالِيّة وأُخْرَى للنّقل من نَوْعِيّةٍ جَدِيدَةٍ ستكون جاهزة للطيران في عام 2010،لإعْلاَنٍ إحْتِفَالِيٍّ تَفَاخُرِيٍّ .
من ناحيةٍ أُخرى ،وعِنْدَمَا يتعَلَّقُ الأمْرُ بِفَضِّ نِزَاعٍ مع الوِلاَيَات المُتَّحِدة، تُنَسِّقُ ألمانيا وفرنسا ،وتُتْرَكُ بريطانيا ، ومن دُون أي قَلَقٍ مَعَ رُوسِيَا لِتَتَحَوَّلَ لِترُويْكَا. ولاَ تَمْتَثِلُ رُوسيَا والصّين إمتِثَالًا تَامًّا لِضُغُوط وإملاءاتِ واشنطُن إذ لَا تَزَال تُجْرِي تجَارِبَهَا حَوْل"الصّوَارِيخ النّوَوِيّة" طَويلَة المَدَى عَلَى الرّغم مِن المُعَارَضَة المَوْجُودَة لمِثْل هَذِه التّجارب : تَسْعَى رُوسيا للدِّفَاع عن مَصَالحها مِن حَوْلها وإسْتِعَادة إقتِصَادها وصِنَاعتها العَسكَريَّة، وتُكَافِحُ الصّين مِن أجْلِ الحِفاظِ على ذَاتِهَا من الإستيلاَب وإسْتِغْلاَل الوَضع لِتُصبِح "قُوَّةً بَدِيلَةً" في مُوَاجَهة تَحَالُف اليابان/الوِلاَيات المُتَّحِدة في المنطقة .
بإخْتِصَار ، لقد تَبَاعَدَت القوى الامبريالية "المُتَقَارِبَة" إلى حَدٍّ هَامٍّ علَى الرَّغمِ مِن أنّهُ لا يُمْكِن الحَدِيث عن قَطِيعَةٍ (غير مَرْغُوبٍ فِيها أمرِيكِيًّا) مُقَارَنَةً بِالسّنَوات الخمس عشرة المَاضِيَة. وعلاوة على ذلك ،غَيَّر اللاّتَكَافُؤ المُزْمِن في النّمُوّ من مَوازين القُوى ومطالِب البُورجوازِيّة بِدَوْرِها تَتَنَامَى ؛ وتُظْهِر الوَقَائِع أنّ القُوى الكُبرى لن تبقى قانِعَةً بِوَضْعِيّة "تَصَدُّعٍ مَحدودٍ" أو "التَّبَاعُد" بل على العكس من ذلك ، سَتَعْمَلُ على التَّمَوْقُع على رَأس الأقطَاب المُنَافِسة والمُعَادِيَة.
قَد يَكفي إتّخَاذ الوِلايَات المُتّحِدة لِمَوْقِفٍ مَا أَن يَتَسَبّبَ فِي إضمِحلَال وإنهِيَار مُؤَسَّسَات دُوَلِيّة مثل الأُمَم المُتّحدة وحِلف شَمال الأطلنْطِي والإتِّحَاد الأورُوبّي ومُنَظّمة التّجَارة العَالَميّة وصُندُوق النّقدِ الدُّوَلِيّ المُستَخدَمة في الحِفَاظ على المصَالِح المُشتَركَة للقُوَى العَالميّة الكُبرَى الرّاهِنَة ؛ لأنه ، بعد سِلسِلة من خِلافاتٍ ونِزاعاتٍ وصِراعاتٍ وحُرُوبٍ مَحليّةٍ عَرَّت شَلَل هذه المُؤسّسَات ونَزَعت عَنها ورقَة التُّوت وأخْرَجَت للعَلَنِ إسْتِقطَابَاتٍ جَدِيدة ذات طابع إمبِرْيَالِيٍّ ، أصْبَحَ إنهيار" النِّظَام العَالَمِيّ الجَدِيد " لوَاشنطن أمرٌ لَا مَفَرّ مِنْهُ.


لا يَزَالُ مَيْلِ الرّأسمَالِيّة إلى "القُطْب الأَوْحَد" وإلى "الوِحْدَة العَالَمِيّة" وَاضِحَ القُوّة ؛ لكنّ الحقَائِقَ تُشِير إلى أنّ التوجُّهَات المُتَنَاقِضَة تَنْتُجُ عَنْهَا تَنَاقُضَات عِدَائِيّة قَوِيّة ونَشِطَة للرّأسمَالِيّة بإمكانِهَا حَتّى الحَيْلُولَة دُون أن تُحَقِّق أَهْدَافَهَا. إنّ الطّابع المُطلق والذِي لا مَفَرّ مِنهُ والمَرْكَزِيّ للحَقَائق والإتّجَاهَات التي تَدْفَع بِالقُوى الكُبرَى إلى مُعَسْكَرَاتٍ مُتَعَارِضة تقسِم مُعَسْكَرَ رأسِ المَال، يَتَأَكَّدُ عَبْرَ أحداثِ السّنَوات الخَمس عَشرة المَاضِيَة. ومِن دُون الخَوضِ في تَفَاصِيل الوَقَائِع التي سَبَقَ ذِكْرُها، فإنّ تَهدِيدَات وتَدَخُّلاَت"حُرُوب التِّجَارَة" أو "التّدَابِير الوِقَائِيّة" التي تتسبَّبُ فيها المُجمُوعَات الإحتِكَارِيّة بَيْن الوِلايَات المُتّحِدة والإتِّحَاد الأورُوبِّي واليَابَان،تُمَثِّلُ مُعْطَيَاتٍ مُقلِقَة بالنَّظَرِ للقُوّة التّدمِيرِيّة للمَصَالِح المُتعَارِضَة.


تترَاكَم الحَقَائِق التي مِن شَأنِها تَأكِيد إنهِيَار "النِّظَام العَالَمِيّ الجَدِيد" ؛وجميع الدُّول الكُبرَى لديها الميل للدّفاع عن"رُؤُوس أمْوَالِها" و "مَصَالحهَا الوَطَنِيّة" بالسِّلاَح متى إقتَضى الأمر بشكلٍ علنيٍّ مع مُوَازَنَةٍ عسْكريّةٍ بِنَحْوِ 395 مليار دولار للوِلايات المتحدة التي تُعَسْكِرُ إقْتِصَادَهَا ، في حين أنّ 11 من أصل أكبر عشرِين مجمُوعة إحْتِكاريّة كُبرى في أنقلترا تُصَنِّعُ الأسلحةَ في أعقَاب حُكُومَتِهَا. بالإضافة إلى ذلك ،مَوْجَةٌ مِن التسَلُّح ستَأخُذُ طرِيقَها في أقطار الإتّحاد الأورُوبّيّ التي تُعَانِي أصْلاً من ثِقَلِ مُوَازَنَاتِها الدِّفَاعِيّة مع مشرُوع بناء "جيش أوروبي" قَدْ يذهب بِأكثَرَ مِن 200 مليار دولار،وتَتَنَامَى نوايَا رُوسِيا والصّين واليَابَان في تَسلِيح وتَجدِيد بَحريَّاتِهَا الوطنية. كُلّ هذا لا يَتَسَنَّى فَهمه إذا لم يَتِمّ الأخذ بعَيْنِ الإعتِبَار التّغيُّرَات في مَوَاقِف القُوَى الكُبرَى. فعَلَى سَبِيلِ المِثَال،ظَلّت واشنطن تُعْلِنُ مُنذُ فترَةٍ طَوِيلةٍ ب"طُرُقٍ غَير رَسْمِيّة" أنَّ أيَّ بَلَدٍ يقترب من مُستَوى الآلة العَسكريّة للوِلايات المُتّحدة سَيَتَحَمّلُ مُخَاطَرَة مُوَاجَهَتِها وأنَّها لن تسمَح بِذَلِك لِأَيّ قُوّةٍ أُخْرَى مَهْمَا كانَت. وفي المُقَابِل ، لَمَّا كانَت أَحوَاض بِنَاء السُّفُن الألمَانيّة في أَيْدِي الإحتِكَارَات الأمرِيكيّة ، أظهَرَت الجَمَاهير الألمَانِيّة رُدُود فعلٍ مُثِيرةٍ جِدًّا للإهتِمام . إسْتَعَادت ألمانيا حضائِرَهَا البَحْرِيّة لِتَبْحَثَ عَنْ بِنَاء تَحَالُفٍ مع فَرَنسا : ما يحدُثُ في ألمانيا وفرنسا يُبَيِّنُ أنّ كِلَا البَلَدَيْن يريدان الإِبْحَار في المُحِيطَات مَعَ مَزِيدٍ مِنَ القُوّة.
ولا تَقتَصِر التّطَوُّرَات السِّيَاسِيّة والعَسْكَرِيّة على ذلِكَ، فَلَقَد لَعِبت مَنَاطق كالشّرقِ الأوسَط والبَلقَان والقُوقَاز ووَسَط أفريقِيَا بِالفِعْلِ دَوْرًا رَئيسِيًّا خلاَلَ الحَربَيْن العَالَمِيَّتَيْن وثَلَاثِ فَتَرَاتٍ مِنَ الإسْتِقْطَاب وَلاَ تَزَال مَجَالات للتّدخُّل والإحتِلَال لَدَى القُوى الإمبريَاليّة الكُبرَى. كَمَا أنّ المشَاكِل بَين كورِيا الشّمَالية وجَارتها الجَنُوبِيّة ، وبَين الصّينِ وتَايوان والصّين والهِند وبَاكِستان والهِند أصبَحَت أكثَرَ أهمِّيةً على جَدَاوِل الأعمَال.


وليْسَ مِن المُستَغرَب أنَّ القُوَى الكُبرَى في الرّأسمَالِيّة لم تتنظّم في كُتَلٍ مُتَعَادِيَةٍ وتتَصَادَمَ وِفْقَهَا فَذَلِك الأَوَانُ لم يَحِن بعدُ إذ فِي مُقَابِل أمرِيكَا زعيمة النِّظام الحَالِيِّ،لا يَمْتَلِك البَقِيّة من الأقطَار الرّأسمَاليّة ما يَكفِي من القُوّة كَمَا أنّ المشاكل والخِلاَفَات بينَ الأقطاب الإحْتِكَاريّة والدُّوَل الإمبِريَالِيّة ليست عمِيقَةً ولا حادَّةً بما فِيه الكِفَاية حتّى الآن؛ ولكنّ تَسَارُع النُّمُوّ غير المُتَكَافِئ يُسَرِّعُ دَفعَ الأُمُور لاَ مَحَالة ويَفْرِضُ عَلَى البُلدَان الرّأسمَالِيّة الكُبرَى التنظُّم فِي كُتَلٍ مُتَعَادِيَة.

في الواقع ،تُسَلِّطُ هَذِهِ الأقطَار الضّوءَ مُنذُ على مَصَالِحها التّارِيخِيّة وأهْدَاف دُوَلِهَا التي لَا تَتَجَزّأ بِمَا يُوجِّهُ الوضع أكْثَر نحو تشَكُّل كُتَلٍ جَدِيدَةٍ ؛ ومِنَ المُؤكّد أنّه مِن الخَطَأ والسّابِق لِأَوَانِه رَسْمُ مَعَالِم الإسْتِقْطَاب السِّيَاسِيُّ/ العَسْكَرِيّ المُسْتَقْبَلِيّ ، ولكن مِن المُثير جِدًّا للإهتِمَام رُؤيَة الثلاثية (التّرُويكا)التي شكّلَها " مُتعَادُو" القَرنِ المَاضِي أيْ ألمَانِيَا وفَرنسا ورُوسِيا في مُواجَهَةِ قُطب بريطانِيَا العُظمى -الولايات المتحدة (وجُزئِيًّا اليابان ، في الخلفية). ومَعَ ذَلك ، مِن المُستَحِيل مَعْرِفَة الكَيْفِيّة بالضَّبْط وإلى أيِّ إتِّجَاهٍ سَوفَ يَتغَيّر هذا الوَاقِع، مَا يُمْكِن تَأكِيدهُ هُو الآتِيّ : إن الوَقَائِع تتَّجِهُ نَحو إنْهِيَار "القُطبِ الوَاحد" وتَشَكُّلِ كُتَلٍ إمبِرْيَالِيّة بِمَا يعنِي ذَلِكَ من صِرَاعٍ مُبَاشِرٍ لإعادَة تَقْسِيمٍ مُتَجَدِّدٍ للعَالم بين القُوى الكُبْرَى للرّأسمَال وبالتَّالِي تَعَاظُم خَطَر نُشُوب حَرْبٍ عَامّة.


إمبريالِيّة ورِجْعِيّة سِيَاسِيّة


إحْدَى النّتَائِج المُهِمّة للهُجومِ عَلَى العُمَّال وتوسُّع الصِّرَاع بين القُوَى العُظْمَى حَوْلَ الأسوَاق ومَنَاطق النُّفُوذ تَمَثَّلَت فِي لَفْتِ الإنتِبَاه مرَّةً أُخْرَى إلى الرَّوَابِط "غير القابِلَة للإنْفِصَال"بين واقع الإحْتِكَار والإمبِريَالِيَّة والرِّجْعِيّة السِّيَاسِيَّة : دُخُولٌ عَنِيدٌ للإمبِريَاليّة والرِّجْعِيَّة السِّيَاسِيّة في حَيَاة العَالم فِي وقتٍ يجْرِي فِيهِ الحَدِيثُ عَلَى "نِهَايَة" الإحْتِلاَل وإضمِحْلاَل الرِّجْعِيّة ، حيثُ حملَة "السَّلَام والدِّيمُقرَاطِيّة" قَائِمَة عَلى قَدَمٍ وسَاقٍ ، ولم يَكُن الدُّخُولُ حَدَثًا مُؤَقَّتًا أو "إنْزِيَاح".


كانَ مِن الضَّرُورِيّ تَشْوِيه مَعْنَى "الدِّيمُقْرَاطِيّة" و "السَّلَام" ، وتَرْسِيخ العُنْف بِشَكْلٍ مُكَثَّفٍ ويَوْمِيّ ، للحُصُولِ على "قَبُولٍ أكْبَر" لِهُجُوم رَأسِ المَال وللنِّزَاعاتِ الإمبِرْيَالِيّة مِن طَرَفِ العُمَّال والشُّعُوب. وبِالفِعْل، وإثْرَ عِدّة مُحَاوَلَات لِتَصْدِيرِ "الحُرّيَّة والسَّلَام والدِّيُمقرَاطِيَّة" مَرْفُوقَة بِالقَنَابِل والإحْتِلَال فِي الشَّرْقِ الأَوْسَط والبَلْقَان ، تمَّ إِسْتِخْدَام الإعْتِدَاء الإرْهَابِيّ للحَادِي عَشَر من سِبْتَمبِر/أيلُول على أوْسَعِ نِطَاقٍ لِنَشْرِ العُنْف والرِّجْعِيَّة لَدَى البُلْدَان "المُتَقَدِّمَة" بُغْيَة ضَمَانِ قَبُولِها فِي المَقَام الأَوّل ؛ وفِي نَفْسِ أَوَانِ وَضْعِ بعْضِ المَنَاطِق تَحت خَطِّ النَّار وتَكَثُّف التّهْدِيدِ العَسْكَرِيّ للشُّعُوبِ التَّابِعَة،وَقَعَ إخْتِرَاع شَبَحٍ يُسَمّى "الأمْنِ الدَّاخِلِيّ"،وعَزَّزت الأنْظِمَة في مُعْظَم الأقطار المُتَقَدِّمَة عَبْرَ "إتِّخَاذِ تَدَابِيرَ" جَدِيرَةٌ بِها دَوْلة بُولِيسِيَّة فِي غِيَابٍ كُلِّيٍّ لِأيِّ تَهْدِيدٍ ؛ وَلِجَانِبِ مَنَاطِق الأَزَمَات في آسِيا وأفرِيقِيا وأمرِيكا اللَّاتِينِيّة ، وَجَدت"الأَنْظِمَة الدِّيمُقْرَاطِيَّة" في البُلدَان المُتَقَدِّمَة نفسَهَا "فَجْأَةً" تَحْتَ طائِلَة الِإرْهَابِ (المَوْهُوم).


وِفْقًا للأُسْطُورَة المُرَوَّجَة، إحْتَوَت البُلْدَان المُتَخَلِّفَة "مَنَابِعًا للاِرْهَاب والتَّهْدِيد" للأَنْظِمَة الدِّيمُقْرَاطِيَّة (!) ، ولِإزَالَة التَّهْدِيدَات التي تُعَرِّضُ للخَطَرِ سَلَامَةَ "العَالَم الحُرّ" ، كانَ مِنَ الضّرُورِيّ وَضْعَ كُلّ هَذِهِ الدُّوَل تَحْتَ السَّيْطَرَة والمُرَاقَبَة وإسْتُخْدِمَ "نَظَرِيّة الحَرْبِ الوِقَائِيَّة" لِتَحْقِيقِ النَّجَاح : تَدَابِيرِ "الأَمْنِ الدَّاخِلِيّ" لاَزِمَةً مِنْ أَجْلِ الدِّيمُقْرَاطِيّة في الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَة فِي حِينِ أنَّ "الحُرُوبِ الوِقَائِيّة" ضَرُورَةً لِسَلَامةِ العَالَم!
في الواقع ، أَخَذَ رأسِ المَالِ العَالَمِيّ مَرَّةً أُخْرَى فِي رَمْيِ رَايَة "الدِّيمُقرَاطِيّة والسَّلَام" (رَايَةٌ عَادَ للمُطَالَبَةِ بِهَا مُنذُ بَعْضِ الوقْت) وفِي الإرْتِمَاءِ بِشَغَفٍ فِي العُنْفِ والرِّجْعِيّةِ السِّيَاسِيّة.




III -


العَالَمُ الجَدِيد وتَوَالِي الأحْدَاث






أُعْلِنَ "النِّظَام العَالَمِيُّ الجَدِيد" عَلَى أنَّهُ الجَنَّةِ المَوْعُودَة : "عَصْرٌ" جَدِيدٌ قَادِمٌ هُو "العَصْرُ الذَّهَبِيُّ الأَبَدِيّ" . غَيْرَ أنَّ الحَقَائِقَ لا تُظْهِر إِلاَّ شَيْئًا آخًر : 70 بلدا يعيش على أقل من مَدَاخِيلِهِم فِي العَشْرِ سَنَوَاتٍ الأَخِيرَة ، وَشَهِدَت أوْضَاع 1.6 مِلْيَار مِن الشَّغِيلة تَرَاجُعًا مُقَارَنَةً بِالفَتْرَة السَّابِقَة وإنْخَفَضَتْ مَدَاخِيل العُمَّال إنْطِلاَقًا مِن مُنْتَصَف التِّسْعِينَات فِي جَمِيع أَنْحَاء العَالم، فَفِي اليَابَان، وَاحِدة مِن أغْنَى الدُّوَل،بَلَغَ مُعَدّل البِطَالَة رَقْمًا قِيَاسِيًّا بِ5.3 ٪-;---;-----;--- ؛ في الأَقْطَار الأُورُوبيَّة مِثل ألمَانِيَا وفَرنسَا وإيطَاليَا وإسْبَانِيَا تَجَاوَزَ المُعَدَّل 10 ٪-;---;-----;--- ؛ أَمَّا الفَقْرِ ،المُنْتَشِر أيْضًا بينَ طَبَقَات العُمَّال، فَقَدْ شَمِلَ 40 مليُون شَخص في الوِلَايَات المُتَّحِدة ، وأَثَّرَ حَتّى عَلَى 12-13 ٪-;---;-----;--- مِنَ السُّكَان في فرنسَا وألمَانِيا ؛ وذَهَبَت المَجَاعَة إلَى أبعَد مِن شُمُولِهَا لِمِنْطَقَةٍ مَحَلّيةٍ في العَالم لِتُصْبِح آفَةً عَالَمِيَّةً تُهَدِّدُ حَيَاة مِئات المَلَايينِ من البَشَر : ليْسَت هُنَاك حَاجَةٌ إِلَى قَائِمَةِ أَدِلَّةٍ أُخْرَى،وهَذَا هُو للأسَف ما يُوجَدُ فِي قَلْبِ الطَّاوِلَة،خَمس عشرةَ سَنَة فَقَط بعد إعْلَان "النِّظَامِ العَالَمِيِّ الجَدِيد" الذِي تَمَّ تَقْدِيمُهُ بِاعْتِبَارِهِ عَصْرًا "ذَهَبِيًّا" .


وَلَمْ يَكُن الإقْتِصَار عَلَى هَذَهِ اللَّوْحَة الكَالِحَة المُقْلِقَة ، ففِي الوَاقع ،مَثَّلَ العَالم الجَدِيد "جَنَّةً" لِبِضْعَةِ مُكَوِّنَاتٍ لم تَطَّلِع علَيْهَا مُنْذُ الحَربِ العَالَمِيَّة الثَّانِيَة : وهذا يعني طَبَقَاتٍ رأسمَالِيّة ومَجْمُوعَات إحْتِكَارِيّة وشَرَائِح كِبَارِ القَادَة المُسْتَفِيدِين مِنْ هَذَا "العَصْرِ الذَّهَبِيّ"،إذْ تَرَاكَمَت ثَرَوَات الأقطَابِ الإحْتِكَارِيّة كَمَا لمْ يَحْدُث مِن قَبْل ، وكَوَّنَ كِبَارُ القَادَة والبِيرُقرَاطِيِّين أَرْصِدَةٍ ضَخْمَة بطُرُقٍ رَسْمِيَّة وخَسِيسَة. وفِي المُقَابِل لَمْ يَكُن النِّظام الجَدِيد ذَهَبًا ولا جَنّة من زاوِية النُّمُوّ الذي لم يكُن جَامِحًا لِقُوَى الإنْتَاج ولا مُسْتَقِرًّا علَى الأَقَل بِالنِّسبَة للإقْتِصَادِيَّات المُتَقَدِّمَة.
وبِصَرْف النَّظَر عن الدَّمَار النَّاتِجِ عَن أَزَمَاتٍ في المِكسيك،رُوسِيا،آسِيا، تُركيا،الأرجُنتِين،الخ... ؛ أظهرت الوقائع أنَّ سَنَةَ 1993 في أوروبا ، وفَتْرَةِ 1993-1998 فِي اليابان،قَدْ كَانَت سَنَوَاتَ أزْمَة ؛ وحَتَّى إن سُجِّلَ نُمُوٌّ صَغِيرٌ بين فتْرَتَيْن، فَفِي أوروبا وعَلَى الأَخَصِّ فِي اليَابَان سَادَ الرُّكُودُ خِلاَل سَنَوَات التِّسْعِينَات وبدايات الأَلْفِيّة الثَّانِيَة. فيما بين البلدان المتقدمة ، كانت الوِلاَيَاتُ المُتَّحِدَة البَلَد الوَحِيد المُتَمَكِّنِ مِن تَمْضِيَة سَنَواتِ التّسْعِينَات بِنَوْعٍ مِن النُّمُوّ المُتَوَاصِل.على الرغم من ذلك ، في عام 2001 ، بمُحَاذَاةِ نِسَبِ "نُمُوٍّ" بِ 0.7 ٪-;---;-----;--- و 0.6 ٪-;---;-----;--- للإقْتِصَادِيَّات الألمَانِيّة واليَابَانِيّة ، سجَّل إقْتِصَاد الوِلَايَات المُتّحِدة مُحَرِّكَةُ "النِّظَامِ الجَدِيدِ" مُعَدَّلًا قَدْرُهُ 0.3 ٪-;---;-----;---.
في السَّنَوَات التَّالِيَة ، زَادَت وَاشِنطُن مُعَدَّلَاتِ نُمُوِّهَا مِن خِلَال التّحَوُّل نَحْو العَسْكَرَة والخَفْضِ فِي الضَّرَائِب عَلى رَأسِ المَال.. الخ ؛ لَكِنَّ المَسْأَلَة لَم تتَعَلَّق بِتَسْجِيلِ إقْتِصادٍ مَا لِمُعَدَّلاَتِ نُمُوّ . القَضِيَّةُ الحَقِيقِيَّة هِي أنَّ الإقْتِصَاد العَالَمِيّ لم يَتَطَوَّر بالتَّوَازِي مع حَجْم ونُمُوّ قُوَى الإنْتَاج إذْ كانَتِ الرَّأسْمَالِيّة "تتقَدَّمُ" مِن خِلَالَ مَنْهَجَةِ تَدْمِيرِ هَذِهِ القُوى.


ويتميز"النِّظَام العَالَمِيّ الجَدِيد" كَذَلِك بِدَرَجَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَة مِن هَيْمَنَة الأقْطَاب الإحْتِكَارِيّة على الإقْتِصَاد . في مُنْتَصَف التِّسْعِينَات ،سَيْطَرَ 4000 قُطْبٍ إحْتِكَارِيٍّ ذُو عَمَلِيَّاتٍ دُوَلِيَّةٍ بِأَفْرُعٍ بَلَغَت 250 ألف على الإقْتِصَاد العَالَمِيّ ؛ 1 ٪-;---;-----;--- فقط مِن هَذِهِ الإحْتِكَارَات تَتَحَكَّمُ فِي 30 ٪-;---;-----;--- مِن الإنْتَاج العَالَمِيّ ؛ وأكبر 500 مِنْهَا تُدِيرُ 70 ٪-;---;-----;--- من التِّجَارَة العَالَمِيّة و 80 ٪-;---;-----;--- من الإسْتِثْمَارَات ؛ و تَمْتَلِك أكْبَر 5 أقْطَاب إحْتِكَارِيّة ؛عَامِلة في أهمّ الصِّنَاعَات مِثل الصُّلْب والنَّفط والإلِكْترُونِيَّات والسِّلَع الإسْتِهلَاكِيّة الدَّائِمَة وأجزَاء من الحَاسُوب والسيَّارَات والطَّيَرَان ووَسَائل الإعْلَام؛ حِصَّةً مِن السُّوق العَالَمِيّة تترَاوَحُ بيْنَ 50 ٪-;---;-----;--- و 70 ٪-;---;-----;--- . مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، ضَيَّقَ إنْفِجَار عمَلِيَّات الإنْدِمَاج والإسْتِحْوَاذ بين عامي 1995 و 2000 هَرَمَ الإحْتِكَارَات المُسَيْطِرَة على الإقْتِصَاد ولكنّهُ زادَ عُمُومًا ،وبِشَكْلٍ مُفْرط، مِنْ وَزْنِ (2) الإحْتِكَار على الإقْتِصَاد العَالَمِيّ .


أيًّا كَانَت زَاويَةُ النَّظَر، فَقَد أظهَرَت الحَقَائق التَّالِيَة : تَمَرْكَزَت مَجمُوعات الرّأسمَال المُهَيْمِنَة على قِمَّة إقْتِصًادِيَّاتِ الدُّوَل الغَنِيَّة والصِّنَاعِيَّة في جَمِيع أنحَاء العَالم "مِنْ جَدِيد" من خِلَال حَفْنَةٍ مِن الأَقْطَاب ؛ بِضْع مِئَاتٍ مِن الإحْتِكَارَات فِي سَبْع أو ثَمَانِي دُوَلٍ وعَلَى رَأْسِهَا تَتَمَوْقَع 15 مِنْهَا (إضافةً لِتشْدِيد الإنْقِسَامَات بيْنَ البُلْدَان) تشبّثَت وإنْغَرَسَت أكثر مِن ذِي قَبْل في الإقتِصَاد الصِّنَاعِيّ، الزِّرَاعِيّ ،فِي التّجَارَة والنِّظَام المَالِيّ. لَقَد لفَّت جَمِيع قِطَاعَات الإقتِصَاد كَبَيْتِ العَنْكَبُوت ، وزَادَت أوْزَانَهَا الهائلة بِشَكْلٍ لم يَسْبِق لَهُ مَثِيل عَلَى الإقْتِصَادِ العَالَمِيّ . مِن نَاحِيَةٍ أُخْرَى ، تَخْرِقُ الإقْتِصَادِيَّاتِ الأُورُوبيّة واليَابَانِيّة على نَحْوٍ مُتَزَايِدٍ الضّوَابِط الإقتِصَادِيّة والمَالِيَّة المُعْتَبَرَةُ مُؤَشّرَات "إسْتِقرَار". ومَعْلُومٌ أنّ "كِبَارَ"الإتّحاد الأورُوبيّ يُغَيِّرُون "مؤشِّرَات الإسْتِقرَار" الخاصّةِ بالعَجْزِ والمَدْيُونِيّة ؛ وأنّ المُسَاعَدَات المَالِيّة اليَابَانِيَّة للشَّرِكَات ذَات الصّعُوبَات و"للسُّوق" وَصَلَت أقصَى حَدٍّ لَهَا ؛ كَمَا تَلْجَأ هَذِهِ الأقْطَار ، ولو تَدْرِيجِيًّا ، إلى تَدَابِير مِثْل خَفْضِ ضَرَائِب "المُؤَسّسَات" واستِخدَام "الإمكانِيَّات" الأكْثَر أهَميَّةً فِي هَذَا المَجَال.


يَجُرُّ مَا سَبَق بالتّأكِيد لِمَا يَلي : النّهبُ المُتَوَاصِل والزِّيَادَة المَهُولَة في أحْجام الأقطَاب الإحْتِكَارِيّة طِيلَة الخمس عشرة سنةٍ الماضية لم تحلّ إطْلاَقًا المشاكِل الرَّئِيسِيّة للإقتِصَاد بَل عَلَى العَكس،عَمَّقَتْهَا. وَلَم تُعِدَّ القُيُود التي فَرَضَتْهَا الطَّبَقات الرّأسمَالِيّة عَلى الطّبَقَة العَامِلة والشُّعُوب ،والعَلاَقَات المُقامَة فِيمَا بَيْنِها، لمستقبلٍ مُستقِرٍّ ل"العَالَم الجَدِيد" وعِوَضًا عن ذَلِك، تَفَاقَمت الأثْقَال المُلْقَاة عَلَى كَاهِلِ الرّأسمَالِيّة : إنّ تَعْزِيزَ قُوَّة الأقطَابِ الإحْتِكَارِيّة يعني التّفَكُّك وتَفَاقُم الرُّكُود ، فقد تَعَطَّل نُمُوّ التّوَازُنَات الإقْتِصَادِيّة لِصَالِح تَكْرِيس الإخْتِلَالَات.


لَمْ يَحِد خَطُّ سَيْرِ الأقطَاب الإحْتِكَارِيّة عَمَّا سَبَق ، وعَبَّرَت عَنْهُ فِي كَلّ الأمْكِنَة والأَوْقَات وتَحْتَ كُلّ الظُّرُوف مِن خِلَال البَحثِ عن أَقْصَى الرِّبحِ السَّرِيع ؛ فَلَمْ تترَدّد فِي إتِّخَاذِ كُلّ الخَطَوَات ،إتِّفَاقَاتٍ وإشْتِبَاكَاتٍ، الخَانِقَة والمُدَمِّرَة لِقُوَى الإنْتَاج ؛ ولَم يَكُن مِن إهْتِمَامَاتِهَا تطْوِيرِ الزِّرَاعَة والصِّنَاعَة وتحْسِين التَّوَازُن الإقتِصَادِيّ وإنْخِفَاضِ مُعَدّلات البِطَالة وتزايُد الرَّخَاء. ولَم تَبْحَث الرّأسمَالِيّة عَنِ الرِّبحِ الأقْصَى في إستِثمَارَات إنتاجِيَّة جَدِيدَة، ولكن بصفة عامة عَبْرَ تعْزِيزِ الإحْتِكَار فِي الأَسْوَاق ، وتكثيف الاستغلال المطلق وعبر إمْتِصَاص المُؤسَّسَات الصِّنَاعِيّة والزِّرَاعِيّة والتِّجَارِيَّة والمَالِيَّة (بِغَضِّ النَّظَر عَن الأحْجَام) وإنشاء الأقْطَاب الإحْتِكَارِيّة عَبْرَ هذا الدَّرْب.
صَحِيحٌ أنّ الرِّبْح الأقْصَى هُوَ ظَاهِرَة خَاصَّة بِمَجْمُوعِ الرّأسمَال الإحْتِكَارِيّ. ولكِنّ البَحْثَ الأرْعَن عَنْهُ إرْتَفَعَ بطُرُقٍ غَيْر مَسْبُوقة خِلاَل الخمسَة عَشَر عَامًا المَاضِية ، بِمَا رَفَّعَ مِنَ التّطَفُّل والإهتِمَام من قبل رأسِ المَال الإحْتِكَارِيّ بالعائِدَات وزِيَادَة الإستِثمَارَات فِي المُضَارَبَة الوَاعِدَة بعَوْدَةٍ سَرِيعَةٍ.


التّفَكُّك ، والرُّكُود والأزَمَات


تُبَيِّنُ الأرقَام أنّ فِي مُقَابِل كُلّ دُولار واحد يُسْتَثْمَرُ في الإنْتَاج،يتمُّ إسْتِثمَار ما بين 20 و 50 دولارا في أَنْشِطَةٍ "مَالِيّةٍ صِرْفَة" : القاعدة هي إسْتِخْرَاج كل مَرْدُود هذه الدّولارات العشرين أو الخَمسين على حِسَاب الإقتِصاد المُنتج الذي أُسْتُثمِرَ فيه دُولارًا أوحد فقط ، وضمان نُمُوّ رأسِ المَال الطُّفَيْلي على حِساب الصّناعة والزّراعة والمُجتمع ككُل.


ليس هناك شكٌّ في أنّ كُل "صفقة" في "السّوق" على السّندات والقروض والأسهم والعُملات تُمثِّل ضَغْطًا مُضاعَفًا على الصّناعة والعمل والزّراعة. حقيقة أن المعاملات في المصارف والتأمين وشركات الاستثمار المالية والبورصات والشركات القابضة تَضَاعَفت بين 20 و 50 مرّة مُقابل الصّناعة والزّراعة ، هو مثال صارِخ على هذا الواقع الحاسِم . أمّا الزّيادة في "حجم المُعامَلات" في البُورصات الذي كان مُتَرَاوِحًا بين 10 الى 20 مليار دولار في 1970 و 4.200 مليارفي عام 1994 تُشَكِّلُ دَلاَلةً على هذه القاعدة خاصّة مع تنامي الرّقم في السّنوات الاولى من الألفِيّة الثّانِيَة. علاوة على ذلك ، وكما تظهر الاحصاءات، في الفترة بين 1995-1996 ،ستة بنوك كبرى في الولايات المتحدة ، وأربعة في انكلترا حَصَدت 40 ٪-;---;-----;--- من مداخيلها (باستثناء عمليات أخرى) فقط من تجارة العملات والأسهم . كل هذا وتَصِلُ أحجام العمليّات آلاف المليارات من الدولارات التي قدمتها البنوك الكبرى وأسواق الأوراق الماليّة ، وهو ما يتجاوز بكثير إجمَالِيّ النّاتج المحلّي الخامّ بِمَا يجعَلُ منْهَا دَلاَئل تفكُّكٍ إِضَافةً لِترَاكُم وتكَثُّف الرُّكُود. حقيقة أن بعض الاقتصاديين والكتاب البرجوازيين ، فَزِعِين من "التطوُّر" الإقتصَاديّ ، ويكتُبُون عن تحوّل النظام المالي إلى وحشٍ طُفيْلِيّ يتغذّى على دِماء مُضيفه (الاقتصاد الإنتاجي) لا تُمَثِّلُ إلاّ إعترافًا "تَعِيسًا".


إلى جَانب توسّع الإحتِكارات وإحتِدَاد التّناحُر من أجل الأسوَاق ، تُشَكِّلُ زيادة إتّفاقيّات الإحتكار ودعم من حكومات البلدان المتقدمة لها واحِدة من العَقبَات التي تمنع أكثر من أي وقتٍ مضى تطوير التّقنية ، وتطبيقها على الإنتاج وبالتّالِي إمكانيّة تنْمِية القُوى المُنتجة.كَمَا تَكْسِرُ المُعاهَدات المباشرة أو غير المباشرة ؛وإتّفاقِيّات G8 ومنظّمة التّجَارة العالميّة ، والإتّحاد الأوروبّي الهادِفة لِ"تنظيم المنافسة" وغيرها من قرارات الحكومات الحَاجِزة لإمتِيَازات إحتِكَاريّةٍ خاصّةٍ بهَا؛ التقدّم التّقني والإنتاجية ، وتُشجّع الاتجاه منحى الرُّكُود.
حقائقُ هامّة رسَمَت ملامِح السّنوات العشر الماضِية في العَالم :سنواتٍ للرّأسمالِيّة محكُومة بتكثيف وترسيخ الميل إلى الرُّكُود حصيلة التطفّل والنّفُوذ المُتزايد للإتّفاقيّات الإحتكاريّة ، ولقد مثّلت فترات"التّجديد" لِما بعد الحرب العالمية الثّانية بالنّسبة للإقتصاد الرّأسمالي مرحلة إنْخِفَاض مُعدّلات النُّمُوّ مُزْمِنةٍ وِفق نمطٍ عَقْدِيٍّ (كُلّ عشر سنوات) واستمرّ الإنخفاض خلال عقد التّسعينات. على الرغم من التوقُّعات لبِداية جديدة و "موجة من النمو" في الثّمانِينات ، كان النمو 3.2 ٪-;---;-----;--- فقط. خلال التّسعينات لم تتعدَّى 2.5 ٪-;---;-----;--- فقط. بالإضافة إلى ذلك ، أظهرت جميع المؤشّرات أنّ هذا الإنخفاض سيستمرّ في السّنوات المقبلة.


خِلاَل الفترة السّابقة لم يكن هناك فَقَط تعفُّن الرّأسمَال وتفَاقم الرُّكُود الإقتِصَاديّ. فَفِي ظِلّ ظُروفٍ من تركّز الرّسامِيل وتنامِي "المُنافسة" الإحتِكارِيّة في التّسعِينات، وعلى الرّغم من تسارع تدفُّق رأس المال جَرّاء الإستخدام الجُزئيّ للتّكنولوجيّات الحديثة والرّقمِيّة و"تركّز العَمَل"(بفضل التّدوِيل وتطوُّر الإتّصَالات) ، فهُنَاك إتّجاهًا نحو إنخفاضِ مُعدّلات الأرباح. على سبيل المثال ، تُبيّن الأرقام أنّ سنوات الثّمانِينات في ألمانيا سُجِّل فيها إرتفاع مُعدّل الرّبح في الصّناعة من 7.2 ٪-;---;-----;--- إلى 9.9 ٪-;---;-----;---، لِيَتَراجع بعد ذلك إلى 5 ٪-;---;-----;--- سنة 1995. (زيادة مقدار أرباح أقطاب الإحتكار أمرٌ آخر) وبالرّغمِ من أنَّ الإنخِفاض غَيْر عميقٌ كما هو الحال في ألمانيا ، فإنه ينطبق على غيرها من الدُّول المُتقدّمة ، وإستمرّ خلال السّنوات التّالِية.


فِي مُواجَهة الإنْخفَاض في مُعدّلات الرِّبح ، الإجراءات المُتّبَعة مؤن قِبَلِ الحُكُومات ورأس المَال الإحتِكارِيّ معرُوفة : بدَلًا مِن توسِيع مَجالات وقُوى العَمل ، يُوصُون بزيَادة قِيمَة فَائض القِيمة وبالإسْتِغلال الإمبِريالِيّ للشُّعُوب التّابعة بِشَتّى الوسائِل نِسبيّةً كانَت أو مُطلَقَة. تنَامِي التطفُّل والتّعَفُّن ، وتعميق الرُّكُود ، وتزايُد الإختِلَالَات المُدَمِّرة ، ومنحى إنخِفاض مُعدّلات الأرباح كانت سِمَات تطوُّر الإقتِصاد العَالميّ في السّنوات الخمسة عشَر المَاضِية. أمّا الهَجَمَات "الجديدة" المُخَطَّطِ لها بَعد سُقُوط الكُتلة {الشّرقيّة} (التي قُدِّمَت مَهْزَلِيًّا في الفترة بين 1995-1996 على أنّها "إصلاحات") ، فقد كانت وسيلةً للتغلّب على أمراضِ الإقتصَاد خاصّةً مع فَرض رُسُوم على الطّبقة العاملة والشّعب المُضطَهَد ، ما هو الحَاسِم هنا هو أنّ جميع هذه الظّواهر ، بدءًا من الهجَمَات عَلَى حُقُوق العُمّال والشّعُوب التّابِعة ، ليست عَناصِر لِفَترةٍ "عاديّةٍ" مِن عُمُرِ الإقتِصَاد العالميّ ، ولكنّها نتيجةً تمّ الوُصُول لَهَا لفترةٍ من عمليّةٍ مَخْصُوصةٍ بلَغَت مُستوًى مُعيّن مِن النُّضج كما لُوحِظ أعلَاه ، حقبة تعتمِد على حركة مُحدّدَةٍ لِرأسِ المَال وتحوُّلٍ دَقِيقٍ في الإقتِصَاد. مسارٌ مُتَمَثِّلٌ فِي المَزيد مِن تركُّز رأسِ المَال وتوطِيد مَركزِيّةٍ جديدةٍ مُتَكَوِّنة من تجمّع محدُود وحَرَكة إحْتِكَاريّة [جديدة] ناميةٍ على قدمٍ وساقٍ ؛ وبرزت الظّواهِر والهَجَمَات المُخَطَّطة كعنَاصِر من هذه العَمليّة. ولقدبيَّن التّارِيخ وعلى الأخَصّ القرنِ المَاضي عدّة مرات نتائج هذا النَّوع مِن المَسَارَات ونَوعِيّة الإضطرابَات والإنهيار والدّمار الذي يُمكِن أن يَتسبّبَ فِيهِ.


لا يَنفِي وَاقِع غِيابَ أزمَة إقتِصاديّة ذات أهميّة عالميّة خُصُوصِيَّة المَسَار والتغيُّرَات المُسَجّلة ، إضافةً إلى أنّ عَوامِل الأزمةِ واضحَةً وتتعَمّقُ ، فتكثّف التعفّن ، وعناصر رُكُود النُّمُوّ والتقلّبات في بعض القِطَاعات هِي بَوادِر أزمةٍ آخِذةٍ فِي النُّضْج. من ناحية أخرى ، التّكاليف الإضافيّة النّاتِجة عَن بَرَامج التقشّف وقُوّة التّناحُر عَلَى الأسواقِ تُمَثِّلُ ،وفي ظِلّ ظُرُوفٍ مُعيّنةٍ ، حتمًا "أسباب أزمات". أمَّا الإختِلالَات المُثْقَلَة بالصّراع حول النُّفُوذ فَهِي دائمًا من بيْن أهمّ أسبَاب تسريعِ وتعمِيق الأزْمَة ؛ وبالنّسبَة لِتَدَهْوُر "المَقْدِرة الشِّرائِيّة" للعُمّال والجمَاهير الكَادحَة ، فمن المُؤكّد أنّها أصبَحَت أكثَرَ أهَميّة مِن أيِّ وَقتٍ مَضى أساسَ وسَبَبَ إنفجارِ تضخّم الإنتَاجِ هنا أوهُنَاك.
مِنَ المؤكّد أنّ رأسِ المَال "يُوَسِّعُ" من "قُدرَتِه على مُكَافَحَةِ الأزمَة" عَبْر تدَابِير مثل "شُغْل مَرِن- إنتاجٍ مَرِن" ، وتحوِيل الأقْطَار التّابِعة إلى "مَزْبَلَة أَزْمَة". لكن على أي حال ، حتى لو كان بالإمكانِ وَضْع عددٍ من الأسْلحَة تُجَاه الأزمَة ، فَمِن المُحَالِ وُجُود آلِيَّةٍ "سِحريّةٍ" لِحَلّ أزمَات الرّأسماليّة. فَعَلَى النَّقِيض، تعْمِيق "العَوْلمة" يُوسِّع الظروف النّاقِلَة بسرعة للأزَمَات في جَميع أنحَاء العَالم. في ظل ظروف معينة ، إنتاجٍ مرنٍ وتحويل البلدان التّابِعَة لِ"مَزَابِل" هُو بالضَّرُورَة سِلَاحٌ ذُو حدَّيْن يُمكن أن يَرْتَدَّ على طبقات رأسِ المَال.


مهمَا كانَت زَاوِية النّظَر فإنَّ إنْدِلاع الأزمات الإقتِصَاديّة وبِدايَة الإنهِيَارَات فِي قِطَاعٍ أو بَلَد لِتَنْتَشِر بعد ذَلك فِي قِطَاعاتٍ وبُلْدانٍ أُخرَى أمرٌ لَا مَفَرّ منهُ ؛ فَالتّرَكُّز الرّأسمَالِيّ والمُنافسَة الإحتِكاريّة المُدَمّرة المُتزايِدَة تُفَاقِم وتحْتوِي عَلَى كُلّ الأسباب التي من شأنها تحويل هذه الأزمات إلى إضطرابات ودَمَارٍ عنيفٍ ، وإلَى أزماتٍ سِيَاسيّةٍ يَسْتحِيلُ على طَبَقَات رأس المَال تَجَنّبهَا "إلى النِّهَاية".
الصِّرَاع المُتَزَايِد حَوْل الأسْوَاق ومَنَاطق النُّفُوذ ، تشكُّل كُتَل دُوَلِيّة جدِيدَة ، بُرُوز خِلَافَات تُسلِّط الضّوء على التوتُّرَات المُتَصَاعِدة ، الهُجُومَات في جميع البُلدَان ، سَواءً كانت صِنَاعِيّة أو "مُتَخَلّفة" ، تكاثُف وإحْتِدَاد التّناقُضَات الوَطَنِيّة والطَّبَقِيّة ، وتقدُّم مُحْرَز في الوَعي والنِّضَال الطّبَقيّ والوَطَنِيّ : لا جدال في أن المَسَار المُتَّبَع هُو ما سَلَفَ ذِكْرُهُ وسوف تجِد جَميع الأحدَاث تَعبِيرَاتهَا في تكثُّف هذه التّهْدِيدَات بِمَا يُؤدِّي لِمَعَارِك حَاسِمة.




نَحْوَ المُوَاجَهَة والإنْهِيَار


تُقِيمُ الوقائِع الأدِلّة على أنّ كُلّ تَنَاقُضَات العَالم بَين العَمَل ورَأسِ المَال، بَيْن بُلدَانٍ مُتَقدِّمةٍ وأُخْرى تَابِعَة ، وبين الأقْطَار الغَنِيَّة نَفسَها ، آخِذَةٌ في إتّجَاه الإحتِدَاد أكثَر فأكثَر. تطوُّرٌ يَتمَاشَى مَع تَفَاقُم آثارِ الرُّكُود وعَدم إسْتِقرَار الإقتِصَاد العَالَمِيّ وإرْتِفاع مُؤشِّرَات الأَزَمَات و "مَخَاطِر" إنْتِشَارِهَا. ليس هناك شكٌّ في أنّ الهَجَمَات ستتوسَّع وتترَكَّز ويَعْنِي مَسَارَهَا (الهَجَمَات) حَرَكَةَ نَقْلٍ أكْثَرَ عَمُودِيَّةٍ للثَّرْوَة من الطَّبَقَات الدُّنْيَا للطَّبَقاتِ العُليَا ومِن الأقطَار التَّابِعَة إلَى البُلدَان "المُتقدِّمَة" بِمَا يُؤجِّجُ حَتْمًا نِضَالَات الطّبَقَة العَامِلة والشُّعُوب التّابِعَة. مِن جِهَةٍ أُخرَى ، أيًّا كَان شَكل وإتِّجَاه تَصَاعُد هذِه الحَرَكَة ، فإنّ المَسَار سَيَشْهَدُ بالضَّرُورة مُوَاجَهَاتٍ بيْن الدُّوَل الإمبِريَالِيّة الكُبرَى تَتّسِعُ فِي تَسَارُعٍ.


ويَنبَغي أَن يُؤخَذ بِعَيْنِ الإعْتِبَار أنّ كُلّ رُكُودٍ كَان رَأس المَال قَادرًا عَلى التّغلُّبِ عَليه وكُلّ "التَّدَابِير" المُتّخَذَة لمُعَالَجة الأزْمَة هِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا زِيادةً في الرُّكُودِ وتَعْمِيقٌ لِلأزَمَات اللَّاحِقَة ؛ ومِنْ ثَمَّةَ ، فإنّ كُلّ هَزِيمة لِحَرَكة الطَّبَقة العَامِلة والشُّعُوب تُمَثِّلُ أيضًا فُرصَةً لتَحَرُّكَاتٍ لَاحِقَةٍ أكْثَر خِبرَة وقُوّة وأكثر تَقَدُّمًا. على الرغم من أنَّهُ لا يُستبعَدُ تَمَامًا إحتِمَال التغلُّب علَى الأزمة بِشَكلٍ أو بِآخَرَ ، أو إمكانِيّة تحقِيق الإسْتِقرَار والفَوَرَات لبِضْعِ سَنوَاتٍ ؛ فَمِن المُسْتَحيل حُصُول الطّبقات الرّأسمالِيّة والعَالَم الرّأسمَالِيّ على إستقرارٍ عَامٍّ وعَالمٍ بِصِراعٍ طَبَقِيٍّ أُحَادِيّ الجَانِب (unilateral) : إنّ الإنهِيَار الإقْتِصَاديّ والفَوْضى السِّيَاسيّة والزَّلَازِل الإجْتِمَاعِيّة العَمِيقَة ، والصّدامَات والصّرَاعات الأكْثَرَ عُنفَا،المُكثّفَة والشّامِلَة لَا مَفَرّ مِنْهَا.


لقَد "إكتَشَفَت" طبقات رأس المال والأَقْطَار الإمبِريَاليّة مَرَّةً أُخْرى حَتْمِيَّة هذه الظّاهِرة في الصِّرَاعَات الإقتِصادِيّة والإجتِماعِيّة والسيَاسِيّة في الخمس عشرةَ سنةٍ المَاضِية فَخطّطَت جَدوَل أعْمَالهَا وإسْتَعَدّت وفقًا لِهَذَا التّطَوُّر ؛ وكَما نُوقِش في المَقَاطع السّابِقة ، لمْ تَكُن هَذِه الإستِعْدَادَات والإجْرَاءَات مُوجَّهَة فقط ضدّ الدُّوَل الإسلَامِيّة المُقَدَّمَة ك"حَضَارَةٍ عَدُوَّةٍ" أو ضِدّ الإرهابِ الأُصُولِيّ ، وحتى ضد الأقطَار التّابِعَة والمُتَخَلّفَة ؛ فَصِرَاعُ الرّأسمَال العَالَمِيّ وحُكُومات الدُّوَل [الكُبْرَى] كَمَا يُرَى في التّارِيخ المُعَاصِر ، وخُصُوصًا السّنَوَات الخَمسَة عَشَر المَاضِية قَد يَكُونُ أَوْسع مِن ذَلِك بِكَثير ، ذُو أبعَادٍ عِدَّةٍ ، وعَلَى جَبَهَات كَثِيرَة :

1 -- ضِدّ الطّبَقة العَامِلة فِي الدَّاخِل ،
2 -- ضِدّ البُلدَان التّابِعَة والمُتَخلِّفة فِي الخَارِج ،
3 -- ضِدّ الأقطابِ الإحْتِكارِيَّة والدُّوَل المُنَافِسَة في الدَّاخِل والخَارِج أيْ فِي جَميع أنحَاء العَالم.

وبِالرَّغْمِ مِنْ أنَّ عالَم الرّأس مَال والأقْطَار الإمْبريَاليّة يُقِيمُونَ "وِحْدَةً" على الجبهَة الأولى والثّانِيَة ، فَهُم مُتَوَاجِدِين في هَذِه المُوَاجَهَات الثّلَاثِ. لَمْ يَكُن صِرَاع رأس المال العَالمِيّ حتى اليَوْم أُحَادِيّ الجَانِب ، ولَن يكُون كَذَلِكَ في المُسْتقبَل. كما يقُول البَعض ،لَن تكُونَ لِلمَعركة عَلاَقَة بالأشْكالِ السِّلمِيّة ، ولَن تَبْقى فِي حَدٍّ مَقبُولٍ مِن التّنَافُس المَحَلّي أو الطَّبَقِيّ مِنْ قِبَلِ النِّظَامِ نَفْسِه ؛ يُدْرِكُ العَالم الرّأسمَالِيّ وخُصُوصًا القُوى [العُظمى] الإمبِريَاليّة أنّه بِمُجَرّد نفاذِ مَفْعُول وإهْتِرَاء آلِيَّة "الوِفَاق" المُقَدَّمَة كَوَسِيلَةٍ "ديمُقرَاطِيّة" ، يَحِينُ الوَقت لِفَرضِ الذَّاتِ بالقُوَّة والقَهْر سواء أمامَ القُوى المُنَافِسة أو فِي مُوَاجَهة العُمّال والشُّعُوب التَّابِعَة : تَسْتَعِدُّ الدُّوَل الرّأسْمَاليّة الكُبْرَى والقُوَى الإمبِريالِيّة بِالفِعل لِتمهِيد الطَّرِيق ب"السَّيْف والنَّار".


تُوَفِّرُ الوَقَائِع بَيانَاتٍ لَا يُمكِن تَجَاهُلها : ففي البُلدَان المُتقدِّمَة ، لمْ يُفْرَض"جَوْهَر رَيْعِ" الدّولَة بالقُوّة مِن قَبل كمَا هُو علَيه الحَال. وعَلَى الرّغمِ مِن الأهَمّيّة القُصْوَى لِهَذَا الجانب، فالمُشْكِل لا يُخْتَصَرُ فِي إزَالَة سُلطَة الحُكُومَات والمَجَالس المُنْتَخَبة والهَيْئات المَالِيّة والإقتِصادِيّة مثل البُنُوك المَركَزِيّة والهَيئاتِ التّنافُسِيّة والبُورصَات إلخ. والمَسأَلَة ذَات طابَع أكثَر حَيَويّة تَتَمَثَّلُ فِي الإنقِلاَب عَلَى الدّيمُقراطِيّة رَغْمَ أنَّهَا بُرجُوازِيّة وتَصَاعُد القَمْع والرِّجْعِيّة السِّيَاسِيّة مَصْحُوبَةً بِجَمِيعِ وَسَائِلهَا الضَّرُورِيّة ومُؤَسَّسَاتِهَا وتأسِيسِ تيَّارٍ لَهَا. وَمَا وَضْع الدّولة البُولِيسِيّة على المِحَكّ وتحْوِيل البَرْلَمَانِيّة لِمَلاَذَاتِ تَبْرِيرٍ وتَنَامي الفَاشِيَّة وعَسْكَرة الإقتِصَادِيَّات بِمَا يَعْنِيه من إقامَةٍ لدُوَلٍ مُعَسْكَرَةٍ بِدَوْرِهَا إلاّ بَعضِ المَظَاهِر الأُخرَى لِهَذَا الخَطَر.
إستسلَمَت الدُّوَلُ تمَامًا لِلطُّغَم المَالِيّة ، وعَلَى الرَّغْم مِن الهُرَاء الجَارِي حَوْلَ {التَّحْرِير} ،فَإنَّ الرّأسمَالِيّة أصْبَحَت أكْثَر مِن أيِّ وَقتٍ مَضَى رأسمالِيّة دَوْلَة. أعلن الطّابع الطُّفيْلِيّ ،والتفكُّك والإضْمِحلَال والتَّدمِير المَنْهَجِيّ لقُوَى الإنْتاج المُتَمَيّز بِأَزَماتٍ وعوَامِل أُخْرَى للرُّكُود وَجمِيع التَّناقُضَات والإخْتِلَالَات المُهَيِّئة لِهَزَّاتٍ قَوِيَّةٍ، بِلَا هَوَادَةٍ ، أنَّ رأسْمَالِيّة اليَوْمِ هي النَّاضِجَة جِدًّا لِحَقْبَةِ أزمَة وإنْهِيَار. مَع جمِيع الأعْرَاض المُؤَكِّدَة لِأزْمَتِها العَامَّة ،وبالرَّغْمِ مِن إخْتِلَاف مُستَوَى النُّمُوّ والظُّرُوف، تَجُرُّ الرّأسمَالِيّة العَالَمَ وَرَاءهَا مُباشَرةً إلَى وضعٍ شَبِيهٍ بالأحدَاثِ الكُبرى في بِدَايَاتِ القرنِ المُنْصَرِم.


لاَ يَتَّجِهُ العَالم الرَّأسمَالِيّ لِحِقْبَة عَشْوائِيّةٍ لِلصِّرَاعٍ والنِّزاعٍ ، بَلْ يَذهَب إلَى إنهِيَارٍ مُمَاثِل لِمَا حَدَثَ فِي النِّصفِ الأَوّل مِن القَرْن العِشْرِين. فَمِن نَاحِيَةٍ، وبالتَّوَازِي مع تَحَوُّل الصِّرَاع حَوْلَ الأسْوَاق ومَنَاطِق النُّفُوذ لنِزَاعٍ مُبَاشِرٍ، بَرَزَت إسْتِقطاباتٍ عسْكرِيّة/سِيَاسِيّة جَدِيدة تَجْعَل مِنَ الحرب العامّة تهْدِيدًا جِدِّيًّا. وَمِن نَاحِيَةٍ أُخْرَى، تتَصَاعَد وتتجَذَّرُ الحَرَكة العُمّالِيَّة الثَّورِيّة والإحْتِجَاجَات المُعَادِية للإمبِريَاليّة مُحْتَضِنَةً الكِفَاح ضِدّ هَذِهِ القُطْبِيَّة وَضِدّ التَّلْوِيحِ بالحُرُوب. بِغَضّ الطَّرَف عَن الشَّكْل المُتَّخَذِ آنَذَاك، فبالنّسْبَة للعَالم الرّأسمَاليّ-الإمبِريالِيّ ، لا مَفَرّ مِن الإنْزِلاَقِ في الصِّرَاعَات المُدَوِّيَة والحُرُوب.


الخُلَاصَة : إمّا أنَّهَا حَربٌ عَالَميّة جَدِيدة سَتَسْحَقُ الثَّوَرَات أو هيَ ثَوْرَةٌ تَمْنَعُ أو تُنْهِي الحَرب! إنْهِيَار طبَقَة رَأسِ المَال والرّأسمَالِيّة وتَعْوِيضِهَا مِنْ قِبَلِ الطَّبَقة العَاملة والإشتِراكِيّة أمْرٌ لا مَحِيدَ عَنْهُ. ولكن لا يُمكِنُ التّكَهُّن مُنْذُ الآن توقيتَ حُدُوث ذَلِكَ بَعد الحَربِ التِي ستُدَمّر العَالم ، أو عَبْرَ الحَيْلُولَة دُونَ تِلْكَ الحَرب وتدمِير مَحَاضِن الحُرُوب. فِي المُقَابِل ، ليس مُستغْرَبًا أنّهُ فِي خِضَمّ هذه الأزَمَات والصِّرَاعَات، وإسْتِنادًا إلى التّجَارب التّارِيخِيّة لِلحَرَكة، أن تُدَمِّرَ مَفَارِز مِن الطّبَقَة العَامِلة فِي أقْطَارٍ تُشَكِّلُ الحَلَقَة الأَضْعَف دُعَاة الحَرْبِ مُسْتَوْلِيَةً عَلَى سُلطَة الدّولَة. في عالم الرأسمالية التي لَم تتّعِض بدُرُوس وَحْشِيَّتِهَا في القَرنِ المَاضِي، لَا يُوجَد أيّ سَبَب للشكِّ فِي أن فَيَالِق الطَّبَقَة العَامِلَة في أيّ دَولَةٍ "كُبْرَى" سَتُنْجِزُ ،بِنِضالِيَّةٍ عالِيَةٍ، المَهَامَّ المُلقَاةِ على عَاتِقِهَا.


العَالَم يَتغيّر بِبُطءٍ فٍي إتِّجَاهِ مَرحَلَة جَدِيدة مِن الأزْمَة العَامَّة (وهُو مَا يَعْني كَسْر السِّلسِلَة الإمْبِريَاليّة من قِبَلِ الحَلَقَات الأَضْعَف وظُهُور الإشْتِرَاكِيّة كبَدِيلٍ ملمُوسٍ للعَيْش) للرّأسمَالِيّة،هذا مؤكد، ولكن الأهَمّ هُو عَدَمّ التَّرَاخِي فِي هَذِه المَسْألَة.


هَل حُكِمَ عَلَى الطَّبَقَة العَامِلة والشُّعُوب بِهَزِيمَة أَبَدِيّة آتِيَةٍ فِي يَأْسٍ وقَتَامَة علَى الرَّغْم مِنْ جَمِيع الجُهُود والتّضْحِيَات المَبْذُولَة ؛ أو هِيَ فِي إتِّجَاهِ تحْقِيقِ تَقَدُّمٍ في تَوظِيفٍ نَاجِحٍ نَاجِعٍ لِجَمِيع الوَسَائِل ولِحَيَوِيَّة الحركة فِي مُوَاجَهَة التّحَدِّيَات عَبْرَ تقْلِيل الخَسَائِر؟
الإشْكَالِيّة المَرْكَزِيّة والأساسية اليوم هِيَ التّركِيز بِلاَ شكٍّ عَلَى ردِّ الطَّبَقَة العَامِلة والشُّعُوب حَاضِرًا ومُسْتَقْبَلاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا


.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024




.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال


.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري




.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا