الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الإشكالية الحقيقية للوطن العربي

حسن محسن رمضان

2016 / 5 / 28
مواضيع وابحاث سياسية



تتميز إشكاليات الوطن العربي، في كلياتها، على إنها إشكالات يتولى حلها اليوم مَنْ تسبب بها أولاً. فالذي هيّئ الظروف ومهد العوامل وساعد بطرق متعددة، واعية وغير واعية، لبروز تلك الإشكاليات وتفاقمها من خلال سلسلة من القرارات الفردية الخاطئة غير المؤسسية هو الآن، إعلامياً على الأقل، يريد أن يقنع جمهوره بأنه يسعى لـ "حل" تلك الإشكالات والخروج بمجتمعه منها. ذلك المناخ العام الذي أفرز تلك الإشكاليات بصورها المتعددة وصراعاتها الخفية والظاهرة، الكامنة أو العنيفة، كان منشؤها الحقيقي الوحيد آنذاك هو "مشيئة الفرد صاحب القرار" حتى وإنْ جرى تسويقها إعلامياً بأنها نتاج ديناميكية مؤسسية محترفة. فالأنظمة الحاكمة في الوطن العربي بشكل عام، كمؤسسة حكم فردي مطلق، حتى تلك التي أتت بعد ثورات شعبية ثم ثورات مضادة كالذي حدث في مصر مثلاً، هي نفس الأنظمة أو هي نفس المؤسسة، مدنية أو عسكرية، التي تسببت بالإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتفاقم مشاكل الإرهاب الديني والتناحر (المذهبي – الديني - الطبقي) وتصاعد التوترات والصراعات الطائفية والطبقية ضمن النسيج الاجتماعي الواحد في دولهم وازدياد حدة التصادم، المباشر وغير المباشر، مع المحيط الإقليمي التي تعاني منها تلك الدول، ولا يوجد استثناء إطلاقاً إلا، ربما، الحالة التونسية الراهنة. ولهذا السبب بالذات، أي بسبب ما يُعرف بـ "الثبات المطلق للإدارة السياسية العليا" في البلاد العربية في وجه ظروف محيطة متغيرة وشديدة الديناميكية، فإن تلك الإشكاليات تتفاقم في مجتمعاتنا بشكل مضطرد وبصورة متسارعة. بل حتى ما يتم طرحه الآن من "حلول" من جانب تلك الأنظمة، فإنها في مجملها، إما تصورات "شخصية" للحاكم لتكون أقرب للأماني منها إلى دراسة مؤسسية ناضجة وواعية، أو نتيجة لمبلغ ضخم من المال تم دفعه لشركة استشارات غربية ثم لتكون النتيجة "تكرار مطور قليلاً" لما قيل أصلاً في مصادر متنوعة ومختلفة على مدار السنين الماضية، أو حتى على الفرض البعيد على جوهرية تلك التصورات والحلول وجديتها إلا أن الأرضية الثقافية والقيمية، وما يستتبعها من معايير مهنية وفكرية، لتلك المجتمعات ومؤسساتها الرسمية غير مؤهلة أصلاً لتنفيذ ناجح لتلك الحلول. والنتيجة تكون دائماً حالة من حالات الفشل لتلك الأنظمة ولهذه المجتمعات، على مستوى الحاضر والمستقبل. أي فرد محايد أو مؤسسة محترفة محايدة سوف يقولان هذا.

فعلى سبيل المثال، فإن الدول التي تضع في أجندتها محاربة الإرهاب هي نفسها التي تبنت في الماضي، ولا زالت حتى الآن تتبنى، جميع المصادر والمراجع الرئيسية للتطرف ضد الآخر المختلف ضمن خطابها الرسمي والدعوي والاجتماعي، وتضع مناهجها الدراسية لتعكس مواقف متطرفة مباشرة وجوهرية وصريحة وتدعوا صراحة للعمل بها، وتشجع سياسياً التصادم المذهبي وتمول بصورة مباشرة أو غير مباشرة حركات مسلحة متطرفة في بقاع متعددة من الوطن العربي والإسلامي. كل هذا يحدث بسبب رغبة "فردية" في الهيمنة الإقليمية حتى وإن أدى ذلك إلى شراء المواقف بالأموال ودفع المساعدات النقدية والعينية لدول وأقاليم في مقابل مواقف سياسية وعسكرية تتطابق مع مواقفها. المشكلة الكبرى ليست في تلك الأموال الضخمة التي هي أموال شعوبهم بالأساس والتي يتم التصرف بها ودفعها لأنظمة فاسدة أصلاً ولا يعرف حتى الذين دفعوها أين تذهب، وليست المشكلة الكبرى في حقيقة أن بعض تلك الدول المانحة يعاني قطاع عريض من شعبها من البطالة والفقر والتمييز المذهبي والطبقي والاجتماعي، وليست المشكلة الكبرى في قبول قادة الدول القابضة أن يقايضوا مواقف دولهم السياسية بل وحياة جنودهم بتلك الأموال، ولكن المشكلة الحقيقية أن قطاع عريض من شعوب تلك الدول، بنوعيهما المانح والقابض، تبدو مستعدة تمام الاستعداد في الانخراط التام حتى أذقانها في "معارك ومصالح قادتها الفردية" وبكل ألوان الطيف الديني والمذهبي والطبقي وإلى حدود الانقلاب على الذات وهدم النسيج الاجتماعي تحت محاور "التخوين" والتمايز المذهبي والديني. بل إن قطاع عريض من تلك الشعوب وصل إلى حد التبرير لجرائم ضد الإنسانية اُرتكبت تحت غطاء المعارك والحروب وشعار "محاربة الإرهاب" و "الدعوة إلى الشرعية". فـ "الذهنية المنطقية الشعبية" جرى تشويهها بصورة مستمرة لمدة عقود عديدة من الزمان لدرجة أننا رأينا في الحالة المصرية، على سبيل المثال، التي ثارت على مؤسسة حاكمة ناتجة من "الجيش" والتي تسببت، على مدار عقود من الزمان، في خراب الاقتصاد وتراجع الدور السياسي الإقليمي والعالمي وازدياد حدة التوتر الاجتماعي وتفاقم مشاكل الفقر والبطالة وعجز الميزانية وتراجع العملة الوطنية، فإذا بالثورة المعاكسة تطالب بـ "رئيس ذو خلفية عسكرية" (!!!) مؤكدة للجميع أنه الحل "المنطقي" (!) للخروج من تلك الأزمات التي تسببت بها سابقاً نفس هذه المؤسسة العسكرية. الطامة في الحالة المصرية هي أن مثقفوها، بصفة عامة، تساووا في مطالبتهم تلك مع العامة وذوي التعليم المحدود في البلاد. بالطبع، النتيجة كانت معروفة مسبقاً، وانزلقت مصر إلى إشكالات أخطر برزت في مظاهر قابلية انقسام المجتمع المصري على ذاته، وبروز ظاهرة التهجير القسري وهدم المنازل في سيناء، وارتفاع معدلات انتهاكات حقوق الإنسان في كافة القطر المصري إلى أرقام فاقت ما كان موجوداً سابقاً وذلك مع تفاقم ما كان موجوداً من إشكاليات أصلاً. وكمثال ثانٍ هو مدينة الفلوجة العراقية التي يسيطر عليها جماعات "داعش" المتطرفة مع ما نقرأه ونسمعه ونراه من حالة "تبرؤ" منها عند كل القطاعات الشعبية في العالم العربي على اختلاف مذاهبها. إلى هنا والوضع يبدو متوقعاً، بل ربما طبيعياً. إلا أن المفاجأة الحقيقية التي تصدم كل متابع محايد هو عندما قررت الحكومة العراقية استرجاع تلك المدينة من قبضة تلك الجماعات الإرهابية المسلحة، فإذا القطاع الشعبي العام في الوطن العربي يتبنى شعار (الشيعة يقتلون أهل السنة والجماعة في الفلوجة) (!!!)، بل أن مثقفين وكُتّاب ومذيعين ومذيعات يتبنون، طوعاً واختياراً ذلك الشعار. وجرى بتعمد شعبي ومؤسسي واضح، مع سكوت ورضا سياسي متعمد من جانب دولهم، التعمية على الحقيقية البديهية للوضع في الفلوجة مع تناسي عشرات وأحياناً مئات القتلى الذين يسقطون يومياً من جراء تفجيرات "داعش" الانتحارية ضمن المناطق الشيعية. تلك هي الإشكالية الحقيقية، وهي أن الذهنية الشعبية العامة غير مهيأة أصلاً للدفع باتجاه حلول اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل على العكس، هي مهيأة للانجراف في "حرب"، سواء مذهبية أو دينية أو عِرقية أو اجتماعية، هكذا "هيأتها" سياسة دولهم، بوعي أو دون وعي. ولا يمكن لأي دارس أو ملاحظ للسياق العربي، السياسي والاجتماعي، أن يتجاوز هذا الشحن المؤسسي، أو ربما تسهيله وغض النظر عنه كالذي يحدث في دول الخليج، باتجاه التناحر المذهبي والديني والعِرقي والطبقي، وكل ذلك يتم لصالح هدف وحيد وهو الهيمنة الفردية على الداخل أو الهيمنة الإقليمية على المحيط لدول محددة. إذن، هناك "عائق" مؤسسي – سياسي منشأه مشيئة "فرد" لأي نوع من أنواع الحلول، بكل تشعباتها، للمنطقة، وهناك عائق ذهني – ثقافي – معياري لدى شعوب المنطقة برمتها. ولذلك فإن كل ما نسمعه عن "حلول" هي في حقيقتها فاقدة للقيمة الحقيقية للدفع باتجاه وضع متوازن ومستقر. لا الأنظمة "مؤهلة" لفعل ذلك، ولا الذهنية الشعبية التي تم برمجتها منذ الصغر من الخلال التعليم ودعاة الدين ووسائل الإعلام والتسهيلات الرسمية المقصودة والواعية على شبكة الإنترنت للتناحر والتعارك الديني والمذهبي والعِرقي أيضاً مؤهلة لحالة هدنة وقبول دائمين بحيث يستتبع ذلك "حل" حقيقي اقتصادي وسياسي واجتماعي. ثبات مؤسسة الإدارة السياسية من جهة، ومن جهة أخرى الذهنية الشعبية الغالبة التي بُرمجت على مواقف مسبقة في قضايا متعددة لا يسمحان إطلاقاً بحالة "حل" واقعي وحقيقي ونهائي على الأرض.

ويمكننا ملاحظة مثال ثانٍ لهذه المعضلة. في دول الخليج ومصر، على سبيل المثال، يتم التسويق المحموم لمصطلح "التنمية". ثم تشاهد تلك الشعوب أن مبانٍ إسمنتية ضخمة أو مشاريع عقارية تقوم في أماكن متعددة في بلدانهم أو يتداول الإعلام مخططاتها الورقية والهيكلية كدليل على المضي قدماً في تفعيل مصطلح "التنمية". ولكن تنسى، أو ربما تتناسى، الأنظمة العربية ومعها القطاع العريض من شعوبها المؤيدة لها أن "التنمية"، كمصطلح اقتصادي – مجتمعي – هيكلي ذو معنى ومضمون، ليست مبانٍ اسمنتية أو ديكورات فخمة ولا حتى بناء محطات طاقة أو استثمارات خارجية في مجتمعات وكيانات غربية بعيدة عنهم، ولكن "التنمية" هو وعي مؤسسي عام وناضج أن الحاضر والمستقبل معاً مهددان، اقتصادياً ومجتمعياً، وأنه لا خلاص حقيقي من تلك الإشكاليات إلا من خلال الاستثمار المباشر في الشعب، في حاضر أفرادها ومستقبل أجيالهم القادمين في الزمان، ولصالح هدف واضح للجميع وقابل، واقعياً، للوصول إليه. "التنمية" هي حالة تحول اجتماعي واقتصادي، معاً، يداً بيد، من خلال تغيّر معايير ثقافية وقيمية للمجتمع برمته بحيث يكون الهدف هو بقاء المجتمع واستمراريته في المستقبل بصورة لا تهدد كيانه وسلامته الداخلية، اقتصادياً بالدرجة الأولى، ضمن أسوأ الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة. التنمية الحقيقية من خلال تعليم مدرسي جيد ومبكر، ذو هدف يتطابق مع تصور المجتمع لمصطلح "التنمية"، ويهيئ أجيالها لاستخدام "حضاري ومُنتج" لتلك المباني الاسمنتية ذات الديكورات الفخمة ليُحقق للمجتمع البقاء والاستمرارية. التنمية الحقيقية هو التسويق لحقيقة أن "المؤسسة المدنية" تتفوق في مقدرتها لإدارة الأوطان من شعارات وتطبيقات (الحاكم الفرد المتفوق على باقي شعبه)، وأنه لا تنمية حقيقية ستكون ممكنة واقعياً من دون تغيير جذري في "قيم" المجتمع العربي التي تتداخل مع أعرافها الاجتماعية لتُنتج حالة من حالات الفساد والترهل والمحسوبيات في كل إدارة تتغلغل بها. إذن، نحن أمام حالة عربية لم يعد يجدي فيها أن تضخ ضمن محيطها السياسي والاقتصادي كميات ضخمة من الأموال، لأنها سوف تتآكل وتفنى أمام المحاور الحقيقية التي تسببت بالمشكلة أصلاً.

نحن أمام إشكالية ذات محورين، أحدهما مؤسسي والآخر شعبي ناتج عن المشكلة الأولى. وما لم يتم وضع تصورات وحلول حقيقية لمشكلة ثبات الإدارة السياسية في المجتمعات العربية فإن المنطقة برمتها مرشحة للغرق أكثر وأكثر في تلك الإشكاليات بدلاً من الخروج منها لحالة "ولادة جديدة" كالذي حدث في بقاع أخرى من العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا