الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب تفعيل الديمقراطية لمعالجة ازمات الرأسمالية

محمد الأزرقي

2016 / 5 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


قراءة في كتاب تفعيل الديمقراطية لمعالجة ازمات الرأسمالية
للأقتصادي الماركسي د. رچرد وولف
محمد الأزرقي
اغتبط الإقتصادي الماركسي الشهير د. رچرد وولف، ونحن نتكاتب حول رغبتي في ترجمة كتابه الأخير، حين اخبرته أنّ للبلاد العربية نصيبها الكبير من الحركات السياسية اليسارية والماركسية والإشتراكية والشيوعية، حتى أنّ بعضها يصف نفسه بالإشتراكية رسميا. نشأت هذه الحركات وترعرعت ولعبت دورها وساهمت في تحريرالأوطان ونيل حريتها، كما حدث في مصر والعراق ولبنان وسوريا والجزائر وتونس وليبيا وجمهورية اليمن الديمقراطية. كما كان ولا يزال لها وجود مشهود على الساحة الفلسطينية في الأرض المحتلة والمهجر. اتخذ نضال الشعب العربي من أجل الإستقلال اشكالا عدة منها التأميم وغلق القواعد الأجنبية واستعادة امتلاك الأراضي من الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين. انطلقت الشرارة الأولى بقيام ثورة ناصر المصرية عام 1952 واغلاق القواعد الأجنبية وتأميم قناة السويس ومن بعده صناعة النفط والأنسجة. في العراق اغلقت حكومة ثورة تموز عام 1958 بقيادة الزعيم قاسم القواعد البريطانية واستعادت الأراضي من الشركات الأجنبية وقامت هي بدور المنقب والمستخرج والمصفي والمصدر. ثم عادت وأممت حصص نفط الشركات الأجنبية بكاملها في فترة لاحقة. في الجزائر طردت الثورة الفرنسيين واغلقت قواعدهم واستولت على ممتلكاتهم. وحدث نفس الشيء اثر قيام ثورة القذافي في ليبيا، حيث اغلقت القواعد الأمريكية والبريطانية وتمّ تأميم الصناعة النفطية. في جنوب اليمن اغلق البريطانيون قاعدتهم في عدن ورحلوا، وتولت مسؤولية البلد حكومة اشتراكية. في العراق ومصر استعيدت الأراضي الزراعية من المالكين الكبار والإقطاعيين ووزِعت على الفلاحين، وفق ما سمي بقوانين الأصلاح الزراعي، الذي طبّق ايضا في سوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي.
كانت الحركات اليسارية والإشتراكية والشيوعية نتيجة لآثار الوعي في صفوف الجماهير وحشدها للقيام باتخاذ تلك الخطوات والوقوف خلف القيادات التي سارت في ذلك الإتجاه. لكنّ المسيرة لم تكن سهلة، اذ دفع اليساريون والوطنيون التقدميون اثمان عالية ودخل بعضهم السجون والمعتقلات وفقد آخرون حياتهم حين تعثر المسار وحدثت انقلابات مضادة ونشأت تيارات جديدة غذتها دولارات النفط وافكار القرون الوسطى، التي وجد فيها الغرب واسرائيل العون والحليف لاستعادة نفوذها والإنتقام بقسوة من كلّ من رفع شعارات ارض العرب للعرب أو نفط العرب للعرب ...الخ. بدأت طليعة ذلك الزحف المعاكس في هزيمة 1967، وما تلاها من الهزائم، حين تكالبت القوى الإستعمارية الجديدة وقاعدتها المتقدمة في فلسطين، واطماع البلدان المجاورة لأرض العرب في آسيا وافريقيا. فانتهينا بالتشرذم واصبح العربي نازحا في بلاده او مهاجرا ينشد الحياة الكريمة في مكان آخر خلف البحار ليس فيه مقابر جماعية، بعد أن ضاقت به السبل وتكالبت على قتله والتنكيل به قوات اجنبية مدججة باشرس ادوات القتل والموت، وتصاحبها حفنات المرتزقة من القتلة المحترفين من الذباحين ومدمري الآثار الحضارية.
يذكرنا التاريخ أنّ العرب عرفوا خلال المئة عام الأخيرة الاستقلال والهزيمة، النكبة والنكسة، الحريات والانقلابات. والحقيقة أنّ اتفاقات سايكس- بيكو انتهت مع نهاية حرب السويس، التي قادت الى خروج فرنسا وبريطانيا من المشرق كدولتين عظميين. وفي هذه الأثناء ايضاً، ظهرت نتيجة الحرب العالمية الثانية قوّتان كبريان إحداهما رأسمالية ضخمة هي الولايات المتحدة، والثانية اشتراكية شيوعية محدودة الثروة هي الاتحاد السوفياتي. وقد حاولت القوتان الحلول محل الاستعمار المتراجع في كلّ مكان، من اوروپا إلى الشرق الاوسط، إلى آسيا، إلى افريقيا، إلى امريكا اللاتينية. وبسبب التزام امريكا بوجود اسرائيل منذ ولادتها، اختار عرب المواجهة الاتحاد السوفياتي شريكا سياسيا. كان ذلك الخيار الوحيد، وقد ارفق بخطوات اشتراكية متعجّلة وغير ملائمة لأوضاع المنطقة وشعوبها، كالتأميم والحراسة والغاء الحريات وتجفيف حركة التعليم ومستوياته. الغيت تماماً طبقات الصناعيين والتجار والمزارعين والمثقفين، وفتحت أمام هؤلاء جميعا ابواب السجون أو المنافي.*
*http://newspaper.annahar.com/article/2991
وفي سوريا والعراق ومصر، ولاحقا ليبيا واليمن والجزائر، ازيلت البورجوازية الوطنية كليّا، وحلّت محلها طبقة من الأوليگارکية النفعية المحدودة الانتاج والآفاق، التي لا كفاية أو ميزة لها سوى ميزة الخضوع للنظام. طبعاً طغت في الوقت نفسه المحسوبية ودوافع الفساد، واستُبدل الاقطاع التجاري باقطاع جديد قائم على المشاركة هذه المرة مع ما عُرف بالانظمة القائمة. أصبحت السياسة هي المصدر المالي الأول من خلال التحالفات السريَة والمعلنة، مع المعسكرات القائمة في المنطقة وفي العالم.
يقينا إنّني اشعر بقشعريرة تسري في بدني حين اسمع كلمة " ديمقراطية"، رغم أنّي عشت في الولايات المتحدة منذ عام 1978. تبدو الدعوة الأمريكية للديمقراطية امرا مرعبا ومبشرا بالإنقلابات والإحتلال والحروب حين ترد على لسان الساسة الأمريكيين. وهذا يذكرني بكتاب عنوانه "الديمقراطية أشدّ الصادرات الأميركية فتكا"من تأليف وليام بلوم وترجمة د. فاطمة نصر. عرضه احمد التلاوي* فقال، إنّ وليام بلوم يُعتبر احد اهمّ الكتاب الأمريكيين الذين يتبنون خطا مناهضا لسياسات بلاده الإمپريالية، ويعمل على كشف حقيقة الوجه القبيح للسياسة الأمريكية، وجرائم إداراتها في العالم عبر التاريخ. وله في هذا كتاب شهير عنوانه "قتل الأمل"، سرد فيه قصة الإنقلابات والمذابح التي دبرتها المخابرات المركزية الأمريكية في بقاع مختلفة من العالم، لمجرد ضمان المصالح الأمريكية فيها، وبقاء انظمة حليفة هناك.

يعرّي بلوم السياسة الأمريكية، ويوضح كيف أنّها تستغل شعارات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تدمير المجتمعات الأخرى من الداخل للحيلولة دون ظهور منافسين لها في الهيمنة الدولية. ترك بلوم منصبه وكيلا للخارجية الأمريكية عام 1967 بسبب معارضته لحرب فيتنام، ويرى في كتابه هذا أنّ احداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 كانت صدمة قوية للنظام الأمريكي، ولكنها دعمت سياسات المؤامرة، التي تتبناها الولايات المتحدة من أجل تقسيم العالم وتفتيت قواه. ويستدل على ذلك بنماذج مثل حالات يوغسلافيا وليبيا والعراق وسياسات واشنطن العامة في امريكا اللاتينية، وغير ذلك من النماذج التي سردها. ومثل كثير من القادة الأقوياء في الماضي والحاضر والمستقبل، يريد المسؤولون الأمريكيون منّا أن نصدق أنّ السياسات التي ينتهجونها في مسعاهم للهيمنة هي من اجل شعبهم ومعظم العالم، حتى إنْ لم تتضح بركاتها في الحال. ويمضي للقول إنّ أكثر ما يستهوي قادة الولايات المتحدة هو إعادة صنع العالم في صورة امريكا، بحيث تصبح عناصره الجوهرية هي المشاريع الحرة والفردانية، وما يطلقون عليه مصطلح القيم اليهودية المسيحية، وشيء آخر يطلقون عليه اسم "الديمقراطية".

ولنتخيل في هذا الإطار إذن حجم الصدمة التي مثلتها جرائم 11 سبتمبر، حيث يوضح بلوم ذلك بالقول، "نحن لا نتحدث هنا عن نوع الصدمة التي خبرها امثالي وامثالك في ذلك اليوم المصيري، بل صدمة إدراك أنّ شخصا ما تجرأ على إهانة الإمبراطورية وتوجيه ضربة لها!" كانت حقا صدمة اليمة للنظام العصبي السياسي، حيث يفترض القادة الأمريكيون أنّ سلطة الولايات المتحدة الأخلاقية مثل قوتها العسكرية، مطلقة ولا يمكن تحديها. لقد حاولت الحكومات المتعاقبة في هذه البلاد اغتيال اكثر من خمسين زعيما اجنبيا، وامطرت شعوب اكثر من ثلاثين بلدا بالقنابل، كذلك حاولت قمع حركات شعبية أو قومية في ثلاثين بلدا. ظلّ أهمّ الأهداف الجوهرية للسياسة الخارجية الأمريكية استدامة، هو الحيلولة دون صعود أيّ مجتمع قد يصبح مثالا صالحا لنموذج بديل، وكان هذا هو جوهر الحرب الباردة. هذا هو رصيد الولايات المتحدة من دعم الديمقراطية في العالم. ومن نافلة القول التأكيد على أنّ الباعث الرئيسي لهذه النوعية من التدخلات الأمريكية الفتاكة، هو حماية مصالحها المختلفة عبر العالم وضمان عدم منازعتها زعامة العالم والقضاء على أيّة دولة أو حكومة تحاول أن تغير من النظرة الأمريكية للسياسة العالمية.
يمضي المؤلف فيذكر واقع السياسات الأمريكية "الديمقراطية" في العالم، فيقول إنّ الولايات المتحدة قامت منذ الحرب العالمية الثانية، بالإطاحة أو بمحاولة الإطاحة بما يربو على خمسين حكومة اجنبية، كانت غالبيتها منتخبة ديمقراطيا، وتدخلت بأكثر من اسلوب، من بينها التأثيرات السياسية في الانتخابات. الأهم من هذا المحتوى، هو كيف تنظر الولايات المتحدة لنفسها،
......
*وليام بلوم الديمقراطية أشد الصادرات الأميركية فتكا ترجمة د. فاطمة نصر ( دار سطور، القاهرة، 2015)
ولهذا الذي تقوم به، وكيف تقوم بتلقينه للآخرين، وخصوصا الأجيال الجديدة داخل الولايات المتحدة ذاتها. لعل اكبر الجرائم التي يجب التنويه عنها من ضمن قائمة بعشرات الجرائم التي قامت الولايات المتحدة بها في حق الإنسانية، كما يؤكد بلوم، هي تلك التي تمت بحق محمد مصدق في إيران، في مطلع الخمسينيات، واحمد سوكارنو، في إندونيسيا في الستينيات.ففي الأولى، اسقطت الولايات المتحدة تجربة ديمقراطية متكاملة، مثلها مثل تجربة سلفادور ايندي في چيلي الذي كررت معه واشنطن ذلك، بعد مصدق بعشرين عاما، وكلاهما مع سوكارنو الذي عوقب امريكيا، بسبب سعيه لامتلاك قرار بلاده السياسي. وفي حالتي سوكارنو وايندي، كان الثمن مئات الآلاف من الضحايا، بعضهم لم يُعرف مصيره إلى الآن، بعد اختفائهم على ايدي الشرطة السرية التي ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية في تأسيسها لدعم نظام سوهارتو بديل سوكارنو، ونظام پينوشيه، بديل ايندي. كما لا ننسى دورهم في اسقاط ثورة 14 تموز في العراق وتصفية قيادتها.*

لا يقف الكتاب عند هذه النماذج فحسب، إنما يتوسع فيتناول حالات معاصرة، تأسست بعد كتابات بلوم السابقة، الذي يبدو أنّه يعمل على تحديث ارشيفه للجرائم والإنتهاكات الأمريكية عاما بعد عام، فيتناول سياسات جورج بوش الابن، والجرائم التي تمت في افغانستان والعراق، بعد جرائم 11 سبتمبر بزعم مكافحة الإرهاب، وكيف سقط في العراق ما يقرب من مليون ضحية بأيدي الأمريكيين أو بسبب الأوضاع السياسية المدمرة التي خلقتها الولايات المتحدة والغزو الأمريكي للبلد العريق، بدل البلد الذي جاء منه 15 ارهابيا من اصل 19 ارهابيا، وقام بتشجيع وتمويل نشاطات الإرهاب الدموية حول العالم.

كما يثبت بلوم كذب الولايات المتحدة في ما تزعم من أنهّا تتدخل في العالم عسكريا في بعض الأزمات من أجل حقوق الإنسان والانتصار للديمقراطية، فبجانب إطاحة امريكا مباشرة بحكومات وانظمة منتخبة، فإنّ الولايات المتحدة لا تصدق في ما تقول في حالات مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا وازمات يوغوسلافيا السابقة بشكل عام، حيث يشير إلى أنّ التدخل السياسي والعسكري الأمريكي في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة في تلك المنطقة قد أدى إلى تفاقم الأزمات لا معالجتها، وأنّ مشكلة نازحي كوسوفا قد بدأت بعد القصف الأمريكي الأطلنطي للقوات اليوغسلافية لا قبله!

لا يستثني بلوم الربيع العربي، حيث اعطى مثالا على إجرام امريكا في تدخلاتها الخارجية، عندما ساعدت في إسقاط نظام العقيد الليبي معمر القذافي لتصفية خلافات وخصومات قديمة معه، ثم تركت البلد بعد ذلك للفوضى بيد الإرهابيين والذباحين. اشار بلوم إلى أنّ الإعلام ونظام التعليم في الولايات المتحدة يؤسس الأجيال الجديدة والمجتمع كله على اساس مجموعة من الثوابت المتعلقة بالنظرة إلى امريكا، أو ما يسميه بالأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية. قال إنّ الولايات المتحدة في حالة ليبيا، وغيرها، تلجأ إلى تسويق معلومات غير صحيحة عن خصومها هناك، كما فعلت مع صدام حسين قبل غزو العراق في ربيع العام 2003، ثم عادت وقالت إنّ معلوماتها عن مساعيه لامتلاك اسلحة دمار شامل كانت غير صحيحة.
يفسر بلوم هذا السلوك الخارجي للولايات المتحدة، من خلال إطلالة على المنظومة التي يتم من خلالها تربية المجتمع الأميركي، وتأسيسه وتلقينه القيم الأساسية التي تريدها الصفوة المهيمنة على الإمبراطورية الأمريكية، وهي صفوة مكونة من المجموعات المتحكمة في صناعات النفط والسلاح وصناعة الترفيه واصحاب رؤوس الأموال الكبرى، بجانب الساسة المؤدلجين المنتمين إلى الأصولية الپروتوستانتية، اضافة الى مراكز الأبحاث والمؤسسات الصهيونية المتجذرة في الإعلام وسوق الأموال والجامعات وصناعة الترفيه. وهو امر لا يختلف فيه، حسب المؤلف، أن يكون رئيس البلد من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي. فما جرى ويجري على يد الولايات المتحدة، تمّ في عهد إدارات جمهورية وديمقراطية على حد سواء. اشار بلوم إلى أنّ الإعلام ونظام التعليم في الولايات المتحدة يؤسس الأجيال الجديدة والمجتمع كله على اساس مجموعة من الثوابت المتعلقة بالنظرة إلى أمريكا، أو ما يسميه بالأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، وعلى رأسها نظرية التفوق الأمريكي، والرسالة "الأخلاقية" للولايات المتحدة في العالم، وأنّه لا يجوز مطلقا المساس بالمصالح الأمريكية. كما ينتقد بلوم إطار النمط الرأسمالي المتوحش الذي تدافع عنه الولايات المتحدة، وتحاول تسويقه في العالم، رغم أنّه قائم على أساس
*William Zaman, US Covert Intervention in Iraq 1958-1963: The Origins of US Supported Regime Change in Modern Iraq, (unpublished MA Thesis, California State Polytechnic University, Pomona, 2006)
الاستهلاك الشرِه، والإثراء غير المحدود الذي يتمّ في كثير من الأحيان دون تقديم أيّة خدمات نافعة للمجتمع. هذه هي الولايات المتحدة كما يراها اهلها، ولئن كانت هناك مشكلة حقيقية تواجه المجتمعات الإنسانية، والعربية من بينها، كما يقول بلوم، فهي تكمن في عدم دراسة النموذج الأمريكي كما ينبغي، وبالتالي محاولة تقليده، أو بالأحرى تقليد ديمقراطيته، بينما كلّ ما يقود إليه ذلك هو المزيد من التبعية للولايات المتحدة! ولكنّ هذا الصنف من الديمقراطية هو ليس ما يعنيه د. رچرد وولف الإقتصادي المتميز والماركسي المعروف في كتابه موضوع ترجمتنا هذه. فهو يعتقد أنّ ممارسة الديمقراطية التي تصوّرها الآباء المؤسسون لهذه البلاد يمكن أن تعالج ازمات الرأسمالية. غير أنّ مفكرا عربيا هو غسان ديبة* يعتقد أنّ العلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية علاقة مزعومة. ثمّ يمضي للقول إنّ الرأسمالية نفسها الآن في مأزق فكري، وهي ايضا في مأزق على المستوى المادي، إذ أنّها لم تعد قادرة على إنتاج الرفاه الاقتصادي للجميع. إذن ازمة الرأسمالية ثلاثية الأبعاد، وهي الإنتاج الضائع والتوزيع غير المتساوي والعجز الديموقراطي.

يورد ديبة أنّه تاريخيا في الفكر الاقتصادي، لم يكن ماركس الوحيد المتشائم حول مصير الرأسمالية، بل شاركه في هذا التشخيص كل من جون ماينارد كينز (الذي انقذت أفكاره ولا تزال تنقذ الرأسمالية) وجوزف شومپيتر صاحب فكرة التدمير الخلاق الشهيرة. أما اليوم، فيبدو أنّ الجمود الطويل الأمد يتحكم بالاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، وحتى بالاقتصاد العالمي ككلّ، إذ يؤكد الاقتصاديان البارزان لورانس سامرز وپول كروگمن على أنّها سمة رأسمالية ما بعد أزمة 2008. ويعزو بعض الاقتصاديين الأسباب الى ضعف الطلب العالمي وعدم التناظر بين الادخارات والاستثمار والآثار السلبية للتطور التكنولوجي. وإذا لم تعالج، فإنّ الاقتصاد العالمي مرشح للبقاء مدة طويلة في هذا الوضع مؤديا إلى أن يبتعد شيئا فشيئا عما كان يمكن إنتاجه لولا الأزمة. فناتج منطقة اليورو مثلا لا يزال اليوم 15% أقل مما كان يفترض أن يكون عليه، وبهذا يمكن حساب مدى تأثير الأزمة واستمرارها الآن على شكل الجمود، على مقدرة الاقتصادات الرأسمالية على استدامة تحقيق الرفاه الاقتصادي.

من اهم الأمور ذات العلاقة التي يتطرق اليها ديبة أنّه بالإضافة الى الأزمة الاقتصادية، يحصل اليوم تفكك التوأمة المزعومة بين الرأسمالية والديموقراطية، التي حاول ميلتن فريدمن، أبو مدرسة شيكاگو المتطرفة والتي خرجت عشرات الاقتصاديين الذين بشروا بالنيوليبرالية في انحاء العالم، أن يربطهما مصيريا وأساسيا. المفارقة، أنّ أوّل من فك هذا التحالف هم "صبية شيكاگو" انفسهم، کما ی-;---;--قول ديبة، الذين عملوا مع اعتى الأنظمة الديكتاتورية بعد انقلاب 1973 في چيلي. جاء في ظل الربط بين الرأسمالية والديموقراطية، بعد انتهاء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، استسلام بلدان العالم أمام العولمة، التي صورت للناس على أنّها ليست القدر المحتوم لمحاولة الرأسمال البحث عن الأسواق بغاية الربح، بل على أنّها تطور محايد ناتج من التكنولوجيا التي ستدخل الجميع في عالم القرية الواحدة وإلى ما هنالك من خرافات طوباوية. وكان لتعميم الإنترنت ومن ثم الأجهزة الإلكترونية المصاحبة لها ليوهم أيّ مخبول أنّه يمتلك العالم. لكنّ الرأسمال أكّد في النهاية منطقه واصبحت الرأسمالية المالية المعولمة تمثل سيطرة القلة ليس فقط على الدخل والثروة، بل على السلطة السياسية، وهو ما عزز من فقدان الترابط بين الرأسمالية والديموقراطية وبين العولمة والعالم المفتوح أمام الجميع. وبهذا تصبح الأزمة الرأسمالية الحالية ازمة ثلاثية الأبعاد، في الإنتاج الضائع وفي التوزيع غير المتساوي بشكل كبير للدخل والثروة وفي العجز الديموقراطي.

في هذا الإطار، يمكن رؤية هذه الأزمة بوضوح تام في اوروپا، كما يراها د. وولف في كتابه. فالمشروع الأوروپي، برأي ديبة، الذي يتغطى برداء الديموقراطية يكشف عن حقيقته اليوم، فكما حدث في اليونان، تجري في البرتغال محاولة لعكس نتائج الانتخابات الأخيرة، التي اعطت احزاب اليسار الأكثرية، وهذه المحاولة مدعومة من الأسواق المالية لمنع التغيير في البرتغال، التي تعاني من التقشف المفروض عليها من قبل مؤسسات اليورو. إنّ محاولة رفض نتائج الانتخابات جاءت لأنّ اليسار يريد أن يحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبرتغاليين. فاتفاق الحزب الاشتراكي مع الحزب الشيوعي وكتلة اليسار حول الحكم يتضمن رفع القدرة الشرائية للعمال واستعادة حقوق العمال وتقويتها ووقف الخصخصة، بالإضافة إلى
http://www.al-akhbar.com/node/246314*
تخفيف العبء الضريبي على اصحاب المداخيل المتدنية والفقراء. وهذه الإجراءات كلها تذهب ضد فلسفة التقشف ومصلحة الرأسمال الذي يحاول اليمين البرتغالي ومؤسسات اليورو الدفاع عنها في ظل تزايد الأزمة الاقتصادية. إذا في رأي الكاتب، لم تعد المسألة كما كان يصوّر في السابق أنّ منع الشيوعيين، في إيطاليا مثلا، من الوصول الى السلطة هو ضمن ضرورات الحرب الباردة، إذ أنّ محاولات المنع والابتزاز هي الآن مرتبطة مباشرة بحماية مصالح الرأسمال على حساب المجتمع. إنّ شعوب اليوم لم تعد تنطلي عليها اسطورة الأسواق الحرة لأنّ مصالحها تتناقض معها، وهي مستعدة لتبني الاشتراكية، التي بدورها ستأخذ أشكالا مختلفة. ولكن في زمن سيطرة القلة وعبث الإرهاب والضياع الجماعي والفردي، ستكون هذه الاشتراكية مبنية على العلم والتجربة لضمان استدامة تطور القوى المادية والتكنولوجية، وفي الوقت نفسه، ستكون بمثابة إيمان جديد يعطي الأمل للبشرية بالخلاص من سلطة المال كما لاحظ كينز عند زيارته الاتحاد السوفياتي في عام 1925.
يفتتح الأستاذ د. رچرد وولف كتابه متفقا مع ديبة بالقول إنّ النظام الرأسمالي العالمي لم يعد قادرا على تلبية احتياجات غالبية الناس، وهو الأمر الذي خلق حركات اجتماعية في كلّ مكان وجعلها تنهض وتلتحم بحثا عن انظمة بديلة. لم تعد بعض البدائل مثل الأشكال المتعددة لاشتراكية الدولة والشيوعية، التي انتشرت بشكل فعال طيلة القرن الماضي، قادرة لطرح نموذج او تبعث املا في نفوس اولئك الذين يبحثون عن بديل للرأسمالية. يريد الناس حلولا جديدة وعلاجا لغياب العدالة وانعدامها وانتشار الفساد والإخفاقات الهائلة. يتناول هذا الكتاب علاجا لكلّ هذه القضايا، حيث يطرح المؤلف فكرة قيادة العمال الذاتية للمؤسسات، وهو ما اطلق عليه في هذا الكتاب مفهوم WSDEs. يعترف أنّه في الحقيقة يطرح صورة جديدة لفكرة قديمة، مفادها أنّ الإنتاج يكون افضل حين يتم بشكل جماعي تعاوني ويتمّ التخطيط له بطريقة ديمقراطية ويُنفذ بالعمل المُشترك. يرتكز في تحليله للرأسمالية وبيان نقاط ضعفها والتأكيد على أنّ مفهوم WSDEs يتخطى مسببات هذا الضعف، على نظرية كارل ماركس عن الإنتاج والتحكّم به وتوزيع الفائض منه. بعبارة اخرى، يعتمد على "التحليل الطبقي".
يتطرق المؤلف بعد ذلك الى موضوع الكساد الكبير الذي تلا الأزمة المالية عام 1929. نجحت المشاركة السياسية التي اطلقها روزفلت واستطاعت في خضم فترة ذلك الكساد أن تنجز مشاريع بالغة الكلفة ساعدت خاصة الملايين من الناس حيث تمّ اقرار وتنفيذ قانون الضمان الإجتماعي الذي يؤمن الرواتب التقاعدية لغالبية العاملين في البلد. كما تمّ اقرار قانون حكومي آخر مكلف ايضا لدفع المساعدة المالية لمن يفقد عمله لفترة حتى يحصل على عمل آخر. كما شرعت الحكومة في تنفيذ مشاريع مكلفة لبناء الطرق الخارجية والجسور وفتحت بذلك مجالات العمل المباشر لحوالي 12 مليون مواطنا خلال سنوات الكساد بعد عام 1934. وفي الوقت الذي كان فيه اصحاب العمل والعمال ومسؤولي الحكومة يرفعون الشكوى في السابق من عدم توفر الأموال للإنفاق العام، تمكنت واشنطن بسرعة من توفير مبالغ كبيرة وصرفتها مباشرة لتخفيف الأعباء عن عاتق العمال، وبعث الحياة في اقتصاد كان يعاني ركودا عميقا.
ثمّ يمضي المؤلف الى مقارنة ذلك بالأزمة الحالية للنظام الراسمالي في عهد اوباما التي لم تتمخض عنها مبادرات على منوال ما قدمه روزفلت. ولذلك في رأيه اسباب عدة. أولا، شهدت السنوات الخمسون الماضية ضعف الحركة العمالية واتحاداتها الذي يرجع اصلا الى الغياب الكامل تقريبا للحركتين الإشتراكية والشيوعية اللتين عبئتا في السابق الجماهير العمالية وحركتها للمطالبة بإيجاد الحلول. لم يقترح الرئيس أوباما خلال فترة رئاسته الأولى اطلاقا أو يقدم على مشروع لخلق فرص العمل، بل حدث العكس لأنّه عمل على تقليص، وليس توسيع منافع الضمان الإجتماعي. ثانيا، لم تجد غالبية اصحاب الأعمال والأغنياء أيّة ضرورة للدخول في مفاوضات أو ايجاد حلول وسطى تضمن تقبلهم فكرة رفع الضرائب عليهم. إنّ عدم وجود نظام اشتراكي، على غرار ما كان قائما في الإتحاد السوفياتي خلال فترة ثلاثينات القرن الماضي، يطرح في ايامنا هذه بديلا ممّا يمكن أن يحظى بتأييد جماهير الطبقة العاملة ويحضى بتعاطفها، وهو امر سيخيف المحافظين ويدفعهم للمشاركة كتلك التي بلورها روزفلت.
كانت فترة العقد الجديد الذي جاء به الرئيس المذكور هي فترة فرض الضرائب على الشركات والأغنياء. غير أنّ ضوابط سلوك تلك الشركات والأغنياء قد اثبتت ضعفها وعدم استدامتها. نجح خصوم العقد الجديد المدفوعون برغبة زيادة ارباحهم لأقصى درجة ممكنة ومضاعفة عوائد استثماراتهم، في وضع حدّ للإصلاحات الضريبية إثر الحرب العالمية الثانية مباشرة. ازدادت تلك الجهود في فترة سبعينات القرن الماضي. لقد تحايلوا وتحاشوا ثم اضعفوا نسبة الضرائب والضوابط والتعليمات المتعلقة بها التي وضعها العقد الجديد. وتمكنوا في النهاية، عندما اصبح ذلك ممكنا من الناحية السياسية، أن يسقطوها ويزيلوها تماما. لقد استعملت الأموال الناتجة من ارباح الشركات لتمويل الحملات الإنتخابية والسياسيين وحملات العلاقات العامة وجماعات الأفكار الأيديولوجية لإعادة صياغة الأهداف ورسم الجهود لإحداث تغيرات اجتماعية حقيقية واسقاط كافة الضوابط والتعليمات الحكومية بالكامل. والأمثلة على ذلك كثيرة منها قانون Glass-Steafad والهجوم الحالي على قانون الضمان الإجتماعي وتحويل عبء الضرائب الفدرالية من الشركات وافراد الطبقة العليا ووضعها في عاتق الطبقة المتوسطة، وغيرها من الأمور الأخرى.
لقد عانى الأمريكيون لسنوات من ازمة اقتصادية ما كانت لهم فيها ناقة ولا جمل. لقد راقبوا برنامجا قيل لهم أنّه سيحقق تعافي الإقتصاد، لكنّ ذلك لم يأت بنفع اطلاقا. لقد استمعوا لأقوال اصحاب ذلك المشروع وهم يرددون أنّه يتوجب على "كلّ فرد" أن يدفع كلفة تعافي الإقتصاد. شعروا عندها وكأنّهم هم الذين خلقوا تلك الأزمة وعليهم الآن أن يتحملوا تبعات برامج التقشف والإستقطاعات، في الوقت الذي يحتاجون فيه الى مزيد من الخدمات الحكومية الأفضل. وليس من العجب أنّ الآمال المعقودة على بديل كينز، قد قادت الى مزيد من العجز والديون الخارجية، ممّا ينذر بخطوات تقشف أسوأ، وهو الأمر الذي يكرهه الكثرة من المواطنين الذين يعنيهم الأمر.
يقترح المؤلف علاجا يقوم أوّلا على تبديل تنظيمات الرأسمالية الحالية للإنتاج في المكاتب والمصانع والمخازن، وغيرها من اماكن العمل في المجتمعات الحديثة. باختصار، إنّ الإستغلال، بما فيه انتاج الفائض والتحكم به وتوزيعه من قبل غير المُنتجين له، يجب أن يتوقف. إنّ العديد من اشكال البناء الطبقي (الإقطاعيون ورقيقهم في العصر الإقطاعي والسادة الذين تحكّموا بالعبيد واستغلوهم) قد تمّ الغائها. ووفق هذا المنطق يجب ايضا ازالة النظام الطبقي الرأسمالي (اصحاب العمل الذين يستغلون جهود العمال ويتحكمون في اجورهم). سوف لن يكون في نظام التعاونيات وجود للشركات الراسمالية الحديثة، حيث يقوم اعضاء مجلس الإدارة الذين يتم انتخابهم من قبل حفنة من اصحاب الأسهم الذين يرشحهم اعضاء المجلس انفسهم، بالتحكم في فائض الإنتاج وتوزيعه على انفسهم وعلى اصحاب الأسهم. بدلا من ذلك، يكون العمال انفسهم هم اصحاب القرار الأساسي في قضيتي الإنتاج والتوزيع. وعليه يصبح هولاء العمال كمجموعة تعاونية وبشكل ديمقراطي هم اعضاء مجلس الإدارة. أمّا اعضاء مجلس الإدارة الذين تنتخبهم القلة من اصحاب اسهم الإستثمار، فلا رأي لهم بعد ذلك في ادارة الإنتاج أو كيف يتم أو أين. وبدلا منه يصبح عمال الشركة، وهم الذين يقومون بالإنتاج واولئك الذين يقدمون لهم خدمات تسهيل ذلك الأنتاج، بشكل تعاوني "مدراء" يقررون ماذا وكيف وأين تتمّ عمليات الإنتاج والتحكم به وتوزيع الفائض منه. وهكذا تتحول الشركات الرأسمالية الى مؤسسات بقيادة ذاتية من قبل العمال فيها.
ثانيا، إنّ مواقع الإنتاج هذه التي تتمّ اعادة تنظيمها، يجب أن تدخل في شراكة تعاونية ديمقراطية مع المنظمات الموجودة في المناطق السكنية التي تتواجد فيها، من اجل أن تتلاحم المجتمعات مع الشركات التي يديرها العمال ذاتيا. ونظرا لأنّ القرارات التي تتخذها هذه الموسسات تؤثر في حياة ساكني تلك المجتمعات فيجب أن تتأثر بافكارهم . تتطلب الديمقراطية الحقيقية من الشركاء التعاونيين أن يساهموا في قرارات كلي الطرفين. وهكذا وفي رأي المؤلف، يصبح التصميم التعاوني بين هذه المؤسسات والمجتمع الديمقراطي المحيط بها، حقيقة جديدة في حكم المجتمع ذاتيا.
يشير المؤلف في الفصل الأول من كتابه أنّه خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كان نظام الإقتصاد الرأسمالي في الولايات المتحدة، وفي الحقيقة في العديد من انحاء العالم، قد تمتع بحماية كاملة من توجيه النقد اليه، أو حتى مناقشته. دارت نقاشات حادة عديدة وحدثت مراجعات، لكنّها اقتصرت على عمل انظمة اخرى مثل الزواج والمدارس والصحة وتوفر خدماتها ووسائل النقل والتركيب الحضري في المدن. لقد ادى نقد الظروف السائدة والمشكلات المتعلقة بها الى طرح مقترحات لإجراء التغيير، تفاوتت بين المواضيع الجانبية الى القضايا الأساسية. ولكن على أيّة حال، بقي النظام الإقتصادي- الرأسمالية- في منأى تام من النقاش النقدي، وكأنها أعفيت منه تماما، بحيث اصبح الحديث عنها وكأنّه ضرب من الأمر الممنوع أو غير المقبول. فرجال الأعمال والقادة السياسيون ووسائل الإعلام الرئيسية وغالبية اعضاء المجتمع الأكاديمي، استبدلوا نقد النظام الراسمالي ومناقشته بالتطبيل والتزمير له. كان ذلك ردهم على الحرب الباردة- لأنّه اصبح جزء لا يمكن فصله عن بروز التيار المحافظ إثر الكساد العظيم والعقد الجديد وتحالف الولايات المتحدة خلال سني الحرب مع الإتحاد السوفياتي. وهي امور اخافت تلك القوى المحافظة وبلورت تفكيرها لاتخاذ ذلك الموقف. لقد اصرّوا على معاملة الرأسمالية باعتبارها قضية غير قابلة للنقد أو للنقاش، دعك من احداث تغيير رئيسي فيها.
ونظرا لاستمرار عدم استقرار الرأسمالية وتذبذبها وتكررهما تحت الظروف المتغيرة المتعلقة بالعوامل الطبيعية الخارجية والظروف السياسية والثقافية، شعر المدافعون عن هذا النظام بضرورة ايجاد طرح افضل لا يعتمد على القاء اللوم على الأسباب الخارجية. عمد هؤلاء المفكرون الآن لتبرير الرأسمالية عن طريق الإصرار على أنّ ابعادها السلبية من قبيل التهاوي المتكرر وعدم المساواة الموروثة فيها، هما ببساطة الثمن الضروري الواجب دفعه من اجل تحقيق التقدم الإقتصادي والإجتماعي. وهم يدعون أنّ المنافع التي تأتي بها الرأسمالية تتجاوز كثيرا الخسائر التي لا يمكن تجنبها في ايّ نشاط إقتصادي. وعليه فإنّ عدم الإستقرار أو الإستواء - في ضوء مجمل تأثيرهما على التغيرات الإجتماعية هما علامة "تقدمية". ورأيهم أنّ الرأسمالية نظام كفوء رغم عدم الإستقرار وانعدام المساواة فيه.
غير أنّ مقولات الكفاءة هذه قد استحوذت على دائرة النقاش الى حدّ أنّه حين تحدث الأزمات الرأسمالية، تعود مثل هذه الطروحات لتطفو على السطح ثانية على لسان منتقدي النظام الرأسمالي. لقد حاول الإشتراكيون والشيوعيون خلال الحرب الباردة أن يقلبوا المناقشة السائدة رأسا على عقب عن طريق الإصرار على أنّ الإشتراكية والشيوعية هما اللتانّ تتميزان بالكفاءة (أو اكثر كفاءة من الرأسمالية). وعليه فهما يمثلان "التقدم". وبرأي المؤلف فإنّ هؤلاء ايضا غالبا ما تجاهلوا استحالة تحديد مجموع الكلفة والمنافع وقياسهما، وفصل وتقييم كلّ التاثيرات التي لا تحصى من تلك الداخلة في انتاج الكلفة والمنافع. كما اكتشف هؤلاء الإشتراكيون والشيوعيون أنّه حين تدفع القوى الإجتماعية ضدهم بقوة، فإنّ طروحاتهم عن الكفاءة تصبح بلا معنى. حين تعتري الشكوك المواطنين، فإنّهم سرعان ما يسدّون آذانهم لكي لا يسمعوا عن تلك الكفاءة المزعومة التي لا تختلف عن مزاعم الرأسمالية. مثلت نهاية الحكومات الشيوعية في اوروپا الشرقية في اواخر القرن الماضي واقعا لانعدام ثقة الجماهير بادّعاءات أنّ الإشتراكية اعظم كفاءة عند المقارنة بالرأسمالية.
يرجع د. وولف الفضل للرئيس روزفلت في انقاذ الرأسمالية من ورطتها الكبيرة في فترة الكساد الكبير، ويمضي لاعطاء القارئ تفاصيل الخطة الذكية التي وضعها الرئيس. لقد ناور وحقق بنجاح ما سماه العقد الجديد New Deal ليكون اساسا لكي تصبح الدولة الرأسمالية في الولايات المتحدة دولة ضمان اجتماعي، واستمرت على هذا المنوال منذ عام 1945 حتى سبعينات القرن الماضي. طرح الرئيس امام تحالف اليسار العمالي الصفقة التالية: إذا تخليتم عن موقفكم المعادي للرأسمالية وعن تبنّيكم للسياسات الثورية، فإنّني سأوفر الحماية القانونية لاتحادات العمال والشرعية السياسية لاحزاب اليسار (شرط التزامها بالحدود المطلوبة)، وتوفير الأموال والنفقات لمشاريع الضمان الإجتماعي الجماهيري. ومن هذه المشاريع تأسيس نظام الرعاية الإجتماعية Social Security System، ونظام تأمين دفع المعونة المالية للعمال العاطلين، وتعيين اكثر من 12 مليون مواطنا للعمل في مشاريع الحكومة المركزية بين السنوات 1934- 1941. كما عرض روزفلت الصفقة التالية على الرأسماليين: إذا تخليتم عن جزء كبير من ثروتكم الشخصية ومدخولاتكم من الشركات الإحتكارية، وقبلتم زيادة نسبة ضريبة الدخل عليكم ودفعها للحكومة المركزية من أجل صرفها لتمويل مشاريع الضمان الإجتماعي، كما قبلتم القانون الجديد لحماية اتحادات العمال، فمن جانبي سأوفر لكم القوى العاملة السلمية واتحاد اليسار السياسي لكي يلتزموا جميعا بالإصلاحات والتعاون مع الحكومة بدلا من الشروع بالثورة. لقد حذّر روزفلت الرأسماليين من أنّ الفشل في عدم قبول تلك الصفقة يعني في النهاية انّهم سيقبلون صفقة اقلّ نفعا لهم مع تحالف العمال والإشتراكيين والشيوعيين الذين سيزدادون قوة، وستخرج الأمور عن طورها، بمعنى انّهم سيفقدون كلّ شيء، على غرار ما حدث في روسيا قبل عقد ونصف من الزمن.
قبل الراسماليون الصفقة على مضض، وجاءت الحرب العالمية الثانية فأخرست اصوات المعترضين من كلّ جانب. غير أنّه اصبحت الستراتيجية الرأسمالية لنسف تحالف العقد الجديد، الهدف الطاغي في السنوات التي اعقبت الحرب. وكانت تلك المقدمة لتفكيك دولة الضمان الإجتماعي وما انجزته. كانت الخطوة الأولى هي تخريب التحالف بتركيز الهجوم على اتحادات العمال والأحزاب السياسية اليسارية. إنّ قانون تافت- هارتلي وممارسة وقف حركة الشيوعيين (التي كان من ابرزها الحركة المكارثية) هما العنصران الأساسيان في تلك الخطوة الرئيسية في اواخر الأربعينات والخمسينات. بُعثت الحياة مجددا في تحالف قديم بين الرأسماليين وقيادة الحزب الجمهوري ومختلف الجماعات الدينية المحافظة والعنصريين والإعلام والتنظيمات القومية. قاد هذا التحالف اليميني الى انهاء تحالف الولايات المتحدة مع الإتحاد السوفياتي، وكان ذلك بداية تفتيت العقد الجديد، وبالتالي القضاء على كلّ ما حققه ذلك العهد من الإنجازات.
ابرز ظهور اليسار القوي في الستينات حدثا كاملا وكان سببا هاما في أفول نجم العقد الجديد. فمن جهة عبّرت تلك الظاهرة عن احتجاج الشباب الأمريكي ضدّ الأسس الفكرية والعقائدية للعقد وسقوطه من الناحية الواقعية. ومن جهة اخرى، فإنّ ردّ فعل اليمين على احداث الستينات هو الذي توّج بانتخاب رونلد ريگن عام 1980، وهو مؤشر رئيسي على تقلص تأييد الطبقة العاملة للحزب الديمقراطي، الذي برهن على عجزه عن بعث الآمال في صفوف الجماهير، ولأنّه لم يحمِ العقد المذكور ولم يدفع به الى الأمام. كما كان انتخاب ريگن اشارة لتجدد ثقة اليمين بنفسه وتصميمه على قيادة الفترة المقبلة من تاريخ امريكا. قاد هذا الرجل سياسة البلد باتجاه معاكس لكلّ المظاهر التقدمية. احدث تحالفه مع رئيسة وزراء بريطانيا مرگرت ثاچر تحولا في الرأسمالية والعودة بها الى حالة ترك الأمور على غاربها، واصبحت الصيغة الأمريكية - البريطانية هي ما يُسمى "الليبرالية الجديدة" neoliberalism. اعاد قادة امريكا وبريطانيا السياسيون اتجاه البلدين الى ما كان سائدا في السنوات التي تلت عام 1929، خاصة ما يتعلق بعدم تدخل الدولة والرأسمالية الديمقراطية الإجتماعية التي كان روادها اقتصاديي القارة الرئيسيين. تبع الحزب الديمقراطي بحياء ظاهر سياسة الحزب الجمهوري اليمينية لاتباع نموذج اوروپي جديد للرأسمالية يقوم على الديمقراطية الأوروپية بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا. استمر هذا التحول في مساره رغم ارتفاع بعض الصيحات المعارضة الخجولة التي لم تكن اكثر من بيانات خطابية فارغة. كما حدث تحول مماثل تدريجي على مستوى السياسة العالمية.
حفلت حقبة السبعينات باربعة تغييرات تخصّ الطبقة العاملة. الأول هو استخدام الكومپيوتر وزيادة الإعتماد على التشغيل الآلي (الأتمتة) automation. التغير الثاني هو انتقال الصناعات الأمريكية وبعض الخدمات الى الخارج outsourcing بفعل قلة الأجور والإعفاءات الضريبية التي وفرتها بعض الدول لتشجيع ذلك الإنتقال. العامل الثالث هو دخول الملايين من النساء الى سوق العمل بدفع من حركة تحرير النساء. تمثل التغيير الرابع بزيادة توفر اليد العاملة نتيجة الهجرة الكبيرة من المكسيك وامريكا اللآتينية غير أنّه حين توقفت الأجور الحقيقية عن الإرتفاع، بغض النظر عن التفاني في العمل، فإنّ الطبقة العاملة لم تكن مستعدة للتخلي عن إمتيازاتها في الحياة الكريمة.
غير أنّ العائلات في الولايات المتحدة وجدت أنّ مزيدا من ساعات العمل يوفر مدخولات محدودة للأسرة، بسبب تزايد المصروفات التي تتوسع باستمرار. اصبح الحلم الأمريكي أمرا بعيد المنال بالنسبة لعدد كبير من تلك الأسر. ولكي لا تتعرض عملية الإستهلاك الى الهبوط، فإنّ شركات الإعلان زادت من تأكيدها على أنّ قيمة الفرد ونجاحه يتوقفان على مدى ما يصرفه من المال وما يقتنيه من حاجات. وبسبب انعدام زيادة الأجور الحقيقية والفشل في الحصول على مدخولات كافية مناسبة، رغم زيادة ساعات العمل، توجّه المواطنون باعداد كبيرة لتحقيق ذلك الحلم المفقود عن طريق الإقتراض.
يرى المؤلف في نهاية فصله الأول أنّ النشاطات الإقتصادية غير القانونية تحدث طيلة الوقت، خاصة في اوقات الأزمات. النشاطات الإجرامية هي آثار وليست مسببات لدورات الإرتفاع والهبوط في الرأسمالية. ومع ذلك، فإنّ السجلات التاريخية المعاصرة تعجّ بالقاء اللوم على عاتق النشاطات غير الشرعية للمستثمرين والمضاربين والمدراء التنفيذيين للإحتكارات والفاسدين من مسؤولي الحكومة وقادة نقابات العمال، وكذلك "الجريمة المنظمة"، في خلق ازمات الرأسمالية. وإن كانت هذه الإتهامات تصدر بشكل واع أو بدونه، فإنّ التركيزعلى سوء التصرفات من قبل الدولة أو المجرمين تخدم قضية تحاشي توجيه اللوم للنظام الرأسمالي وقواعده وتعليماته وتركيبه في تأمين الثواب والعقاب. إنّ وضع اصبع الإتهام على "العصابة العابثة"، لا يميل اكثر من كونه تكرارا للعبة القديمة حول ايجاد من يمكن توجيه اللوم اليه، وتغيير اتجاه ذلك اللوم نحو اهداف تخدم الغرض، لكنّ الحقيقة هي أنّ مسلسل الأزمات مستمر لأنّ المشكلة هي النظام نفسه.
الدليل على ذلك ظهور بوادر ازمة مالية وانا اباشر ترجمة هذا الكتاب في مطلع عام 2016 . حاول محمد العريان* سبر اغوارها باعتبارها واحدة من أسوأ البدايات لأسواق الأسهم العالمية لعام جديد. قال إنّ بعض المحللين بدأوا يلجأون إلى تفسيرات تتعلق بالاقتصاد الكلي، مثل التباطؤ الاقتصادي بالصين، وسياساتها المعيبة غير المعهودة. على الجانب الآخر، يفضل آخرون التركيز على التأثير التعاقبي للأسواق غير المتقلبة، مثل النفط. إلا أنّ كلي التفسيرين غير وافٍ، خصوصا مع فشل كليهما في تفسير السبب وراء التغيرات الكبرى على مستوى السيولة والتقلبات. والملاحظ أنّ تأثير حالة التداعي التي يعانيها محرك النمو الصيني تعاظم بسبب إقرار سياسات غير مسبوقة، منها التحويل المفاجئ لمسار تنفيذ أدوات "قطع التيار" داخل سوق الأسهم، بجانب الفقدان الجزئي للسيطرة على السوق الخارجي "أوفشور" للعملة المتنامية، ورداءة مستوى الاتصالات. ومع ذلك، فإنّ هذه العناصر وحدها غير قادرة على طرح تفسير لحجم الإقدام على التخلص من الأسهم بأسعار زهيدة بمختلف ارجاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة، التي شهدت تراجعا بنسبة 8% في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" خلال أسبوعين على نحو لا يتوافق مع فكرة أنّ اقتصادها لا يزال يمر بمرحلة تعافٍ. الملاحظ أنّ ديناميكية مشابهة موجودة في سوق النفط. المؤكد هنا أنّ اسعار النفط تضررت جراء التعارض بين العرض المتزايد، بما في ذلك إنتاج النفط الصخري، والنمو البطيء في الطلب.

المؤكد أيضا أنّ هذا الوضع تفاقم جراء قرار منظمة أوبك التخلي عن دور المنتج القادر على حسم اتجاه السوق حال تحركها في اتجاه التراجع (بمعنى تقليص الإنتاج للحد من التراجع في الأسعار). ورغم ذلك، فإنّ هناك مبالغة في تقدير تبعات ذلك على الصعيد النفطي، ومدى إسهام هذا الأمر في الحالة العامة السائدة من غياب الاستقرار المالي، خصوصا فيما يتعلق بتبعات ذلك على القطاعات والدول التي تعدّ بين الجهات الكبرى المستهلكة للطاقة والأخرى المستفيدة من العائدات الهائلة للطاقة. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا، لماذا تؤدي حتى التغيرات الطفيفة في تلك العوامل المتغيرة إلى نتائج تفوق في تأثيرها التغيرات في اسعار الأسهم المالية، باتجاه الأعلى والأسفل؟ وما سر ميل الأسواق العالمية للأسهم بوجه عام نحو الانخفاض؟ يلاحظ العريان أنّ الأسواق المالية تمر بفترتي انتقال متتابعتين، تؤديان ليس فقط إلى تضخيم تأثير اصغر التطورات على الصعيدين الصيني والنفطي، وإنما كذلك لزيادة حالة النفور من المخاطرة وخلق ظروف مواتية لتطورات اخرى يصعب بدرجة اكبر التكهن بها. تتعلق الفترة الإنتقالية الأولى بالتحول من نظام قائم منذ فترة بعيدة على كبت التقلبات المالية نحو بيئة تزداد بها مثل هذه التقلبات المالية مع تضاؤل إمكانية التكهن بها. ويكمن السبب الرئيسي وراء ذلك في أنّ المصارف المركزية تبدو أقلّ استعدادًا (في حالة بنك الاحتياطي الفيدرالي) أو أقلّ قدرة (في حالة المصرف المركزي الأوروپي ومصرف الشعب الصيني) للعمل مثل ادوات كبح لتقلبات الأسواق. على المدى القصير، تؤدي هذه الفترة الانتقالية حتما إلى نفور أكبر من المخاطرة، وفق رأي العريان.

أما الفترة الانتقالية الثانية فتتعلق بالسيولة، والتحرك بعيدا عن الميزانيات العمومية المعاكسة للدورات الاقتصادية. وفي مواجهة تنظيمات أكثر صرامة وتراجع حاد في تقبل السوق للتغيرات قصيرة الأجل في العائدات، اصبح التجار والسماسرة أقلّ استعدادا للجوء إلى المخزون عندما تبالغ السوق في انطلاقها. كما يرى العريان أنّ مصادر اخرى لرأس المال، منها صناديق الثروة السيادية، تواجه قيودا تمنعها من الإقدام بدرجة أكبر على المخاطر. ومع عملهما من دون قيد أو رادع، ستغذي هاتان الفترتان الانتقاليتان بعضهما بعضا، مما يؤجج الشعور العام بانعدام الاستقرار المالي وغياب الشعور بالأمان. وكلما
......
http://aawsat.com/home/article/548956*
طال أمد ذلك تفاقمت التقلبات وتنامى خطر حدوث تداعيات سلبية على الاقتصادات والشركات. كما تزداد مخاطرة تأثير حالة غياب الاستقرار سلبا على الأسواق المالية، مما يثير دائرة مفرغة مثيرة لزعزعة الاستقرار وموجات اختلال اقتصادية ومالية. أمّا الجانب الإيجابي للأمر فيكمن في أنّ مثل هذه الديناميكيات تستنزف نفسها بنفسها نهاية الأمر. بيد أنّ ذلك للأسف يحدث بعد وقوع كثير من التقلبات، التي يصاحبها تفاقم مخاطرة وقوع انخفاضات شديدة الحدة والفوضوية في اسعار الأصول المالية، بجانب انتشار عدوى ذلك.

في خضم ذلك تخلف حالة الفوضى تأثيرا انكماشيا على إنفاق الشركات والأسر، مما يسبب تباطؤ النمو الاقتصادي. أمّا السبيل الأفضل فيتمثل في أن تسهم مقومات اساسية أفضل في دعم اسعار الأصول المالية، مما سيوفر الإطار الملائم للمشاركة المثمرة لكميات النقد الهائلة المحتجزة حاليا على الهامش، سواء في الميزانيات العمومية للشركات أو في مدخرات إضافية للأسر. ووفق رأي العريان، يتطلب تحقيق ذلك إجراء تعديلات بالسياسات المتبعة، وهذه المرة لا ينبغي أن تقع مسؤولية الاستجابة على المصارف المركزية فحسب (خصوصا الاحتياطي الفيدرالي. في الواقع، حتى إذا لجأ الاحتياطي الفيدرالي لتنفيذ برنامج جديد لعمليات شراء واسعة النطاق للأوراق المالية، فإنّ الجدوى الاقتصادية لهذه الإجراءات ستبقى محط شكوك بالغة منذ البداية، إلا إذا صاحبتها إصلاحات هيكلية معززة للنمو، وسياسة نقدية أكثر قدرة على الاستجابة مع المتغيرات. بصورة عامة، يمكن القول بأنّ ما سيحدث لاحقا يعتمد على الاختيارات التي سيجري اتخاذها الأسابيع والشهور المقبلة، خصوصا من جانب السياسيين الذين تسبب ترددهم في فرض اعباء مفرطة على كاهل المصارف المركزية لفترة طويلة للغاية، حسب قول العريان المشار اليه.

يخبرنا المؤلف في الفصل الثاني قصة جمود عمليات الإئتمان في هذا البلد عام 2007على النحو التالي. إنّ اثنتين من مؤسسات الإستثمارات اللتين كان لهما دور كبير في قروض العقار والمالكون الكبار لها، انهارتا بحلول خريف عام 2008 بفعل تجميد عمليات الإقتراض. اضطرت مؤسسة Bear Stearns أن تخفض اسعارها بشكل كبير جدّا حين وضعت اصولها في يد بنك JPMorgan Chase، واضطرت مؤسسة Lehman Brothers أن تُعلن افلاسها، وكذلك المجموعة الأمريكية العالمية AIG. كانت الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة الأمريكية لإنقاد الإحتكارات الكبرى، التي شملت هذه البنوك والمؤسسات المالية والصناعية، هي اذابة الجمود الذي اصاب اسواق الإئتمان من خلال برنامج اطلق عليه اسم برنامج انقاذ الموسسات المالية (بَی-;---;--ل آوت) الذي وضعه الكونگرس الأمريكي على عجل وصادق عليه الرئيس بُش في الحال (الإنقاذ من الإفلاس)، وذلك في شهر اكتوبرمن عام 2008. كفل هذا التشريع تأمين مبلغ 700 بليون دولارا، وطلب من وزارة الخزانة أن تستخدمه في طريقتين:
1. تقوم بشراء "الأصول المالية التي تعاني من الإضطراب"، وهي (ابس) و(كدس) من البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. تمّ نقل هذه الأصول ذات القيم المتدنية أو غير المؤكدة من ميزانيات تلك البنوك والمؤسسات المالی-;---;--ة، واضيفت الى الميزانية المركزية.
2. الإستخدام الآخر للأموال التي وفرها برنامج بَيل أوت هو أن تقتني الحكومة اسهما (دون أن يكون لها حق التصويت) في البنوك والشركات الكبرى مثل جنرال موترز لصناعة السيارات وشركة AIG ومجموعة بنوك ستي. الهدف من شراء تلك الأسهم هو زيادة رأس المال الإحتياطي لدى المؤسسات المذكورة كي تكون قادرة في الحصول على القروض لتسيير اعمالها اليومية بشكل منتظم.
حين تسلم الرئيس اوباما السلطة، اضيف بند آخر للصرف من تخصيصات برنامج بَيل أوت. كان المبلغ قليلا وهدف البرنامج الذي اطلق عليه اسم برنامج تسهيل امتلاك البيوت MHAP هو مساعدة مالكي البيوت التي توشك البنوك على الإستيلاء عليها نتيجة عجز اولئك المالكين عن تسديد قروض العقار المستحقة عليهم. وعلى أيّة حال، فإنّ هذا البرنامج كما اسلفنا لم يُموّل بشكل جيد ولم يكن ناجحا.
هنا لا بُدّ من الإشارة الى نقطتين حول هذا الموضوع:
1. إنّ الأموال المذكورة اعلاه والتي خصصت لمعونة انقاذ البنوك والمؤسسات المالية والصناعية بّيل أوت قد تمّ توفيرها ليس عن طريق فرض الضرائب على الإحتكارات والأثرياء، كما فعل روزفلت في الثلاثينات. فبدلا من ذلك جرت استدانتها من المصادر الخارجية من قبيل حكومات الصين والسعودية والكويت. وبهذا ازدادت كمية ديون الصندوق السيادي.
2. لم يكن منح معونة الإنقاذ مصحوبا بأيّة شروط، بل ترك الأمر بيد الإحتكارات والبنوك والمؤسسات المالية كي تتصرف بالأموال العامة، حسب ما تراه مناسبا لمصالحها. وعليه فقد تقاسم المدراء التنفيذيون ورؤساء المؤسسات تلك الأموال بين انفسهم، ووزعوا نسبة منها على اصحاب الأسهم. ولم يستثمروا حتى ولو جزء يسيرا منها لفتح فرص العمل، كما تمّ في ثلاثينات القرن الماضي حين توفر العمل لحوالي 12 مليونا من المواطنين العاطلين.
إنّ قوة ردّ فعل روزفلت وضعفه ازاء أزمة الرأسمالية في الثلاثينات وقوة ردّ فعل الإدارة الأمريكية وضعفها ازاء ازمة عام 2007، قد جعلت العديد يقتنع أنّ الإقتصاد التصاعدي التدريجي من القاعدة للقمة افضل من الإنسياب الإقتصادي التدريجي من القمة للقاعدة. وعلى أيّة حال، ومهما كانت الفكرة المفضلة لأيّ شخص عن محاولة بدائل وبرامج تمّ تجريبها واختبارها حول الديون والتقشف، فإنّ الأمر كان يتطلب المناقشة والتمعن من قبل واضعي السياسة في الولايات المتحدة اثر انفجار الأزمة عام 2007. غير أنّ هذا لم يحدث واستمرت الأمور وكأن شيئا لم يكن. لقد خنق الجمهوريون والديمقراطيون معا بعض المحاولات القليلة التي نادت بها بعض الجماعات الإجتماعية وعدد يكاد لا يُذكر من "المتمردين" في الكونگرس. لم تجر مناقشة بديل لفكرة الإنسياب الإقتصادي التدريجي، ولكن ايضا أيّ بديل منظم آخر للرأسمالية قد يجنبنا الإنزلاق في ازمات اخرى أو يحسن معالجة الأزمة حال حدوثها. استُبعِدت هذه الأفكار تماما وبشكل مقصود عن الأجندة الوطنية National Agenda، رغم عمق ازمة الرأسمالية واستمرارها، وما تسببه من التكاليف الإجتماعية الهائلة.
وفرت إدارة اوباما الأموال البالغة والضمانات الضرورية لإنقاذ مؤسسات الرأسمالية من الإفلاس. فبعد سنوات من الخطابات والإدعاءات التي اشادت بالمؤسسات الخاصة باعتبارها المحرك للنمو والخالق للرفاهية، كان التنديد موجها للحكومة باعتبارها مصدر غياب الكفاءة وزيادة التبذير في قطاع الإقتصاد. تراكض هؤلاء انفسهم الى واشنطن ليضمنوا حصة مؤسساتهم من بلايين الدولارات التي رصدتها الحكومة من الأموال العامة لإنقاذ المؤسسات المالية من الإفلاس. لقد تلاقفوا بحماس ما رمته الحكومة نحوهم، وطالبوا بالمزيد، دون أن يظهروا أية اشارات للإمتنان أو العرفان. إنّ ما قيل عن اخضاع تلك المؤسسات المالية وتولي ملكيتها من قبل الحكومة كلام فارغ لم يكن بفعل جهود ناقدي الوضع الإجتماعي ولا الناشطين ولا الماركسيين. ببساطة، كان المديرون التنفيذيون للمؤسسات المالية يجرون خلف مصالح مؤسساتهم وحمايتها. ربما من الواضح الآن أن نفهم أنّ الراسمالية نادرا ما تعارض التدخل الحكومي، رغم تشديدها أنْ لا مكان لتدخل الحكومة في شؤون مؤسساتها. فالذي يريده الرأسماليون ويسعون اليه بشكل واسع هو "بعض" تدخلات الحكومة حين يقررون هم طبيعة ومدى وحجم ووقت ذلك. يريدون من الحكومة أن تسهّل استمرار النشاطات التي تأتي على مؤسساتهم بالفوائد الجمة، و"التنظيف" الدوري لبعض الإختلالات التي يخلقونها هم بأنفسهم، وأن يُترك لهم العنان في قيادة مؤسسات المال والإئتمان، وجعل المواطنين، وليس مؤسساتهم، مسؤولين عن دفع الكلفة الباهضة لتلك الإختلالات.
يختتم المؤلف هذا الفصل بتأكيده على فشل محاولات التأميم وفرض القيود على المؤسسات الرأسمالية، لأنّها تظل محتفظة بامتيزاتها فتعيد العجلة الى الوراء. إنسحب هذا الفشل ايضا على مجتمعات اشتراكية الدولة في الإتحاد السوفيتي وغيره من بلدان اوروپا الشرقية وغيرها من بلدان العالم الثالث. فباعتقاده أنّ هذا الفشل انسحب على التأميمات العامة والواسعة الإنتشار كما على التأميمات الجزئية المتخصصة. ثم يمضي للقول إنّ الموظفين الحكوميين يحلّون محل اعضاء مجالس الإدارة الذين ينتخبهم اصحاب أسهم الشركات. حين يستمر العمال في انتاج الفائض والفوائد التي تصبح من نصيب الآخرين، فإنّ موظفي الدولة ستتوفر لديهم المحفزات وسيستخدمون المصادر التي تمكنهم من رفع التقييدات والغاء تأميم المؤسسات بالقدر الذي تسمح به الظروف، تماما كما يفعله الرأسماليون.
يقرّ المؤلف في فصله الثالث والأخير من الباب الأول بتغير العلاقة بين الدولة والمواطنين والمؤسسات الرأسمالية. فضمن ما نسميه "الرأسمالية الخاصة" private capitalism، يكون ربّ العمل فرد عادي لا يشغل وظيفة في الجهاز الحكومي، ويعمل وفق تدخل محدود من قبل الدولة. وفي ما نطلق عليه "رأسمالية الدولة" state capitalism، يكون المسؤولون عن العمل موظفين في الجهاز الحكومي. وبين هذا وذاك، يوجد موقف وسيط، حيث يقوم المسؤولون الحكوميون بتنفيذ كافة التعليمات التي تشكل وتؤثر في الرأسمالية الخاصة، لكنّهم لا يصبحون ارباب عمل رأسماليين. ويقترح أن نسمي هذه "الرأسمالية الخاصة الموجهة التي تنظمها الدولة" بهدف التفريق بينها وبين الرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة.
في غمرة ما يجري منذ الأزمة المالية الأخيرة، فإنّنا نواجه حقيقة بسيطة. في كلّ أزمة سابقة وعد مؤيدو السياسات المختلفة، (1) أنّ سياساتهم لن تقود فقط الى الخروج من الأزمة، بل ايضا (2) منع حدوث ازمات مماثلة في المستقبل، من النوع الذي يشلّ اقتصاد البلد. لا شيء من تلك الوعود السياسية التي نفذت كان قادرا على تنفيذ الهدف الثاني المشار اليه اعلاه. لم يتمّ إيقاف أيّة ازمة، كما تشهد بذلك السجلات التاريخية. طرح هذا الفشل لوقف الأزمات الذي تميّز بكونه مذهلا وقاسيا، سببا آخر للذهاب الى ابعد من تذبذبه وعجزه في كافة اشكال الرأسمالية. وبرأي المؤلف، يتطلب تجاوز الأزمة الملازمة للرأسمالية تغيير اكثر واعمق ممّا يتناول شكلها. إنّها تتطلب تغيير التنظيم الداخلي في عملية الإنتاج الرأسمالي نفسها. وبالضبط، فإنّ حلّ تذبذب النظام الراسمالي بين الخاص وذاك الذي تملكه الدولة، يرفض الإثنين معا وقد يقود الى اعادة تعريف الإشتراكية (وبعث روح جديدة معاصرة ملحّة فيها) عن طريق العودة الى التعريف المبكر الذي يعادي الرأسمالية.
تجدر الإشارة الى أنّه ی-;---;--شترك مع د. وولف في رأيه هذا عن ازمات النظام الرأسمالي المتعاقبة، مفكر عربي آخر هو عبد الحي زلوم*، الذي استشهد بمقالة له بما توصل اليه وليام وايت من قناعة. وهذا الأخير هو رئيس لجنة المراجعة في المنظمة الأوروپية للتعاون والنمو الاقتصادي OECD. ذكر وايت أنّ النظام المالي العالمي قد اصبح غير مستقر بشكل خطير، مما سيسبب فيضانا من الافلاسات، التي ستكون لها نتائج اجتماعية وسياسية خطيرة. وأضاف بأنّ الوضع اخطر من سنة 2007. فكافة الوسائل لمكافحة هذا الانهيار قد استنذفت. لقد تنامت الديون خلال السنوات الثمانية الاخيرة في كافة بقاع العالم ووصل الدين الى مستوى لم يسبق له مثيل بحيث اصبح مشكلة كبرى. السؤال الوحيد هو إن كان بالإمكان مواجهة المشكلة بشكل مباشر ومحاولة معالجتها بشكل منتظم، أو أن تحدث بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وإن كان المقرضون الاوروپيون سوف يواجهون أكبر المشاكل بالنسبة الى قروضهم. وعليه فإنّ الامور سيئة للغاية بحيث لا يوجد جواب صحيح للمشكلة. إنّ رفع الفائدة سيكون خطيرا واذا لم يرفعوها فستزداد الامور سوء.
وبرأي زلوم فإنّ تحذير هذا الاقتصادي الكبير يزداد وزنه وخطورته لأنّه قد حذر بين سنوات 2005-2008 بأنّ النظام المالي الغربي يسير نحو السقوط وأنه سائر الى ازمات خطيرة ويقول إنّ الدين العام والخاص قد وصل الى مستويات غير مسبوقة تساوي 185% من الدخل الاجمالي (GDP) في الاقتصادات الصاعدة و 265% من الدخل الاجمالي لدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ، وكلاهما يزيد 35% عن 2007. كذلك نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن منظمة العمل الدولية ILO بتاريخ 19/1/2016 أنّ معدل البطالة قد زاد في 2015 عن السنة السابقة وأنّ التوقعات للسنتين القادمتين ستزداد سوء.
يبشرنا زلوم بولادة نظام بديل هو نظام بركس بقيادة روسيا والصين وهذا ما تحاربه الولايات المتحدة بكلّ الوسائل حرب حياة أو موت. ولكن لماذا؟ لأنّ مجرد وجوده يتناقض كليّا مع نظام العولمة الأمريكي الذي لا يقبل إلّا بالاحادية الأمريكية كنظام عالمي جديد. كانت آخر حركة للانعتاق من مؤسسات الهيمنة الأمريكية هي تأسيس الصين مع 40 دولة أخرى رديفا للبنك الدولي باسم البنك الآسيوي لاستثمارات البنى التحتية AIIB وقيام روسيا بمحاولات إطلاق بديل لمقياس برنت
......
*http://www.raialyoum.com/?p=378544
لأسعار النفط.
وفيما يتعلق بمنطقتنا، يكشف الكاتب المذكور محتويات وثيقة هامة الأولى من نوعها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ترسم الوثيقة المذكورة صورة جديدة لعالم فيه قوة عظمى وحيدة يتوجب على قادتها الحفاظ على آليات كفيلة بردع أيّ منافسين محتملين عن التطلع للقيام حتى بدور إقليمي أو عالمي من أيّ نوع. جاءت استراتيجية الپنتاگون المعدّة من قبل وولفوتز عام 1992 شاملة ومفصلة، بطريقة توضح تماما حقيقة أنّ السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، صيغت بتخطيط مسبق بهدف خلق القرن الأمريكي الجديد وامبراطوريته العالمية. يقتبس زلوم ما تحدث به وولفوتزعن سياسة واشنطن اتجاه المناطق ذات الأهمية الستراتيجية للمصالح الأمريكية، حين قال:
”إنّ هدفنا الإجمالي في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا هو إبقاء المنطقة خارج نفوذ أيّة قوة إقليمية، والحفاظ على حرية وصول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلى نفط المنطقة. كما نسعى أيضا إلى ردع أيّ عدوان في المنطقة، وتعزيز الاستقرار الإقليمي وحماية المواطنين والممتلكات الأمريكية والحفاظ على حقنا في استخدام الأجواء والممرات المائية الدولية. وكما تبين من الغزو العراقي للكويت، فإنّه يبقى من الأهمية بمكان الحيلولة دون وقوع المنطقة تحت هيمنة قوة أو تحالف قوى إقليمية، خاصة فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية. ولهذا يتوجب علينا الاستمرار في لعب دور من خلال تعزيز سياسة الردع وتطوير التعاون الإقليمي".
كرّس المؤلف فصله الرابع للحديث عن الرأسمالية الخاصة فيقول إنّ بعض الرأسماليين مستوعبون لقواعد النظام ومتطلباته. فهم يحدّدون ادوارهم ويشكلون مسؤولياتهم لتتوافق مع السلوكيات المفروضة عليهم باعتبارهم رأسماليين. ولذا يبدو وقد قيل ذلك - حتى من قبل الرأسماليين انفسهم- إنّهم جشعون وإنّ شخصياتهم تشوبها العيوب. ولكن حين يحاول الرأسمالي أن يدفع العمال لمزيد من ساعات العمل ويدفع لهم أجورا أقلّ، ويعوّض عنهم باستخدام المكائن الآلية، وينقل عمليات الإنتاج الى خارج البلد حيث العمالة الرخيصة، ويعرّض صحة العمال للخطر باستخدام مواد سامة تدخل في انتاج السلع، وقد تكون ضارة للبيئة وغيرها - فهذه سلوكيات خُلِقت فيهم بفعل واقع النظام داخليا. فهو الذي يكافئهم ويكيل المديح اليهم. يقدم العديد من الرأسماليين على تلك الخطوات، ليس لأنّهم جشعون أو اشرار. حين يُظهر هؤلاء الجشع ويمارسون السلوكيات الرذيلة، فإنّ تلك السلوكيات ليست اسبابا، بل هي نتائج للنظام الذي يتطلب منهم القيام باتخاذ خطوات معينة لكي يستمروا في انجاح اعمالهم ويحصلوا على مزيد من الثراء.
ماذا يحدث لو غيّرنا تركيزنا من الإقتصاد الى السياسة؟ اصبحت السياسة في الولايات المتحدة تعتمد تماما واصابها الفساد بسبب التبرعات المالية التي يتلقاها مرشحو الأحزاب في الإنتخابات وجماعات التأثير على الرأي وافراد اللجان الخاصة. وهذه التبرعات قد قامت على قرار المحكمة العليا وفق رأيها حول إتحاد المواطنين. فالتفاوت في المصالح بين الرأسماليين والعمال والإختلاف في تركّز الثروة في يد فئة قليلة جدّا، ساعد على فوز المرشحين للمناصب من السياسيين الذين يخدمون مصالح تلك الفئة القليلة. وهو الأمر الذي افسد السياسة، بل حياة العملية الديمقراطية ذاتها في البلد.
حين تمّ انجاز اهداف انقاذ البنوك والإحتكارات من الإفلاس، فإنّ المساعدة المقررة لأصحاب البيوت كانت محدودة، وقلت عمّا وُعد به أصلا. فإذا كان ذلك هو الإنسياب الإقتصادي التدريجي، فإنّ العمال قد لاحظوا انسيابا قليلا للغاية من قمة الهرم الإقتصادي الى قاعدته. لقد أصرّ بُش ومن بعده أوباما على محدودية البرامج الحكومية لتخفيض نسب البطالة ولم "تتوفر" الحوافز والمشجعات للقطاع الخاص "لكي يفتح فرصا للعمل". فالمؤسسة السياسية لكلي الحزبين رفضت مناقشة انشاء برامج فدرالية لتوفير فرص العمل على غرار ما جرى في الثلاثينات. وبدلا من ذلك فإنّ الأزمة منذ عام 2007 قد حثت كافة مستويات الخدمات الحكومية أن تقطع العديد من برامجها، وتفرض التقشف على ميزانية البعض الآخر، في الأوقات التي كانت فيها الجماهير بحاجة الى ما هو عكس ذلك تماما. وهكذا حلّ نوع "من الكلام المحرّم غير المباح" لمناقشة الموضوع المتعلق بزيادة فرض الضرائب على الأثرياء والإحتكارات، والتوسع في برامج الصرف الحكومي. كان ذلك ما يمكن أن يوقف الأزمة ويزيد من نمو الإقتصاد "من القاعدة نحو اعلى الهرم"، وبشكل لا يزيد من حجم عجز الميزانية ولا يضيف الى ديون الدولة الخارجية. لقد انتج تطور الرأسمالية الأمريكية، خصوصا منذ السبعينات، عدم مساواة اقتصادية عميقة. وهذه هي ثانية ازمة خلال السنوات الخمس والسبعين الماضية، كان فيها النظام السياسي اسير الأموال التي تلعب الورقة الرابحة في لعبة الديمقراطية. ولكي نغير ذلك، يتطلب الأمر علاج الرأسمالية الذي يستهدف في ذات الوقت المشاكل الإقتصادية والسياسية بشكل مباشر وفعّال.
يعترف المؤلف في فصله الخامس بوقوعه في حيرة، لأنّ اغلب الحركات المضادة للرأسمالية والتي اطلقت على نفسها مسمّيات "الإشتراكية" في القرن الماضي لم تطرح اولوياتها بشكل واضح، أو - فيما إذا وصلت الى السلطة - كيف ستكون طبيعة النظام الإقتصادي الذي يكون فيه الإنتاج وتوزيع الفائض، وهل سيتمّ على ايدي اولئك الذين يقومون بعملية الإنتاج. وهذا ينطبق على من يسمّون انفسهم "شيوعيين". وبدلا من ذلك، فإنّ هذه التسميات والإختلافات فيما بينها، قد جرى تحديدها كلاسيكيا بمسميّات الملكية الخاصة مقابل ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والسوق الحرة مقابل التخطيط المركزي لتوزيع المصادر والفوائض.
لقد اصبحت الشيوعية تعني - خاصة منذ تأسيس الإتحاد السوفياتي عام 1917- أنّها نظام اقتصادي تحتل الدولة فيه محلّ الملكية الخاصة بشكل واسع، خاصة في الصناعة وحيث يسيطر التخطيط على الأسواق ووسائل توزيع المصادر والمنتوجات. وبالمقابل فإنّ الإشتراكية تعني نظاما اقتصاديا تذهب فيه ملكية الدولة الى ابعد ممّا تعرفه الرأسمالية الخاصة (ولكن ليس الى حدّ الشيوعية)، وأنّ التخطيط اكثر اهمية ممّا في الإقتصادات الرأسمالية الخاصة (لكنّها لن تلغي دور الأسواق كما في النموذج الشيوعي). وعليه ومثلا على ذلك، فإنّ اغلب بلدان اوروپا الشمالية كانت ولا تزال لعدة حقب تُعتبر "اشتراكية" وهي حتما ليست "شيوعية"، في حين أنّ الإتحاد السوفياتي والصين وكوبا مثلا تُعتبر شيوعية. اصبحت الأمور أقلّ وضوحا لأنّ بعض البلدن اشارت الى انفسها باعتبارها نظما "إشتراكية" تهدف في النهاية الى التحول للشيوعية. فقيادة تلك البلدان من قبل "الحزب الشيوعي" قد اشارت الى اهدافها القصوى في المستقبل، وليس الى الحقائق الجارية لأنظمتها الإقتصادية، فيما يتعلق بوضع العمال في موقع من يستولي على الفائض ويوزعه ضمن مؤسسات يديرها العمال انفسهم.
النقطة الأساسية التي يجب تأكيدها هنا، مع بعض الإستثناءات القليلة المؤقتة، انّه حين تسلم الإشتراكيون والشيوعيون السلطة واقاموا نظما اقتصادية جديدة، لم يجعلوا بين اولوياتهم ولم يشملوا قيام مؤسسات يديرها العمال بانفسهم، واعتبار ذلك معلما اساسيا في اقتصادهم الجديد هذا. فلا الإشتراكيين ولا الشيوعيين تبنوا فكرة مؤسسات انتاجية يقودها العمال، ضمن نظامهم الإقتصادي غير الرأسمالي. كلّ ما رغبوا أو فكّروا فيه هو أن يأخذوا المجتمع الى ابعد من الرأسمالية نحو نظام بديل. وكلّ الذي حققوه من الناحية الواقعية - خاصة في ميدان الإشتراكية والى درجة اعمق في حالة الشيوعية- هو تغييرات في شكل الرأسمالية. فمن وجهة نظر المؤلف، أنّه في الحقيقة لا أحدَ من البلدان الإشتراكية القائمة قد كان قادرا على تطوير نظام يذهب الى ابعد من رأسمالية الدولة، بغضّ النظر عن المسمّيات التي اطلقوها على انظمتهم بأنّها اشتراكية أو شيوعية. وعليه فإنّ الصراع الذي تمّ خوضه بين الإشتراكية والرأسمالية، كان حقيقة صراع لم يذهب الى ابعد من تنظيم الملكية الرأسمالية الخاصة وجعلها رأسمالية الدولة.
يخبرنا المؤلف أنّ العديد من المفكرين الماركسيين والشيوعيين قاموا باجراء مقارنة بين نموذج انسياب النمو حسب فكرة القمة - القاعدة مع نموذج انتشار النمو من القاعدة - القمة في النظم الإشتراكية. تساءل الكثيرون عن امكانية استمرار أو حقيقة وجود اشتراكية ما لم تكن مصحوبة بديمقراطية فعلية. وهو يعتبر نفسه من ضمن هذا المعسكر الذي انتقد نظرية تنظيم الإشتراكية القائمة على نموذج تطوير القمة لكي ينساب ذلك التطوير الى القاعدة. كما أنّه اختلف مع الآخرين لتشخيص المشكلة بشكل ادقّ حول الإنتاج وتوزيع الفائض. إنّ وضع العمال في كلّ مؤسسة انتاجية في موقع من يستولي على الفائض ويوزعه هو في الحقيقة ما يجعل تلك المؤسسة ديمقراطية. وهو ما يجعلها تساعد قيام نظام الحكم والدولة وتسهلهما. حين يستولي العمال بشكل مباشر على الفائض الذي ينتجونه ويوزعونه، فإنّنا نكون قد وضعنا حقا الديمقراطية كأساس للنظام الإقتصادي، حسب رأيه.
يتشبث د. وولف برأيه أنّ التنظيم الرأسمالي لوسائل الإنتاج يجب أن يُلغى. يجب أن يكون العمال هم سادة انفسهم، وهم من يستولي على الفائض ويوزعه، ويجب أن يؤسسوا نظاما يضمن لهم قرارا تعاونيا في عملية إنتاج المؤسسات وألّا يقتصر دورهم على تسلم الأجور والرواتب الإسبوعية. لقد الغيت العبودية واصبح العبيد سادة قدرهم ونقلوا المجتمع من الظروف غير الإنسانية وغير العادلة التي تفتقر الى الكرامة. ونفس الأمر ينطبق على من يستلمون الأجور لكي يصبحوا هم ايضا سادة قدرهم وينقلوا المجتمع من وضعه اللإنساني غير العادل الذي يفتقر الى الكرامة، والذي تتشبث به الرأسمالية بكلّ اشكالها المتعددة.
يذكرنا المؤلف في مطلع فصله السادس من الباب الثالث بأنّ الفرق الواضح بين كلي نظامي الرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة من جهة والنظام البديل الذي يقترحه والقائم على قيادة العمال الذاتية المباشرة للمؤسسات من جهة اخرى، هو أن الأخير هو الذي يسمح للعمال المنتجين للفائض أن يستولوا عليه بشكل تعاوني ويوزعونه. يتعرض المؤلف بايجاز الى عدة انواع من المؤسسات من قبيل تلك التي يتملكها العمال وتلك التي يديرها العمال. كما أنّه يطنب قليلا في الحديث عن التعاونيات فيقول إنّ مفهوم التعاونيات (co-op) موجود لفترة تاريخية بعيدة في العديد وتمّ استعمالها ليشمل مجالا واسعا من المعاهد والمؤسسات. فالملكية التعاونية وتعاونية الشراء وتعاونيات البيع وتعاونيات العمال تندرج تحت مسمّى تعاونيات. غير أنّ لا أحد منها رغم الإيجابيات له بالضرورة علاقة بما يطرحه، إذا قورنت بالمؤسسات التي يقودها العمال ذاتيا WSDEs وسديز.
فمثلا، قد تشتري مجموعة من المزارعين قطعة من الأرض بشكل تعاوني، ويقوم كلّ منهم باستخدام عدد من العمال الزراعيين لفلاحة قسم من أرض تلك التعاونية ويديرها كأنّها مؤسسة رأسمالية. وفي هذه الحال، فإنّ لفظة "تعاونية" تشير الى كيفية تملك تلك القطعة من الأرض فقط، وليس تنظيم الإنتاج ولا التركيب الطبقي للمؤسسة الزراعية. والشيء المشابه حين تدخل مجموعة صغيرة من الرأسماليين في مؤسسة لإنتاج برامج لاستخدامات الكومپيوتر في مشروع تعاوني لشراء برنامج قد طوره شخص أو مؤسسة اخرى، وهم بحاجة اليه وسيشتركون في استخدامه. وهذا يعني أنّ مؤسسات رأسمالية تؤسس تعاونية مؤقتة فيما بينها من اجل تحقيق هدف معين. وهذا ليس بالشيء الجديد. فمنذ قرون دأبت مجموعات من المؤسسات الرأسمالية الصغيرة او المتوسطة الحجم من التي تعمل في نفس الميدان في الدخول بتلاحم فيما بينها على شكل تعاونيات للبيع أو التسويق بهدف تحقيق ارباح عالية افضل ممّا لو قام كلّ منها بالنشاط منفردا. غير انّ مثل هذه التعاونيات لا يجمعه جامع بالإقتراح المتعلق بالمؤسسات التي يقودها العمال ذاتيا، وسديز.
حتى أنّ التعاونيات العمالية هي الأخرى مختلفة عن اقتراح المؤلف. ففي كلّ المؤسسات الراسمالية تقريبا، يقوم العمال المأجورون بإداء اعمالهم بشكل تعاوني. وممّا يميز WSDEs وسديز هو أنّها ليست تعاونية للعمال فقط، بل أنّها تعمل وفق حقيقتين. أوّلا، إنّ الإستيلاء على الفائض وتوزيعه يكون بشكل تعاوني من قبل العمال، وثانيا إنّ العمال الذين ينتجون ذلك الفائض بشكل تعاوني هم نفس الأفراد.
يتناول المؤلف في فصله السابع بعض مزايا مقترحه عن قيادة العمال الذاتية للمؤسسات. من احدى الطرق النافعة تخصيص صندوق أو وكالة للإعانة (وقت توزيع الفوائض من قبل مجلس إدارة وسديز) بالإشتراك مع الحكومة لإدارته. حين تضطر احدى المؤسسات الى تقليص عدد عمالها، فإنّ هؤلاء سيكونون قادرين على تلقي المعونة من ذلك الصندوق. وسيكون بامكان تلك الوكالة أن تحصي وتقابل أولئك العمال لمعرفة الراغبين منهم للقيام باعمال اخرى. يتطلب الأمر من الوكالة المذكورة أن تهيء لهم التدريب اللازم وتتولى نقلهم الى اماكن عملهم الجديدة. وفي مجال الخدمات التي تؤثر على مسار التغيرات التي تحدث في المجتمع، خاصة تلك التي يقلّ فيها الطلب على العمال، تتولى الوكالة نقلهم للمؤسسات التي تتوسع وتكون بحاجة الى مزيد من اليد العاملة. ويمكن بهاتين الطريقتين التغلب على مشكلة البطالة، دون الحاجة الى طرح دوافع لاستعمال التكنولوجيا لتقليص عدد العمال، وفي نفس الوقت سيتم عدم تجاهل طلبات المواطنين لنوع معين من الخدمات أوالسلع. فالنظام القائم على وسديز يضمن الحصول على موقعه ويتمتع بالدعم الذي توفره هذه الحلول للتغيّرات التي تحدث نتيجة استخدام التكنولوجيا الحديثة وتغيير نماذج الطلب التي عادة ما تكون وراء دورة الأزمات الإقتصادية السيئة في النظلم الرأسمالي.
يواجه المخترعون والمبدعون تحت نظام قيادة العمال الذاتية للمؤسسات، مثلهم مثل زملائهم في النظام الرأسمالي، مشاكل تتطلب الحلول قدر تعلق الأمر بالحوافز للإتيان بسلع أو خدمات جديدة. يجب توفير الأموال لهذه الحوافز (من قبل الوكالة العامة التي تحصل على نصيب من الفائض الذي تحققه وسديز) أو المصادر الخاصة التي قد تشمل الأفراد أو من قبل دوائر المؤسسة الأخرى، حين لا تتوفر مثل هذه الموارد. كما يجب جمع العمال الذين يتركون اعمالهم لأيّ سبب من الأسباب لكي يبدأوا مؤسسة وسديز جديدة. يجب تثبيت الحوافز مثل منح بعض الإعفاءات الضريبية والسماح للعمال والمديرين بالحصول على دخل عال بشكل مؤقت في مؤسسات وسديز الناجحة، كما يجب الإعتراف بجهودهم على المستوى الإجتماعي ومنحهم المكافئات، وغير ذلك. ومن الملفت للنظر أنّه في هذا النظام لا توجد حاجة لتسجيل براءة الإختراع patent (ولن توضع قيود على استعمال الناس للإختراعات الجديدة) لأنّه بالإمكان توفير بدائل لحوافز الإختراع والتطوير بنفس الطريقة التي تتمّ فيها توفير المصادر البديلة للتمويل الذي يحتاجونه.
إنّ كلّا من معالم انظمة الإقتصاد الرأسمالية الطويلة الأمد وظروف الأزمة التي حدثت عام 2003 قد فتحت امكانيات جديدة للتحرك نحو انظمة وسديز لتكون البديل الرئيسي للنظام الإقتصادي القائم. وإذا ظهرت هذه المؤسسات واصبح لها موقع داخل الأنظمة الإقتصادية الرأسمالية الحديثة، فإنّها تحتاج أن تغيّر العديد من الظروف الإجتماعية لكي تكون قادرة على البقاء والتوسع والفوز بدعم الجماهير. إنّ اعادة تخطيط المناهج الدراسية في المدارس وإشغال العمال للمناصب الإدارية بشكل دوري، وإعادة تنظيم المصادر والحوافز للإختراعات وخلق برامج ابداعية وتحاشي البطالة، تمثل جميعا نماذج التغيّرات التي تأتي بها انظمة وسديز. في الحقيقة أنّ الخطوات الثابتة نحو هذه الأهداف قد تمّ تحقيقها فعلا خلال السنوات الخمسين الماضية من قبل تعاونية مونراگون في اسپانيا، التي تضم الآن حوالي 85 الف عضوا يتوزّعون على مؤسسات تعاونية قائمة.
تتعامل المؤسسات التي يقودها العمال ذاتيا وسديز مع التغيّرات التكنولوجية بطريقة مختلفة. فاتخاذ القرار باعتماد استخدام تكنولوجيا جديدة يتطلب الإستعانة بآراء عديد من الأفراد وجملة قرارات متنوعة مختلفة. ثمّ أنّ تخصيص قسم من الفائض لشراء الأجهزة الجديدة ونصبها يقوم على موافقة منتجي الفائض بطريقة ديمقراطية. فبدلا من مجموعة صغيرة جدّا تكوّن مجلس ادارة المؤسسة، يصوّت العمال بالمئات وأحيانا بالآلاف في عملية من هذا القبيل. وبخلاف ما يجري في المؤسسات الرأسمالية، فإنّ القرار في مؤسسات وسديز يكون قائمة طويلة من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الإعتبار، وألّا يقتصر الأمر على زيادة الفائض، بل يتعداه الى ما سيتركه استخدام التكنولوجيا المقترحة على توزيع ذلك الفائض على العمال وعوائلهم والمجتمعات والمناطق التي يعيشون فيها، ومن التي تتعامل معها وسديز. في الإقتصاد القائم على وسديز فإنّ الربح والكلفة سيكونان موزعين على كافة العاملين بطريقة ديمقراطية. فمثلا وبين حين وآخر يتمّ تنظيم لقاءات وتجري مناقشة وتصويت على ما يُطرح من الإقتراحات. ونظرا لأنّ العمال في مؤسسة وسديز يقررون حجم الفائض وتوزيعه، فهو يتضمن فقرات عن موعد وكيفية استخدام نسبة من الفائض لشراء الأجهزة الجديدة ونصبها. في النظام الرأسمالي، حيث يُستبعد العمال من قرار اختيار التكنولوجيا، تتوفر لأرباب العمل فرص الإختيار بين زيادة الأرباح أو تخفيض كلفة العمل، أو كليهما. وبالمقابل فإنّه تحت نظام وسديز يقررالعمال البدائل، قدر تعلق الأمر بالتغيّرات التكنولوجية.
ثمّ يعقد المؤلف مقارنة عن قضية التعامل مع البيئة فيقول إنّ جذور المشكلة تكمن في العدد الصغير من الأفراد الذين يقودون المؤسسات الخاصة المتواجدين في اماكن بعيدة عن اماكن الإنتاج، وهم مدفوعون بتحقيق الأرباح والنمو والتوسع وخلق الحوافز. فالصراع على البقاء بينها وكمية الأرباح والنمو والتوسع والحصول على حصة متزايدة في الأسواق، هي ما يقرر اهدافها حتى على المستوى الأدنى من نشاطاتها. وفي الجانب الآخر فإنّ تنفيذ الخطط الحكومية وزيادة الفائض وتوفير ما يمكن توفيره لمعالجة النقص في التخطيط والأخطاء التي يتم ارتكابها، والى غير ذلك، هي التي تتحكم بمؤسسات رأسمالية الدولة. وعليه، فمن وجهة نظر النظامين المذكورين يُعتبر الإهتمام بقضايا البيئة مسألة "ترف" لا تقدر مؤسساتهما على الإيفاء به.
أمّا مؤسسات وسديز فإنّها تتعامل مع قضايا البيئة بشكل مختلف، ولذلك عدة اسباب. أوّلا، إنّ العمال وعوائلهم يعيشون بالقرب من اماكن المؤسسات التي يعملون فيها. وبالنسبة لهم، فإنّ أيّ ضرر يلحق بالبيئة مسألة تحضى باهتمامهم المباشر، مقارنة بالفئة القليلة من أرباب العمل في المؤسسات الراسمالية الذين يسكنون بيوتا بعيدة في مناطق آمنة من آثار تدمير البيئة المحلية التي يعيش فيها العمال وعوائلهم. ثانيا، إنّ مسألة المحافظة على البيئة قضية تقع أساسا في اسفل سلم أولويات الرأسمالية الخاصة وبدرجة افضل قليلا في رأسمالية الدولة، على عكس اهتمامات مؤسسات وسديز. ليس باستطاعتنا تقدير عوائد انخفاض الإستثمارات وكلفتها، ولكن من الناحية المنطقية، فإنّ زيادة الإستثمار في رأس المال وزيادة فرص العمل، ستكون ذات مردود افضل إذا اهتمّت بالظروف الطبيعية المحيطة في مواقع المؤسسات. ونحن نعرف اهتمام مؤسسة وسديز بالبيئة وكيف تعطيها الأولوية في سلم اتخاذ مختلف القرارات.
ثمّ هناك مسألة اخرى. إنّ تناوب العمال على اداء مختلف المسؤوليات الوظيفية يمكن أن يعالج القضايا التي اشرنا اليها في اعلاه بشكل اكثر فعالية ممّا حققته الرأسمالية الخاصة ورأسمالية الدولة. فتناوب العمال (من عمال الى اداريين الى اعضاء في مجالس الإدارة، ثم العودة الى وظيفة العمل، وهكذا) بشكل واسع يجعلهم يكتشفون الأشياء التي يفضلونها والمجالات التي يُبدعون الأداء فيها لزيادة الإنتاج. وهذا التناوب لا يزيد فقط فرص توسيع الخبرات، بل أنّه يقود الى عدالة في توزيع الدخل وتوزيع المسؤليات. واكثر من ذلك، أنّ هذه الممارسات ستفتح المجال باعطاء كلّ مؤسسة الفرصة لتقرر فترة بقاء عامل ما في وظيفة معينة قبل نقله لأداء مسؤولية اخرى وفق معايير معينة لها علاقة بصعوبة ذلك العمل ومدى تعقده ومقدار الفترة اللازمة لإعداد ذلك العامل وتطوير مهاراته لأداء العمل المقترح الجديد. أضف الى ذلك، أنّ اشغال العمال لمهام مجالس الإدارة يعطيهم الفرصة لعدم اقرار استعمال أيّ تكنولوجيا يمكن أن تلحق الضرر بصحتهم وبصحة أسرهم، أو تسبب الضرر للبيئة التي يعيشون فيها وتتواجد فيها مواقع عملهم.
يعالج د. وولف في فصله الثامن مسألة الملكية في وسديز ويدعونا الى تصور ملكيات مختلفة تتواجد معها. يمكن أن تعود الملكية للدولة وتجعلها في متناول وسديز. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ هذا التصور يعني ملكية الدولة المركزية، أو ربما تكون ملكية مختلطة تضم الدولة أو المنطقة أو الحكومات المحلية التي تمتلك انواع مختلفة وكميات من ملكية الإنتاج. يمكن لمؤسسة وسديز ذاتها امتلاك مؤسسة الإنتاج التي تُستخدم خلال تلك العملية. يمكن للعمال أن يفعلوا ذلك بشكل تعاوني أو منفرد. وأخيرا، إنّ ملكية مؤسسات الإنتاج معروفة بكونها شخصية يمتلكها شخص أو عدة اشخاص. فمثلا، يمكن أن تكون الملكية على شكل أسهم تُباع وتُشترى في الأسواق ...الخ.
النقطة الأساسية البارزة هي أنّ التنظيم الداخلي لإنتاج الفائض والسيطرة عليه وتوزيعه في مؤسسة وسديز تختلف وبإمكانها أن تتعايش مع انواع عدة من ملكية وسائل الإنتاج. ومهما كان نظام ملكية المؤسسة، التي تتعايش معها وسديز وتتعامل، فإنّه سيؤثر على نموها (بما فيه وجودها وديمومتها، والى غير ذلك). في حالة الإشتراكية التقليدية، فإنّ ذلك يبدأ بإدخال وسديز ضمن اقتصادها، ومن الممكن أن نتوقع أنّ الملكية المؤممة أو التي اصبحت ملكية اشتراكية، ستكون شريكا على المستوى الأعلى مع وسديز وفي مستواها الأدنى ايضا. تعلمت الإشتراكيات التقليدية الدروس الهامة حول الملكية المؤممة (ربما ما يتعلق بعلاقتها المتناقضة مع الديمقراطية السياسية)، وإنّ علاقات بديلة قد تبرز في مثل هكذا ظروف. قد تكون الملكية جزئيا مركزية (أو غير مركزية على المستويات المناطقية أو المحلية)، وهذه الملكية قد تكون مشتركة بين الجهات الحكومية على مختلف المستويات والعمال في كافة مؤسسات وسديز. وقد يكون هناك مجال لبعض الملكية الخاصة واصحاب الأسهم والمضاربة في سوق العملات. من ناحية اخرى، يمكن للعمال أن يرفضوا التعامل مع هذه الأشكال من الملكية، بسبب ارتباطاتها الوثيقة مع الإقتصادات الرأسمالية الخاصة.
يختتم المؤلف فصله بالقول إنّ ادعاءات الكفاءة وحساباتها، دعك من "برهنتها" لا يمكن أن تستخدم بشكل منطقي تقييم الأسواق مقابل التخطيط ولا ملكية وسائل الإنتاج مقابل الإشتراكية، أو في الحقيقة أيّ شيء على الإطلاق. والسؤال هو كيف يمكن لمؤسسات وسديز أن تتعايش مع المؤسسات الخاصة مقارنة بالملكية والإشتراكية، وأن تتعايش مع الأسواق الحرة مقابل التخطيط. لا يمكن تقرير ذلك بادعاءات الفائض حين المقارنة بين كفاءة الأثنين. إنّه يتقرر ببناء انظمة اقتصادية لما بعد مرحلة انظمة الرأسمالية، من النوع الذي سيبرز خلال التحولات من النظامين، الرأسمالي الخاص واشتراكية الدولة.
فهل حقا انتهى العصر الرأسمالي وانتهى معه العصر الأمريكي، حسب ما عبّر عنه د. وولف بشكل يشبه الهمس في آخر الفقرة اعلاه! يجيب الكاتب عطا الله*مستشهدا بتساؤل العالِم جوزيف ناي، أحد كبار اختصاصيي هارفرد في هذا الموضوع قائلا،هل انتهى القرن (العصر) الأميركي؟ بمجرد أن يطرح السؤال، نعرف أنّ الجواب في كتابه الجديد تحت هذا العنوان، هو نعم. لكن مَن سوف يحتل المرتبة الأولى؟
الاستفتاءات التي جرت في 22 بلدا، اجمع المجيبون في 15 منها، على أنّ الصين تخطّت، أو في طريقها إلى تجاوز، الولايات المتحدة. وفي عام 2014 قال 28 % من الأمريكيين إنّ دولتهم هي الأولى، مقابل 38 % قبل عامين. عندما استقلت امريكا عن بريطانيا في القرن الثامن عشر، قال السياسي البريطاني هوراشيو والبول، إنّ بلاده اصبحت في اهمية جزيرة سردينيا. غير أنّها كانت على وشك أن تصبح دولة عظمى بسبب الثورة الصناعية. وفي عام 1985 تساءل عالِم من هارفرد، إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد دامت قرنين، فلماذا نبدأ بالزوال بعد 50 عاما؟ لكن بعد قليل، انهار الاتحاد السوفياتي واصبحت امريكا القوة الوحيدة. متى بدأ القرن الأميركي؟ أحد الأجوبة أنّه بدأ في نهاية القرن التاسع عشر، عندما اصبحت الولايات المتحدة أكبر قوة صناعية في العالم. يومها، كانت تشكّل ربع الاقتصاد العالمي، واستمر ذلك قائما حتى عشية الحرب العالمية الثانية. لكن بعدها مباشرة، اصبحت تمتلك نصف اقتصاد العالم، لأنّ الحرب دمّرت اقتصادات بعض الدول الرئيسية الأخرى. لكن منذ منتصف القرن الماضي، بدأت النسبة بالانخفاض، ومن المتوقع أن تحتل الصين المرتبة الأولى بعد عقد من الآن. غير أنّ امريكا ظلت حتى اوائل القرن العشرين، مجرد قوة اقتصادية غير مؤثّرة سياسيا أو عسكريا. وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت البحرية الأميركية اصغر من بحرية چيلي. تغير ذلك في اواخر القرن، عندما استولت على كوبا وپورتريكو والفلی-;---;--پين من الاستعمار الإسباني المتهالك. وبعد الحرب العالمية الأولى قررت الخروج إلى العالم. بعد ذلك، سوف يتغير كلّ شيء، لها وللعالم. في عام 1941 كتب هنري لوس، صاحب مجلة لايف مقالا بعنوان "القرن الأمريكي"، الذي توسع مع نهاية الحرب في تشكيل الناتو وخطة مارشال وحرب كوريا، 1950. منذ عام 1945 لغاية 1991 كان ميزان القوى العالمي يوصف بالثنائي، بمعنى عملاقان يتنافسان في السلاح النووي والتكتلات الدولية حول العالم، إلى أن سقط جدار برلين عام 1989، واعلنت نهاية الاتحاد السوفياتي في 1991. يومها كان سلاح البحرية الأمريكي قد أصبح مساويا لـ17 سلاحا تليه في الحجم، وموازنة امريكا العسكرية تساوي نصف موازنات العالم اجمع، إضافة إلى التفوق الواسع في الفضاء. يعتقد جوزيف ناي أنّ تلك القوة الكبرى آخذة في التراجع اليوم. ويرى اميتاف اشاريا أنّه بدل النظام العالمي الآحادي، سوف يقوم نظام متعدد من الصين والبرازيل والهند، حسب ما اورد عطا الله.
يتهم الكاتب في فصله التاسع كلي النظامين بكبت الديمقراطية ومحاولة احتوائها بكل السبل الممكنة. تحضرني في هذا الوقت ونحن في موسم انتخابات الرئاسة لعام 2016 ما تقوم به بعض الجهات الرسمية على مستوى الولايات للتدخل في الإنتخابات "الديمقراطية" والتحايل على سيرها تحت ستار الشرعية والقانون. فمثلا يُعاد ترسيم المناطق الإنتخابية لمصلحة حزب دون آخر، وحصر الجماعات الإثنية في مناطق معينة دون غيرها، ووضع المعوقات من قبيل طلب الهوية الشخصية أو هوية قيادة السيارات، التي لا يحملها العديد من المواطنين الفقراء وكبار السن ...الخ. والتأجيل المتعمد في سير العملية الإنتخابية والإنتظار الطويل الذي قد يمتد لساعات، كما حدث في ولاية أريزونا بالأمس فقط، لصالح المرشحة كلنتن! كان على بعض الناخبين أن يقفوا في طوابير طويلة لساعات ويفقدوا الذهاب الى اعمالهم ذلك اليوم بسبب مثل هذه الأعذار الواهية في التأخير، اضافة الى أنّ بعض المراكز الإنتخابية قد تأخر موعد افتتاحها عن الوقت المقرر، وأنّ بعضها لم يكن فيه العدد الكافي من الإستمارات، ... الخ من الحيل والمبررات. يقول د. وولف إنّ التنظيم الرأسمالي للمؤسسة سواء كانت خاصة أو حكومية، يولد ...........
http://aawsat.com/home/article/567021*
تناقضات متشابهة وتوترات وأزمات. وكما نعرف، فإنّ العمال محرومين من ادارة المؤسسات الرأسمالية التي يعملون فيها، فباستطاعتهم أن يتأملوا قضية المساهمة في النشاطات السياسية في مناطق سكناهم لمعادلة أثر ذلك الحرمان. قد يفتح التمثيل الديمقراطي السياسي احيانا مثل هذه الإمكانات داخل الأنظمة الرأسمالية الخاصة. كما أنّ الأشتراكية التقليدية والأفكار تستطيع احيانا أن تفعل ذلك داخل رأسمالية الدولة. ولكن على أيّة حال، فإنّ الرأسمالية في كلي النظامين قد انتبهت لمثل هذه الإحتمالات ورأت فيها تهديدا والتمست طرقا فعالة للحدّ منها والسيطرة عليها. لقد استطاع النظامان بناء "الكتل المهيمنة" داخل الحكومة وخارجها لضمان استمرارية النظام الإجتماعي الذي يريدانه. لقد حرم النظامان العمال من جعل المؤسسات ديمقراطية- ويحولونها الى مؤسسات وسديز. وهذا ما حرم العمال ومصالحم من توجيه القرارات المتعلقة بما يُنتج وأين وكيف يوزّع الفائض. لقد عزّز نجاح الرأسماليين التناقضات السياسية التي تقع في قلب عملية الإنتاج الرأسمالي.
يعرف العمال في كلي النظامين الرأسماليين جيدا حرمانهم السياسي والإقتصادي في عملية اتخاذ القرارات السياسية، رغم ما يكال من المديح الدائم "للمجتمعات الديمقراطية" من جهة و"الديمقراطيات الشعبية" من جهة اخرى. لقد ولد هذا شعورا من الخيبة وعمّق السخرية والإحباط وتنامي مشاعر العداء في صفوف العمال. وتعبّر هذه المشاعر عن نفسها بالإحجام الجماهيري عن المشاركة في النشاطات السياسية والإقتصادية، والإكتفاء بتلقي الشيك في نهاية الأسبوع. اصبحت النصائح والتحذيرات التي لا حدود لها حول ضرورة المساهمة والإهتمام بالقضايا المدنية - التي تأتي على السنة الموظفين الرسميين المعينين من قبل الحكومة سواء في المدارس والكنائس وحتى القيادة السياسية- مادة للسخرية والضحك، لأنّها ليست اكثر من دعوات فارغة للتغني "بمجد الأيام الغابرة" التي ستعود إذا ما تمّ تحقيق مشاريعهم السياسية.
اختتم المؤلف هذا الفصل بالإشارة الى أنّ الطبقة العاملة قد اضاعت فرصا ثمينة في بلدان الرأسمالية الخاصة ولم تستطع الإستجابة للأزمة القائمة بمساندة التحول نحو مؤسسات وسديز التي يديرها العمال ذاتيا في الثلاثينات واقتنعت باصلاحات روزفلت التي اثبتت الأيام انّها مؤقتة وامكن الإلتفاف عليها. واثبتت الطبقة العاملة في بلدان رأسمالية الدولة عجزا مماثلا في عدم الإدراك فأضاعت هي الأخرى الفرصة، ولم تكن قادرة لدفع التحوّلات في فترة الثمانينات. لقد آن الوقت لهذه القوى أن تطرح هذا الطلب البسيط وتضيف التحوّل نحو وسديز الى قائمة التغيّرات الإجتماعية.
يذكرنا المؤلف في مطلع فصله العاشر أنّه من المفيد أن نتأمل بعض الإدعاءات التي تقول إنّ المنافسة بين المؤسسات الرأسمالية والمؤسسات غير الرأسمالية (بما فيها وسديز)، ستقود دائما وبالضرورة الى نفس الهيمنة التي تتمتع بها الأولى وفشل المجموعة الثانية واختفاءها. إنّ مثل هذا التوجه الموروث ذي الطبيعة غير المباشرة بالنمو الإقتصادي مسألة شائعة. وعليه ومثلا على ذلك، يُقال عن الإحتكارات أنّها تقضي على المنافسة وتخربها، وأنّ الشركات الكبرى تلتهم الشركات الصغيرة. وعلى أيّة حال، فإنّه لا النظريات ولا الأدلة التاريخية تؤيّد مثل هذه التقوّلات.
ثمّ أنّ تصوير وسديز بانّها مؤسسات غير ناجحة نوعمّا وغير قادرة على التنافس مع المؤسسات الرأسمالية، يرمي الى عزل تلك المؤسسات وجعل الناس يفكرون مسبقا بأنّها لا يمكن أن تكون بديلا للرأسمالية. الهدف الحقيقي هو غلق باب المقارنة بين قوة وسديز وضعفها وتلك الميّزات التي تتمتع بها المؤسسات الرأسمالية. ومثل هذه الجهود المبذولة بحماس لمنع مناقشة بدائل للمؤسسات الرأسمالية في الميدان الإقتصادي ليست جديدة، فلها سوابق تاريخية. فمثلا تصرّ الأنظمة الملكية احيانا على انّه لا يمكن قيام حكومات ديمقراطية تمثل الشعوب، لأنّ تلك مهمة مستحيلة. وجهود من هذا القبيل ستعود على الشعوب بالويلات والفوضى والمآسي، بحيث ترتفع الأصوات منادية بالعودة الى الملكية. وبناء على ذلك، فإنّه ليست هناك جدوى من مناقشة قوة الملكية وضعفها بالمقارنة مع الديمقراطية. وبنفس الطريقة، فإنّ اولئك الذين يخشون مناقشة وسديز ومقارنتها بالمؤسسات الرأسمالية يحاولون منع تلك المقارنة بالإدعاء أنّ وسديز اصلا بديل لا يمكن تحقيقه، وأنّ الخوض في مناقشة الأمر ليس أكثر من مضيعة للوقت.
غالبا ما يُثار سؤال حول وسديز وهل باستطاعة هذه المؤسسة أن تتوسع في العديد من المجتمعات الحديثة لتكون متعددة الإنتاج عالمية المستوى ترقى الى ماحققته الإحتكارات العالمية (بما فيها راسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة)؟ في الأساس، لا يوجد سبب يحول دون وصول وسديز الى ذلك المستوى من الحجم والإنتاج. الموضوع الذي عليها ان تواجهه هو توسيع عناصر الديمقراطية السياسية وتوظيفها لتكون ديمقراطية اقتصادية تطبّق على نطاق واسع يشمل مواطنين اكثر عددا. فالتصويت لانتخاب رئيس بلدية يختلف عن انتخاب رئيس للبلاد، لكنّ ذلك اثبت امكانية تطبيق الفكرة سواء كانت رقعة الإنتخابات صغيرة أم شاسعة. فالإلتزام بالديمقراطية الإقتصادية سيجد طرقا مبتكرة للوصول الى قرارات ديمقراطية من قبل اعداد كبيرة من العمال/المواطنين.
ولو اخذنا أحد امثلة التاريخ لرأينا نشاطات رأسمالية مستمرة منذ سنوات عدة. فالشركات الرأسمالية تتنافس في تشغيل الإطفال لقاء اجور زهيدة منخفضة، واستخدام تكنولوجيا تسبب الأضرار للهواء الذي نتنفسه والمياه التي نشربها. وفي النهاية اضطرت الإعتراضاتُ الجماهيرية الواسعة على تلك الممارسات المشينة أن تجعلها صعبة، واحيانا غير قانونية. كان على الرأسماليين أن يجدوا طرقا لحلّ مشكلات التنافس فيما بينهم. ارتفعت شكواهم المريرة لأنّ طرقا هامة للتنافس في النمو قد سُدّت ابوابها أمامهم، وكان عليهم إمّا أن يتبعوا القوانين أو ينقلوا مؤسساتهم الى مواقع اخرى للإلتفاف على تطبيق القوانين. أمّا الذين لم ينتقلوا فقد لجأوا الى اتباع اساليب جديدة لتعوض عن خسارتهم في تشغيل الأطفال أو التكنولوجيا المفسِدة للبيئة.
غيّر دخول وسديز الميدان التنافس الكلاسيكي حول نقل المؤسسات، إذ اصطفت الشغيلة واتحادات العمال واحزاب اليسار في جهة، وفي الجانب الآخر وقف الرأسماليون مطالبين بالحرية المطلقة من تدخل الدولة في قراراتهم لنقل مواقع مؤسساتهم. أمّا بالنسبة لمؤسسة وسديز، فقد اظهرت استمرار الجهود لإمكانية بروزها، وفي بعض الحالات تفوّقها في حلّ مشكلات المؤسسة دون اللجوء الى الإنتقال الى اماكن اخرى. إنّ نجاح وسديز بمرور الوقت، خاصة في التصنيع والمناطق التي تخلت عنها الرأسمالية، أدّت بلا شك الى افراغ ادّعاءات الرأسمالية الفارغة من محتواها حول حرية نقل مؤسساتها الى أين تحب. فالمسألة ليست حرية بقدر ما هي جشع ورغبة لا نهاية لهما في تكديس الثروة. والقضية اصلا بدأت بسرقة المواد الأولية من اراضي تلك البلدان ثم اصبحت اسواقها ميادين لبيع المنتجات الصناعية. ويعود الرأسماليون الآن لينصبوا معاملهم هناك ويستغلوا شغيلة البلاد بدفع اجور منخفضة جدّا.
يختتم د. وولف فصله هذا بالقول إنّه في المجتمعات، حيث تكون وسديز هي المنظمات السائدة في الإنتاج، فإنّ الرأسماليين هناك سيفقدون تأثيرهم ومواقعهم السياسية الهامة. ولذا فإنّ الفائض الذي يستولون عليه لن يضمن لهم السيطرة على الوضع السياسي. سنتخلص من أولئك الرأسماليين وتأثيرهم الذي يشترونه بالأموال. وبدلا من ذلك، فإنّ مجتمع الشغيلة الذي يقود وسديز هو الذي يكون الشريك الأساسي للجان الشعبية الحاكمة في المناطق المختلفة. إنّهما مجتمعان مختلفان ولكنّهما متداخلان. أحدهما يقوم على العمل في مؤسسة وسديز، والآخر قائم على السكن في المنطقة المحيطة بها، ويستطيع الأثنان أن يرتبطا معا في ديمقراطية سياسية واقتصادية. لعلهما مدركان لمهمة تحقيق مفهوم الديمقراطية بمعناها الصحيح، لكي يُفشلا النظام الرأسمالي الذي لم يسمح لهما بممارسة ديمقراطية حقيقية، باستثناء بعض المحاولات الشكلية في الإنتخابات.
في الفصل الأخير من الكتاب يذكرنا المؤلف أنّ البرامج التي يدعو اليها تختلف عن افكار روزفلت في الثلاثينات. فهو يدعو أن تشمل برامج اليوم توفير الأموال للعمال الراغبين لكي يبنوا مؤسسات وسديز التعاونية. وينصح أن نتعلم من تجربة ايطاليا وبرنامجها الناجح القائم على قانون ماركورا لعام 1985 الذي مكّن العمال من السيطرة على المؤسسات التي تمرّ بأزمة، أو الشروع ببناء مؤسساتهم. بإمكان الحكومة الأمريكية أن تمنح العمال العاطلين عن العمل اختيارا مشابها. فبدلا من استلام العمال العاطلين مساعدة مالية اسبوعية على مدى فترة معينة، فمن الإفضل اعطاءهم المبلغ المقرر كاملا مرّة واحدة. سيكون مشروطا عليهم أن يجدوا عمالا آخرين راغبين في المشاركة في المشروع. بإمكانهم حينئذ جمع رأسمال لتأسيس مؤسسة وسديز تعاونية. المسألة سهلة ولا تتطلب أكثر من ايجاد عدد من العمال العاطلين الراغبين في تاسيس تلك المؤسسات، لكي يجمعوا أموال الإعانة المخصصة لهم ويؤسسوا مشاريع مؤسسة وسديز المتنوعة.
يدعونا المؤلف أن نتأمل المنفعة المتبادلة من تحالف انصار وسديز وانصار "حركة الخضر" في العقد الجديد، ليكون بإمكان الجانبين أن يضغطا لإقامة مشاريع حكومية مركزية استجابة لمطالبهما. كما أنّ كلي الفريقين بإمكانهما التحالف من أجل تحقيق مشاريع اخرى من قبيل رعاية الأطفال والمسنيين، واغناء الحركة الثقافية، كما تمّ انجازه على يد الإدارة التقدمية للعمال في الثلاثينات. إنّ القوة السياسية لمثل هذا التحالف بين اتحاد العمال والأحزاب الشيوعية والإشتراكية في تلك الفترة، هي التي فازت بانجاز اكبر مشاريع حكومية مركزية لجماهير الشغيلة في تاريخ الولايات المتحدة، وهي التي وفرت فرص العمل لما يزيد عن 12 مليون عاملا بين السنوات 1934 - 1941.
ثمّ يمضي للقول إنّ حركة مثل وسديز يجب أن تتحالف مع الحركات التعاونية القائمة. كما يجب الشروع بحملة لتشريع القوانين التي تسهل نمو تلك التعاونيات وامكان تطويرها لتتحول الى وسديز جديدة إن أمكن. فمثلا يمكن قيام حملة مشتركة لنماذج المؤسسات التي تقوم على مبدأ قانون ماركورا وتغيير معايير الضريبة لتخفيف اعبائها على التعاونيات القائمة. كما يجب تشجيع الأعمال المختلفة ومؤسسات التعليم وحثها على تدريس مقررات حول الحركة التعاونية، خاصة في اقسام ادارة الأعمال والإقتصاد، لكي يزداد وعي الطلبة بها.
ينادي المؤلف في نهاية فصله هذا الى قيام حزب سياسي مستقل لدخول الساحة السياسية لأنّ الأحزاب القائمة الآن لا تهتم اطلاقا أن تسير البلاد بذلك الإتجاه. ربّما يستثني من ذلك الأحزاب اليسارية الصغيرة، فرادا أو كجماعة. ومهما كان الأمر، فإنّ الساحة الإنتخابية، مع علمنا بأنّها ضد التغيرات الإجتماعية الأساسية، هي المكان الذي نرفع فيه الإنتقادات ونطرح وسديز كبديل. تستطيع الأحزاب السياسية طرح المطالبة بتشريعات من أجل انتشار وسديز وتوسّعها كجزء من التّوسّع الإجتماعي. وهو يعتقد أنّ الإنتخابات واختيار النواب المشرعين ليستا هما الوسيلتين الضروريتين المركزيتين للنضال من أجل التغيّر الإجتماعي. غير أنّ ترك هذين الأمرين في ايدي اعداء حركة المؤسسات التي يقودها العمال ذاتيا، وسديز، ليس ضروريّا من الناحية التكتيكية وقضية خبل من الناحية الستراتيجية.
يعود المؤلف فيذكرنا في خاتمة الكتاب أنّ ما قصده من استعمال كلمة"علاج/معالجة" في عنوان الكتاب ليس تخليص الرأسمالية من أزماتها، بل القضاء عليها كما القضاء على الأوبئة واجتثاثها نهائيا، لأنّ الأزمات لن تنتهي وستتكرر وتتوالد. في اعتقاده أنّ الرأسمالية قد استنفذت نفسها، كما حدث من قبل لأنظمة الإقطاع والعبودية. فهل فعلا أن الرأسمالية قد استنفذت نفسها واوشكت على نهايتها، حسب رأي هذا المفكر؟
يقول الكاتب العربي ناشيد بأنّ كثيرين من راهنوا بأنّ ماركس الذي وُلد وعاش في الغرب سينتصر في الشرق تحديدا*. دليلهم على ذلك أنّ الضحايا الأساسيين للنظام الرّأسمالي ليسوا بالضرورة داخل المجتمعات الغربية، والتي حققت نوعا من الرّخاء واصبحت، بصرف النظر عن نواقصها، تبدو كأنّها "ارض الميعاد" في اعين معظم معذبي الأرض وسائر البؤساء الأشد بؤسا. وبالفعل، فقد كان انتصار الثورات الشيوعية في روسيا والصين وكوريا الشمالية وفيتنام، وصولا إلى اليمن الجنوبي وإثيوبيا وانغولا وغيرها توحي بأنّ مستقبل ماركس اصبح مضمونا في الشرق عموما والجنوب أيضا، أي خارج الحضارة الغربية. لكن، بعد انهيار المعسكر الشيوعي وسقوط جدار برلين وصعود السياسات النيوليبرالية اتخذت العبارة شكلا آخر "ماركس فيلسوف بلا مستقبل".
مرّت ثلاثون عاما على إختفاء ماركس قسريا من معظم ادبيات الحراك السياسي العالمي. مرّت ثلاثون عاما على هيمنة النموذج الاقتصادي النيوليبرالي على العالم برمته بلا منافس يُذكر، حتى ظنّ الكثيرون بأنّ ماركس قضى نحبه ومضى بلا رجعة. غير أنّ السنوات العجاف التي وضعت الاقتصاد العالمي على حافة الانهيار، كانت كافية لاعتراف الكثيرين بأنّ الإصرار على استبعاد ماركس بصفة نهائية لم يكن قرارا صائبا.
لا ی-;---;--شكّ الکاتب ناشيد أنّ لحظة صعود مارگرت ثاچر في انتخابات 1983 البريطانية، وصعود رونلد ريگن في انتخابات 1980 الأمريكية، كانت البداية الفعلية لنهاية ما يسمى في ادبيات الاقتصاد السياسي بـ"الثلاثين المجيدة"، وهي السنوات الفاصلة بين 1946 و1975. مثل صعود ثاچر و ريگن بداية انهيار دولة الرعاية الاجتماعية وصعود الاقتصاد النيوليبرالي
........
*http://www.alarab.co.uk/?id=75339
في العالم، وهو الوضع الذي استغرق ثلاثة عقود كاملة، ثلاثون "غير مجيدة" هذه المرّة. لم يعد للسياسة النيوليبرالية خلالها أيّ خصم قادر على منازلتها. وهذا هو السياق الذي جعل فوكوياما يؤلف كتابه الشهير نهاية التاريخ.
عانى اليسار العالمي خلال الثلاثين "غير المجيدة" تلك، من فقدان البوصلة، ودخل في ما يُسمّى بطور الانتحار التاريخي طويل الأمد. ثم ساد الاعتقاد بأنّ اليسار لا يستطيع أن يُحقق أيّ نصر انتخابي إلا إذا لعب في الوسط. وهكذا اختار معظم اليساريين الامتثال للأمر الواقع، ومن ثمة اللعب في وسط الميدان. لعلها نفس الحكاية مرة أخرى، تلك الوسطية منزوعة المواقف. بهذا النحو أصبحت الفروقات بين اليسار واليمين مجرّد فروقات شكلية وصورية.
اليوم، ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد بأنّنا ربما امام عودة روح اليسار، ضمنها صعود حزب سيريزا في اليونان بقيادة الكسس تسيبراس، وصعود بوديموس في اسبانيا بزعامة بوديموس إگليزيس، وصعود اليساري العنی-;---;--د جيرمي كوربين زعيما لحزب العمال البريطاني، وصعود المناضل اليساري بيرني ساندرس كمنافس قوي لهيلاري كلنتن في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأمريكي. هل هي بداية عودة الرّوح إلى "اطياف ماركس"؟ في واقع الحال ثمة معطى مؤكد، هو أنّ الفلاسفة لا يموتون، بل يولدون بعد موتهم، وأحيانا يولدون بعد إعلان موتهم. إنّهم يولدون باستمرار وعلى الدوام، ثم إنّهم يحضرون بقوة وإصرار خلال كلّ المنعطفات الحرجة، أو على الأصح، يتم استحضارهم على الدوام وفق رؤى وتأويلات متجددة. يصدق هذا المآل على ماركس أيضا، لا سيما في اللحظات التي تدخل فيها الرأسمالية طور الأزمة، كما هو حالنا الآن.
عموما، ثمة نقاط واضحة تنتظر برنامج ورثة ماركس، اهدافها إصلاح الرأسمالية من الداخل وترسيخ دولة الرعاية الاجتماعية واستبدال مفهوم الصراع الطبقي بالرهان على توسيع قاعدة الطبقة المتوسطة، مع ترسيخ الحريات الفردية، واعتبارها ترياقا ضدّ كل الشموليات رأسمالية كانت أو اشتراكية، ويراها د. وولف بأنّها ديمقراطية تعاونية. فالمؤكد أنّ تكريس المساواة الكاملة في الصحة والتعليم والعدالة يعدّ واجبا اخلاقيا وضرورة إنسانية، يمكن تحقيقها في ظلّ الديمقراطية التعاونية التي يعتبرها د. وولف البديل الممكن والواقعي لوضع الحدّ لابتزازات الرأسمالية وجشعها. مؤكد في الأخير أنّ الطريق سيكون شاقا وطويلا، ولدينا نماذج في ايطاليا واسپانيا، غير أنّنا نعلم أيضا بأنّ الطرق القصيرة والخاضعة لقوالب جاهزة لا تؤدّي في آخر الحساب إلى أيّ شيء.
بودي اخيرا أن اشكر د. مصدق الحبيب، استاذ الإقتصاد في جامعة ماسَچوست، والأستاذ احمد موسى جياد الخبير الإقتصادي الدولي، لمساعدتهما في صياغة بعض المصطلحات الإقتصادية التي وردت في نصوص هذا الكتاب القيّم.
د. محمد جياد الأزرقي
أستاذ متمرس- كلية ماونت هوليوك
قرية مونگيو- ماسَچوست، الولايات المتّحدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي